المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : «محاولة لحرق الجازية الهلالية» مقال نقدي



فيصل محمد الزوايدي
26/06/2009, 01:37 PM
السرد والتراث في مجموعـــــة «محاولة لحرق الجازية الهلالية»
*
بقلم الروائي التونسي :خالد الأسود

تمهيد
صدرت مؤخرا للقصاص عبد العزيز ضيف الله مجموعته القصصية الثانية «محاولة لحرق الجازية الهلالية» وذلك بعد صدور مجموعته الاولى «أين جسدي» التي سبق أن فاز بها على جائزة الحرية للقصة القصيرة على مستوى وطني سنة 2003 ـ وتمتاز هذه المجموعة بالتنوع حيث جمعت بين قصص واقعية وأخرى رمزية ذات أبعاد تراثية، وقد قامت القصة الأولى على جملة من التقنيات والابعاد والرموز جعلتها متميزة من حيث أدائها الفني والدلالي، ولذلك سنحاول التركيز على هذه الأقصوصة كأنموذج عن المجموعة ككل.
1) الجازية بين الواقع والرّمز:
لقد شكّل اسم الجازية مصدر قلق للشخصية نظرا لعدم شيوعه بين أهل القرية ولكن الجدة مثّلت الواسطة التي ربطت الفتاة بالتراث لمّا حدّثتها عن الجازية الأصلية في تراث بني هلال، وبذلك تحوّلت القصة الى لعبة سردية يتداخل فيها الحاضر بالماضي وجازية القرية بجازية بني هلال، ويمكن الجزم بأن اكتشاف فتاة القرية لحقيقة اسمها التراثية دفعها الى الإعلاء من شأن الجسد (الجانب الأنثوي فيها) «لقد صارت أيامي كلّها لعبا ولهوا بجسدي الذي غدا منذ بلغت الثامنة شغلي الشاغل» (ص 25) وهذا انعكاس لصورة الجازية الهلالية الجميلة «المتخبلة في شعورها» لذلك حصل نوع من الإندغام بين شخصية فتاة القرية والشخصية التاريخية «فمن كل فجّ ألتفت ناحيته أتوقع رؤية ذياب بن غانم مقبلا» يريد أن «يعيدني الى أهل بني هلال» ص 26 وقد بحثت الفتاة عن شخصية ذياب في الأب والجد والراعي وهو بحث عن الرجولة المفقودة في زمن الخصيان.
2) الجازية وأزمة الهوية:
ان الجازية رغم هجرتها الموصولة الى بلاد الغربة فقد بقيت رمز الأصالة والتمسك بالهوية حتى أنها احتفظت في ذاكرتها بأماكن قريتها وداومت على رؤيتها في كل زيارة. يقول السارد: «لم أكن أفهم سر انشغالها بهذه الأماكن» وتقول هي في موضع آخر «ظللت أشمّ رائحة الإبل والتراب الصحراوي» (ص 19) وشكلت حادثة خطف اليهودي للجازية رمزا لخطف فلسطين في محاولة لطمس الهوية الأصلية وقد تم ذلك بالمغالطات التي أقدم عليها المدرس اليهودي لتزوير التاريخ، أما الجازية فكانت الوعي الصارخ في مواجهة التحريف تدرك جيّدا أنه لا مجال للتفريط في الهوية وهي بذلك تقف على طرف نقيض مع الأب الذي كان مستعدا للتخلص من كل شيء من أجل ضمان «خبزته»، يقول: «لا يمكن الا أن نكون فرنسيين ما دمنا نقيم في أرض فرنسا (ص 29)، هذه اليد الممدودة من طرف هذا الأب المتخاذل قابلها الفرنسيون بالجحود والنكران، اذ أدّى اتهام مغربية بالسرقة الى اتهام جميع العرب، ولما حاولت الجازية تحريك تكتّل لرفع الظلم اتّهمت بالعنصرية والتعصّب لجنسها العربي.
3) الجازية وعُقدة إلكترا: أو معركة الذات:
«إلكترا» هي عقدة تمرّ بها كل فتاة مراهقة وهي الموازية لعقدة أوديب عند الذكور وهي علامة عدم النضج أثناء رحلة المراهقة للبحث عن ذاتها وبناء شخصيتها، لأن المراهقة تبدأ بالتعلق بأبيها كمرحلة أولى تمهيدا للعلاقة مع الآخر، وهذا ما حصل مع الجازية التي أفرطت في حبّها لأبيها ولكن حادثة الراعي الذي كان ينظر اليها بغريزته شكلت بداية الصدمة خصوصا إثر صدمتها الثانية مع أبيها في البيت وخارجه اثر اكتشافها استهتاره في علاقته بإمرأة ايطالية، لقد كان لكل ذلك أثره السيء بانطماس صورة الأب المثالي عندها وقادها اندفاعها الى مواجهة الشذوذ بالشذوذ، ولكنها استماتت دفاعا عن شرفها حين أصبح الأمر يتجاوز ذاتها الى محاولة اعتداء شبان غربيين على إمرأة شرقية، وهكذا احترقت الجازية جسدا بأن عادت مقعدة على كرسي متحرّك وبذلك خسرت ذاتها بسبب العواصف والمحن التي كانت أقوى من صمودها.
4) رمزية الحرق:لقد تم الحرق أو محاولات الحرق في مستويات متعددة:
* حرق صورة الجازية الجمالية: تشوه وجه الجازية وذهب القوام الرشيق الى غير رجعة ويرمز هذا الحرق الى الثمن الذي يدفعه الانسان ثمنا لحريته وشرفه، ويرمز التشوه الى قُبح الواقع الراهن.
* حرق قيمة الانسان المعاصر: وذلك عبر تشييئه والنظر الى جسده كسلعة «نحن كتلة من لحم وعظم كلنا بضاعة في عالم الاشهار» ص 17
* حرق البعد الانساني في العلاقة العاطفية «حان الوقت كي أتمتع بشقائها كما شقيت بحبّها خلال سنوات فلأكن ساديا ولأهتك الأسرار ص 18 وهكذا تصبح الرغبة في الثأر العاطفي حالة مرضية.
* رمزية النهاية:
ينسحب السارد في نهاية الأقصوصة من حياة الجازية الحقيقية (الفتاة التي عادت كسيحة من بلاد المهجر) ويُقحم نفسه في الجازية التاريخية (جازية بني هلال) وفي ذلك رفض للجازية المتهورة وبحث عن الجازية الحكيمة، انه رفض للقيم الحالية وعودة الى الأصالة والهوية ومعانقة التاريخ المجيد لأن جازية العصر لم تكن سوى لعنة.


جريدة الشروق التونسية يوم الخميس 25 جوان 2009