المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : علي الجندي..ورحيل آخرروادالشعر العربي الحديث



د.ألق الماضي
21/08/2009, 10:44 PM
http://www.alriyadh.com/2009/08/20/img/965549603946.jpg

علي سعيد

ودعت الحياة الشعرية والثقافية العربية واحدا من جيل رواد القصيدة الحديثة في سوريا والوطن العربي؛ الشاعر علي الجندي (1928-2009) والذي اعتزل الأوساط الثقافية في دمشق منذ سنوات لدواعي المرض والكآبة؛ عاد بتابوت محمولا على أكف الأهل والأصدقاء إلى مسقط رأسه، بلدة السلمية؛ ليدفن هناك في سلمية محمد الماغوط وسامي وعاصم الجندي.

وعرف الشاعر السوري منذ بداياته بارتباطه الوثيق بالحركة الشعرية العربية الحديثة خلال الخمسينيات والستينيات؛ وبصداقة خاصة مع بدر شاكر السياب الذي كان أول من استقبله في دمشق. كما جمعت الجندي علاقة صداقة غير مستقرة مع خليل حاوي رغم محبته للأخير، وأيضا ارتبط بمجلة (شعر) في بيروت الذي عنها قال الجندي ذات يوم: (كان الجميع في مجلة شعر أصدقائي ولكني لم أكن اشعر بأني واحد منهم). وإذ افترق عن "مجلة شعر" في خطها الفكري فإن الجندي اخْتط له أسلوبا خاصا قائما على تجربته الوجودية والحياتية بالدرجة الأولى؛ حيث درس الفلسفة وتخرج من جامعة دمشق 1956 وعمل في حقل الصحافة الثقافية مابين دمشق وبيروت، ناشرا العديد من المقالات في حقول الفلسفة والأدب والنقد وفي مختلف المجلات العربية داخل سورية وخارجها كمجلة المعرفة والمثقف العربي و(المجاهد) و(الأسبوع العربي) و(الطليعة). وكان الجندي أيضا عضوا مؤسسا لاتحاد الكتاب العرب عام 1969 كما عمل فيما بعد مديراً عاماً للدعاية والأنباء في دمشق قبل أن يقال لأسباب سياسية تتعلق بخلافات بين ابن عمه عبد الكريم الجندي والسلطة آنذاك، وفق ما يرى البعض.

أصدر الشاعر الجندي "11" ديوانا بين (1962 و1990) كان أولها (الراية المنكسة) وآخرها (سنونوةٌ للضياء الأخير).

ديوانه الأول (الراية المنكسة) اعتبره الكثيرون إنذارا ونبوءة مبكرة لما حدث في نكسة عام 1967، إلا أننا لا يمكن أن نفصل هذا الديوان عن المناخ الاجتماعي والفكري والسياسي الذي ساد بعيد انهيار الجمهورية العربية المتحدة وانفصال سوريا عن مصر. ففي (الراية المنكسة)، يبحث الشاعر السوري عن خلاصه الفردي بعد أن تبين أن الخلاص الجمعي العربي ليس مؤملا؛ كما في قصيدة (لا شيء) من الديوان إذ يقول: (وإذا الدروب طويلة محمومةٌ - محفوفةٌ بتهتك الديجورِ‏/ تفضي إلى اللاشيء إلا أنها- تغري به في خسة وحبورِ).‏

وسوى تجربة إصدار مسرحية (صلاة إلى بتول) وترجمة (الصيف الأخير) لألبير كامو فإن علي الجندي لم ينشر إلا الشعر في (الأعمال الكاملة) رغم ما كتب من مقالات هنا وهناك خلال مسيرته في العمل الصحفي والإذاعي؛ وهو في ذلك ينتمي إلى جيل نذر نفسه للشعر وحده.

وكان علي الجندي عرافا شعريا بحق عندما جاهر قبل أربعة عقود بأن الشعر في انحسار وتراجع معلنا أن: (لم يعد هناك مكان للشعر فوق الأرض)؛ وهو يرى كيف أصبح الشعر مستسهلا الكتابة عند كل من "هب ودب"، في معنى تقشعر له روحه التي آمنت بالشعر وعاصرت أوج الزمن الشعري؛ ليعيش ويشاهد كيف انهار حال الشعر العربي، الأمر الذي دفعه (ولأسباب أخرى) إلى العزوف عن قبول المشاركة في المهرجانات الشعرية وهو القائل: (إن هذه المهرجانات تفسد أكثر مما تصلح).

أما تأثير التفكير والتأمل الفلسفي في أعماله الشعرية، فهو جلي وواضح وخاصة لمن عاش زمن التيارات الفكرية ودرس الفلسفة في الجامعة ولم يكن بعيدا عن تأثيرات الأدب والفكر الأوروبي وخاصة الفلسفية الوجودية في تركيزها على الفردية والنظرة إلى العالم من المنظور العبثي كما عند البير كاموا. إلا أن علي الجندي لم يكن إلا شبيه ذاته وكانت مسألة الموت في شعره خطا بيانيا واضحا مرسوما على امتداد مسيرته الشعرية في "كابوسية" تذكر أحيانا بصديقه السياب، كما في قصيدة (أبداً) من ديوان (الراية المنكسة-1962) وهي هنا ليست نبوءة جمعية عن العرب وإنما تكهنا لما سيحدث له من عزلة وألم، إذ يقول: (أبداً أنا استسلمت لا وهناً/مني ولا خوفاً ولا جهداً‏/ لكنني، الموت يلجمني- ولهاث قلبي هاتف: أبدا)

الشاعر السوري الذي اعترف يوما بأنه شاعر فجائعي، ضمت أعماله الشعرية نصوصا نثرية وأخرى غنائية التركيب الموسيقي، و"جنائزية" المعنى حد "الحفاوة بالموت" مثلما نرى في هذا المقطع: (عندما آوي إلى آخرتي المنتظرة/‏ امنحوني شكل موتي، رحلتي المنكسرة!/ ودعوني أحتفي بالميتة المنفجرة/‏ واجعلوني أنتهي في صورة مبتكرة/ شيعوني أنا والنغمة في موكب صمت،/شيعوها لغتي المنتصرة).

ولا يخفي على الجندي مسألة تعلقه بالحياة وحبها رغم ما يبوح من شعر حزين فاجع، وهو كما يتذكر أصدقاؤه صنو البهجة وقطب السهرات في الجلسات العامة والمقاهي، كان في سلوكه شعرا موازيا وكان دائم الخروج عن المألوف في كل شيء حتى لقبه الذي اختار أن يكون (أبو لهب).

ومنذ أن اشتد عوده فتىً بدأ يعرف علي الجندي الحياة ويعشقها في تلك البلدة النائية (السلمية)، وحول هذا الأمر يقول متذكرا: رحت أداوم على حب الحياة والتشبث بأذيالها.. في طفولتي كانت أسرتي تعيش في بيت منعزل عن الضيعة، وكنت كثير الحركة، أبحث دائماً عن شيء ألهو به في هذه العزلة.

أما عن أسرته التي أشار إليها فهي من الأسر السورية العريقة والتي سجلت حضورا بارزا في التاريخ السوري الحديث وفي الحياة العلمية والثقافية والسياسية إلا أن علي الجندي ابتعد عن العمل السياسي لصالح مباهج الحياة والشعر، كان أخوه المترجم والأديب سامي الجندي منظرا قوميا ومترجما للأدب الفرنسي وصاحب أعمال أدبية ومنها ومسرحية (في البدء كانت الثورة) التي كتبت في ذروة الثورة الفلسطينية أيام الحرب الأهلية في لبنان وهو ما يعارض عنوانها وخطابها اتجاه علي الجندي الذي نشر عام 1964 ديوانا بعنوان (في البدء كان الصمت).

في عمر الأربعين كتب علي الجندي لساعاته الأخيرة أشعارا فجائعية في ديوان (الحمى الترابية 1969) حيث نقرأ قصائد تبوح بما سوف يجابهه نهاية حياته من بؤس العيش في شقة متواضعة وحيدا في اللاذقية: (وداعاً يا ديار العزّ والمنفى / وياقبر الهشيم الرطب يالحم الأعاصير الخرافية.. حسبي في هواك المرِّ أني السيد العبدُ/ وحسبي أنني أحيا فقيراً معوزاً/ في الكون لا أملك/ ولن أملك سوى من أرضك المعطاء ما يحتاجه قبري!).

والحقيقة إن علي الجندي، سعى بنفسه لتحقيق أمنية أن يدفن في مسقط رأسه؛ جرى ذلك في اتصال أجراه بابن أخيه مصعب سامي الجندي ليسأله عن الأرض المجاورة للبيت القديم، موصٍ ابن اخيه بنبرة حانية وهو يقول: يا مصعب، يوم أموت تختار لي مكاناً لقبري في أرض السلمية حيث كانت الشجرة الكبيرة.. قسمها كما ترى ولكن لا تنسَ يا مصعب أن تختار لعمك الشاعر الغريب مكاناً لمستراحه الأخير في جهة التراب التي تجاورت مع الروح أيام الطفولة والشباب وإلى اليوم.

رحل علي الجندي إذا، غريبا في وطنه كما شاء أن يكون في جل شعره وحياته التي كان حطاما شعريا وجنائزيا؛ غادر صاحب (صار رمادا) تاركا وراءه أعماله الشعرية والمجد الذي خلفه فقط، فهو لم يركن يوما للمتاجرة بتاريخه الشخصي رغم انتمائه لجيل الرواد، رفضاً للتزلف يوما لأحد، لذا عاش بفخرٍ حياة الشعراء الهامشيين وحيدا ومات كذلك.


المصدر (http://www.alriyadh.com/2009/08/20/article453619.html)