المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لقطتان من ثلاث وثلاثين لحظة من السعادة



طارق شفيق حقي
17/01/2006, 12:17 AM
قصة: إنجو شولتسه
ترجمة : خالد عباس
أود أن أوضح لك الأمر: منذ عام تحققت رغبة قديمة جامحة بسفري بالقطار إلي مدينة 'بطرسبورج'. كنت قد اقتسمت العربة مع امرأة روسية وزوجها ورجل ألماني اسمه هوفمان ورأي الروسيان فينا زوجين، أما هوفمان الذي قام بدور مترجم أسئلتهم وإجاباتي طوال الوقت فقدش تركهم برغبة منه يصدقون ذلك الأمر، لم أستطع تخيل كل مايمكنه أن يحكيه لهما، لكنهما كانا يضحكان باستمرار وأخذت المرأة الروسية تمسج بيدها فوق خدي.
في الليل بقي الجو شديد الرطوبة، قمصان المحصلين كانت مبقعة من العرق وكست أبخرة الماء النوافذ المتسخة التي لم يستطع أحد أن يفتحها من داخل عربات القطار، وعلي مايبدو كان نوع ما من أجهزة التكييف، وحينما اختفت رائحة مواد التعقيم من آن إلي آخر فإن رائحة السجائر والحمام كانت تظهر، أجزاء من القطار مثل الرقائق المعدنية أحدثت صوتا عند اصطدمها ببعضها البعض 'ترارا ترارا بشينج'، وحينما اصطدمت مصدات الفرامل ببعضها تبدل الصوت إلي 'ترارا بشينج بشونج'، كانت هناك صدمات مستمرة وغير متوقعة جعلتني لا أستطيع أن أنام وحتي في اليوم التالي بعد أن هدأت حرارة الجو بقيت مستيقظة، حينما لايتحدث هوفمان مع الروس فإنه كان يضغط رأسه علي الوسادة وينظر إلي الخارج عبر النافذة نحو البيوت الصغيرة التي أخذت تظهر من وقت إلي آخر بين الأرض الفارغة ذات المستنقعات والغابات القاحلة، كانت زرقاء وخضراء ومغروسة بميل في الأرض وأضاءت بوضوح قطع من الاخشاب المتراصة فوق بعضها البعض خلف أرض حشائشية محترقة وأسوار مطلية، ولم يتبق من الرايات الصفراء الخاصة بحراس المزلقان غير الرايات الصفراء لتأدية التحية.
وفي الليلة الثانية وبالتحديد في 'لتوانيا' دعاني هوفمان بشكل غير متوقع في مطعم القطار، كان يبدو بطريقته التي جلس بها أمامي شديد الثقة بالنفس بشعره الأشقر الداكن وعينيه الرماديتين، تحت ذقنه كان هناك أثر لجرح قديم، طلب دون أن ينظر في قائمة الطعام ومسح أدوات المائدة في الستائر الحمراء ورغم ذلك ضاعت منه تلك الخفة للحظات عندما سألته عن السبب الذي يجعل رجل أعمال ألماني كما كان يعد نفسه يسافر بالقطار في رحلة كهذه، ابتسم بشكل مشدود ونظر نحوي مدققا وبدلا من إجابة السؤال بدأ يتحدث بشكل مراوغ عن عمله في الجريدة وأنه بجانب شغفه بلعبة الغناء 'الكراوكا' يعد نفسه من الدرجة الأولي من محبي الأدب لاحظت أنه كلما ابتعدنا عن سؤالي كلما أصبح هو أكثر انسيابية وبدت لي قصصه أكثر حيالية وغير جديرة بالتصديق وغمرني بنصائح توضيحية وموسعة عما يجب أن أقرأه وهنأني علي عدم معرفتي مخرجا زفيره ومكررا القول:
'كم من الاشياء مازالت أمامك'
أكلنا وشربنا كثيرا، كان المكان رخيصا جدا وحدث كل شيء تماما كما ينبغي أن يحدث، ترارا ترارا بشينج.
استيقظت في الصباح بصداع رهيب، الشمس كانت ساطعة بشدة وتوقف القطار في محطة إسمها 'بسكوف' سرير هوفمان كان مطبقا والمرتبة كانت ملفوفة، لم يستطع أو لم يود أحد أن يقول لي أين ذهب أن ما يأتي سريعا يذهب سريعا، شعرت بإعياء شديد وبقي الأمر علي هذا الحال حتي بعد أن اكتشفت الملف الموضوع أمامهم خلف حقيبة يدي، لم أدر كيف وصل الملف إلي هنا وماذا يمكنني أن أفعل به. وبدلا من أن أعطيه إلي المحصل حيث لا يدري المرء منا ماذا يمكن أن يحدثله في عدم معرفته بملكية الأشياء، أخذت أقرأ فيه. أثناء حديثنا سويا عن تفاصيل كثيرة تكلم هوفمان عن تقارير يومية كان يرسلها من 'بطرسبورج' إلي ألمانيا، ولكنه لم يقل لمن كان يرسلها، وقال أيضا إنه كان يجنح أثناء الكتابة إلي الانشغال بالابتكار أكثر من البحث، ففي رأيه أن الشيء المبتكر لا يقل في وقعه أبدا عن أي حادث عارض يحدث في الشارع، وبالتأكيد إنه متع الكثير من اصدقاء عمله بتركهم يحكون له حكايات عارضة، الشيء الذي لم يشكل أي نوع من الصعوبة علي شخص غربي يعيش في روسيا.
ربما وقع هوفمان امامي ضحية ضعفه ففضل ان يطلق العنان لخياله بدلا من الاعتراف بالحقيقة، لا اعرف ماذا اقول لك اكثر من انني قد حاولت عبثا ان انساه منذ اكثر من عام وربما قد تسأل وماذا بعد ذلك؟ وفيما يعنيني هذا الامر؟ فعندما تحدثت عما تنويه اتتني تلك الفكرة بأن شخصا مثلك سيستطيع توالي امر كهذا وربما ينشر الملف، وبالتأكيد انه بعد التعديل سينتج عنه نوع من المحاكاة المسلية وان كان هومفان لايزال علي قيد الحياة فإنه بالتأكيد سيحاول الاتصال بي، واعتقد ان هذه هي الطريقة الوحيدة للوصول اليه مرة أخري.
أرجو منك أن تضيف اسمك علي هذه الكتابات الخيالية، لأنه ليس هناك دار نشر تقبل كتابا بدون مؤلف، فالناس تحتاج إلي صور وأحاديث شخصية وقصص حقيقية، فهم متعطشون إلي وجوه وقصص واقعية، وقد يكون لذلك تأثير مرغوب فيه عندك ولكنه بالتأكيد سيكون له ثقل علي، كما أنني أشعر بعدم قدرتي علي فعل أمر مثل هذا ومن ناحية أخري انعدمت رغبتي فيه أيضا فربما يهدد الأمر وضعي الوظيفي، وعلي العكس مني فإنك ذو طموح أدبي وقادر علي التعامل مع النصوص و لديك الكثير من الاصدقاء الذين سيقومون بجانبك للمساعدة وربما يمكنك أيضا أن تربح بعضا من المال عن طريق ذلك.
مدينة فرايبورج
يوم 25/6/1994
لقد قدمت هذا الخطاب ببعض الاختصارات الطفيفة، لأنه أعفاني من جميع الشروح ورغم ذلك فإنني أرغب في التعليق علي بعض الأشياء، فالحسابات المادية لم تكن هي أساس اختيار هذا النشر، حيث أنني وصلت إلي تلك القناعة بأن هذه الكتابات خرجت من مقاييس مجردة للمحاكاة المسلية وتحمل في طياتها إمكانية إحياء النقاش المطروح عن وضع وقيمة السعادة، وإن لم يكن ذلك موجودا لتراجعت عن هذه المهمة.

(2)
النساء التي تشبه ماريا يجدها المرء في المجلات المصورة وأضواء الاعلانات فقط تعرفت عليها أول مرة مساءا في لوبي الفندق الذي كنت أسكن فيه، وفي البداية أخذت هي تبدل مكان جلوسها بين مجموعة من الكراسي الوثيرة البيضاء إلي أخري وكأنها تجلس في محل لبيع الأثاث، كانت تختفي كل خمس دقائق لفترة قصيرة ثم تعود ثانية وفي كل مرة تأتي وحدها.
في الطريق إلي بار الفندق كلمتها وبهذا دخلنا إلي هناك وكأننا زوجان، ماريا كانت بشوشة وأكثر جمالا، نعم لقدكانت تنتظرني بالفعل وفضلني نادل البار عن بقية الزبائن، فعدت ممتلئا بالنجاح في عين ماريا، شبكت أصابعها بالسلسلة الفضية فوق الكوليه في تيه عن نفسها وسحبت بأظافرها الطويلة خطوطا فوق هذه البشرة الرائعة التي ظهرت صافية من فوق الركبة تحت الفستان الاحمر، أشعلت لها السيجارة بولاعتها حتي لا تتحول بحديثها عن 'مرجاريتا' و 'لوليتا' وعن فارق المقارنة بين لغة 'السوشتياشكوس' و'البلاتونوف'، بسطت يدي فوق المائدة، حينما أخذت تردد بعض أشعار 'بوشكين' و'بروديسكي'
وكأنها تنظم قائمة لأنواع من النبيذ حسب تتالي عمر تعتيقه، كان لديها وقت كاف، وكأنه ليس هناك من ينتظزها من نجوم كرة القدم أو المغنيين أو أنه ليس هناك سياسي أوقبطان، وعرفت أن عينيها هما العينان السوداوتان لمدينة بترسبورج، تعلقا من أجلي دائما مثل النجوم في سمائها مهما حدث.
'تكلم عن نفسك'
قالت لي ماريا وضغطت بيدها فوق ذراعي وقبلت أصابعي بخفه، بدوت وكأنني منقذها، فهي لم تعرف أباها 'ربما كان إيطاليا' قالت ذلك وأبعدت شعرها الأسود عن وجهها من أمامي.
ماريا ستبحث لنا عن شقة، سنعيش فيها سويا ونستيقظ كل صباح ملتحمين ببعضنا، سأحقق لها أمنيتها الكبيرة بشراء سيارة، سنسافر بها من المدينة إلي البحر، سنذهب للرقص وسنشتري أحذية جديدة، سنزور أمها ونسافر إلي 'أمستردام' مع صديقتها للاحتفال أولا بالزفاف ثم بعد ذلك إلي ايطاليا جلسنا معا لمدة ساعتين وأعطاني جرسون البار بركة الموافقة، كنت أود أن أطلب منه اثنين من خواتمه الذهبية 'لماذا اختارتني ماريا'، تركت يدها تسترخي فوق ركبتي وأمسكت إصبعي، إصبع السبابة الذي بدأ في التحرك فوق ركبتها إلي أعلي وإلي أسفل، وقبلت التجويف الصغير فوق رقبتها فرفعت كتفيها إلي أعلي وأغلقت عينيها.
كان من المحرج لي أن أقدم لها نقودا ولكنها هزت رأسها بالموافقة كمايفعل المرء عادة في مثل تلك المواقف.
بعد خمس دقائق تبعتني ماريا ثم قامت بعد عشرين دقيقة مرة أخري من السرير وقالت موضحة بشكل منكسر ومهزوم 'ميليشا' كانت جميلة حتي العرقوب، وأخذت تتحرك بحثا عن فستانها بتلقائية داخل الحجرة كما لو أن أشياءها معلقة في الدولاب، جلست علي مقعد الحمام أثناء فتحي للصنبور ووعدتني أن تطلب تاكسيا في الصباح المبكر، سنري بعضنا مرة أخري وسنسافر إلي 'بافلوفسكي'.
وما لبثت أن تركتني حتي دق شخص باب غرفتي، كانت عاملة النظافة، ووقفت ممسكة بماريا من معصمها، أوضحت لها أن كل شيء علي مايرام وأنه لم ينقص شيء هنا، وانغلق الباب مرة أخري بقوة.
أخذت أنتظر ماريا لمدة أسبوعين ليلا ونهارا فوق الكراسي البيضاء ولكنها لم تأت، سألت عنها عامل البار وعاملة النظافة في الطابق الذي أسكن فيه ربما خطفها أحد، ربما لم تعد علي قيد الحياة أو أن حبيبا قديما قد عاد من 'سيبيريا'، أخذت أسافر لمدة طويلة من شقتي إلي الفندق، ولم يكن هناك امرأة من الآخريات يمكن قياسهن بماريا، ولم يكن هناك من يعرف شيئا عنها.
بعد تسعة أشهر رأيتها في مدخل فندق ' أوروبا'، جلسنا في الفناء الداخلي وشربنا القهوة وأكلنا السجق، بعد ساعة امتلأ المكان، دفعنا مثلما يدفع الطلاب، كل لنفسه وقبلنا بعضنا البعض ثلاث قبلات مثل الروس وبدأت ماريا عملها كالتي وقعت في غرام شخص ما.


إنجو شولتسه كاتب ألماني معاصر
عرفه قراء 'أخبار الأدب' من أعماله التي نشرت من قبل، كما صدرت له ترجمة للعربية لعملين من أعماله

محمود الحسن
17/01/2006, 01:26 AM
شكرا لك أستاذنا العزيز طارق على هاتين اللقطتين الجميلتين و نرجو أن تستعرض لنا بعض اللقطات الأخرى
جعل الله أيامك كلها سعادة