المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دراسة نقدية لمجموعة حدث في ذلك اليوم



علي الصيرفي
24/07/2009, 04:14 PM
حدث ذلك اليوم مجموعة قصصية
علاقة البيئة في إنشاء الحدث وتحركه
قــوة الثوابت فــي تطويــر المتغيرات
عند القاص عيسى إسماعيل :o
الناقد :علي الصيرفي:?:

إن كل جزء من أجزاء الكتابة المعرفية يكون استجابة لعملية البناء القصصي ،ويمكن أن نعبر عن ذلك بأن أجزاء القصة هي بيئتها وحدثها ، وهي عناصر موضوعة لخدمة معينة وعلى هذا يصبح هناك إغراء كبير للتوغل في القضايا المتعلقة بالإنسان لأن الإنسان ابن بيئته ، وهذا ما أراد تأكيده الأديب عيسى إسماعيل في مجموعته الإبداعية الجديدة (حدث ذلك اليوم) حين انخرط في اعتقاد يستطيع أن يقول من خلاله إنه يحقق الحلم الذي ظل يحلم به طوال حياته ، ولو شئنا الدقة لقلنا أن البيئة هي وجود الإنسان ، ولا يمكن أن نعثر على معطياته إلا من خلال المكان ويصرح الكاتب بأن تحديد كينونته سوف تخصص من خلال هذه البيئة فيفسر ذلك بأن ماهية البيئة لا تتألف من خصائصها بل هي الطرق الممكنة لوجودها وتطورها في موقع هو الأكثر دراية بها ، وهو يحاول أن يقدم فكرة المكان ويسعى إلى التفسير الذاتي حين يرى أن الإنسان مقياس الأشياء جميعها ، وهذا لا يزال يحتفظ بقدر من معناه عند الكاتب فهو ينظر إلى البيئة بأنها ليست لوناً من الخلط ، وإنما هي مستودع مملوء بالقوة والبيئة هي الحرية التي تصنع نفسها وهي تعرف كيف تهب أفرادها هذه القوة كما يجد أن الحدث مرتبط بتلك الأماكن ومتواصل معها ، فإن قليلاً من التفكير في هذه الكلمة ، يظهرها على أنها تحمل معاني كثيرة ، وإن بعض هذه المعاني أبعد ما يكون واضحاً فما هي البيئة ،إنها كل الموجودات من الأشياء التي نعيش بين موضوعاتها ، وإنها كل ما يشكل الأمكنة الإنسانية ، وما يقدمه الإطار الذي نعيش فيه الحياة الإنسانية فالبيئة محشوة بالأحداث ، والأمكنة غير مفصولة عن الإنسان الذي يعيش في جوانبها ، فكلما تحدثنا عن البيئة فإننا نتحدث عن سكان هذه الأمكنة فالإنسان مكلف بترتيب عالمه والكاتب يرى بأن البيئة تظهر واضحة من خلال نشوء الحدث وتطور هذا الحدث.
( نظرت كانت عدة زهرات من النرجس تتلألأ في المكان تحت شمس الربيع أصبت بالدهشة الممزوجة بالسرور العارم ، وكانت دهشتي أكبر عندما تذكرت إن تحت هذه الزهرات تماماً ترقد قطعة من كبدي ) ص14
يبين الكاتب تعلقه الحميم بتلك البيئة الرائعة من خلال حركة الحدث في فعله الكتابي فهو يدفن الجنين الذي مات قبل أن يرى ضوء الشمس في فسحة بيته وتحت زهرات النرجس ... إن هذه التعلق بالمكان يدل على مدى إنغراس الجذر في عمق الرؤية فالأرض تحمل كل الذاكرة والأنا الأعلى وكل قيمنا التي مازالت تحافظ على ثباتها دون اهتزاز ، والكاتب يثابر على المحافظة ، فالزوجة تحمل وتثمر من جديد فالتوالد دائم ومستمر ولا ينقطع بموت جنين ، فالحياة تستمر والتكاثر متواصل ، ويزداد ذلك ظهوراً ، عندما يؤكد لنا الكاتب أن الإنسان مرتبط ببيئته ومن جهة الاهتمام يرى أن الأدوات متشابكة ومتداخلة ، وأن مشاركة البيئة ليست عطاء جاهزاً منذ البداية وإنما المعطى هو حقل الممكنات لذلك نرى انشغال الكاتب بسر التواجد فوق هذه البيئة وشرح الجوانب الغامضة من زوايا معينة تدل على اكتمال الرؤية محاولاً تحديد مستويات التعامل معها فيصفها ويفكر بها بواسطة التصورات ونقل الإشارات وارتباطها بهذه البيئة محللاً كل الرموز دافعاً بها إلى لغة الواقع التي يمكن أن نسمعها وأن نخاطب بعضنا بها ، فهناك تعامل قوي بين الكاتب والرمز ويصل إلى اكتشاف الحقائق بسهولة .
( هذا صحيح كان يناديني ... يردد اسمي قبل موته ولكن وأسفاه لم أتمكن من الحضور لأراه ويراني قبل أن يفرق الموت بيننا ...كان يحبني كثيراً ..فأنا ولده البكر كان يعطيني ... نقوداً أكثر من أشقائي الآخرين ... يوم كنت طالباً ،ثم أرسلني للدراسة في الخارج على نفقته ) ص31
إن الفعل الكتابي الذي يخلق المكان ويحدد جوهر البيئة هو نشاط نصل بواسطته إلى المعرفة واللغة التي ترتبط بالفكر والبيئة وبترابطها تجد نفسها دائماً في بناء الحدث الذي يسعى إليه الأديب فالواقع البيئي يفجر الكتابة ويقدح التفكير عنده ومع ذلك فالكاتب لا يستطيع أن يعرف ما الذي يجعله قلقاً فهو يرى المشكلات تلاصق حياته إلى حد المضايقة ، ويرى أن شخوصه رغم تعلقهم بالمكان وحبهم لذلك المكان إلا أن الغدر والقطيعة تتوغل في الصدور وتتغور حتى تفقد الفرد ذاك البريق الذي يراه في بيئته ، فتموت العواطف وتصبح المصلحة المحرك الذي يوجه الفرد نحو التخلي والعبث بالموروث والوصول إلى حذف الأنا الأعلى وضرب هذه العلاقة الجمعية إلا أن الكاتب يرفض هذه الرؤية التي أقلقته بعض الوقت ، لقد وجد في بيئته حياته وعزته ، ومكانته أراد أن يقبل كل حجر وكل شخص إنه الحب حب المكان الذي يزهر بأصحابه وأفراده ،وهذه البيئة الرائعة هي التي تقدم الحدث وتدفع به نحو السطح فالحدث دليل واضح على القدرة التي يتمتع بها الفعل الكتابي ، في تعديل اتجاه الحركات كلها ، والإرادة هي القدرة التي نتمتع بها لتحريك توترات الأحداث ، فإرادتنا في خلق الحدث كما يرى الكاتب هي القوة التي تبقى قادرة على محاربة كل الأشياء التي تقف في وجهنا ، فالبيئة هي المحرك لكل الأشياء التي تتوهج في عقل الكاتب هي الفضائل التي لا ينفصل بعضها عن بعض ، وإذا كان الحدث هو حركة الحياة الموجودة في البيئة ، والتي تنظم كل الأشياء على نحو معين فهذه البيئة قادرة على أداء كل وظائف الأفعال الكتابية ، فهي المادة التي تنتج عن الصورة للكاتب بالقوة التي تجعلها تصل إلى غاياتها في رصد المتغيرات والصراعات التي تدور وتخلق الحدث .:006:
( كانت تطبخ الطعام اللذيذ ، وتأخذنا بزيارات إلى بيوت أقاربنا كانت .وكانت ...وعندما انبلج ذات فجر خطرت لي فكرة لم أشأ أن أصارح شقيقتي بها تلك الفكرة أن أذهب إلى مقبرة القرية ربما أجد قبراً يحمل اسمها ) ص 45-46
التحم الكاتب بالبيئة وربطها بالحدث المنطلق في كل الاتجاهات ، والأم هي منطلق الكثير من المواقف التي تتقاذفها أحداث البيئة ، والأم ذلك الكائن الرائع بكل ما وهبته وأضفته عليها الحياة فجمالها هو الأقوى ومكانتها هي الأسمى وحبها هو الأجل والأعظم وذلك كله بنظر الأولاد ، فهي التي تجمع شملهم وتبدد قهرهم وتمنع اليأس أن يتسلل إلى نفوسهم ، هي الإحساس الجلي بالأمان ، وهي الباعث الأول للقلق عندما يختل توازن الأمور.:ranting:
لقد دخل الكاتب بوابات الصحوة الحقيقية عندما رفض علاقات الآباء بنساء أخريات بدلاً من زوجاتهم الأمهات ، واعتبر هذه العلاقة مرفوضة في مكوناتها والتخلص من كل ما يسخن هذه العلاقة ويزعزعها ، ونراه يندفع في كل أرجاء بيئته ويدخل في أدق مناطقها ليصل إلى تركيب حدث يتحسس الواقع بالكثير من الصدق ويدخل في أدق مناطقها ليصل إلى تركيب حدث يتحسس الواقع بالكثير من الصدق والتوتر ، فالشيخ عبد القادر أحد أركان البيئة المحلية وهو يعرف كل ما يحدث ويستطيع بما عنده من خبرة ومعرفة أن يقنع أفراد القرية بكل ما يريد ، رغم سوء تصرفاته واعتناقه للكذب والاحتيال ، وإتباع كل أساليب الخداع فهو ينال من أم حمدو ويسحقها تحت رحى شبقه الجنسي المزمن ليفعل فعله وليبقى الشاهد الوحيد ذاك الكرسي الذي يجلس عليه من عشرين عاماً مضت إنه الضمير النادم الذي يشبعه تقريعاً وتأنيباً ويدفعه إلى الاعتراف والإقرار بكل ما اقترفت يداه من ظلم ضد الآخرين ، ويتابع الكاتب ضغوطه ضد تلك العلاقات البائسة التي دمرت كل الصور الجميلة في محيط بيئته .
( أما مدير مدرسة الحي المعلم أنور ، فيصر على أن السلطات المحلية مقصرة ..وأن سوء التخطيط وعدم التصرف المعقول بالأموال العامة .. جعل هذا الحي مهملاً)ص 68
هناك الكثير من الأمور التي خلقت تلك التباينات ، وجعلت من بعض الأحياء مرتعاً للبؤس والعوز بينما هناك أماكن تنعم بكل اللوازم التي تجعل من الحي يماشي ثورة التطور ويلحق بمواكبة الرقي وهذا عائد لتلك الفوراق التي يلمسها الكاتب بين أحياء الفقراء وهؤلاء الأغنياء الذين احتكروا كل الأشياء لصالحهم إنه الصراع الذي لا يمكن أن يخمد طالما هناك غني وفقير محروم من أبسط معطيات الحياة .
ونرى تلك النقلة الرائعة التناغم بين التسلط وفرض الرأي المبرمج مع السلطة وذلك الموظف المسكين الذي ينقل الحدث بشكله الصحيح فيقلب الأمور كلها ويجعل المدير في المأزق الذي لا يبغ أن يجد نفسه محشوراً في أضيق الزوايا المحرجة فالأخبار التي يقدمها سليم الدعاس جعلت السيد المدير رئيس التحرير ينتف شعرات رأسه ويصاب بالإحباط من هذه الأخبار المثيرة عن الانتخابات فالحقيقة أخافت رئيس التحرير وجعلته يتلمس الكرسي الذي يجلس عليه بأنه سيطير إذا وافق على أقوال سليم الدعاس المتهور ، فهذا السليم لا يوجد فيه شيء سليم بنظر المدير رئيس التحرير لقد قلب كيان الجريدة وخلق لها الكثير من الخلافات مع الفنانات والشعراء وسائر المسؤولين .
ضغط الزر أمامه وقال :
((آنسة هالة...بلغي سكرتير التحرير أن يعد قراراً فورياً بنقل سليم الدعاس إلى الأرشيف..فوراً))ص 96- 97
فالأديب كثير ما آلمه هذا الواقع العفن لبيئة مملوءة بالمحبة وقد تسلط عليها هؤلاء الأشباه الذين لا هم لهم سوى الحفاظ على مراكزهم التي استبدوا بها ، ويواصل الكاتب استهزاءه من تلك الطبقة اللزجة الغارقة بكل العفن المنسكب فوق البيئة الطيبة فيرى ذلك المنتفخ بقباحته يدير الموقع المتخم بالسلطة والقوة لكن الفعل الأقبح عندما يتحول المنصب إلى مرفق لإشباع الشبق والرغبات الممهورة بالسقوط والرذيلة ولا يتورع هذا المسؤول أن يظهر على شاشة التلفزيون ليبين للمواطنين معنى الأسرة الكريمة وعلاقتها بالأخلاق الحميدة ، ورغم أنه تمرغ ولأكثر من مرة تحت أقدام الراقصة التي رفضت الرضوخ لرغباته الجامحة بل قهرته وذلته برفضها وعندما طلبت المذيعة تلقي الأسئلة من المتصلين كانت الكارثة عندما اتصلت الراقصة دينا وهي طالبة جامعية دفعتها أحوالها المادية لأن تعمل راقصة ولعدة أيام حيث انفتحت أمامها بنوك المسؤولين وعلى رأسهم هذا المنتفخ .
( أهلاً بك صاحب المعالي معك تفضلي ...) استجمعت بعضاً من شجاعتها وقالت
( صاحب المعالي مساء الخير ..أنا دينا .. سؤالي هل تضعون حداً لرواد الملاهي الذين يتحرشون بالراقصات والفنانات ... ولاسيما وأنكم من رواد هذه الملاهي ...وأنا أشاهدك دائماً في الكريزي هورس و....انقطع الخط ) ص117
استطاع الكاتب عيسى إسماعيل من الدخول إلى الأماكن الأكثر سخونة وعرف كيف يرصد هموم الطبقات الشعبية رغم اختلاف الوسائل التي سهلت عليه تلك المهمة ، لقد أراد الكاتب أن يصرخ بصوته المنخفض ليقول بأن ما يجري على أرض الواقع مرفوض وبأن الأمور لابد لها أن تعود لمساراتها السليمة بجهود من يقدم النفع والخير على مساحة الوطن .