المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سفط سهواَ ـ قصة ـ



عبد السلام المودني
20/01/2006, 05:19 PM
سقــــط سهــــوا







كان يرقب مظهره خلف نظارته السميكة أمام مرآته فبدا رأسه خال إلا من شمطات متفرقة في قذاله...منتفخ الجفنين..عيناه الزرقاوان كانتا سببا في تعلق الفتيات الغربيات به في مرحلة الدراسة... قبل أن يختلط بهن في الصالونات بعد ذلك شابا..كتب الزمان بخطوطه الغائرة على صفحة وجهه..تفاصيل حياة طويلة استمرأ فيها لذاذات الشباب الغرار ويتجشا الآن تباريح الشيخوخة الملعونة..وكان أعقف الأنف ،اهتم الفم مندسا في بدلته التي أحالت الأيام الطوال لونها الأزرق رماديا..والتي تعود به أدراجا إلى ثلاثين سنة خلت، أيام كان موظفا بمصلحة الأرشيف..بوزارة التخطيط..أيام الشباب والصحة والصحبة الحسنة والعشرة الطيبة..دعاباته اللامنقطعة في العمل مع زميله الذي انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل عشرين سنة... جلساته الطويلة في مقهى الناس مع ثلة من الأصدقاء الذين تفسخت أخبارهم بمضي الزمان...لكم ياكله الحنين إلى الخلان والعدا الذين طوت الأرض ذكراهم في بطنها وحالت الأيام دونهم..ودفء البيت عند عودته متأخرا..زوجه للاالبتول التي لايطيب لها العشاء إلا برفقته هي أيضا صارت خبرا من الماضي وأثرا من ذاكرته التالفة.

واليوم غاب كل شيء..حتى الأبناء الذين أزجى في تربيتهم عمرا.. وتحمل في سبيل إراحتهم الكثير هاجر ثلاثتهم..وانقطعوا عن بعث رسائلهم منذ عشر سنين..ولم يعد له إلا هذا البيت او مافضل منه فهو إن عد دوحا قديما فقد غدا قفرا يتمثل في جدرانه حياته السالفة وحياة من ضم إلى جواره لقد ولد فيه..وحيدا بلا إخوة...ونشأ داخله..ومات الأب في إحدى حجراته..واتى بالبتول تؤنس وحشة أمه..قبل أن ترحل ووضعت له أمينة وسكينة وحمزة ورحل الجميع..وتركوه هاهنا وحيدا كما ولد.. بلا أحد..وفيا لهم بعدم البحث عن أناس جدد يملأ بهم فراغات حياته..بل خالها منقضية برحيل القدامى وجعل يترقب الموت في أمل الإسراع.. وهو يخاف أن يسقط البيت العتيق قبل أوان رحيله..وإن كان يرى أن هذا البيت لن يعيش بعده.. كما لن يستطيع هو أن يفعل..وكان مطمئنا إلى وفائه رغم انه يردد دوما بينه وبين نفسه دون انقطاع بان سوء المظنة من حسن الفطنة وقولة يعتبرها حكمة لا يذكر من أين تسللت إلى ذاكرته تزكي نظرته المتشائمة..ومسلكه الانطوائي فتراه يعيدها مع كل تنهيدة حارة:

- لا بأس ..فقد غاض الوفاء وفاض الغدر.

وكان ينفق سحابة يومه داخل حجرات بيته..متنقلا من هذا الكتاب إلى ذكرى تلك الصورة..ومن مطبخه الشارد على صالونه الأثيل ولم يكن يبرح بيته المشهود إلا لماما عند راس كل شهر كحاله اليوم..لصرف معاشه ولشراء ما يلزمه طيلة شهر تحصنه هنالك

ومع تقدمه في السن لم يعد ينم إلا غرارا..إذ يقضي ليلته بين الحمام والسرير ..ومن عاداته التي ما كان ليتنازل عنها أبدأ..قهوته الصباحية السوداء مشفوعة بسيجارة يظل ينفث منها بنهم...ويتمثل فيها حياة كل الناس..في مختلف أطوار أعمارهم فهي إن تبدأ شهية فاترة..ما تنفك تتوازن وسطا..لتصير أكثر إحراقا متى شارفت نهايتها.

ويخرج من بيته على مهل عبر سلم مترب مسحت بعض درجاته أو كادت..ويستقبله الحي الذي يعرفه جيدا كبيته رغم ما يلمسه عند مطلع كل شهر من وافدين جدد إليه.. وراحلين عنه في غير أسف بيد أن بعض صروحه لا تتغير أبدا.. دكان البقالة يمينا وإن تغيرت وجوه أصحابه ظل على حاله..ومسجد " الرحمن" يسارا.. ومقهى " الشعب" إلى الأمام التي كانت تعرف قديما بمقهى " الناس" ثم " الأمة" "فالشعب" وقد كانت حضنا دافئا له ولأخدانه..ويتذكر يوم أتاه حمزة يجري يبشره بنيله الشهادة، فرق المشروب على الجالسين وفاض عليهم ليشمل الحي وهوامشه..أما الآن فلم يقر له إلا صدى زغرودة للا البتول في زفاف البنتين يدغدغ صماخيه.

وكان حيه مشج متناقضات جمع فيما يعلم مالا يجمع ..هنا حيث تتناسل الأضداد أشكالا هجينة..حيث الفجر المفروض..والطهارة المقشبة ملتقيان على عتبة الغصب والطوع حيث التشاجر عادة وإرثا وثقافة ..هنا المتاجرون في الحشيش أو"المتعلمين" معروفون بتخدير العقول تجدهم مرجرجي الأعين يرون في كل غريب مخبر محتمل..وهنا أيضا المتاجرون في الدين أو "المريدين" معروفون بتخدير العقول..مكحالين مستاكين تراهم بعماماتهم البيضاء وبجلابيبهم القصيرة..ولحيهم الصهباء الطويلة..يظنون في كل غريب شحنة كفر عليهم محاربتها..وإن تزاحم معهم في المساجد فهو مندس..وحيث نساء يخرجن شبه عاريات يمشين بميوعة العواهر ..يطاردن جيوب الزبائن المحتملين..وتتعقبهن عيون عطشى..وحيث أشباه نساء لا ينظرن إليك إلا من ثقوب خيمهن السوداء المتحركة كأشباح في واضحة النهار تذكرك بأفضع كوابيس البشرية "الانغلاق".

انتصبت أمامه صورة ليلة دخلوه على البتول البكر..ولم يكن قد رآها قبلا ولا سمع عنها قبل أسبوع مضى.وأتى أمر الوالد بالزواج فكان الإذعان والامتثال..وما كان يملك غيرهما.

ندت عن شفتيه ابتسامة للموقف الطريف..فقد ارتبكا..وجلس كل منهما على كثب السرير موليا ظهره للآخر حتى الصباح..اخرج سيجارة ألقي بها في فمه المبتسم..اخذ منها نفسا عميقا و أنقذت أمه الموقف عند دخولها عليهما صباحا..ولطفت الأجواء بينهما حتى أسفر الزواج عن عشرة طيبة..وذرية صالحة شغلتها الحياة عنه.

- إن لم تستح فاصنع ما شئت

- أعوذ بالله من غضب الله.

- .......

- الكافر يفعلها جهارا

انتبه فجأة إلى تجمهر الناس حوله فإذا به يدرك أن الكلام موجه إليه..وكنت تحتاج على عشرة طويلة..لتتحقق من انه شخص متقلب المزاج..حاد الطبع وإن بدا في أغلب الأحيان هادئا ساكنا لكنه كالبركان عند الغضب قد لايتوقف إلا إذا أصاب من حوله بحممه الملتهبة..وعرف في عمله بالحدة فما كان ليداجي أو يداهن..وذلك ما أقعده عن الترقيات سنوات..وسنوات.

صعدت الدماء المستعرة التي ناصيته التي أخذت تغلى..وتكاد تنفجر ..أزاح نظارته لتتضح معالم عينيه تقدحان شررا مستطيرا..ثم صاح وبصاقه يصيب الوجوه المحملقة فيه:

- ماذا بكم أيها الملاعين..؟ أتراكم أبصرتم جنيا في واضحة النهار؟

قال أحدهم هازئا:

- جني كافر.. ياعم.. لايراعي الحرمات

- الحرمات ؟ أية حرمة اعتديت عليها يا هذا ؟

ودنا منه يريد أن يمسك بخناقه..لولا أن حال الناس بينهما فقال صوت من الخلف:

- رمضان مبارك.. يامريخ..فنحن نصوم يومنا الثامن

امسك ضحكة في غير محلها..ورمى سيجارته..وهو يخطر بين الوجوه بطرفه الذاهل وانقلب سخطه العاصف إلى هدوء ساكن..فرفع يديه مستسلما وهو يقول:
- معذرة..فأنا لم اكن أعلم.


عبد السلام المودني

طارق شفيق حقي
20/01/2006, 06:02 PM
سلام الله عليك أهلا بك اخي في المربد

أسواق المربد يرحب بك اجمل ترحيب
ويمنى ان تمارس طقوس الانعتاق كما تحب
هو الحرف غايتنا
وسنعود لقصتك باذن الله
تحياتي لك واهلا بك قاصاً في المربد

خالد القيسي
20/01/2006, 06:38 PM
قراءة أولى

أخي عبد السلام :
تحتياتي لقلمك المبدع لقد احسنت الوصف في المقدمة ووضعتنتا بمهارة في خلفية الحدث الذي تنامى صوته الداخلي حتى علا حوارا فانتقلت بمهارة الفهد من الوصف للحوار وايت النص بطريقة جميلة

تملك تقانة عالية ولغة ممتازة وتطرح أفكارك بوضووح

تحياتي لك واهلا بك في منتديات المربد

خالد

المودني عبدالسلام
24/01/2006, 01:49 PM
شكراً للترحيب أخي طارق.
أنتظر عودتك ..
مودتي
ع.السلام المودني

المودني عبدالسلام
24/01/2006, 01:52 PM
أخي خالد:
مجاملة لطيفة منك.. وكلمات تزيدني خجلا إلى خجلي.
أعجز فعلا عن الرد..
شكرا رغم عجزي
ع.السلام المودني

طارق شفيق حقي
24/01/2006, 03:29 PM
أخي خالد:
مجاملة لطيفة منك.. وكلمات تزيدني خجلا إلى خجلي.
أعجز فعلا عن الرد..
شكرا رغم عجزي
ع.السلام المودني

سلام الله عليك أخي عبد السلام

كنت قد أرسلت لك رسالة فيها تغير لكلمة المرور ألم تصلك ؟؟

المودني عبدالسلام
25/01/2006, 10:28 AM
مساءات الورد أخي طارق
وصلتني..حاولت ففشلت.
وأعدت التسجيل كما ترى.
مودتي
عبد السلام المودني

خالد القيسي
27/01/2006, 09:50 PM
أخي عبد السلام : سلام من الله اليك وعليك

لقد كتبت لك ما وجدته في النص دون مجاملة أو إطراء فأنت فعلا تملك قلما مميزا والنص يتسحق البحث والتأمل

تحياتي

المودني عبدالسلام
28/01/2006, 02:04 PM
أخي خالد
هو من نصوص البدايات فقط..
لا أملك إلا شكرك.
مودتي
عبد السلام المودني

محمود الحسن
28/01/2006, 08:29 PM
أخي عبد السلام بداية أعتذر عن تأخري في قراءة قصتك
قصتك معبرة وواقعية وقد سبقني أصحاب الاختصاص و الابداع في نقدها
أتمنى لك مزيدا من التوفيق
تحياتي لك

المودني عبدالسلام
29/01/2006, 11:17 AM
أخي محمود
شكراً للمرور و القراءة ذاك هو الأهم
مودتي
عبدالسلام المودني