المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دراسة نقدية في مجازفات حبر الهمس الناقد :علي



علي الصيرفي
19/07/2009, 07:59 PM
"مجازفات حبر الهمس "
انطلاقة الشعرية بقوة الأحلام
والخيالات الجامحة وتحولها إلى أشرعة للإبحار
الشاعر علي الجراش
الناقد: علي الصيرفي


إنه الشعر يقتحم الصفوف، ويدخل كل الأمكنة التي تنحني لملكوته، وتطرب لكلماته يتربع فوق المساحات النابضة بالحب والحزن والفرح ، يهمس في القلوب والأنفس عن إرهاصات تجتاح العقول، وتتدثر بالأفكار والأفئدة المترعة بالهم، و بالقوة والأحزان ، ويجرف أكوام القلق لتنهض كلمات، تنبعث من متنها القصيدة فارضة رؤيتها ،عبر النوافذ المفتوحة على الإنسانية والمعرفة فتنهض النفوس وتتعالى القامات، لتصبح تلك التساؤلات حقائق مبررة بالإمكان طرحها، والتمسك بها، وهذا الموئل من الشعر استنهضه الأديب الشاعر علي محمد الجراش بديوانه القصيدة (مجازفات حبر الهمس) حيث التناغم بين الروح، وهمس الحلم، وقوة الواقع، وامتداد الرؤية ، وانتشاء النفوس بخمرة الإبداع فتأتي الكلمات مضمّخة بروح الأرض وعبق المطر وقوة البرق تاركة فك الأسرار لمن يحسن الإبحار على أشرعة القصيدة وإتقان توجيه البوصلة :
هرب المكان ُ....
ولم يعد للوقت معنى ً
في لغات العاشقين
وأشاح كابوس النوى بظلاله
فوق المعارج والمفاوز كلها
وعلى قناديل التماهي
في امتدادات السنين
وا حسرتي هذي الثمالات
التي قدستا كاد السراب يلفها
لتغيب.......( ص10 )
لا أستطيع الجزم لماذا يهرب المكان ويفقد الزمن معناه، في ربوع متقاطعة بالأشياء الغريبة، والتي تنفر منها الأحلام لتتجمع في باحاتها الكوابيس والأشباح هل هي قوة الحلم أم تهالك الوقائع فوق صحارى امتدت رمالها الحارقة في كل الحلوق والحناجر فاقدة تلك القدسية التي اكتسبتها عبر مرور السنين، ترى هل هذه الأرقام لأجناد يزعقون جزعاً من هبوب الريح وإقلاع السفن المبحرة بقوة المد وتحليق النوارس، فالعمق الدافع يتعانق مع الورد وزهر الياسمين برغم القهر وقسوة اللحظات البائسة وتخريب المتبقي من تلك المصادفة الغبية التي حرقت جسور العناق والتلاقي، لكن الحسم يخرج بقوة المارد ونهوض طائر الفينيق، فالنفوس الطامحة لا تقبل الهزيمة، والقلب يتسلق قمم الغمام ،فالحياة المنشودة بادية أمام عيون الشاعر وكائنه، فهي جنة لبوسها من سندس، وأنهارها كوثر، وسدرتها ظلال من نخيل :
ما للخرائط أترعت مدناً
حقيقتها رمال
للآت تنذر عشقها شاة
وبعضاً من جمال
فتشت كل الملاحم لم أجد
شيئاً سوى قيل وقال
وبعنعنات لا تضر ولا تفيد
تزيد عصفي بالسؤال... (ص13)

ولا ينسى الشاعر تلك الهزائم التي حرقت مهج الكائن الشعري لديه ،فهذا الرشيد الشديد الرمز المتربع فوق عرش العراق المدمى بالجراح ،وتلك الرموز التي تدل على الفساد وتتدلى من عقالها روائح الخيانة والاختراق فالكبائر تمارس واليأس ينمو، كما تنمو الطحالب، وقلوب هؤلاء العرب، يملؤها الفجور والفسوق ،حيث تضمحل التقوى وتنحسر مقدمات العقل والفكر ،لأن الركن الفسيح للجواري والمجون ،وهذا الطاووس الأخرق ينفش ريشه كزعيم للجهالة بأساليب القتال ،لقد ظهرت حيوانية هذا المتكبر، لأن البغال خلقت لتكون بغالاً ،وهي تريد وبحزم أن تبقى بغالاً .

لكأنه الطاووس ،ينفش ريشه
بطلاً
تباهى بالجهالة في أساليب القتال
وجياده
ضاعت على طرق الجهات
فشرقت غرباً ووجهتها الشمال
والآن تزعم أنها
بالأصل قد خلقت بغالاً كلها
وتريد أن تبقى بغالْ (ص15)
وتضطرم الهموم في نفس الشاعر مشعلة جذوة القهر وفاتحة بوابات الصراع فالشطوط التي تأوي إليها نفسه تلتهب بالحرائق مشتعلة تحرق ثمالات عاشها الأديب عندها، وكأن يداً مجرمة تعيث فساداً في وطنه، فلا الطقوس السرية باتت نافعة ولا السحر الأسود صار مجدياً، إنها الهزيمة الكاملة التي يعيشها كائنه الشعري في هذه المتاهة العالمية .
فبأي آلاء القصيدة نحتمي
والوقت ...قيل
الوقت سيف قاطع
ينهال طعناً للشموس
ولم يدع نجماً مضيئاً
في السما
من أنجمي
يغتال في تلك الصباحات الضحى ( ص41)
يعيش الشاعر ليلاً بهيماً يتقاذفه بظلمته القاتلة، فيقف متحدياً وفي يده كأس القوة يريد ارتشافها ،ليتصدى وليعلن ثورته ونهوضه ، فالانكشافات الرائعة تتوالى على الشاعر تفيض عليه من نورها ما يملأ قلبه ويحصن عقله، فكل الحصارات التي تشتد حوله ستنحسر وستبقى ضياءات القادم تنير عتم الحصار، و يعلم بداية الهم ويعرف انتهاء الأشياء ،يتلمس عشق الحياة بحريتها ،ويرفض هذا التقزم أمام الظلام ،فالنار المشتعلة لاتهادن في اشتعالها أكوام الحطب، وتتكلم لغة الإبادة والافتراس ،كما أن احتراق الأشواق عند الشاعر إنما هي مهج ملتاعة تتلظى بجمر يحولها إلى رماد لكن صبح القادم على الدوام يحمل في أركانه المستقبل والأمل .
لنار لا تحابي في لظاها وإيماني بإ لا ها ضلال
تزف الليل في أعراس صبح له المجدان غيم واخضلال
لأن الصبح باق في وريد تسمر بالذهول ولا يزال
هكذا أراد الشاعر علي محمد الجراش أن يميز بين ماهو قائم وبين ما يريد ، فأوقد النار التي احمر جمرها ،ونفخ فيها من عذاباته لجة عاصفة في قلب شطآن تاهت عنها سفن الراحلين عنها ،فكان البوح همساً لحبر أراده درعاً ، يحتمي خلفه الشعر وتبنى عليه القصيدة ، فالنسمات الحالمة ،حملها في خياله المسافر نحو البعيد لكن رائحة الوطن، وأمسيات الروابي لم تفارقه حتى تلك الكلمات العائدة مع الصدى، أضرمت في قلبه منارات التجلي، التي تختزن الماضي وتقرب المسافات ،فالصمت في تلك الجبال لغة يفتن بها الوادي الرحيب، فتحمل شلالات الزمن لغة الوصل بوحاً، تضج به أركان الوادي الحبيب ، لقد قدم الأديب علي الجراش مجموعة شعرية خلقت في كلماتها إنساناً يعرف الماضي وينتقد الحاضر ليسعى نحو مستقبل مضيء .