المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ارخميدس



بسام الطعان
12/06/2009, 09:42 AM
قصة قصيرة


ارخميدس


يا لها من ظهيرة حارقة، تذيب القار, تجف الحلوق , وتجبر كل كائن على أن يبحث عن جدارات فيء وحسوة ماء، في هـذه الظهيرة التموزية، انطلق موكبنا السعيد ، المزين بالورود والشـــرائط الملونة ونحن نرتدي كامل أناقتنا، نلوح بأيد مرحة , نصفق ونغني بأصـوات منتشية وحين عدنا في المساء إلى بلدتنا , كانت ثيابنا ممزقة, شعورنا منتوفة, وأجسادنا ملوثة بالـعرق والدماء .
قبل أن يفوته قطار الـزواج، جاء إليّ والفرح يتأبط زند مسـاماته، ودعانا زوجتي وأنا لمشاركته عرسه الذي انتظره طويلا ، وقبل أن أسأله متى وكيف تعرّف إلى صاحبة الحظ السعيد ، حدد لي الموعد وودعني دون أن يرد على أسئلتي
في أصيل جاف وصلنا إلى المدينة الكبيرة ، لكنـنا بتنا مثل من يدخل متاهة مظلمة . كان الموكب السعيد يدور في الشوارع خلف سيارة الـعريس وكأن لا وجهة له ، قطعنا شوارع كثيرة ونحن لا نعرف السـبب ، بينما وجوهنا وأعناقنا تحولت إلى مزاريب يسيل منها العرق أما النساء والفتيات، فقد تغيرت وجوههن بسبب المكياج الزائد والعرق الغزير، لدرجة أنهن بدون وكأنهن مطليات بالطحينة أو زيت الديزل.
ما إن توقفت سـيارة العريس ومن خلفها سياراتنا في أحد الشوارع حتى تنفسنا الصعداء ، وقبل أن نترجل أشار لنا العريس بيد تكتظ بالألم الدفين أن نبقى في أماكننا، ثم دخل أحد المحلات , سأل أسـئلة لم نعرف ما هي ، وما لبث أن عاد برفقة خيبة ترف على رموش عينيه، لينطلق الموكب من جـديد في رحلة جديدة محيرة.
قطعنا ثلاثة أرباع الشـوارع تقريباً، وكانت نظرات العريس اليائسة، الراقصة، تتجه حيناً إلى اليسار ، وحيناً إلى اليمين في حالة قلق ، وبينما كنا نتأفف ونمسح عرقنا أشار لنا بالوقوف وصاح كمن اكتشف معجزة:
ـ وجدته.
اصطفت السـيارات الكثيرة أمام أحد البيوت في شارع طويل ، نزلنا بسرعة وشـوق ونحن نرتب أناقتنا التي تبعثرت، ولجنا خلف العريس تسبقنا أهازيجنا وضحكاتنا التي ســرعان ما ارتطمت بجدران الدهـــشة والغـرابة ، شاهدنا عشرات الرجال وهم جالسون وصـامتون كتماثيل من عجين، ولولا بعض الحركات التي بدرت منهم لقلنا أنهم في متحف ، وكان النواح ينـبعث من الغرف المجاورة لأرض الدار ، غير أنـنا لم نسمعه في البداية لأن أهازيجنا وصيحاتنا كانت تغطي سماء الحي كله.
اتجهت الأنظار نحونا موزعة بين الدهـشـة والاسـتنكار ، الحيرة والاستغراب ، العتب والتقريع وفجأة ارتفعت الأصـوات بين حانق ومحتج وساخر وشاتم. الحق معهم كان للمنـظر وقع الصاعقة عليهم. ولما استمر غناء النساء والفتيات اللواتي لم ينتبهن لما يجري بدأ الحفل بسـرعة ودون آلات موسيقية، صفعة قوية لرجل منا من رجل له وجه تتصدره عينان كعيني البومة. أقسم أنه كان مسلحا بكراهـية الفرح.
ارتفعت الصيحات عالياً ، وساد المكان هرج ,وخرجت النسوة المتشحات بالأسود من الغرف الكثيرة باتجاه نساءنا في خطوات عسكرية سريعة ، نثرت الهذيان ، وما لبثن أن صلبن الفرح على الجدران ، ولم تمــض دقائق حتى بدأ عرض تمزيق الثياب ونتف الشعور .
من تحت أقدام رجل بدين لم أر مثله في حياتي كلها، رأيت امـرأة ترتدي الأسود , ثخينة ، مربعة، نصفها الأول لا ينتمي إلى البشر، رأيتها تجلس بعذوبة فوق ظهر زوجتي النحيفة وتقول لها بحقد:" والله وبالله وتالله سـوف أجعلك (مامونية بلا سكر) يا خنفسـة يا أم أربعة وأربعين". بينما حبيبـتي المسكينة التي كنت انظر إليها بحسرة وغيظ , فكانت تصيح:" آخ يابو..". ورأيت امرأة أخرى, تشبه قنينة بيرة، تنتف شـعر فتاة نتفاً عنيفاً ، تغرقها فـي يم من البصاق وتقول لها باحتقار عميق:" يا جيفة متحركة يا سليلة إبليس". أما المسكينة فكانت تصيح بصوت أقرب إلى الحشـرجة:" الحقوني..." وفي زاوية شبه مهملة ، رأيت رجلاً وجهه وجه خـنزير ، وجسده جسد فيل ، يرتدي سروالا أزرق وبلوزة صوفية حمراء، ويعتمر
كوفية من الجهل الخالص ، رأيته بأم عينيّ ينفجر كالبركان ويوزع شتائمه بكل الاتجاهات ولم يستثن أحدا.
لأكثر من نصف ساعة, كانت العورات تظهر بشكل مقـرف، وكان الدم يسيل مع العرق في جداول غير منتظمة، وبعد أن نلنا نصيبنا من الضرب والشتائم والتوبيخ وشربنا ملوحة عرقنا، استطعنا أن نخرج من بيت الطغاة.
أما العريس ، ارخميدس زمانه الذي كان نصيبه لكمات وبصـقات كثيرة من رجل قزم على شكل اسـطوانة غاز الذي كان يمسك بربطة عنقه الزاهية الألوان ويقول بغضب مع كل لكمة وبصقة:" لماذا تضع في رقبتك رسـن الحمار يا ابن الـ؟". هذا العريس ظل يؤكد طوال الطريق أن البيت هو بيت العروس فعلاً.



بسام الطعان
bassamtaan@yahoo.com