المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : غرباء



ادريس الجرماطي
02/03/2009, 09:09 PM
حينها لم يكن المكان، الحلم لم يتخذ مكانه بعد في نفسية ذات الأجنحة المتخيلة نفسها تطوف حول ذاتها، الزمن يصنع بدوره حيلته لتكون له قرينة من نفس سنه العميقة مع الفتاة "كلاورا".


لا احد غيرها.


فقط آخرين .


قبل النوم كانت ترى ساعتها اليدوية على طاولتها الملتصقة بسريرها المعتاد، الجدار يحمل نافدة واحدة ، الستائر ملتفة على جوانب نفس الجدران ، الجفون بدأت تلتف على مقلتيها الصغيرتين، لم يكن احد هناك فقط تتخيل لوحدها أن احدهم يعد:


ـ واحد .. اثنان .. ثلاث..


الجفون مسدلة كليا ، الحذاء مازال يضمد الأرجل الصغيرة.


أحدهم على شرفة ذلك المكان يصف اللون:


ـ جذوع الأشياء، شدق من الخبز، عيون الأطفال هناك مبللة بريق أصفر، خيوط التيه تشق رسوم الأرض، عفوا في ذلك المكان همس، شيماء أخرى تكتب قصتها على ضفة نهر أزرق يميل إلى حارتها الخضراء.


دموع شيماء تقول..تقول، التراب ينقش، الأنامل تجرح وتقول:


ـ وقفت على الرجل الواحدة أركض، خطوطي مرسومة بأناملي المجروحة من التراب، لا احد يترقبني إلا صبيات أخريات ينتظرن دورهن ، المارة هنا وهناك لا أحد يبالي بلعبة من الزمن تصنع لعبتي في نفس التراب ويصنع قصتي ليحكيها يوما ما للغرباء ثانية، ويصنع أشياء أخرى في ذاكرتي البسيطة، عياء الأرجل مني يزداد، الليل يحل مكانه من جديد.


رحلت الصبيات الأخريات إلى انتظار لعبة الغد، الكل سيعاود مشواره في عالم يصنع فيه الخيال ما يشاء لأنها مجرد أحلام تنتظر الصباح، لكني لم ادخل البيت، حيث جدتي تلتف بالعباءة وعيونها راسخة في جدرانها الحقيقة، لا شيء غير العودة إلى المشهد نفسه الذي يحمل أمي المسجونة الأسيرة وراء القضبان، لا اعرف من جدتي إلا أن أمي بعيدة عن المدينة لأنها رسمت مخالب الموت على عنق أبي، جدتي تقول عنه:


ـ رجل ليس ككل الرجال، كثير الكلام، ليس عنيدا.


لم أفهم شيئا من واقع متروك إلى أن أكبر.


نسجت ذلك الواقع المتروك في أعماقي بغراب يطوف في سمائي يود أن يقول لي سرا.


اكتفيت بذلك، ولكن الأمر غير ذلك حين وجدت أوراقا لا معنى لها، لكني قبلتها دون أن اعرف كنه التقبيل، طلبت جدتي أن ترفق معي احدهم إلى خالتي التي تسكن في الحارة الأخرى، منحتها الورقة الأولى صارت تتهجى أحرفا غير واضحة:


ـ صبيحة ذلك المشهد المريع الذي وجدت فيه كل مخلوقات الحي ملتفة حول بيتكم، أبوك كان موضوع تابوت يعلن فيه موته الرسمي، الأكف تصفع الوجوه مستنكرة جحود الأيام وبما تنتهي، الأب ملتف بغطاء احمر، قطرات أخرى تسيل أسفل التابوت، بينما الأم تعلن سخطها الزمن، وشحابة وجهها تشبه وجه الغراب.


فهمت من المتروك قليلا.


تذكرت السر والغراب الذي يطوف في السماء، لكن المحتل للسماء هو من يعرف كيف تدفن الموتى نقلا عن احدهم يومها سمعنا عن هابيل وقابيل.


الغراب دوما في السماء يرسم فيها تجاعيد الصبيان.


لكني لم أكن ادري لماذا عاد الغراب إلى نفس المكان ، لا أريد موتا جديدا، صرت أتأمله لحظات، تذكرت نفس المشهد، وألم الجدة، وذلك المكان، لم ينزل الغراب من السماء رغم أن الليلة في بدايتها ، لم أعد أرغب في الدخول إلى البيت، صرخت بأعلى ما أملك من صوت، الغراب مازال يرقص في السماء، الليل يقترب، ارتعاشة قوية تحل مكان الإحساس في جسدي وخوف آخر مني، وتسقط ريشة من جسد الطائف المحتل، رحيل الصوت، غياب لون الرقص، وينتهي كل ذلك عند العياء.


الجدة تلهث من لعبة اختفائي، لأني لم اعد غير ضياع يمكن أن يضيع في أي لحظة، في مكان ما.


لكني لن أنسى، فقط لأني أركض غير مبالية بما يصنع الجوع في الأطفال، نمت و صمت الليل يعم، وسيأتي ضوضاء النهار ككل يوم، الجدة مازالت تلهث، غير نائمة، الشمس تطفو على وجهي لا شيء يزعجني لأني ارقص في نومي ، الغراب يخبرني بأنها البداية، المارة هنا وهناك لا احد يبالي بلعبتي مع الرقص، فضل المحتل رحيله، استيقظت معتزة بكل ذكرى.


حسنا لتدفن الموتى بدون غراب، لذلك تموت الأجساد في بقاع الدنيا لترمى.


ويغيب واصف اللون، أطلال تصنع في خيال "كلاورا"، الجسد يتحرك، لم يكن الموت، الجسد هنا، الأعماق هناك .


لا شيء، فقط لا تدري الصبية ما الذي جعلها غير متحكمة في كل ما يجري..أضواء، الجسد يرتجف، امتزاج الغرفة بالألوان، ورقصة أطفال غير معروفين.


أحدهم:


ـ الليل يسقط على وجهك


آخر:


ـ يسقط الليل


آخر:


ـ وجه الليل.. وسقوط


شدت الصبية "كلاورا" ارتعاشة قوية، لأول مرة تصيح:


ـ السقوط لا.. لا السقوط ..لا..لا


آخرون غير الأول والثاني والثالث:


ـ سقوط


"كلاورا" تهرب بعيدا، الأرجل منها تتثاقل ، الأقدام مرسومة بلون الارتعاشة، وتصيح من جديد:


ـ اليوم لم ينتهي بعد، لن ينتهي.


صارت تجري ، جري أقوى، لونها المترقب، وفي الضفة الأخرى أوراق تميل ، تتمايل، أخيرا تنفست الصعداء.


لا مكان من جديد، الزمن يحمل لونا، آخرون غائبون ، لوحدها تحترق، الأوراق مازالت تميل لتصل إلى يديها، الكل يتمايل ، الصبية "كلاروا" والأوراق.


احدهم على شرفة ذلك المكان مازال يصف.


ـ واحد ..اثنان.. ثلاث..


نزع الحذاء من الجسد، أراد أن يبقى صامتا في غيابه الطويل، الصبية لن تغيب، بدأت تلتقط أوراقا، ورقة من هنا، وأخرى من هناك، الأنامل ترتعش، بدأت من جديد تجر التربة بالأنامل.


اللون بدا يضيع ، لم تكن تعرف أنها ترسم قرية ..أطفال يطوفون ، "كلاورا" تحمل ثوبا ابيض، لا مكان لارتعاشة أخرى وتصيح:


ـ من يرسم صورتي ؟


أحدهم :


ـ لا سقوط


آخر :


ـ وجه بلا سقوط.


سمع في ذلك المكان صوت غريب.


من شرفة ذلك الحلم يسقط احدهم جسده لا يتحرك ، أعماق"كلاورا" هنا عادت من هناك، المكان يعود، عقارب الساعة الموضوعة على الطاولة في مكانها المتروك. الجفون لم تعد مسدلة ..


تضحك "كلاورا" ، فكرت مليا، لم تكن إلا مهلة في سهو الطفولة، تستيقظ وقت الغروب.


تصيح الأم :


ـ نوم الغروب، لون يختلط بالمكان.


إدريس الجرماطي