علي طه النوباني
20/01/2006, 09:38 PM
العراق ...التداعي والكلام الموزون...!
بقلم : علي طه النوباني
ليس بالضرورة أن يكون الكلام الموزون المرتب هو المفيد دائما ... أحيانا يكون التداعي نافذة على الترتيب والنظام أو خطوة نحوه ؛ ذلك أن التداعي يسمح لنا بتقليب الأشياء والأفكار والنظر إليها من أكثر من جهة واحدة، وبخاصة إذا كان الموضوع شديد التعقيد كما هو الحال في العراق الآن .
لقد بات واضحاً بالنسبة لي على الأقل أن الغالبية العظمى من المحللين السياسيين العرب الذين يظهرون بمظهر الواثق؛ إنما ينحازون لوجهة نظر واحدة ، ويستميتون في الدفاع عنها دون أن يشك الواحد منهم في ما ذهب إليه لحظة واحدة ؛ ودون أن يتراجع عن أيّ من الأخطاء التي وقع فيها ، بل ودون أن يقلب الفكرة على ظهرها وبطنها ليراها من جوانب أخرى ، وببساطة ... إنهم لا يقعون في الحيرة أبدا لأنهم أبناء هذا الواقع الأحادي المتمترس وراء المحنطات والتابوهات والصناديق المقفلة بإحكام ...
العراق يعني لنا الكثير ؟ وهو بالنسبة لي منذ السومريين والبابليين ، وحتى عراق اليوم النازف ، ومنذ مناحات داموزي مروراً بمأساة علي بن أبي طالب والحسين بن علي وآلام الشيعة وصوت ياس خضر وسعدون جابر وروعة مظفر النواب ؛ غنائيةٌ واحدة لم تنقطع يوماً ولم تتوقف رغم صروف الدهر ووجع الأيام .
وأمام هذا السيل الجارف من الحضارة ، من هو الذي يستطيع أن يملي على عموم الشعب العراقي خياراً واحداً مهما كانت قداسته الآيدولوجية وبالدرجة نفسها من الفجاجة التي فرضت عليهم طوال العقود السابقة. وعلى سبيل المثال هل يستطيع أولئك المنحازون ضد الإطاحة بنظام صدام حسين الشمولي الدموي أن يدافعوا عن فكرتهم دون الاتكاء على منظومة الأفكار المحنطة المنطلقة من تعالٍ مقيت بعيد كل البعد عن فهم الحياة وديناميكيتها في التغير والحركة والتعدد...
ربما كان الرئيس العراقي السابق يطمح لأن يكون بطلاً تاريخياً مثل صلاح الدين أو نبوخذ نصر أو على الأقل مثل جمال عبد الناصر، ولكنه تغافل عن الحقيقة ، تلك التي أكدت عبر التاريخ ، أن العبيد يخدمون سيدهم ويبحون حناجرهم في الدعاء له والثناء عليه ، ولكنهم لا يدافعون عنه إذا وقعت الواقعة ، لأنهم يعرفون أنه هو الذي جرّدهم من إنسانيتهم ، وسلبهم أغلى ما منحتهم إياه الحياة وهو الحرية ، كما لم يدرك أيضاً أن الأبطال التاريخيين قد زكاهم الناس بطريقة أو بأخرى والتفوا حولهم ، أما هو فقد زكى نفسه لأكثر من ثلاثين عاماً وعمل على تصفية كلِّ من يشعر تجاهه بالنقص، وتهجير كل من يمكن أن يرفع رأسه في حضرته .
وهكذا فقد امتزجت شخصية صدام حسين لدى الجماهير العربية بحالتين متناقضتين؛ هما البحث عن البطولة المفقودة، هذا الهاجس الذي داعب مشاعر الأغلبية من البسطاء في جماهيرنا العربية ، والإرهاب السياسي الإجرامي الذي يصل إلى إعدام الخصوم برصاصة من مسدس القائد نفسه في اجتماع لمجلس قيادة الثورة ، أو إلى جمعِ أهلِ قريةٍ بأكملها في مقشرة التعذيب ليموت الكثيرون منهم من أجل لا شيء سوى إثبات الألوهية المطلقة لصاحب السيادة .
أما الكارثة الكبرى فهي نسبة هذه الأحداث الفاجعة إلى كلمة الثورة !!!
أية ثورة تلك التي تحوِّل الدولة إلى معتقل كبير لا يُسمع فيه غير صوت الدكتاتور المتألّه، ولا يُرى غير السياط المنهمرة من يديه على رأس الحرية والنمو الطبيعي للحياة ؟؟؟
أية ثورة تلك التي تضع عقول الناس في قمقم ،مانعة إياهم من التجريب والتطور الطبيعي لعقود طويلة ، بل وتجبله على العبودية حتى إذا فارقها وقع في حيص بيص، واختلطت عليه الأمور، وبدا مثل طائر صغير يخرج من بيضة لا يدري بدايته من منتهاه .
وهكذا سقط الدكتاتور وظهرت الفرق والشيع : أما هؤلاء الذين ظهروا بشكل مفاجئ؛ واعتاد أصحاب الرؤية الأحادية على وصفهم بأنهم جاؤا على ظهر الدبابة الأمريكية وحسب ، فحجتهم في ذلك أن كل ثورات الشعب العراقي ضد هذا الطاغية لم تفلح في زحزحته شبراً واحداً عن طغيانه ، بل إنه كان مستعداً أن يقتل كل شعبه حفاظاً على مكتسباته الشخصية ، وعلى الهالة التي يحيط نفسه بها بدافع جنون العظمة المستفحل في حنايا نفسه .
هؤلاء يقولون بأنهم لو لم يفعلوا ما فعلوا لبقي في الحكم دهراً ، ومسح العراق عن خارطة الحياة ، كما مسحها لفترة طويلة عن الجغرافيا .
ولكن ... لماذا هذا العصاب الذي يمارسه هؤلاء في طريقة حكمهم ؟ لماذا التعذيب واستعداء الشعب العراقي للشعارات التي أطلقوها أصلاً ؟ ألم يقولوا بأنهم جاؤا لتخليص العراق من التجبر والتسلط ،وإعلان العراق واحة للديمقراطية وحقوق الإنسان ، لماذا التعذيب في المعتقلات وسلخ الجلود وتصفية الخصوم وإعادة منطق العصابة، بعد كل ما تم فعله لإزالته ؟؟ وهل من الممكن الوصول إلى دولة المؤسسات والديمقراطية والحريات عبر مثل هذه الأساليب ؟
أما أولئك الذين يملئون العراق وغير العراق تفجيراتٍ، وعمليات انتحارية تطال الأبرياء أكثر مما تطال المجرمين، فإنما يدّعون أن رسالتهم أشدُّ قداسة من حياة الناس ، وأكثر أهمية من موت طفل هنا وشيخ هناك ، لأن رؤيتهم الشمولية غير قابلة للتجزيء أو التفاوض على أيّ جزء من تفاصيلها ،ولأنهم ببساطة هم الأبناء الشرعيون الذين ولدوا من رحم الأنظمة العربية المشابهة في التكوين .كيف لا وقد كانوا حلفاءها المفضلين ضد كل التيارات السياسية الجادة التي ظهرت في بلادنا العربية .
ولكن هل صحيح أن هؤلاء جماعة واحدة من حيث الرؤية العامة؟ وهل يتساوى من يواجه قوات الاحتلال مع من يفجر مسجداً أو بيتَ عزاء أو مقهى شعبي ؟
إن جزءا من هؤلاء يرون في قدوم القوات الأمريكية إلى أرض سادتها الفوضى فرصة تاريخية لتأديب أمريكا، وتعريفها بمدى السخط العارم الذي يسكن الجماهير العربية ضدها والذي تشكل كنتيجة لسياسات أمريكا المنحازة ، فأمريكا هي التي ساندت إسرائيل عبر تاريخها العدواني، كما ساندت الدكتاتورية في منطقتنا، والتي بدورها كانت سببا في هدر الثروات العربية وتجميد النمو والتنمية،بل والسهر على المحافظة على حالة التخلف لأن التخلف هو أكسجين الدكتاتورية، كما أن الظلام هو جنة اللصوص والمارقين .
وعلى أية حال فإن هنالك جانبا مشبوهاً وبالغ التطرف من سلوك هذه الجماعات من مثل العمليات الانتحارية التي تم تنفيذها في المساجد وبيوت العزاء والمقاهي الشعبية وغير ذلك، والتي كان ضحاياها هم أنفسهم الضحايا السابقون لنظام صدام حسين، ولأمريكا التي يدعى هؤلاء مقاومتها .
وحيث أن ظهور دولة ديمقراطية حديثة في العراق وسط مزرعة الدكتاتوريات في المنطقة هو أمر يدعو للخوف من عدوى الحداثة والديمقراطية التي تمثل خطراً فادحاً على مصالح المشايخ والإقطاعيين ، فإنه من الممكن السيطرة على عمليات من هذا النوع بواسطة الريموت كونترول كما كان يتم ذلك في أفغانستان قبل حوالي عشرين عاما بواسطة بعض العناصر شديدة التطرف والتي تتبنى آراء عجيبة من مثل ضرورة مقاتلة الشيعة قبل مقاتلة اليهود !!!
وهكذا يتم إشعال فتنة طائفية ، وإجهاض مشروع الحداثة والديموقراطية ، ويصبح التعدد والتنوع اللذان هما دعامة للديموقراطية سببا في إجهاضها لصالح دكتاتوريات المنطقة التي يراد لها أن تبقى في العصور الوسطى، وأن تبقى نهبا لعصابات السلب والنهب والبلطجة .
على أن هنالك مصدرا آخر لوقود الفتنة وهم أولئك الذين فقدوا كل امتيازاتهم التي امتلكوها بغير حق في أيام النظام البائد، فوجدوا أنفسهم صفر اليدين وبرروا لأنفسهم المشاركة في مثل هذه الجرائم كما برروا مثلها في أيام صدام حسين ... إنهم البلطجية أنفسهم وقطاع الطرق الذين تقطعت بهم السبل، وانفرط عقد عصابتهم ...
أما شيعة العراق فإنني أرى ظلماً تاريخياً يقع عليهم مرة أخرى حين يطالبهم البعض بالدفاع عن الجلاد الذي حصد رؤوس أبنائهم ، أو حتى باتخاذ موقف صارم وسريع بعد هذا الحبس الطويل في معتقل صدام حسـين الكبير ، هذا بالإضافة إلى الدور القـذر لبعض أجهزة المخابرات في الإيقاع بين السنة والشيعة ،وذلك بالاستناد إلى جوانب تتعلق بالمعتقدات الدينية، ومن ذلك أنه تم توزيع الكثير من الكتب التي تحتوي على الكثير من التشويه الموجه للعقائد الشيعية عبر العقود الماضية كان لها دور قويّ في إيجاد فرع من الجماعات السنية متخصص في العداء للشيعة، وكأنما كان يتم إعدادهم لهذه المرحلة .
إن هذه الجماعات الإسلامية المتطرفة هي وليدة فكرة التأويل التي سيطرت على التاريخ الإسلامي ، وسمحت لأصحابها بالتنقل من الفكرة إلى نقيضها ، لأنهم ـ كما يرون أنفسهم ـ الأوصياء على الحياة ، والواسطة بين الناس وربهم ، فهيهات لمن يحالف مثل هذه الجماعات أن يعرف مستقبله معها ، ومتى يتغير موقفها من حليفها كما يحدث الآن مع بعض الدول العربية 0
لقد آن لنا بأن نرفع صوتنا ونقول بأن هذا التفاعل الذي يجري الآن في العراق على الرغم من الألم الذي يسببه لنا الجانب الدمويّ منه؛ إلا أنّه حالة متعددة الوجوه، سريعة التغير، مرشحة للولادة الحضارية والثقافية على العكس من حالة الجمود التي تلدها الدكتاتورية المقيتة.
وإذا كانت محاولات صدام حسين لخلق قوة عسكرية كبيرة في شعب مهزوم ومحبط بفعل آلته الدموية، فإن مرحلة ما بعد صدام قد تخلق قوة ثقافية وحضارية تكون نموذجاً للتعايش بين الأديان والطوائف، وشكلاً بالغ الثراء يجمع ميراث ألوف السنين من الرقي والحضارة، ويشكل قوة معنوية ذات قيمة ودلالة جديدة للبطولة هي بطولة الشعب لا بطولة القائد العبقري الملهم الذي يموت الملايين من شعبه وهو يتنزه في قصوره المترفة.ومهما كانت نوايا أمريكا في العراق فإنها ستبقى دولة احتلال،وسيكون من حقّ عموم الشعب العراقي أولاً وقبل غيره تحديد نوع وشكل مقاومته لها ، وما علينا إلا أن نتمهل في تحليل فصائل وماهية وأهداف المقاومة قريبة كانت أو بعيدة المدى؛ لأن أهل مكة أدرى بشعابها .
بقلم : علي طه النوباني
ليس بالضرورة أن يكون الكلام الموزون المرتب هو المفيد دائما ... أحيانا يكون التداعي نافذة على الترتيب والنظام أو خطوة نحوه ؛ ذلك أن التداعي يسمح لنا بتقليب الأشياء والأفكار والنظر إليها من أكثر من جهة واحدة، وبخاصة إذا كان الموضوع شديد التعقيد كما هو الحال في العراق الآن .
لقد بات واضحاً بالنسبة لي على الأقل أن الغالبية العظمى من المحللين السياسيين العرب الذين يظهرون بمظهر الواثق؛ إنما ينحازون لوجهة نظر واحدة ، ويستميتون في الدفاع عنها دون أن يشك الواحد منهم في ما ذهب إليه لحظة واحدة ؛ ودون أن يتراجع عن أيّ من الأخطاء التي وقع فيها ، بل ودون أن يقلب الفكرة على ظهرها وبطنها ليراها من جوانب أخرى ، وببساطة ... إنهم لا يقعون في الحيرة أبدا لأنهم أبناء هذا الواقع الأحادي المتمترس وراء المحنطات والتابوهات والصناديق المقفلة بإحكام ...
العراق يعني لنا الكثير ؟ وهو بالنسبة لي منذ السومريين والبابليين ، وحتى عراق اليوم النازف ، ومنذ مناحات داموزي مروراً بمأساة علي بن أبي طالب والحسين بن علي وآلام الشيعة وصوت ياس خضر وسعدون جابر وروعة مظفر النواب ؛ غنائيةٌ واحدة لم تنقطع يوماً ولم تتوقف رغم صروف الدهر ووجع الأيام .
وأمام هذا السيل الجارف من الحضارة ، من هو الذي يستطيع أن يملي على عموم الشعب العراقي خياراً واحداً مهما كانت قداسته الآيدولوجية وبالدرجة نفسها من الفجاجة التي فرضت عليهم طوال العقود السابقة. وعلى سبيل المثال هل يستطيع أولئك المنحازون ضد الإطاحة بنظام صدام حسين الشمولي الدموي أن يدافعوا عن فكرتهم دون الاتكاء على منظومة الأفكار المحنطة المنطلقة من تعالٍ مقيت بعيد كل البعد عن فهم الحياة وديناميكيتها في التغير والحركة والتعدد...
ربما كان الرئيس العراقي السابق يطمح لأن يكون بطلاً تاريخياً مثل صلاح الدين أو نبوخذ نصر أو على الأقل مثل جمال عبد الناصر، ولكنه تغافل عن الحقيقة ، تلك التي أكدت عبر التاريخ ، أن العبيد يخدمون سيدهم ويبحون حناجرهم في الدعاء له والثناء عليه ، ولكنهم لا يدافعون عنه إذا وقعت الواقعة ، لأنهم يعرفون أنه هو الذي جرّدهم من إنسانيتهم ، وسلبهم أغلى ما منحتهم إياه الحياة وهو الحرية ، كما لم يدرك أيضاً أن الأبطال التاريخيين قد زكاهم الناس بطريقة أو بأخرى والتفوا حولهم ، أما هو فقد زكى نفسه لأكثر من ثلاثين عاماً وعمل على تصفية كلِّ من يشعر تجاهه بالنقص، وتهجير كل من يمكن أن يرفع رأسه في حضرته .
وهكذا فقد امتزجت شخصية صدام حسين لدى الجماهير العربية بحالتين متناقضتين؛ هما البحث عن البطولة المفقودة، هذا الهاجس الذي داعب مشاعر الأغلبية من البسطاء في جماهيرنا العربية ، والإرهاب السياسي الإجرامي الذي يصل إلى إعدام الخصوم برصاصة من مسدس القائد نفسه في اجتماع لمجلس قيادة الثورة ، أو إلى جمعِ أهلِ قريةٍ بأكملها في مقشرة التعذيب ليموت الكثيرون منهم من أجل لا شيء سوى إثبات الألوهية المطلقة لصاحب السيادة .
أما الكارثة الكبرى فهي نسبة هذه الأحداث الفاجعة إلى كلمة الثورة !!!
أية ثورة تلك التي تحوِّل الدولة إلى معتقل كبير لا يُسمع فيه غير صوت الدكتاتور المتألّه، ولا يُرى غير السياط المنهمرة من يديه على رأس الحرية والنمو الطبيعي للحياة ؟؟؟
أية ثورة تلك التي تضع عقول الناس في قمقم ،مانعة إياهم من التجريب والتطور الطبيعي لعقود طويلة ، بل وتجبله على العبودية حتى إذا فارقها وقع في حيص بيص، واختلطت عليه الأمور، وبدا مثل طائر صغير يخرج من بيضة لا يدري بدايته من منتهاه .
وهكذا سقط الدكتاتور وظهرت الفرق والشيع : أما هؤلاء الذين ظهروا بشكل مفاجئ؛ واعتاد أصحاب الرؤية الأحادية على وصفهم بأنهم جاؤا على ظهر الدبابة الأمريكية وحسب ، فحجتهم في ذلك أن كل ثورات الشعب العراقي ضد هذا الطاغية لم تفلح في زحزحته شبراً واحداً عن طغيانه ، بل إنه كان مستعداً أن يقتل كل شعبه حفاظاً على مكتسباته الشخصية ، وعلى الهالة التي يحيط نفسه بها بدافع جنون العظمة المستفحل في حنايا نفسه .
هؤلاء يقولون بأنهم لو لم يفعلوا ما فعلوا لبقي في الحكم دهراً ، ومسح العراق عن خارطة الحياة ، كما مسحها لفترة طويلة عن الجغرافيا .
ولكن ... لماذا هذا العصاب الذي يمارسه هؤلاء في طريقة حكمهم ؟ لماذا التعذيب واستعداء الشعب العراقي للشعارات التي أطلقوها أصلاً ؟ ألم يقولوا بأنهم جاؤا لتخليص العراق من التجبر والتسلط ،وإعلان العراق واحة للديمقراطية وحقوق الإنسان ، لماذا التعذيب في المعتقلات وسلخ الجلود وتصفية الخصوم وإعادة منطق العصابة، بعد كل ما تم فعله لإزالته ؟؟ وهل من الممكن الوصول إلى دولة المؤسسات والديمقراطية والحريات عبر مثل هذه الأساليب ؟
أما أولئك الذين يملئون العراق وغير العراق تفجيراتٍ، وعمليات انتحارية تطال الأبرياء أكثر مما تطال المجرمين، فإنما يدّعون أن رسالتهم أشدُّ قداسة من حياة الناس ، وأكثر أهمية من موت طفل هنا وشيخ هناك ، لأن رؤيتهم الشمولية غير قابلة للتجزيء أو التفاوض على أيّ جزء من تفاصيلها ،ولأنهم ببساطة هم الأبناء الشرعيون الذين ولدوا من رحم الأنظمة العربية المشابهة في التكوين .كيف لا وقد كانوا حلفاءها المفضلين ضد كل التيارات السياسية الجادة التي ظهرت في بلادنا العربية .
ولكن هل صحيح أن هؤلاء جماعة واحدة من حيث الرؤية العامة؟ وهل يتساوى من يواجه قوات الاحتلال مع من يفجر مسجداً أو بيتَ عزاء أو مقهى شعبي ؟
إن جزءا من هؤلاء يرون في قدوم القوات الأمريكية إلى أرض سادتها الفوضى فرصة تاريخية لتأديب أمريكا، وتعريفها بمدى السخط العارم الذي يسكن الجماهير العربية ضدها والذي تشكل كنتيجة لسياسات أمريكا المنحازة ، فأمريكا هي التي ساندت إسرائيل عبر تاريخها العدواني، كما ساندت الدكتاتورية في منطقتنا، والتي بدورها كانت سببا في هدر الثروات العربية وتجميد النمو والتنمية،بل والسهر على المحافظة على حالة التخلف لأن التخلف هو أكسجين الدكتاتورية، كما أن الظلام هو جنة اللصوص والمارقين .
وعلى أية حال فإن هنالك جانبا مشبوهاً وبالغ التطرف من سلوك هذه الجماعات من مثل العمليات الانتحارية التي تم تنفيذها في المساجد وبيوت العزاء والمقاهي الشعبية وغير ذلك، والتي كان ضحاياها هم أنفسهم الضحايا السابقون لنظام صدام حسين، ولأمريكا التي يدعى هؤلاء مقاومتها .
وحيث أن ظهور دولة ديمقراطية حديثة في العراق وسط مزرعة الدكتاتوريات في المنطقة هو أمر يدعو للخوف من عدوى الحداثة والديمقراطية التي تمثل خطراً فادحاً على مصالح المشايخ والإقطاعيين ، فإنه من الممكن السيطرة على عمليات من هذا النوع بواسطة الريموت كونترول كما كان يتم ذلك في أفغانستان قبل حوالي عشرين عاما بواسطة بعض العناصر شديدة التطرف والتي تتبنى آراء عجيبة من مثل ضرورة مقاتلة الشيعة قبل مقاتلة اليهود !!!
وهكذا يتم إشعال فتنة طائفية ، وإجهاض مشروع الحداثة والديموقراطية ، ويصبح التعدد والتنوع اللذان هما دعامة للديموقراطية سببا في إجهاضها لصالح دكتاتوريات المنطقة التي يراد لها أن تبقى في العصور الوسطى، وأن تبقى نهبا لعصابات السلب والنهب والبلطجة .
على أن هنالك مصدرا آخر لوقود الفتنة وهم أولئك الذين فقدوا كل امتيازاتهم التي امتلكوها بغير حق في أيام النظام البائد، فوجدوا أنفسهم صفر اليدين وبرروا لأنفسهم المشاركة في مثل هذه الجرائم كما برروا مثلها في أيام صدام حسين ... إنهم البلطجية أنفسهم وقطاع الطرق الذين تقطعت بهم السبل، وانفرط عقد عصابتهم ...
أما شيعة العراق فإنني أرى ظلماً تاريخياً يقع عليهم مرة أخرى حين يطالبهم البعض بالدفاع عن الجلاد الذي حصد رؤوس أبنائهم ، أو حتى باتخاذ موقف صارم وسريع بعد هذا الحبس الطويل في معتقل صدام حسـين الكبير ، هذا بالإضافة إلى الدور القـذر لبعض أجهزة المخابرات في الإيقاع بين السنة والشيعة ،وذلك بالاستناد إلى جوانب تتعلق بالمعتقدات الدينية، ومن ذلك أنه تم توزيع الكثير من الكتب التي تحتوي على الكثير من التشويه الموجه للعقائد الشيعية عبر العقود الماضية كان لها دور قويّ في إيجاد فرع من الجماعات السنية متخصص في العداء للشيعة، وكأنما كان يتم إعدادهم لهذه المرحلة .
إن هذه الجماعات الإسلامية المتطرفة هي وليدة فكرة التأويل التي سيطرت على التاريخ الإسلامي ، وسمحت لأصحابها بالتنقل من الفكرة إلى نقيضها ، لأنهم ـ كما يرون أنفسهم ـ الأوصياء على الحياة ، والواسطة بين الناس وربهم ، فهيهات لمن يحالف مثل هذه الجماعات أن يعرف مستقبله معها ، ومتى يتغير موقفها من حليفها كما يحدث الآن مع بعض الدول العربية 0
لقد آن لنا بأن نرفع صوتنا ونقول بأن هذا التفاعل الذي يجري الآن في العراق على الرغم من الألم الذي يسببه لنا الجانب الدمويّ منه؛ إلا أنّه حالة متعددة الوجوه، سريعة التغير، مرشحة للولادة الحضارية والثقافية على العكس من حالة الجمود التي تلدها الدكتاتورية المقيتة.
وإذا كانت محاولات صدام حسين لخلق قوة عسكرية كبيرة في شعب مهزوم ومحبط بفعل آلته الدموية، فإن مرحلة ما بعد صدام قد تخلق قوة ثقافية وحضارية تكون نموذجاً للتعايش بين الأديان والطوائف، وشكلاً بالغ الثراء يجمع ميراث ألوف السنين من الرقي والحضارة، ويشكل قوة معنوية ذات قيمة ودلالة جديدة للبطولة هي بطولة الشعب لا بطولة القائد العبقري الملهم الذي يموت الملايين من شعبه وهو يتنزه في قصوره المترفة.ومهما كانت نوايا أمريكا في العراق فإنها ستبقى دولة احتلال،وسيكون من حقّ عموم الشعب العراقي أولاً وقبل غيره تحديد نوع وشكل مقاومته لها ، وما علينا إلا أن نتمهل في تحليل فصائل وماهية وأهداف المقاومة قريبة كانت أو بعيدة المدى؛ لأن أهل مكة أدرى بشعابها .