المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مذكرات عمود



أبدل يوسف أبدل
21/08/2009, 12:01 PM
مذكرات عمود

م . أبدل أبدل




كان ذلك قبل سنين عديدة ....
حين شاءت الأقدار أن أُقطع ذات يوم دون سابق إنذار من غابة جميلة , وأن يصقل منشار جامد أغصاني الخضراء , لتحولني الأقدار عموداً متخشباً أحمل فوق أكتافي بعض أسلاك متهدلةٍ في قرية ربما تجهلها كتب الجغرافيا حتى يومنا هذا .
شتاءات طويلة مرت بلياليها الباردةِ التي كانت تتركني وحيدا لا يؤنس وحشتي غير وقع القطط و الكلاب الجائعة حين ترتاد هذا الشارع المهجور بعد غياب الشمس و همود القرية المخيف ....
لطالما أسعدتني تلك الأمطار الغزيرة الراقية بانهمارها و السخية بعطائها بما كانت تخطه من ابتسامات وردية على شفاه مساكين ظلت عيونهم تشع بأنوار خافتة من الأمل بمواسم واعدة قد تكون أو لا تكون .
و مع اقتراب الربيع ...كانت غريزة الغابة تحرض بداخلي رغبة عارمةً للتبرعم و العطاء , فينتابني ذلك الإحساس الخاطف الخافت بسعادة سرعان ما كانت تأفل أطيافها حينما كنت أستذكر حريتي المسلوبة مني بعد أن استُبدلت جذوري السمراء بهذا الإسمنت المتصلب الذي سيبقى يقيدني لأجل لا أعرفه ...
وحدها أسراب السنونو الهاربة من رياح الشمال ما كان يسعدني و يزيل عني غمامة حزني السوداء .
حتى شمس الصيف الحارقةِ كانت تفرحني و تستقطب من حولي عصافير دوري فأحتسي معها كل صباح فنجان من الأمل و أطرب بتغريدها رغم رتابة ألحان التي لا تجيد سواها .
كم تمنيت لو حملت مصباحا منيراً فتزورني الفراشات كل ليل لتقص لي حكايا حقول وغابات أموت شوقاً لرؤيتها مرة أخرى من جديد و لكن ... هيهاتٌ تتغير أقدار العواميد مثلي .
مساء الأمس ألصقت على خاصرتي نعوة جديدة أثقلت كاهلي بمزيد من مسامير مدببة تزايدت بمرور الأيام الرتيبة في هذه القرية المنفى ....
المغفور له- وهو عضو سابق في مجلس الشعب - كان قد أثار آراء متناقضة صباح اليوم .
بعض البسطاء تأسفوا لنبأ وفاته و تمنوا من الله أن يسكنه فسيح جنانه ....
البعض استذكر بغصة حلق بيانه الانتخابي في ساحة القرية فنعتوه بالإقطاعي المنسلخ عمن تسلق فوق أكتافهم و تنكر لهم بعد نجاحه.
آخرون مروا مسرعين كعادتهم كل صباحٍ غير مكترثين لهذه النعوات التي يكون التمزيق مصيرها بعد يومين على تعليقها على أبعد تقدير .
دعايات المواد الغذائية تنال قسطاً لا بأس به من اهتمام شعب لا يفكر إلا بلقمة عيشه في الآونة الأخيرة ...
أما إعلانات الحفلات الغنائية فقد كانت تثير المحافظين من رجال القرية و نسائها على حد سواء ...
أطفال القرية لا يكترثون بما يتم تعليقه و بما يتم تمزيقه فأنا لم أكن في نظرهم سوى مسند رأس في لعبة التخفي التي طالما اشتركت معهم في لعبها ...
ذات يوم توقف رجل ملثم بالقرب مني في وقت متأخر من الليل ...
بدا الخوف واضحاً على حركاته المرتبكة و يداه المرتجفتان بينما كان يخرج بكل حذر من جيب معطفه الطويل أوراقاً مخبئة ألصق إحداها بسرعة و تلفت يميناً و شمالاً قبل أن يتوارى مختفياً في عتمة الليل المخيف .
لم يتجرأ أحد في صباح اليوم التالي على الوقوف برهة لقراءة ورقة تحدث عنها البعض بهمس خوفاً من جدران كئيبة لها آذان تسترق السمع لكل شيء في هذه الأزمنة الخرساء..
بعد ذلك اليوم ....ألصقت العديد من تلك الأوراق المبهمة من ملثمين آخرين كانوا يعلقونها ويمضون في سبيلهم واثقين مما كانوا يفعلون ....
طلبت من عصفور مهاجر ذات يوم أن يقرأ لي واحدة منها فاعتذر خائفاً وطار بعيداً ولم تزرني العصافير بعد ذلك اليوم ...
شعرت بأن تلك الأوراق كثيراً ما حملت بين سطورها أفكاراً لأشخاص أرادوا أن يقولوا شيئا مختلفا عما كان يردده الآخرون ....
هكذا مرت السنون في منفاي الأخير ...
فصول تمر لتعقبها فصول .
سنين تنقضي لتحل أخرى .
أوراق بيضاء و سوداء وأخرى ملونة تلصق فوق بعضها .
ومسامير تزداد يوما بعد يوم رغم تغير أشكالها و اختلاف أحجامها.
و أحلام متجددة بمصباح منير و عصافير ستعود ذات يوم لتقص لي حكايات من غابات خضراء لا زلت اشتاق إليها و أنا مقيد الجذور في قرية لن اعتاد على صمتها ذات يوم .