المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بنية القصيدة وظاهرة الغموض في شعر درويش



طارق شفيق حقي
18/01/2006, 12:31 AM
بنية القصيدة وظاهرة الغموض في شعر درويش

كتاب نقدي يتناول تطور التجربة الشعرية عند الشاعر قبل وبعد خروجه من فلسطين



يتناول د. ناصر علي في كتابه الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر مؤخراً موضوع بنية القصيدة في شعر محمود درويش في مدة تقارب الأربعة عقود، منذ ديوانه الأول «أوراق الزيتون» الذي صدر عام 1962، وحتى ديوانه الأخير «سرير الغريبة» الذي صدر عام 1999.
وهو يرى بداية أن الشاعر أخذ يطور بنية القصيدة وفق وتيرة متصاعدة تجدد أدواتها دائماً، فهو لا يستقر على حال، فالحداثة في شعره ليست ثابتة وانما لكل مرحلة حداثتها النوعية، وهو استطاع أن يحقق التوازن الصعب بين جماليات الفن والواقع الذي يكابده.
تستوقف الكاتب في البداية ظاهرة الغموض في تركيبة درويش الشعرية، وخصوصاً في ديوانه الأخير «سرير الغريبة»، فهو ومنذ ديوانه (محاولة رقم 7) أخذ ينحت لنفسه لغة خاصة من حيث التراكيب، لغة مكثفة محملة بالرموز والاساطير، كما في قصيدته «حجر كنعاني في البحر الميت»، لكن لغته تتحول الى مجموعة من التعابير والصور غير المفهومة.
ويخلص الباحث الى أن لغة درويش بعد خروجه من فلسطين تحولت من لغة الانفعال والعاطفة التي اتسمت بالبساطة والوضوح الى لغة الحلم والتعقيد ذات الطبيعة الجدلية والتحليلية، فقد اصيب طموحه بصدمة شديدة بعد أن تعرف على حقيقة الأوضاع في الوطن العربي، فتحول الى الحلم عله يعينه على الصمود، وقد عبر عن ذلك بقوله: «يا أيها الوطن المكرر في الأغاني والمذابح.. كيف تتحول الى حلم وتسرق الدهشة وتتركني حجراً.. لعلك أجمل في صيرورتك حلماً.. لعلك أجمل». ومع اقترابه من الواقع وانتمائه الى الحلم أخذ معجمه اللغوي يختار لغة جديدة، تناسب الحلم وتعبر عن الاغتراب، وبرزت تحت تأثير هذا الصراع بين الحقيقة والواقع لغة جديدة هي لغة التضاد والمتناقضات التي تمثل هذا الصراع.
ويشير الباحث الى أن لغة الحلم تفضي الى الترميز، وقد بالغ درويش أحياناً في هذا الترميز، مما زاد درجة الغموض في بعض قصائده، كما في قصيدته «الخروج من ساحل المتوسط»: هنا الخروج هنا الدخول هنا الذهاب هنا الاياب ولا مكان هنا أنا الزمن الذي لن تفهموني خارج الزمن الذي القى بكم في الكهف وهنا يلاحظ الكاتب انتقال درويش من التقنية البسيطة الى التقنية المركبة، مما أدى الى تعقيد المعاني التي تحملها المفردات، فمعجمه الذي اعتاده في الستينات تغير جذرياً، وبعد أن كانت الكلمات شفافة قريبة المعنى أصبحت مكثفة ومحملة بدلالات تاريخية اسطورية.
وقد أخذ الشاعر، كما يقول المؤلف، يندفع أحياناً للعب بألفاظ اللغة، بحيث يصل الى حد التصرف بالشعر القديم حين يتمثله في النص: «لها ابطا ظبي وساق نعامة وجناح شحرور وومضة شمعدان». وقد يحرف الكلمات عن مواضعها ويتلاعب بالاستعارات المعروفة: «فتنة أو محنة». كما يتلاعب بالكلمات والضمائر: «تاريخنا تاريخهم، نهاياتهم بدايتنا»، أو «بلادنا هي ان تكون بلادنا، وبلادنا هي أن تكون بلادها»، أو «احتاج ما يجب.. يجب الذي يجب».. وهكذا يتحول اللعب بالألفاظ الى نوع من اللامبالاة والعبث، فيوصف الشيء بضده (السؤال جواب)، ويوصف الشيء بذاته (الرمل رمل) أو (الليالي كلها ليل) أو (الجحيم هو الجحيم)، أو يكون على شكل تشظية للكلام وبعثرة للجمل مثل: بيروت فراشة بحرية، نرجسية الرخام، بيروت من تعب ومن ذهب.. من فضة».
وحسب الدراسة تكثر في جملة درويش ظاهرة الحذف، فيقول: نعرف الأن جميع الأمكنة نقتفي آثار موتانا ولا نسمعهم ونزيح الأزمنة عن سرير الليلة الأولى وآه وكذلك ظاهرة الاختزال كما في قوله: نيرون ماتَ..
ولم تمت روما بعينيها تقاتل ويحفل شعر دوريش بالأشياء المتنافرة وغير المتجانسة بعضها الى بعض. يقول في قصيدة احمد الزعتر: كم أمشي الى لغتي فتسبقني الخناجر آه من حلمي ومن روما فقد جمع بين الحلم وبين روما رغم ما بينهما من عدم تجانس: الحلم ذهني وروما مدينة تاريخية.
ويقول في قصيدة الرمل: انه الرمل مساحات من الأفكار والمرأة فما الذي يجمع بين الأفكار والمرأة هنا وينتقل المؤلف الى ناحية أخرى، فيلاحظ أن التدوير في شعر درويش لم يعد ظاهرة جزئية في بعض جوانب القصيدة، وانما نراه يمتد ليشمل جميع القصيدة لتصبح كل أطرافها دائرية، تندمج الأسطر فتصبح القصيدة وحدة موسيقية متكاملة، وتعتبر قصيدة «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق» أفضل مثلا على هذه الدائرية المتكاملة، فهي قصيدة طويلة تتألف من 482 سطراً بين طويل وقصير، هذا ان جاز اعتبارها سطوراً، لأنها في حركتها الخارجية تندغم ببعضها في أغلب المواضع، بسبب تحريك القوافي المستمر.
وقد ظهرت القصيدة المدورة أيضاً في ديواني درويش الأخيرين: «لماذا تركت الحصان وحيداً» و«سرير الغريبة». فمعظم قصائد الديوانين تتألف من مقاطع، كل مقطع عبارة عن جملة شعرية، تتعانق فيها الأسطر وينهيها بنقطة.
وتتكامل هذه الجمل الشعرية وتترابط بالتكرار حيناً، وبالفراغات البيضاء حيناً آخر لتعبر عن الفكرة التي يريدها. وقد أفاده هذا الاسلوب في ديوانه «لماذا تركت الحصان وحيداً»، فالقصائد تبدو وكأنها قصيدة واحدة وان اختلفت العناوين.
وهكذا يمكن تلخيص مراحل بنية القصيدة لدى درويش كما يلي: مرحلة ما قبل الخروج من الوطن. وهي بداية مشروعه الشعري، حين كانت قصيدته غنائية أحادية الصوت، قلد فيها من سبقه من الشعراء مثل عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) ونزار قباني. وكانت قصيدة ملتزمة بالقضية الوطنية، همها ان تصل الناس، وتنمي لديهم الوعي بالواقع الذي يعيشونه.
ثم كانت مرحلة ما بعد الخروج من الوطن والاقامة في المنفى، حين عاش الشاعر تناقضات الواقع العربي، واستطاع بمهارته الفنية ان يعبر عن هذا الواقع بجماليات فنية، وظّف فيها عناصر أدبية جديدة مثل السرد والحوار والسؤال المستمر. وتعددت الموضوعات في القصيدة الواحدة المتكاملة. وازداد عمق الوعي عند درويش فأخذ يقدم التجربة الفلسطينية ضمن معان انسانية، استمدها من تاريخ الانسان في صراعه المستمر مع الحياة، كما ظهر ذلك في قصائد عديدة له، أهمها «مديح الظل العالي»، و«حجر كنعاني في البحر الميت» و«مأساة النرجس.. ملهاة الفضة».
ثم تحولت قصيدته الى تأملات فردية وانسانية في مرحلة لاحقه، وبدأت هذه المرحلة بقصيدته «لماذا تركت الحصان وحيدا»، فهو يعبر فيها عن الذات الفردية والجمعية من خلال الظروف التي تعيشها الذات بعد هزيمتها في بيروت، وخروجها الى المنافي، والمخاوف التي تنتاب الجماعة على مستقبلها.
أما ديوانه «سرير الغريبة» فهو تأمل في الذات الفردية من الطفولة حتى الكهولة، واستمر هذا النهج في قصيدته «جدارية محمود درويش»، فهي عبارة عن تأملات تراءت له في الحلم أثناء ذهابه في غيبوبة بعد عملية القلب المفتوح التي أجريت له.
وقد خلص البحث الى أن لدى درويش قدرة هائلة على ابداع أنماط متطورة من دلالات الألفاظ عن طريق الانحراف بها عن معانيها المباشرة، اذ يصعب التعرف على معاني الألفاظ عنده من خلال معرفة معجمية بدون الاعتماد على السياق الذي تجيء فيه اللفظة وضمن البناء الكلي للقصيدة.
أما من حيث الصور، فاذا كانت الصورة بسيطة في بداية مشروعه الشعري، فان تشكيل الصورة في المراحل اللاحقة أخذ يبتعد عن المباشرة، وأخذت الصورة تشمل رموزاً وعلاقات جديدة ضمن الاطار الكلي للنص.
ومن حيث الايقاع فقد التزمت قصائد درويش الأولى البحر الشعري، لكنه أخذ يبحث عن أشكال جديدة، فاختفى البحر الشعري لتحلّ محله التفعيلة العروضية. ثم تنوعت موضوعاته في القصيدة الواحدة وظهر عنده السطر الشعري، ثم البيت الشعري الذي يحوي عدداً غير محدود من التفعيلات، لا تنتهي الا بانتهاء المعنى