المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الساعة



أبدل يوسف أبدل
22/08/2009, 06:40 PM
الساعة


استيقظ متثاقلاً على غير عادته صباح ذلك اليوم .
فتح بكل هدوء غرفة ابنه النائم طفلاً راودته أحلامٌ ورديةُ و أقمارٌ صيفية الوجنات .
اغرورقت عيناه بالدمع حين استقرت نظراته الشاردة على حقائب ولده التي ظل منشغلاً بتحضيرها حتى وقت متأخرٍ من الليل الفائت .
سيبقى وحيداً في منزلٍ عاش فيه فصول حياته الرتيبة يوماً بعد يوم , سيبقى ...ليكمل آخر فصلٍ من رواية وحدته التي ظل يكتبها على صفحات أيامه الباهتة محاولاً تسلق ذلك الجدار الفاصل بين الحقيقة و الخيال تارةً , و بين الألم و السعادة تارة أخرى .
سريعة كانت السيارة التي حملتهما إلى بوابة المطار ....
سريعة كانت في اختطاف لحظاتٍ قصيرة ستجمعهما لتفرق بينهما إلى موعد غير قريب .
بنبرةٍ شجيةٍ تناغمت مع دموعٍ صامتةٍ نضحت من سكون عينيه الغائرتين ,قال لابنه مودعاً:
إليك وصيتي ....
قد يكون هذا لقاءنا الأخير ...إياك أن تفرط بالبيت ذات يوم مهما أجبرتك الظروف , ففيه تسكن ذكريات من أحببناهم .
قال كلماته المرتجفة و أدار وجهه باكياً أمام أصداء نداءات باكية طاردت ظلال خطواته الهاربة حين حاول أن يشق لنفسه طريقاً بين حشودٍ تلاطمته زورقاً حائراً مزق إعصارٌ بقايا شراعه الأخير .
و كعاملٍ لفظته أمواج عمله صدفةً بحريةً مهملةً على شواطئ التقاعد البغيض , فقد اقتصر نشاطه اليومي على ارتياد المقاهي ولقاء البعض من أصدقائه القدامى لمطالعة جرائد الصباح و الثرثرة في شؤون السياسة و الاقتصاد و التحدث أحياناً عن أيامٍ جميلةٍ مرت و لن تعود .
و مع اقتراب الشتاء أصبح منزله القديم عالماً منعزلاً يقضي فيه معظم أوقاته بعد خروجه من المقهى , إلا انه كان يشعر بجمود الأشياء من حوله , حتى مكتبته التي ظل سنيناً طويلةً ينفق أمواله في اقتناء كنوزها أصبحت مقبرة هامدة لكتبٍ عزف عن تقليب صفحاتها منذ سفر ابنه الوحيد.
وحدها ساعة الحائط المعلقة هناك منذ زمن بعيد كانت الشيء الوحيد المتحرر من قيود الجمود.
وحدها كانت من تؤنس لياليه الموحشة الباردة بدقاتها التي تسللت بهدوء في حياته لتثبت نفسها كقدر محتوم لا مفر منه .
وحدها من فرضت نفسها بصمت في أرجاء منزله الكئيب لتجبر كل شيء أن يسير على صوت دقاتها الرتيب ....دقات قلبه , عدد المرات التي يستنشق فيها هواء المنزل الثقيل ,و حتى إيقاع خطواته المهزوزة و هو يتنقل في فراغات بيته الخالي من ضحكات من أحبهم .
ذات مساء ربيعي هادئ , وبينما كان مستلقياً في فراشه البارد منذ أعوامٍ مديدة , متأملاً صورة جدارية كانت تضم بين خشبات إطارها ذكريات له و لزوجته الراحلة إلى حيث الراحة التي كان ينشدها في أيامه الأخيرة , منتظراً هاتفاً من ابنه الذي توارت أخباره خلف حدود الأمل المفقود, شعر بتباطئ مفاجئ في دقات الساعة التي واظبت على عملها دون توقف منذ سنين.
خلل معين اقتحم سيمفونيتها الوحيدة التي كانت لا تعرف إلا سواها ....
لعنة صامتة شلت نواسها المتدلي كأغصان صفصافة على ضفاف نهر يحتضر .
صمت جنائزي مطبق حل فجأة في أرجاء المنزل الكئيب ....
شيء ظل نابضاً في ضلوعه الهزيلة تباطأ في عمله ايضاً ....
شريط من الذكريات الناطقة مر سريعاً على حدود ذاكرته الحية ابدأ , ناثراً هنا و هناك شذرات من حنين ظل يبحث عنه و يتوق إليه.
صور مضيئة أشرقت في فضاءات غرفته الخاوية ابداً ....
أطيافٌ حبيبةٌ دقت بلور نوافذ روحه المتعطشة للقاء و دعته للرحيل إلى حيث يسكنون ...حملته على غيمات شاردة من محبة لا تعرف الأفول و طارت به فوق سهول خضراء من الأمل إلى حيث يكون الخلود و اختارت له بيتاً هناك بين البيوت .
رن الجهاز الأخرس كثيراً فوق تلك ا لطاولة التي احتضنت نظارة قديمة و جريدة و مزهرية بورود داهمها الذبول .
رن كثيراً ذلك الجهاز الذي كان يحمل البشارة المرجوة من خلف البحار , صمت أخيراً لتعلن الذكرى نهاية الطريق .
م . أبدل أبدل