المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بكائية شعرية



طارق شفيق حقي
12/05/2009, 03:30 PM
بكائية شعرية

http://www.alimbaratur.com/All_Pages/Fadeh_Stuff/Fadeh_45_A.gif
فشل مشروع نوبلة أدونيس
كم أنا سعيد لنيل الروائي ج. م. كويتزي عدو التمييز العنصري جائزة نوبل في الأدب. وكم أنا حزين لخسارة الشاعر «ع. م. س. أ» المعروف بأدونيس 1.3 مليون دولار قيمة الجائزة.
الأدونيسيون، الآن، يعدون على الأصابع هزائم العرب: نكبة 1948، نكسة 1967، صدمة أدونيس 2003. والميلودراما البكائية ما زالت مستمرة في حاشية الشاعر الملوَّع بعدما عزفت له سلفا «مزيكا» النوبلة، وعتبرت نيله الجائزة تعويضا وإرضاء للعرب عن غزو بوش العراق وذبح شارون الفلسطينيين! ثم حزمت حقائبه ليسبح عائما فوقها إلى اسكندنافيا لقبض الأتعاب (رفض نجيب محفوظ السفر، واكتفى بإرسال ابنته لقبض تحويشة العمر).
لولا الرحيل المفاجئ لإدوار سعيد لكان أحق بالنوبلة من الروائي الرابح أو الشاعر الخاسر. فقد كان ادوار حاضرا في صميم الأدب العالمي، وفي عمق جرح أمته وهمومها. ولعل العزاء لأدونيس أن نوبل لا يعرف الطلاق بالثلاثة. فالدولارات الأدبية متاحة كل عام. يبقى أن يشد أدونيس «حيله» تأهبا للعام المقبل.
كان الساخر برنارد شو، على الرغم من نوبلته، يستخف بالجائزة. فقد غفر لنوبل اختراعه الديناميت، ولم يغفر له اختراع الجائزة. السبب لأن تسييسها حطَّ من قيمة الأدب والسلام. فقد مُنحت لمحفوظ، مثلا، ليس لأنه أكبر روائي عربي، وإنما أيضا لأن الروائي العالمي هو من نخبة مصرية غابرة كانت ضعيفة الإيمان بعروبة مصر، ولأنه كان ساداتيا متحمسا لصلحٍ مع إسرائيل غير عادل مع العرب.
ومُنحت جائزة الأدب ليهود يكتبون بالعبرية اليديشية التي يتكلمها بضعة آلاف فقط من اليهود. ومنحت لروائيين روس ليس لأنهم كانوا عباقرة في الرواية، وإنما لأنهم كانوا «عباقرة» في رفضهم الاشتراكية الماركسية. أما جائزة نوبل للسلام فيكفي القول ان من حَمَلتها بيغن بطل الإرهاب والحروب، والسادات في ذروة صدامه مع أمته.
لا أحد يشك في عبقرية أدونيس الفكرية، فيما الشكوك كبيرة في «عبقريته» الشعرية. لكن هذا الصرح الفكري الشامخ لم يخدم الحداثة العربية، بل وُظِّفَ ضد التراث الثقافي التاريخي، ولإفساد ذائقة العرب الشعرية.
الواقع أن البيئة التي ولد فيها أدونيس منذ 73 عاما كانت كافية لتفجير عبقريته الثقافية. فجمال الطبيعة الجبلية المطلة على بحرٍ لازوردي الزرقة تحالف مع ظروف الفقر المدقع وشعور الطائفة بالغربة، لتنشئة جيل علوي مثقف عكف، أبا عن جد، على دراسة التراث العربي، وبصورة خاصة التراث الشعري، فكانت متعة الثقافة هي الوحيدة المتاحة قبل عصر المتع الإلكترونية. وقد تبلورت عبقرية الأجيال العلوية المثقفة ببدوي الجبل (محمد سليمان الأحمد) ونديم محمد وسليمان العيسى وزكي الأرسوزي واستمرت مع أدونيس.
حمل أدونيس ثقافته التراثية من المجال الضيق في قريته (قصابين) ونزل بها إلى دمشق. ومن سوء حظه وحظ الحداثة الفكرية والشعرية أن الحزب السوري القومي الناشط في دمشق الأربعينات التقط هذه الموهبة المبكرة ليوجهها نحو الإطلالة على شام ما قبل العروبة والإسلام. وقيل ان زعيم الحزب أنطون سعادة هو الذي أنعم شخصيا على علي أحمد سعيد إسبر بلقب «أدونيس».
لم يطل مقام أدونيس كثيرا في عاصمة الشام. فقد فر من هوسها العروبي إلى لبنان الخمسينات بعدما نُكب الحزب بالمغامرات السياسية. في ليبرالية بيروت الثقافية والسياسية، ازدهر أدونيس. أصبح كاتبا في «لسان الحال» إحدى صحف الحزب، ثم في مجلة «شعر» التي أصدرها (1957) مع نخبة من شعراء الحزب ومثقفيه. وكانت أميركا هي المشترك الأول الذي يدفع قيمة الاشتراك بانتظام.
في «شعر» تبلورت مدرسة أدونيس ويوسف الخال الشعرية الحداثية. ثم في مجلة «مواقف» التي أصدرها في عام 1968 تبلورت عبقريته الفكرية وبلاغته اللغوية ودراسته العميقة للتراث الفلسفي والديني. ولم يكن الشعر والفكر سلعة أدونيس الوحيدة. كان رجلَ علاقاتٍ عامةٍ ممتازا لا يضاهيه فيها سوى نده الشاعر نزار.
لضمان النجاح، كان على أدونيس تقديم التنازلات باستمرار. وهكذا، انداحت سوريته القومية رويدا رويدا لتفسح في المجال أمامه للانخراط في فكر العزلة اللبنانية، فجأة تبنته الجامعة اليسوعية، ومنحته الدكتوراه (1973) على ثلاثيته (الثابت والمتحول).
بعد غزل قصير مع صدام العراق الذي نزل الى السوق الثقافية والصحافية اللبنانية شاريا ومتبضعا، ثم بعد قصيدة عصماء في مدح إيران الخميني، بدأت مرحلة تدويل أدونيس الهارب من شقاء الحرب اللبنانية. حل الشاعر والمفكر ضيفا على الاستشراقيين الأوروبيين، فتولوا إصدار الطبعة الـ «يوروأراب» الأدونيسية. وقام جاك بيرك بترجمة شعره الحداثي. ومع أوربته في الثمانينات إلى عولمته في التسعينات، استمر تقديم التنازلات. فكان لقاء غرناطة (1993) مع المثقفين الاسرائيليين واليهود، بحضور عَرَّابي أوسلو وشمعون بيريز وعرفات.
بعد اكتمال التنازلات، تم في نهاية التسعينات تدشين مشروع نوبلة أدونيس. ولا شك ان اخفاقه هذا العام في الإمساك بالجائزة أصابه بإحباط شديد. فهو يعتقد انه في سباق مع الوقت. وتشاؤمه منذ بلوغه الستين وضعه أمام عقدة الموت والحياة: «لم تعد الحياة أمامي، بل الموت».
هذا التقديم لمسيرة أدونيس الحياتية والفكرية الحافلة يظل مبتورا، إذا لم أقدم ملخصا مكثفا ونزيها لرؤية أدونيس الشعرية والفكرية. في الشعر، يتجاوز الشاعر الحداثي الغنائية الشعرية، ويعتبرها في أحاديثه وكتاباته فردية انفعالية، ثم يلامس المقدَّس بذكاء محتجا على اعتبار الشعر «بطلانا وضلالا»، ليصل إلى أن هناك خلافا عميقا بين الدين والشعر.
أدونيس يوبخ المجتمع لربطه الشعر بالقيم والتقاليد المتوارثة. ويعترض بشدة على الالتزام بالوزن والقافية، بل يتهم بالكلاسيكية الجامدة الجواهري وبدوي الجبل وأبا ريشة ونزار وأمين نخلة وسعيد عقل... ثم يباهي بالمساهمة في اختراع شعر الحداثة، ويعتبره خروجا على تاريخ الأمة، ونقضا لرؤيتها الشعرية، وقفزة خارج «البرج العاجي» الذي يعيش فيه الشعر الغنائي الموزون أو المقفى.
أقول هنا ان خلاف الدين مع الشعر قد يكون صحيحا (والشعراء يتبعهم الغاوون). لكن هذا الخلاف لم يصل إلى التحريم. وبات الشعر ديوان العرب وموسيقاهم التي يتذوقونها ويطربون لها. لم يسكن الشعر العربي برجا عاجيا أو زجاجيا. تسامح العرب مع المتنبي ونصبوه الشاعر الأكبر لهم. ثم رأوا شوقي في حداثتهم مرآة لآلامهم وآمالهم. وها هو نزار، وليس أدونيس، قد جعل الشعر خبزا يوميا لملايين العرب العاديين.
حتى أدونيس يعترف في هذه التصريحات بأن شعر الحداثة مجرد «فقاعة شعرية» داعيا في كتابه «زمن الشعر» إلى تكريسها لكي لا تتبدد في الهواء. فهو وشعراؤه هم الذين أودعوا شعرهم البرج الزجاجي، وجردوه من موسيقاه وغنائيته، وأشبعوه غربة واغترابا وإبهاما، ففقد شعبيته وجماهيريته. وقد نجحوا في إفساد ذائقة الأجيال الشعرية، بحيث بات الشعر الموزون المقفى تحت مطارقهم وقوالبهم غريبا خجولا ومحاصرا، وبحيث بات قول الشعر متاحا لكل «أعجمي» صفَّ كلاما قبل أن يقرأ التراث الشعري.
أعتقد أن أهمية أدونيس هي في فكره لا في شعره. عبقريته تتجلى في دراسته العميقة لفلسفة التراث الدينية والأدبية والشعرية، بحيث يتفوق على سلمان رشدي الدارس أيضا للفلسفة الإسلامية. احترامي لأدونيس يأتي من احترامه وتقديره للغة العربية وتمسكه بقواعدها في بلاغته النثرية الرائعة.
في ثلاثيته «الثابت والمتحول» يتجلى فهم أدونيس العميق لفقه التراث الفكري والديني، موجها سهام نقده إلى التيار العام السياسي والفكري والاجتهادي في الدولة الإسلامية التاريخية، ومحملا المؤسسة الدينية التقليدية (السنية) سلبيات الجمود في المسيرة التاريخية والمعاصرة، ليصل إلى قناعة بأن حداثته الفكرية والشعرية محاصرة بـ «ثقافة بدائية» هدفها دمج الفرد بمجتمعه بلا سؤال منه أو قبول احتجاج لديه.
لا أدافع عن المؤسسة الدينية التقليدية، فلها رجالها وجهابذتها، ولها في المقدَّس منطق يحميه من المناهج التحريفية، انما حزني الكبير هو على هذه العبقرية الفكرية الموجهة لتحطيم التراث، وليس لإعادة تركيبه وبنائه ومزاوجة المفيد فيه مع الحداثة التي يعرضها أدونيس عليه.
هذا هو «خطر» أدونيس على التيار الأعرض للثقافة العربية التاريخية والمعاصرة. لكن لا أدعو إلى تخوينه أو تكفيره أو زندقته أو قطع الطريق على نوبلته، أو «الإذن له بالانصراف» مع هيكل، انما أدعو إلى الاستفادة من موسوعته «التحريفية» في إثراء الجدل وإغناء الحوار بين تياره والمفكرين والمثقفين الملتزمين بعروبتهم وبفكرها وثقافتها وحداثتها والمقدَّس لديها.
هذا «الشيطان» العبقري يريد إرهاب المنظومة الفكرية العربية. ولعل تمسكي بحريته المطلقة ينجيني من الغرق بدموعه التي تعود أن يسكبها فورا وبغزارة كلما وجه إليه نقد أو ملامة.
كنت أتمنى أن أبحر أعمق وأبعد داخل رؤى أدونيس الفكرية، لكني أخشى أن يفيض السين بدموعه، فأغرق أنا في النهر الذي يفصل بيني وبين جاري العبقري المشاغب الساكن على الضفة الباريسية الأخرى.


غسان الإمام - الشرق الأوسط - 11.10.2003

خالد الشاعر
16/05/2009, 02:37 PM
انقل اليك تقديرى لمقالتك المفيدة والصحيحة

قرنفلة الجبل
26/05/2009, 09:39 AM
مقالة ... اخذت مسارا عادلاً وصحيحاً


شكرا استاذنا الكبير ....


لك كل التقدير

هيا الشريف
26/05/2009, 10:27 AM
الأدونيسيون، الآن، يعدون على الأصابع هزائم العرب: نكبة 1948، نكسة 1967، صدمة أدونيس 2003

http://haia.gaza.googlepages.com/biggrin.gif


رائع

طارق شفيق حقي
29/05/2009, 01:34 PM
الكرام
خالد الشاعر
شمس القلوب
هيا الشريف
كل الود والاحترام