المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القفص



أحمد غانم عبد الجليل
19/06/2009, 09:35 PM
الـقَـفَـص
ـ قصة قصيرة ـ

(كان يجب أن تصاحب عاهرة تشبع أهواءك الغريبة لا أن تتزوجني و تزيدني تعاسة) ...
كانت تقولها والدته في تذمر عصبي, فتجبره على المكوث خلف باب غرفة نومهما, يظن أول الأمر أنهما يتشاجران بعيدا عنه, و لكنه بعد حين لا يستطيع سماع شيء سوى بعض النهنهات المتفرقة و ربما ضحكة غنج عالية تثير عجبه, يركض نحو غرفة نومه قبل أن يفتح الباب الموصد و يهرع عمه عارف بطوله الفارع نحو الحمام, يستحم ثم يتوضأ سريعا قبل أن يضيع عليه موعد الصلاة التي تعَلم الصبي الحفاظ على مواقيتها منه, دون أن يمارس أي ضغط عليه, شأنه في كثير من الأمور, مما جعله شديد التعلق به, و ربما في بعض الأحيان أكثر من أمه التي تحمله دوما مغبة تدليله و الوقوف في وجهها عندما تحاول تأنيبه أو ضربه لدى فعله ما يغضبها منه, و كأنه يريد تصويرها زوجة أب متحكمة أمامه, يصرخ بوجهها في عصبيةٍ حادة تفزع الصبي : لا أنتِ زوجة أب و لا أنا زوج أم, أفهمتِ ...
تخفض رأسها, صمتٌ عميق يلجها, فتعمل على تهدئته, أمام الصغير على الأقل, تخوف منه, بل لربما أرعبه في الفترة الأولى, حين وجد نفسه وأمه يشاركان ذلك الرجل, غريب الأطوار و الملامح, العيش في بيت أهله الذي خلا من الحياة أثناء غيابه الطويل في الأسر ...
وجمت لبرهة, ضحكت طويلا حد القهقهة, ثم باغتها عويل نكبة استشهاد زوجها في الحرب الثانية, قبل أن يتم ابنهما سنته الثالثة, ما كانت تتصور يوما أنها يمكن أن تقترن به, هو بالذات, في يومٍ من الأيام, رجع صوته الحاد عاود التردد في أذنيها, كانت تكره زجره أولاد الجيران عن اللعب قرب باب الدار, هيئته بجلبابه الأبيض و لحيته الطويلة و نظرات عينيه المخيفة تصر على مواجهتها , صب جام غضبه عليها ذات مرة لما حاولت منعه من ضرب أحدهم لم يرضَ الامتثال لأوامره, هرولت إلى دارهم, على مبعدة عدة شوارع, يتناوشها ذهول العيون من قمة رأسها حتى أظافر القدمين, الدموع تتناثر من عينيها, قسوة كلماته تكيل الصفعات لخديها دون هوادة ...
(عيب عليك و حرام أن تتشبهي بالأولاد, ألم تري إنك كبيرة كفاية على مثل هذه التصرفات الحمقاء, و أنت بهذا الثوب القصير) ...
وقفت أمام المرآة طويلا, تنظر إلى جسدهاالبض, كما لو كانت تتعرف إليه لتوها, تلمست طراوته ببطء, تمايل خصرها الآخذ بالالتفاف, يكاد يشبه في انحناءاته جسد أختها الكبرى, تركزت نظراتها على نهديها الصغيرين, كانت أمها قد نبهتها بحنو ايتسامةٍ أذابتها خجلا إلى بدء نموهما ... استغربت, لمَ تترك للآخرين دوما مبادرة تنبيهها إلى أمور تخصها وحدها ...
كادت تنقطع عن مرافقة والدتها لدى زياراتها المتكررة لبيت خالتها, فرؤيتها له صارت تبعث فيها التوتر و شيء من الخوف, و إن أرادت مغالبتهما, أمام جدران غرفتها بتضخيم صوتها الناعم حتى يبدو أقرب إلى نبرات صوته الجهوري الزاعقة بأولاد الجيران, ينهرهم عن اللعب خاصةً عند سماع الأذان, تمط شفتيها و تقطب حاجبيها كما يفعل, من غير أن يفوتها إخراج لسانها و مط شفتيها, فيما ظلت عيناه تجدحان شررا غريبا كلما وقفت أمام المرآة, تخبرها ما يشهدها جسدها من تغيرات سريعة و مبهرة ...
لم ينفك عنها شدوهها سوى بدموعٍ غزيرة, خجلت أن تبينها لأحد, ذنبٌ غريب أثقل كاهلها نحوه, كما لو كانت قد ساهمت في إلقاء القبض عليه و رفاقه المتطرفين, كما سمعت والدها يصفهم في تأسف مرير ... لم يكن قد بلغ التاسعة عشرة من عمره, أمسى الجميع يتحسرون على مستقبله دون أن يجدوا وسيلة لإنقاذه, أو يظفروا بأي خبر عنه إلا بعد عامين من الفزع, لما رآه أحد المعارف في معسكر من معسكرات التدريب, قبل سوقهم إلى جبهات القتال, وجد نفسه في المواقع الأمامية, يعكف على رشاشة لم يتقن استعمالها أبدا, بدلا عن المصحف و الكتيبات الدينية التي عثروا عليها لدى تفتيشهم غرفته ...
جفلت لدى رؤيته عند أول إجازة قصيرة سمحوا له بها, كاد بيصر مراقبيه لدى كل خطوة خطاها من محطة القطار حتى بيته حيث اعتكف, ألقى عليهم سلاما باردا, بنظرات باهتة تستفسر عن ملامح الوجوه و خاصةً وجهها المبتسم رغما عنه, لم تتعود رؤيته حليق اللحية, يحمل رغم الأسى المرتسم على محياه, كنقشٍ من التشوهات, بعض السمات الطفولية, تحملها حنوا غريبا نحوه, فر من مصيدة النظرات تلك نحو غرفته سريعا وصفق الباب خلفه, أرادت الذهاب وراءه, إلقاء نظرة عن كثب إلى عينيه المجذوبتين, علَ جمالها الذي تشهده لها كل العيون يفيقه من غيبوبته الطويلة, سوى أن كل شيء سمرَها في مكانها, باغتها الشوق إلى المغادرة و الاعتكاف هي الأخرى في غرفتها, ليعاود ذبول وجهه التحديق بها من خلال المرآة ...
عوَدها أن يعود في بعض الليالي مترنحا, بالكاد يقوى على السير, تستقبله من باب الدار, لدى سماعها ضجيجه الهاذي الواصل إلى مسامع جيرانه اللذين يتذكرون بعض تزمت مواعظه لحد الآن, مشمئزة من رائحة الخمر التي تفوح منه, ترجو من الله إلا يوقظ هذره الصبي هلعا, لا يكادا يقتربان من غرفة النوم حتى ينفلت من بين ذراعيها مثل سمكة تتخبط في الشباك, ترتمي إلى الجدار في حسرة, ترقب ركضه المتعثر نحو غرفته الخاصة, صومعته التي تحتويه في أكثر أوقاته اغترابا, حتى عن ذاته, لا يسمح لأي منهما الاقتراب منها, تتعاضد يداه في إلتحكم باهتزاز المفتاح بين اصبعيه حتى يستطيع إيلاجه ثقب الباب, الغرفة بلا ضوء, ستائرها السميكة مسدلة دوما, تنخفض حدة سعاله بعد دقائق من تآلفه مع رائحة العطن و الأتربة, يدٌ غليظة تدفعه بقوة نحو قفصه الحديدي الصغير الذي أوصى بصنعه دون علم أحد, يجلس القرفصاء, يغلق بابه عليه, ينوش بنطاله بلل دافئ, لا يعتري خلجاته ارتعاش برد الشتاء القارس, و لا يشعر بغزارة عرق تموز المتصببة فوق جسده, ذراعاه تحتويان ركبتيه حتى يستغرق في النوم بعينين مغرورقتين بالدموع ... لا يخرج بعدها لأيامٍ من الدار, يطبق عليه صمت الأموات, حتى يسألها فجأة بشوق من استرد وعيه فجأة, كما فقده فجأة, عن الصبي, تخبره أنها أرسلته إلى بيت أهلها, و من دون سؤالٍ يجيبه غضب عينيها عن السبب ...
يفاجأ الولد حين عودته بلعبٍ كثيرة موزعة في أنحاء غرفته الواسعة الأنيقة, يتشاركان اللعب بها طويلا, يشتريها له بعد تعريجه على شقيقه, ثري الحروب كما يسميه, المسؤول عن المحال التجارية التي ورثاها عن والدهما, يعطيه ما يشاء بسرعة و بأقل قدر من المجادلة حتى لا يسمع صوته العالي كل السوق و يلم الناس حولهما, كان يفعل ذلك حينما عمل معه لفترة ثم يحتجب عن كل الهرج الدائر حوله داخل شرنقة من الشرود و الهذيان, يقهقه عاليا لما يخبره أخوه, بوجهٍ يرتوي من الغضب دماءه المحتقنة ما كاد يسببه لهما من خسائر فادحة حتى صار محط سخرية لتجار السوق و ربما أيضا العمال اللذين لا يكادون يألفوا سخاءه المفرط عليهم حتى يفاجؤون بحدة طبعه و قبح شتائمه, لا يوقفها علو صوت الأذان الذي قد يغيبه في الجامع القريب ساعةً أو أكثر ... و مع كل ذالك قد يواجه أخاه الصغير بسخرية الزاهد في كل شيء بما يستلبه من حقه في الأرباح, مستمتعا برؤية امتقاع وجه صاحب فكرة زواجه منها, متخذا دور الوصي عليه و المشفق عليها من تحمل أعباء مسؤولية طفل لم يتعرف إلى أبيه ...
لم تلج أذنيه أيٌ من ضجة العويل و زعيق النسوة المتراميين في أرجاء الدار, يجلس القرفصاء داخل القفص, يحني رأسه إلى ساعدين يضمان ركبتيه المرتجفتين, تنضح عيناه دموعا حارة, و ينضح جلبابه بللاٍ دافق, تعثر عليه بعد بحث طويل, تفتح باب الغرفة الصغيرة, فيلجها بعض الضوء, تتجمد وقفتها و دموعها و لسانها أمام صغيرها, لا تدري كيف وصل المفتاح إلى يده, و لا كيف اخترقت خطاه ركام الظلام إلى ذلك القفص الرهيب ...
لم يقوَ معصمها على الافلات من قبضة يده, تعثرت أكثر من مرة, ارتطمت جبهتها بأحد قضبان القفص ... و كأن ألف يد مخلبية أحاطتها, مددتها على الأرض المتربة, احتك رأسها مرارا بالجدار الواقع خلفها, و أمتدت ساقيها منفرجتين نحو الخارج, أدركتها روائح شتى كادت تغيبها عن الوعي, استعصت كلماتها المتوسلة المرتعبة عن النطق, غصت صرخات الجنون في حلقها, و الصبي ينام هانئا في غرفته بذات الطابق, اختلطت لزوجة عرقهما مع دموعهما, النازف منها و الدفين, همهماته لم تصُغ سوى أشباه حروف, و الزفرات تتأوه صدى النحيب ...
حضر في ذلك اليوم جنازة أعز رفاقه المنسيين, لم يعد يتذكر إن كان لاقاه في غياهب المعتقل أو غربة الأسر, وقف طويلا كالمجذوب بين شواهد القبور بعد انصراف الجميع, يصرخ, يلعن, يشتم ... ثم يستغيث و يستغفر مصوبا أنظاره إلى السماء, أجبره أخيرا حفارو القبور على الرحيل, تهديدا, دفعا, كما فعل أخوه لدى زيارته الأخيرة له, و من ثم ركلا بالأقدام, خشونتها المؤلمة ظلت تنخر أضلعهما المتهالكة طويلا ...
تركها هامدة في مكانها, مغمضة العينين, كجثة متقطعة الأنفاس أمام جدار معلقة عليه سلاسل حديدية و سياط مختلفة الأحجام و أدوات تعذيب لم تستطع تبين شيئا منها, لا تدرك ما خلفه لفظ زفيره للحياة داخل رحمها وسط حلكة الظلمة الشاسعة, يزعق في أذنيها صوت ارتطام جسده المتطوح فوق أرض الرواق ...

..........................................