المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رحيل الفنان التشكيلي شريف محرم



طارق شفيق حقي
22/01/2009, 11:47 AM
شريف محرم.. فنان غيبه الموت وسيبقى في الذاكرة


حلب
فنون تشكيلية
الخميس15-1-2009
ابراهيم داود
كما يبتلع الليل ضياء الشمس الغاربة ، اختطف الموت زميلا فنانا تشكيليا كان مبدعا ولكن الموت الذي غيب جسده سيكون أعجز من أن يتمكن من انتزاع ذكراه وتغييبها عن نفوس وقلوب الذين عرفوه شخصيا أو اطلعوا على إنتاجه الإبداعي واعجبوا به وتواصلوا معه


فلقد خسرت الأوساط الفنية والثقافية الفنان شريف محرم بعد معاناة طويلة مع شلل نصفي لم يمنعه من مواصلة الإنتاج والعرض حتى في أصعب الحالات المرضية، حيث أقام مجموعة واسعة من المعارض الفردية في سورية وخارجها .‏‏‏
لقد دمج الفنان محرم في أعماله ما بين عوالم الهندسيات واللمسة العفوية والتكوينات التكعيبية، التي اتبعت إيقاعات الأشكال الإنسانية والمعمارية وغيرها. وبالتالي جمع ما بين البنائية العقلانية والبحث عن عفوية لونية مفتوحة على حركة العواطف والانفعالات لما تحويه من تلقائية وارتجال يقطف المناخات اللونية والمفردات التشكيلية الحديثة والمعاصرة.‏‏‏‏
وهذا يعني أن لوحاته كشفت عن تنويعات تجاربه تجاوزت في أحيان كثيرة المؤشرات الواقعية في اتجاه العمق الآخر للعناصر عبر التأكيد على مظاهر الألوان القاتمة التي شكلت اللون العفوي الذي يعطي اللوحة وبشكل دائم الهاجس التعبيري العاطفي لمنطلقات الصياغة اللونية الزاهية والتأليف الحديث.‏‏‏‏
كان آخر لقاء لنا مع الصديق الفنان الراحل شريف محرم قبل أيام قليلة من وفاته وكأنما شاء القدر أن تتاح لنا فرصة لوداعه وخاصة مع بعض من أصدقائه الذين أخذوا معه الصور التذكارية أما اللقاء المطول فكان عندما دعيت لمرسمه قبل إقامة معرضه الأخير بأيام أي قبل وفاته بأكثر من شهر وكان يحدثني عن بحثه وتحضيراته للمعارض القادمة في تركيا ودمشق وأعماله التي هي معنى جديد للمساحة التشكيلية المرتبطة بجذوره التراثية وكانت المصادفة أن سجلت له بعضاً من حديثه حيث قال حينها :‏‏‏
.... ثم بدأت بالكتابة على اللوحات بشيء من الأشعار ومن الكتاب المقدس وكل ما يخطر ببالي من حوارات بيني وبين الأصدقاء وبيني وبين اللون وبيني وبين النافذة كأني أقول صباح اللون ومساءاته لكل الشرفات المطلة على زمني لكني أرجع وأقول أحياناً حين تخطر على بالي في بعض اللوحات أمشي حاملا ثقافتي على ظهري كالثمل ربما تقودني إلى يابسة العين أو إلى محطات تتوالى في قلبي ساحات وساحات يزينها طين والطين والتبن ورائحة الخبز المحترقة من التنانير فهذه عبارة سطرتها في لوحتي وهي قد فتحت أمامي آفاق الريف من جديد وأنا لا أنسى أن أمي قد ولدتني في الحقل وهي تعمل وليس كالأطفال البرجوازيين في الشواهق العالية فأنا لم أولد على قطن أو شاش بل لامس الشوك والحصى والتراب جسدي حين ولدت، ربما هذا خلق بداخلي شيئاً من القسوة ولا أنسى مطلقا الطفل شريف محرم وهو يركض في شوارع قريته حافي القدمين يتعثر بحجر ثم يقفز ويقفز حتى يستند إلى حائط ويرش على جرحه بدل المطهرات التراب حتى يتوقف الدم . وحين جئت المدينة كنت حافياً وزرت الشواهق العالية في العالم طبعا وجدت الصالات والبارات قد أقفلت وصارت مرتعاً للعناكب وأحفاد تشرشل في الاتفاقات السرية ..‏‏‏
فأنا أزين على لوحتي وما زلت حافي القدمين أمشي على بياض لوحتي أزين مكان خطواتي التي سأرحل من خلالها إلى العالم الآخر والآخرين ... فأنا أعيش في محراب حزن واحتراق ... إن الماضي يتجذر في عملي فلا أستطيع بدونه أني أعيش تلوث المدينة ويجب أن أحافظ على محرابي نظيفاً من الاتساخ وربما صلواتي في اللوحة تكون هي احتراق كامل قد أكون في ذلك أشبه نفسي بالفحم الذي تتراكم عليه الصخور والتراب ومع عوامل الزمن يتحول إلى ذرة نادرة في الطبيعة هي الماس وأنا أشبه الفحم في كل حالاته أي احتراق الذات من أجل الجوهر تحمل كل قسوة الطبيعة حتى يتحول إلى ذرة قاسية وجميلة ونادرة كالماس ... أشبه العمل في الحياكة بالإبرة (القنويشة) فيها الطهارة .. فإنهم يحيكون ببساطتهم وبصبر جميل ألا ترى يا صديقي بأن العمل في لوحاتي يشبه ذلك العمل وإذا ما وصلت إلى تلك المرحلة فيكون قد وصلت إلى الطهارة وطهارة النفس وهذا ما أريد أن أقوله في النهاية في العمل للآخرين في زمن رديء وأنا البريء بحضارته ... ففي كل مقطع من اللوحة توجد قصة فنرى المدينة ونرى الريف في العمل الواحد.. وفي العمل نرى معالجة التقانة والمهارة في اللون والخط فهناك أربعون عاماً من التجربة ..‏‏‏
ويتابع الفنان شريف عن اللوحة الكاملة بقوله : إن الكمال لله وإنما أردنا إيصال الهدف وهناك تفرد بالتقنية وطبيعة العمل أو التفرد بالعمل حيث إذا ما شاهدنا عملاً نقول إن هذا العمل لوحة شريف محرم.‏‏‏
رحل أبو نور ولكن رحيله في الحقيقة كان خطيا من النوع الذي يزيد مرور الزمن بالإحساس بفداحته وستفتقد الساحة الفنية التشكيلية العربية والمحلية برحيله فنانا كان يستحق أكثر بكثير مما نال في حياته التي كانت أحد نماذج العطاء الإبداعي‏‏‏
أسكن الفقيد جنات الله التي وسعت رحمته كل شيء.‏‏‏

جريدة الجماهير