المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أهداف ناعمة *



فتحي فطوم
31/05/2009, 04:46 AM
أهداف ناعمة *



في تَخَيُّل هذه القصص ( أهداف ناعمة ) اعتمدت على المواد التالية :
1 ـ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي : تاريخ الخلفاء ـ ط2 ـ دار الجيل ـ بيروت 1994
2 ـ محمد الخضري : محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية ( الدولة الأموية ) ـ المكتبة التجارية الكبرى ـ مصر 1969
3 ـ ابن أبي حديد : شرح نهج البلاغة ج 1 ـ طبعة لم يذكر عليها اسم دار النشر أو التاريخ
4 ـ صحف ومجلات مختلفة .




ــــــــــــــــــــــــــــــ
* الهدف الناعم : لا يعني شيئاً بعينه ، قد يعني مكاناً غير محصن ، أو لا تتوافر له الحماية الكافية ، أو ربما يكون شخصاً ضعيفاً لا يقوى على المقاومة ... فهو في الحالات كلها هدف يسهل الوصول إليه


1 ـ عالم أبيض

كان جده الأعلى غليظ القلب ، علجاً ، مغامراً يجوب الآفاق . هذا ما روته الكتب التي تناولت سيرته ، لكن أحفاده كان لهم رأي مخالف ؛ فهم ينظرون إليه نظرة إعجاب ، يبجلون أفعاله ، ويتباهون بروح المغامرة لديه .
ذات يوم مخر عباب الماء على رأس عصبة من الجوالين ، لم تثنَ له عزيمة ، أو تلن له قناة .... كان الوصول إلى الطرف الآخر هدفه ، وجني الغنائم غايته ( نبيلة أو غير نبيلة ، الأمر لا يعنيه البتة ) .
بعد عَنَتٍ وتعب وطأت قدماه أرضاً مجهولة ، غير التي كانت في مخيلته ساعة الرحيل ، فقـد وجد عالماً جديداً ، كل شيء فيه موشوماً باللون الأحمر : التراب ، والأجساد العارية ، حتى الأحلام والحكايات كانت مصبوغة باللون نفسه .
كانت فرصة نادرة أتيحت له ليشبع هوايته ؛ فأعمل سيفه في رقاب من رحَبَّ بمقدمه ، وأَمَّنَه على حياته .... امتزجت حمرة التراب بحمرة الدم على يديه .
بعد مدة من الزمن أراد أن يمحو من ذاكرته لون الدماء التي سالت ، وأن يظهر بمظهر الرجل المسالم ؛ فأصدر أمراً ـ وجد قبولاً لدى أتباعه ـ بإزالة كل ما يمت بصلة إلى ذلك اللون ، ومنع ذكره في المجالس والأروقة .. وهكذا كان ، بعدئذٍ ارتفع شأن اللون الأبيض. لم يختلف الحفيد عن جده كثيراً ، إذا كان الأول استخدم السيف في عصره ، فالحفيد كانت لديه القدرة على تصنيع أسلحة أشد فتكاً ، لكن الغريب في الأمر هو نجاحه في تكوين رأي عام لصالحه ، وإيمان لدى الناس بضرورة استخدام تلك الأسلحة ؛ من أجل إحلال الهدوء والمسرة في الأصقاع قاطبة !
تكريماً لجده الأعلى عشق اللون الأبيض ؛ فرفع منزلته ، وأمر أن يسود كل ما يحيط به من أثاث ، أو يمكن للعين أن تقع عليه من مسكن ، وملبس ، وطرقات ... ولو كان بمقدوره تبييض إهاب الأرض وصفحة السماء لفعل ذلك بسرور بالغ ، خاصة عندما قال له مستشاره إن اللون الأبيض هو اللون الوحيد الذي يتمتع بميزة الاحتواء ، فهو يضم سبعة ألوان ، وفيه إشارات إلى سبع حضارات سابقة ، وفي ذلك دلالة كافية للناس كافة .
عندما تناهى إلى سمعه أنْ ثَمَّ أناس ـ في مكان قصي من الأرض ـ يتغنون بمختلف الألوان ضاق صدره ، واغتم كثيراً ! تساءل : " كيف يُسمح لهم القول بأن صنائعهم بيض ، وقائعهم سود ، مرابعهم خضر ، مواضيهم حمر؟ " ، ثم أعلن على الملأ : " هذا اعتداء سافر على مجتمعنا ، وخطر داهم على حلمنا الناعم . الآن حانت ساعة الفصل ؛ من ليس معنا فهو ضدنا ، لا خيار أمامنا سوى التحدي ، لكن علينا أن نفهمه ، نحيط به ، ندرسه ، ثم نطبقه بنعومة ... " .
البياض يُدخل إلى نفسه السكينة والهدوء ، ويُذَكِّره بالنصر المؤزر الذي حققه جده الأعلى في ماضي الأيام ، و( العدالة البيضاء ) التي طبقها على أعدائه أتت أكلها ؛ اجتث رؤوسهم ، وترك أجسادهم في العراء ، تنهشها طيور السماء ، فلم يبقَ منها إلا العظام بلونها الأبيض .
كان ما كان ، شرع بتطبيق شعار العدالة البيضاء ، و .....



الحسكة : أيار 2003




2ـ ثغر ناعم

من يستطيع ـ مهما كان شأنه ومنزلته في عرض الدولة وطولها ـ أن يرفض له طلباً ، أو يتلكأ عن المثول بين يديه ؟ لا أحد .
هذا الشأن ليس غائباً عن بال ( نائلة ) ، فهي تدرك أن ذلك ( الحلم ) الذي اتصف به ، والدراهم التي كان ينثرها على الموالين ، ويبعث بها إلى غير الموالين لكسب ودهم ، قادته إلى العرش الذي يتربع فوقه ، وهو في سبيل الحفاظ عليه يسلك طرقاً مختلفة ، وقد وصفه أحدهم بعد أن صحبه زمناً : " فما رأيت رجلاً أثقل منه حلماً ، ولا أبطأ جهلاً ، ولا أبعد منه أناة " .
كانت زوج رجل رفيع المنزلة ، قضى نحبه عندما دخل عليه رجلان ؛ فوجآه حتى قتلاه ، وخرجا هاربين من حيث دخلا ... لم يكن أمامها غير الصراخ ... صرخت ، فلم يُسْمَع صراخها لما كان في الدار من الجلبة .
هاهي السنوات تمر ، وهي أرملة ليس لها من الدنيا غير الذكريات ، واليوم ماذا يجري ؟
جاءها رسول منه ، وأخبرها بكلمات مقتضبة أن سيده قد خطبها لنفسه ؛ فطلبت إلى الرسول إعلام سيده أنها تود رؤيته لأمر هام .
مثلت بين يده ، رأته رجلاً طويلاً ، أبيض ، جميلاً ، مهيباً . سألته بهدوء :
ـ أنت أرسلت من يخبرني أنك خطبتني لنفسك ؟
ـ نعم .
ـ من يخطب يكن له هدف وغاية ... ما الذي يعجبك مني ؟
ـ ثغرك الناعم .
ـ أمهلني ليوم غد ، فآتيك بالجواب .
ـ لكِ ذلك .
خرجت ... عيناها حمراوان ، ويدها اليمنى تقبض على فيها بعنف !
في اليوم التالي طلبت إلى خادمها أن تقف بالباب ريثما تأتيها بالجواب ، لتذهب به إليه حالاً . لم يطل غيابها ، عادت ويدها على فمها الذي يسيل منه الدم ، ناولت الخادم صندوقاً صغيراً ، وأشارت لها باليد الأخرى أن تنصرف بسرعة .
استأذنت الخادم بالدخول ؛ فأذنوا لها .... تقدمت منه وجلة ، ناولته الصندوق قائلة :
ـ هذا جواب سيدتي .
فتحه بهدوء ، نشر الصرة ؛ وقع نظره على بقايا أسنان ملوثة بالدم .
لم يتفوه بكلمة ، ظل وجهه هادئاً ، أبيض ... أشار بطرف سباته نحو الخادم أن تنصرف .



الحسكة : أيار 2003







3 ـ حمامة المسجد





1

لم يَغِب عن باله أن جده الحكم ( الأبتر ) ، وأباه مروان (خيط باطل) (1) كانا طريدين ، ملعونين بقولٍ من صادق أمين .
بلغت عداوة ( الأبتر ) لـ ( صاحب الحضرة الشريفة ) مبلغاً كبيراً ، لم يكن ذلك سراً ؛ لقد أظهرها علانية في كل نادٍ ودار . كان لا يدع مناسبة تمر دون أن يرفع راية سخريته منه ، وبغضه له ، فيشرع" يحكيه في مشيه ، ويغمز عليه عينه ، ويدلع له لسانه ، ويتهكم به ، ويتهافت عليه . هذا وهو في قبضته ( الحضرة الشريفة )، وتحت يده ، وفي دار دعوته بالمدينة ، وهو (اللعين الأبتر ) يعلم أنه قادر على قتله أي وقت شاء ، من ليل أو نهار ، فهل يكون هذا إلا من شافٍ ، شديد البغضة ، ومستحكم العداوة حتى أفضى أمره إلى الطرد ؟ ".
وروي أنه " كان يتحيل ، ويستخفي ، ويسمع ما يسره ( صاحب الحضرة الشريفة ) إلى أكابر أصحابه " في سائر أعدائه ، ويفشي ذلك عنه .
وروي أنه " كان يتجسس عليه وهو عند نسائه ، ويسترق السمع ، ويصغي إلى ما يجري هناك مما لا يجوز الاطلاع عليه ، ثم يحدث به الأعداء على طريق الاستهزاء " .
وهو في أرذل العمر نفاه ( صاحب الحضرة الشريفة ) إلى مكان قصي مع ابنه الذي كان طفلاً لا يعقِل ؛ لذلك لم يُقيض الله للولد الفرصة البهية مطلقاً ؛ لمشاهدة ( صاحب الحضرة الشريفة )، وهو مؤمن بها وبرسالة الخير التي يحملها ؛ وهذا ما أفقده صفاء الصحبة إلى الأبد ... فكانا ( الجد والأب ) طريدين ، ملعونين ... وروي أن ( صاحب الحضرة الشريفة) عندما لعن ( الأبتر ) كان (خيط باطل ) لا يزال في صلبه .
الظروف تغيرت ، الأحوال تبدلت : بعد التحاق (صاحب الحضرة الشريفة ) بالرفيق الأعلى بمدة وجيزة ، جاء مَنْ رحب بعودة والده ( خيط باطل ) ، بل قَرَّبه من مجلسه ، ورفع من شأنه ؛ فغدا صاحب كلمة مسموعة ، وفعل مؤثر .
نعم ، ذلك هو أبوه الذي أمتلك تجربة وخبرة ، ودراية بأسرار الخداع ؛ فأحسن استغلالها بعد موت الخليفة الثالث الذي رفض طلب ( أم خالد ) أن يجعل الخلافة من بعده لأخيه خالد قائلاً : (( لا يكون لي مُرها ، ولكم حُلوها )) ؛ ومات ، ولم يعش في الخلافة سوى أربعين يوماً .

حاشية :
خليفة لا يحب أن يلقى بتبعات قومه :
كان سميَّ جده الذي خاض غمار حرب ضروس في سبيل الوصول إلى كرسي الخلافة ، ثم جعلها ملكاً عضوضاً أما هو فكان على النقيض تماماً ، فعندما آلت الخلافة إليه بعد موت والده استشار ( عمرو المقصوص ) ، وكان يكن له الاحترام والتقدير ؛ فقال عمرو :
ـ إما أن تعدل ، وإما أن تعتزل .
ـ أنت ترى ما أرى ... العدل ... العدل أن تُعيد الحق إلى أهله .
ـ نعم .
ـ لا أحد من قومي يساعدني ، بل سيقفون في وجهي إذا فكرت بهذا الأمر .
ـ اعتزل .
ـ إننا قد بُلينا بكم ، وابتليتم بنا ، وإن جدي نازع الأمر من كان أولى منه ، ثم تقلده أبي ، فكان غير خليق به .. ولا أحب أن ألقى الله بتبعاتكم ، فشأنكم وأمركم ، ولوه من شئتم.
ومات الخليفة المعتزل ...
جده الذي أمر بدس السم في طعام حفيد صاحب الحضرة الشريفة قال فرحاً : " إنَّ لله جنوداً من عسل " ، فهل حلَّ حفيده ضيفاً على أولئك الجنود ، وأكل من عسلهم ؟ تتعدد الروايات .




2


مات الخليفة مسموماً أو غير مسموم ، المهم في الأمر أنه غادر الحياة الدنيا ؛ فكانت الفرصة مواتية لـ ( خيط باطل )
، فوثب على الخلافة ، وأنشد :



إني أرى فتنةً تغلي مراجلُها والملكُ بعد أبي ليلى لمن غلبا


بعد الوثبة تلك جاءت الخطوة الثانية وهي الحيلة ، فاتبع طريقها في إقناع الجمهور ، وإيهامه أن الأكثرية معه ؛ وتغلب على أعدائه في معركة ( مرج راهط ) بعد عشرين ليلة ، وقتل منهم " مقتلة عظيمة ، لم يقتل مثلها في وطن قط " .
" فلما استوثق له الأمر أحب أن يبايع لعبد الملك وعبد العزيز ، ابنيه ، فاستشار في ذلك ؛ فأشير عليه أن يتزوج أم خالد بن يزيد ( خليفة سابق ، أرعن ) ؛ ليُصَغِّر شأنه ، فلا يُرشح للخلافة ، فتزوجها " .
فلما بُويع له بالخلافة قال أخوه عبد الرحمن ـ وكان لا يرى رأيه ـ شعراً :
فوالله ما أدري وإني لسـائل حليـلةَ مضروبِ القفـا كيـف يصنع


لحا الله قوماً أمروا خيط باطل على الناس يعطي ما يشــاء ويمنع ( 2 )
بعد أقل من تسعة أشهر قمرية جاءه هادم اللذات ، ومُفَرِّق الجماعات بتدبير من ( أم خالد ) زوجه ؛ فمات خنقاً تحت وطأة الوسائد والبراذع ... نعم الوسائد والبراذع . هي أداة قتل بسيطة ، والسبب عبارة بسيطة تفوه بها في ساعة انشراح ، والمجلس غاص بأهله . كلماتها قليلة ، هي بالتمام والكمال ثلاث :
ـ اسكت يا ابن الرطبة !
ولم يكن المخاطب سوى الغلام خالد ( ابن أم خالد ) ؛ فقال له :
ـ أنت لعمري مؤتمن وخبير !
وقام باكياً من مجلسه ، فدخل على أمه ، وأخبرها ، فقالت له:
ـ لا يعرفنَّ ذلك فيك ، واسكت ، وأنا أكفيك أمره .
فلما دخل عليها مروان قال لها :
ـ ما قال لك خالد ؟
ـ وما عساه يقول !
ـ ألم يشكني إليك ؟
ـ إن خالداً أشد إعظاماً لك من أن يشتكيك .
صدقها . أما هي فمكثت أياماً تترقب ... وجاء اليوم الموعود ، فنام عندها ، (( وكانت قد واعدت جواريها ، فقمن إليه ، فجعلن الوسائد والبراذع عليه ، وجلسن عليه حتى خنقنه )) .

3


كان قد مضى من عمره أربعون سنة عندما مات والده (خيط باطل ) خنقاً ، لكن كيف كانت بداية حياته ، وهو ابن الطريدين ؟
" لما شب كان عاقلاً ، حازماً ، أديباً ، لبيباً ، وكان معدوداً من فقهاء المدينة " . ومما يروى أنه " ولد لستة أشهر، أبخر الفم.... كان عابداً ، زاهداً ، ناسكاً بالمدينة قبل الخلافة " .
لقبه الناس بـ (حمامة المسجد) ؛ فكان ـ قبل أن تؤول إليه أمور السلطة والرعية ـ أهلاً لهذا اللقب .
عندما نزل جيش يزيد الذي جهزه إلى أهل الحجاز كان هو في مسجد المدينة كعادته ، فجاءه ( الغساني ) ، وقعد إلى جنبه .
سأل الغساني : أمَنْ هذا الجيش أنت ؟
أجاب الغساني : نعم .
قال غاضباً : ثكلتك أمك ! أتدري إلى من تسير ؟ إلى أول مولود ولد في الإسلام ، وإلى ابن حَوَاري النبي عليه الصلاة والسلام ، وإلى ابن ذات النِّطاقين ، وإلى مَنْ حَنَّكه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أما والله إن جئته نهاراً وجدته صائماً ، ولئن جئته ليلاً لَتَجِدَنَّه قائماً ، فلو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكَبَّهم الله جميعاً في النار .
كان ذلك قبل موت والده ...


4


مات والده ( خيط باطل ) حنقاً ؛ فأفضى الأمر إليه .
هكذا أتته الخلافة من حيث لا يحتسب ، أو يفكر بهذه المسألة ؛ فقد كان منصرفاً إلى العبادة ، والزهد ، وملازمة المسجد حتى لُقِّبَ بـ ( حمامة المسجد ) ، وَعُدَّ أحد الفقهاء الأربعة ....
إذا كان والده قد خاض صراعاً في العلن والخفاء من أجل الوصول إلى كرسي الخلافة ، والمحافظة عليه ، فلم يدر بخلده أن يريق نقطة دم واحدة من أجل متاع الدنيا الفانية ، فالآخرة
خير له وأبقى .
الآن ماذا يفعل ؟ هذه هي الدنيا تتمثل أمام ناظريه بكرسي الخلافة ، بكل ما يملك من هيبة ، وسلطة ، ونفوذ ، وما يترتب على بقائها قوية من استعمال بطش ، وحيلة ، وتصرف ببيت مال المسلمين لكسب ود كبار القوم ، فإن لم ينفع المال فالسيف أشد مضاء ، و ...... وتلك هي الدار الآخرة التي وعد الله بها المتقين ، الصالحين من عباده ، وقد هيأ لها نفسه ، وأعدَّ لها ما استطاع لها من إيمان وتقوى .
منذ أن تفتح وعيه على هذه الدنيا ، وهو مواظب على التقرب إلى الله عبادة وعملاً ، وها قد مضى من عمره أربعون سنة .
الآن ماذا يفعل ؟
كان المصحف في حجره ، وهو يقلب الأمر في رأسه . لاشك أن الاختيار بين الأمرين صعب ، ويحتاج إلى عزيمة وتصميم ، ثَمَّ فرق شاسع بين أن تكون من أهل اللعب بأمور الحكم ، أو أن تكون من أهل الزهد والعبادة ! الآخرة تحف بالمشقة والعنت ، والدنيا تحف بالشهوات والمغريات . صوت في داخله يعلو : ها هي الدنيا ملك يديك ، فإن رفضت كرسي الخلافة ، فغيرك يسعى إليها بالمال والدم و.....
أخيراً استقر رأيه ، وهدأت نفسه ، خلع عباءة العبادة والزهد ، أطلق تلك الحمامة البيضاء الوديعة من صدره ، وشَمَّرَ عن ساعد الجِدِّ لمجابهة الدنيا . هذا نصيبه منها ، ولن يتخلى عنه أو ينساه ، فما كان منه إلا أن أطبق المصحف ، وقال : " هذا آخر العهد بك " .
وكان ذلك اليوم آخر العهد بينهما .

5


منذ الأيام الأولى لتربعه على الكرسي سلَّ سيف الغدر من غمده ، وأوغله في دم كل من وقف ضده علانية ، أو أثار الشك حول بيعته ، أو دعا إلى التمرد عليه ، ورفض الانضواء تحت سلطته .

في غمرة الصراع طال سيفه عنق ابني ذات النطاقين : مصعب ثم عبدالله ، وعمرو بن سعيد ..... وكرت السبحة ..... لم يعفُ عن صاحب فضل سابق ، أو يرحم قريباً ... أمران لا فكاك منهما : إما البيعة أو السيف !
بعد مقتل مصعب ، ابن ذات النطاقين ، خطب بالمدينة عام الحج ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : " أما بعد ، فلست بالخليفة المستضعف ، ولا الخليفة المداهن ، ولا الخليفة المأفون . ألا وإن من كان قبلي من الخلفاء كانوا يأكلون ويطعمون من هذه الأموال ، ألا وإني لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قَناتُكم ، تكلفوننا أعمال المهاجرين ، ولا تعملون مثل أعمالهم ؟ فلن تزدادوا إلا عقوبة حتى يحكم السيف بيننا وبينكم ، هذا عمرو بن سعيد قرابتُه قرابتُه ، وموضعه موضعه ، قال برأسه هكذا ، فقلنا بأسيافنا هكذا ، ألا وإنَّا نحمل لكم كل شيء إلا وثوباً على أمير ، أو نصب راية ، ألا وإن الجامعة ( القيد والغل ) التي جعلتها في عنق عمرو بن سعيد عندي ، والله ! لا يفعل أحد فعله إلا جعلتها في عنقه ، والله ! لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عُنُقَه " .
وكان كما وصف نفسه ، تحقق له ما أراد ، جمع بين القول والفعل ؛ تغلب على الخوارج في أرض الرافدين ، دك الكعبة بالمنجنيق على رأس عبدالله ابن ذات النطاقين . لم يذكر أنه قال يوماً يصفه بأول مولود في الإسلام ، وبالصوم والصلاة ، و " لو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبَّهم الله جميعاً في النار " . دانت له أرض المشرق ، اتجه إلى إفريقيا ( المغرب) ، وأشعلها حرباً لا هوادة فيها ، قضى على كاهنة الجبل البربرية .....
عرف كيف يجمع بين العطاء بسخاء وسل السيف من غمده ، حين يخفق الأول في تحقيق ما يصبو إليه ، كان يلجأ إلى الثاني بتدبير محكم ؛ لأنه ـ في نظره ـ هو الحل الأمثل لتثبيت أركان الدولة ... رفع صرة الدنانير بيده اليسرى ، والسيف بيده اليمنى . عاب على ابن الزبير الذي حنكه الرسول شحه وبخله ، وقف على النقيض منه ؛ فامتد بجناحيه صوب المشرق والمغرب ؛ واطمأن إلى استقرار الحكم له ولأولاده من بعده ، و ...................

حاشية :
أمير المؤمنين يشرب الطلاء والدم .
كان كثيراً ما يجلس إلى أم الدرداء ، فقالت له مرة : بلغني يا أمير المؤمنين ! أنك شربت
الطِّلاء (3) بعد النسك والعبادة .
قال : إي والله ! والدماء قد شربتها .
وقال : ولدت في رمضان ، وفطمت في رمضان ، وختمت القرآن في رمضان ، وبلغت الحلم في رمضان ، ووليت في رمضان ، وأتتني الخلافة في رمضان ، وأخشى أن أموت في رمضان ، فلما دخل شوَّال وأمنَ مات .
وثمة أشياء .... لم يقلها ....


الحسكة : أيار 2003


ــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) ـ هكذا كان يدعى ؛ لأنه كان طويلاً مضطرباً
( 2 ) ـ لحا : في المثل : من لاحاك فقد عاداك ، و( تلاحوا ) تنازعوا ، وقولهم : ( لحاه ) الله ، أي قبحه ولعنه.( مختار الصحاح ـ مادة لحى ) .
( 3 ) ـ الطِّلاء : ما طبخ من عصير العنب حتى ذهب ثلثاه .




4 ـ المغني عارياً

كانت القاعة تغص بالمدعوين ، وصوت المغني ينساب هادئاً ، ناعماً كنسمة طرية ، وبين أطيافه تنهض بحة حزينة ، تشف عنها نغمات مقام شهير في عالم الألحان ! هذا ليس بالغريب على أناس وشمت ذاكرتهم ضروب من الألم والمعاناة ، وسالت على أرضهم دماء غزيرة عبر مسارات التاريخ !
وعلى الرغم من تلك الكلمات المرسومة بألوان حزن قديم ، والإيقاع المتناغم مع أصداء ماء أرض السواد وأشجاره ، فإن تشكيل حلقة (الدبكة ) أمر تستدعيه الذاكرة ؛ فيجتمع النقيضان : الحزن في الأغاني ، والفرح في الدبكة .
كل من دخل القاعة كان على علم تام أن أصغر جزء من أرض السواد تحت مراقبة شديدة ، صارمة ، وكان من الطبيعي أن يُكلم أحدهم نفسه ، أو يهمس ـ في ساعة ضيق ـ بأذن زوجه قائلاً : " كأننا في غرفة العناية المركزة " .
ويعرفون أن الليل إذا عَسْعَس سيخرج ( الابن المدلل ) محوطاً بالعَسَس من قصره إلى أحد ملاهي البلد ؛ فيتصدر المكان ، بينما عصابته تترصد الهمسات والإشارات ، وتمارس غوايتها كما تريد وتشتهي ، لا أحد يتجرأ على الاحتجاج . إن من يفعل ذلك يرتكب إحدى الموبقات ، ومآله ( أبو غريب ) ، وبئس المصير .
مَنْ يذكر اسمه دون تبجيل ، من يتحدث عن هيئته بغير إجلال وتقدير ، من يومئ إلى طول ( سيجاره ) دون إعجاب بذوقه الرفيع ... من ... من ... الويل له !
أبوه القائد الفذ ، الضرورة ، الملهم ، المنصور بالله ..... ، أما هو فلا يحتاج إلى تلك السلسلة من الألقاب ، اكتفى باسمه ، اسمه كافٍ لزرع الرعب في النفوس !
كل هذا هم على دراية به ، لكن أياً منهم لم يدر بخَلَده أن يحط عليهم بغتة كـ ( القضاء المستعجل ) ؛ فالمكان لا يليق بصاحب المقام الرفيع ، والكلمة النافذة ، والضحكة المجلجلة كالرعد ، والنظرات الوحشية من عينين جاحظتين ......
خابت توقعات الحاضرين ... فإذ به يدخل البوابة المزدانة بألوان المصابيح وسط جَلَبة المرافقين ! فيتحول المغني وأعضاء الفرقة الموسيقية إلى تماثيل من الشمع ، يسود الصمت في القاعة ، تجحظ العيون ، تتحنط أجساد المدعوين على الكراسي ......
يفر من كان يقعد إلى طاولة قريبة بإشارة من أحد المرافقين ، يرخي جسده على الكرسي ، يبعد ( سيجاره ) الطويل عن فمه ، يتصاعد الدخان متموجاً ، تنفرج شفتاه الغليظتان عن ابتسامة عريضة ، يومئ مزهواً إلى المغني أَنْ : تابع .
يصدح صوت الموسيقى ، يزدرد المغني ريقه ، يحاول رسم ابتسامة تجاري ابتسامة ( ابن القائد ) ، لكن وجهه يأخذ بالانكماش ، والضمور.... يرفع عقيرته ، يبذل أقصى جهده كي يدخل البهجة والسرور إلى قلب ذلك الماثل أمامه تحت سحائب دخان ( سيجاره ) ، فلا يسعفه الحظ ، يخرج صوته متحشرجاً ....
ينظر ( ابن القائد ) إلى مرافقه الذي يقف خلفه نظرة عائمة ؛ جعلته ينحي ذليلاً ، ويصغي إلى كلمات سيده المتقطعة الأوصال ، وهو يهز رأسه مع كل حرف يتفوه به ... عندما أشار إليه أن ينفذ ما أمره ؛ فإذ به يقف منتصب القامة ، ثم يندفع نحو المغني وكف يده اليمنى تمسح فمه بعصبية ؛ فصمت المغني فوراً ، وقد حسب أن الأمر انتهى عند هذا الحد ، لكن المرافق همس بأذنه يأمره أن يخفف من ثيابه ، ويغني ، لأن الثياب تثقل كاهله ، تعيق في صوته ؛ فتمنعه عن الانطلاق على سجيته . امتثل المغني للأمر ، فخلع سترته ، لكن إشارة من ( ابن القائد ) جعلته يرمي قميصه الخارجي ، ثم توالت الإشارات حتى لم يبق عليه سوى سرواله الداخلي الصغير . لم تطُل وقفته على تلك الحالة ، فقد جاءته الإشارة الأخيرة .... أصبح المغني عارياً تماماً ؛ فابتسم ( ابن القائد ) على هذا الإنجاز الرفيع ، وابتسم المرافقون ، ثم المدعوين كافة .
ظل المغني يغني عارياً حتى ساعة متأخرة من الليل ، و..... تلك كانت آخر مرة يغني فيها ، فقد فرَّ من أرض السواد مرتدياً ثياباً أخرى جديدة .



الحسكة : تشرين الأول 2003

مصطفى البطران
03/06/2009, 08:36 PM
هذه معانقة أولى لأولى إبداعاتك أيها الأديب المخضرم الأستاذ فتحي فطوم 000
جميلة أفكارك التي تطرح بطريقة سهلة تنم عن وعي عميق لما يدور بيننا وحولنا وفينا وعلينا
نعم ليس كل من تظاهر بالسلام مسالم 000 علينا أخذ الحيطة والحذر 000
وكذا أنّى لهذه المرأة الوفية أن تنسى زوجها 000 جميل هذا العزف على وتر الأصالة والوفاء
كل الإعجاب والتقدير والحب وإلى المزيد المزيد فنحن في شوق إلى هذه الكنوز النادرة 0

فتحي فطوم
14/06/2009, 04:19 AM
الأستاذ مصطفى !
لكم الشكر على مشاعركم وترحيبكم ، أتمنى أن تلقى نلك القصص صدى لدى القراء ... مودتي

طارق شفيق حقي
15/06/2009, 10:41 PM
أرحب بك أخي الكريم في المربد

لي عودة بإذنه تعالى

دجلة الناصري
20/06/2009, 08:00 AM
الاستاذ فتحي فطوم ....
قرات المتتاليات من سرد .....
بقلمك .....
لك اسلوب سرد جميل ....
تطوع احداث التاريخ لااهداف ناعمة ......فعلاً....
ولكن التاريخ له كلمته الاخيرة وهي الفصل الذي لاجدال فيه.....
الحمد لله لذلك .....
لانه لايقول الا الحق ولا يخاف اباطرة ولا يجامل احبار ....
في قصتك الاخيرة المغني عاريا .......
رايت الهدف مباشرة فقلت كم ظلمك الاعداء والاصدقاء ايها القائد ....
انها حادثة ملفقة كحادثة اسلحة الدمار الشامل التي اضاعت الامة .....
فعلا عنوانك معبرا اسم على سرد .....
تقبل سيدي مروري ...
دجلة الناصري ....