المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جحشولوجيا



بسام الطعان
05/06/2009, 05:36 PM
قصة قصيرة

جحشولوجيا


الساعة تجاوزت العاشرة بقليل ، والشمس التموزية لا تتعب من إرسال أشعتها الحارقة ، والرجل الخمسيني ، يرتدي ثوباً رمادياً ممزقاً من أطرافه، وسترة عسكرية سميكة وعتيقة، تنقصها الأزرار الذهبية والأوسمة والنياشين، يعتمر كوفية بيضاء مزينة بخرائط من الوسـخ، وعقالاً مائلاً إلى اليمين، ينتعل حذاءً بلاستيكياً بلا جوارب، يمتطي حماراً أبيض مجهول النسب، يسير في شوارع البلدة، وفي حضنه جهاز تلفاز عتيق ، يمسك به بيد، وبالأخرى رسن الحمار الذي يسير ببطء ويحن إلى قشر البطيخ.
مع هذا الديكور الذي تلبسته الشوارع ، اتسـعت العيون ، انفتحت الأفواه، تعالى الضحك, وكثرت التعليقات.
الرجل لم يبال بشيء، وإنما راح يوعز إلى رفيقه أن يسـرع وذلك بوكزات متلاحقة من كعبيه على جانبي بطنه المنتفخة.
"هش..هش"
وقف أمام ورشة لإصلاح الأجهزة الكهربائية في ســـوق البلدة، مسح نافورة عرقه بطرف كوفيته, أرسل نظراته إلى داخل الورشة، وحين شاهد شخصا جالسا خلف طاولته ويعبث بجـهاز راديو، ناداه بصوت آمر:
ـ تعال يا معلم.. تعال ساعدني.
ترك" الخبير الاستراتيجي" ما بيده , نظر بدهشـة إلى المنظر، ابتسم, هز رأسه, ثم تقدم باتجاهه:
ـ ماذا تريد؟
ـ هذا التلفاز معطل.. أصلحه بسـرعة فأنا قادم من قرية بعيدة.
اقترب منه محاولاً حمل الجهاز إلى الداخل ، لكن الحمار أفرغ فجأة ما بداخل بطنه، فكاد يتقيأ وهو يتراجع مذعـوراً إلى الوراء، لم يجرؤ على الاقتراب مرة أخرى ، فاكتفى بالصياح والاحتجاج ، الحمار لم يكترث وظل يفرغ ما بجوفه أمام الرصيف اللامع ، أما صاحبه فضحك بعذوبة وقال:
ـ إنه حمار.. هل تساوي عقلك مع عقله؟!
ثم أضاف بشيء من السخرية:
ـ يبدو أن الحمار أذكى منك.
ما إن سمع هذه الجملة حتى احمّر وجهه، انتفخت أوداجه، وقال كلاماً ما كان يجب أن يقوله، أما الرجل فتغيرت كل ملامحه، بدا مثل من يتسلح بكراهية الطيبة، وفجأة رشه بسـيل من التوبيخات مع بعض الشتائم الرنانة.
ولما بلغ الحنق مرحلة متفجرة، والروث يخرج منه البخار ويلطخ رؤيته، قال بعصبية وغضب:
ـ اذهب من هنا.. لن أصلح جهازك.
فجأة نهق الحمار وكأنه يحتج مثل صاحبه ، فهو عكس كثير من البشر يفهم معنى الوفاء ، ولا يعرف السرقة ، ولا الرشوة ، ولا النميمة، ولا الحقد ، ولا الرياء، ولا النفاق، ولا الخوف ، ثم راح يهز ذيله, يحرك أذنيه كرادارين، ويقول في نفسه:" سأرفسه.. سأحطم أسنانه وحنكه إذا اقترب مني".
شعر الرجل بالإهانة ، فنزل عن ظهر الحمار ، وراح يسدد إلى صاحب الورشة نظرات صاروخية ، ثم بصق عليه وهو لا يزال يمسك بجهازه"الانتيكا".
حين تعالت صيحات الاثنين ، تجمع أمام الورشـــة كل أصحاب الدكاكين والعربات والمتسوقين، فبدت وكأنها الفرن المناوب في ليلة العيد.
جحافل الغضب سيطرت على صاحب الورشة ، فحمل سـلاح اللسان البذيء ودخل بشجاعة أرض المعركة، فما كان من الآخر إلا أن خطف عقاله النائم فوق رأسه وحاول الهجوم، لكن التلفاز ســـقط على الأرض وتحطمت شاشته، نظر إلى الحطام المتناثر، أحس بأن قلبه قد انشـطر إلى فلقتين ، بدا مثل حـوت غاضب في موج صاخب، وبسرعة غير متوقعة, هجم على الخبير الذي لم يستطع أن يخلص نفسه إلا بعد أن انتشرت أياد كثيرة من حوله وسحبته بقوة إلى الوراء , غير أن الرجل لم يشـف غليله ، ظل يهدد ويتوعد ويطالب بجهاز جديد بدلاً عن جهازه الـ"سيرونيكس" القديم.
حاول الهجوم مرة أخرى ، لكنه كان محاصرا بين الأجساد والأيدي، فرفع سبابته وقال موجها كلامه للخبير الذي كان جالسا على الرصيف ومشغولا مع أنينه:
ـ "وينك يا ... أنا رايح بس راجعلك".
نهض دفعة واحدة وقال بغضب أقوى من غضبه:
ـ " روح بلط البحر".
فلم يرد هذه المرة، وإنما دفع كل من حوله ، امتطى حماره، ثم أرسل له شيفرته ففهمها بسرعة وانطلق باتجاه القرية , وظلت التعليقات ترتفع في سماء البلدة حتى اختفى.
صباحاً, استأجر شاحنة صغيرة من قرية مجاورة ، حشر فيها أبناء عشيرته الميامين الذين تسلحوا بالعصي الغليظة ، وما أن توقفت الشاحنة أمام الورشة ، قفز الواحد تلو الآخر كالقرود، هو وعلي وعمر وسعيد وحميد وسالم وحسن وماجد ومحمود وبدر وهلال وخميس وجمعة ورجب وشعبان ورمضان، ثم هجموا على الورشة وارتفعت أصوات التكسير وكأن زلزالاً قد وقع، وقبل أن ينتهوا من عملهم، ويرجعوا إلى ديارهم سالمين غانمين، وصلت سيارة أخرى محملة بتسعة رجال وثلاثة شباب وغر واحد، وكلهم ينتمون إلى قبيلة الخبير، وأمام الورشة، وعلى الأرصفة، سارت جداول حمراء قانية، ولم تنته الحرب.

بسام الطعان
bassamtaan@yahoo.com

بنور عائشة
06/06/2009, 06:08 PM
تحية طيبة ...


بصدق بحثت عن قصة لونتعاشق لأعلق عليها لكني لم أعثر عليها .. هل سحبت .. أم أين هي ؟


على كل حال تعليقي أن اللغة تختلف من شخص لآخر ومن حيوان لأخر .. فكانت اللغة ميزة عملك الذي يؤكد على قدرتك الفنية في خوض غمار كتابة فن الرواية وهذا يعني أنك تمتلك أدوات لغوية وفنية قوية تساعدك على ذلك .


استمتعت بقراءة القصة والكل يغني ليلاه على شاكلته والفاهم يفهم لغة الطير في وسط اجتماعي تغلبت فيه العصبية والقلق والتوتر ، دون تغليب العقل أو المنطق ..

ماذا كان سيفعل الحمار لو أن الرجل أدرك أنه بفعله حمـــار والأغلبية تأتي .



تحياتي .

بسام الطعان
06/06/2009, 07:25 PM
الاستاذة بنور عائشة
تفاجأت انا ايضا باختفاء قصة ما رأيك لو نتعاشق ولا اعرف السب وهنا اسأل القائمين على المنتدى اين ذهبت القصة
على اية حال شكرا جزيلا لك
تحياتي

عماد الدين
06/06/2009, 08:20 PM
الاخ العزيز بسام الطعان ....
يا أيها القاص المبدع بقلمه الفريد ...
وبلغته المتمكنه
كم كنت هنا سعيد وأنا
في قصتك الرائعه
التي رسمت لنا صورة تصويرية
من معترك الحياة بطريق ادبية رائعة ومميزه
فيها المتعة والطرفه ...
فدمت لنا وعين الله ترعاك
ولك فائق الاحترام
والتقدير
عماد الدين ...

بسام الطعان
06/06/2009, 08:51 PM
العزيز عماد الدين
شكرا جزيلا لك
وتقبل مودتي الدائمة