المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رسائل في الظلام قصة قصيرة



خالد القيسي
30/12/2005, 06:23 PM
رسائل في الظلام

قصة خالد القيسي

طلبت أن نتحلق طاولةً تعودنا تنا وُلَ الطعامِ عليها حتى أصبحَ تلقيداً راسخاً كلما سنحت لذلك فرصة, ولكن دعوتهادعوتها هذه المرة لم تكن لوجبةٍ انتظرناها منذ ان شعرنا بالجوع بل لحديثٍ قد ينسيتا إياه , تدافعنا حول الأشلاء المتبيقة من شيئٍ ما زلنا نطلق عليه لقب طاولة.

قَهَرنا ضحكاتنا و قَهرَنا بعدما فرضت علينا سيدة المكان الصمت َ والحركة, لتبدأ حديثها باتسامةٍ رسمت على ثغرها قسراً علَّها تسينا الجوعَ ووالدي الذي لا يعود إلا ونحن نيام .

تجَولَت في عيوننا فقرأت أشياءً لم تفضل قرائتها لنا وأنزلت رأسها ثم حدَّقت بشمعةٍ تتوسطنا والطاولة ,آملةً ان لا نلمحَ ما لا تريدُ أن تبوح به عيناها, ورحنا نحدق بها تارةً وبالشمعةِ تارةً أخرى , فكان الصمت سيداً لولا أن اخترقه صوت أخي الأصغرعندما باغتها بسؤالهِ

- ما الذي يجبركِ عليه ؟

ارتعدت المسكينة وحاولت أن تظهر لنا عدم معرفتها عما يسأل الشقي الصغير ، رافضة أن تسلم أنه إستطاع قرائة ما حاولت تعتيمه بإبتسامتها الضبابية وأيقنت أننا نقرأ لغتها بإحتراف لاكنها أصرت على عدم الانسحاب وإستدركت

- عم تسأل يا ولدي فظل الشقي أن يلعب لعبتها فأجابها

- عن اللذي زرع فينا الخوف من الباب ؟

- أتقصد ذئب قصة الأمس ؟

إبتسم الصغير وقرر الاستمرار لنهاية لا يعرفها ولاكن بطريقة الورق المكشوف

- لا ... أسأل عن والدي ؟

- وما به والدك يا بني ؟!

استمر الشقي في لعبته لما لم يُحضِر لنا طعام العشاء ولم لم يدفع فاتورة الكهرباء و...

- لكنه سيدفع " قاطعته أمي "

- ولكنه ...

- "قاطعته أمي مرة أخرى "

- والدك ينتظره مستقبل عظيم وسيصبح أديباً كبيراً وسيصنع لكم مستقبلا واعدا ًو ...

- وهل ...؟

- نعم سيدفع كل شيء فاتورة الكهرباء وإيجار الـ .....

- وهل ...

"قاطعها مرة أخرى "

وباغتت طرقات الباب الاثنين في لحظة لم يتوقعانها فأجبر الشقي على التوقف, إرتعدت أمي محاولة الوقوف ، فإستدارة حول نفسها فدرنا وجدران الغرفة حولنا وعندما توقفنا عن الدوران أشارة لنا أن نسأل من بالباب وبدأنا بإستخدام لغة الاشارة وكل من يحاول الرفض، هي بحجة أنها ترتدي ملابس لا يجوز أن يراها الى والدي ، ونحن رفضنا خوفاً من الذئب ومن دائنين تعودنا الكذب عليهم كل مرة .

ساد الصمت وظلامٌ حاول أن يخترقه ما تبقى من ضوء شمعة شارفت على الانتهاء وطرقات الباب الخجولة ، وبعد جهد ليس باليسير سمعنا صوتاً خافتاً يناديني وأخي فعرفناه ، إنه والدي , لقد كسر القاعدة وعاد قبل أن يتغلب النعاس على جفوننا الذابلة, رتبت أمي شعرها بيديها وكادت قطرات الفرح أن تقفز من وجنتيها المحمرتين ، أما أنا وأخي فدفعنا الارض الى الخلف بقوة لنجد أنفسنا أمام الباب بسرعة ، تشابكة أيدينا على زلاجة تغلق في وجهنا الطريق الى الدنيا ، وعمت الفوضى التي أشعلتها ضحكاتنا وأوامر أمي لنا بالهدوء خشية الجيران ، فتح الباب وداهمت أضواء الشارع ظلمتنا فرسمت في الافق القريب ظلال رجل تلتهب من خلفه أنوار المدينة .

قفزنا في الهواء لنجدنا في أحضانه أعلى من إطار الباب وأكتاف أمي العالية متكئين على راحتين لفتانا بحنان ، وأطلقنا من أفواهنا قبلات لها صوت حبات المطر درسناها على كل مكان في وجنتيه وكافئنا هو بالمثل .

أغلق الباب خلفه وتقدم نحو أمي التي أعطته العافية " كما قالت " ، وأنزلنا من الاعالي الى حضيض الغرفة في لحظة ماتت فيها شمعتنا ، ساد الظلام وراح بريقُ عينيهما يكتب بينهما رسائل أنستهما ظلمة المكان وعتاب الجوع في أحشائنا الخاوية الى من الالم .

فشلت كل المحاولات بإيجاد بديل للشمعة التي ذابت في ظلمة غرفتنا كالسكر المسفوح في فنجان شاي والدي الصباحي .

سأل عن شمعة أخرى عله يرى وجوهنا قبل أن تستسلم للنوم ولأشياء أخرى ، فأخبرته أمي أن شمعتنا البائدة هي آخر ما تبقى من إثنتين سجلتا على حسابنا في اللوح المحفوظ من كتاب المدينين عند صاحب البقالة الذي أخبرنا أن صفحتنا عنده باتت سوداء ولولا خوفه من ضلمة القبر لأبقانا في ضلمة غرفتنا هذه الليلة .
تنهد والدي وقال أنها ستفرج في القريب وغداً ستكون البداية بإفتتاح موسم سيقطره كبار الكتاب والنقاد والادباء والفنانين ... وإذا ما توفق في عرض مجموعاتنا سيصبح مشهوراً "كما قال " وأردف أنه من الممكن أن تكتب عنه الصحافة فيتعاقد مع إحدى الشركات أو دور النشر ليحصل على مال قد يكون وفيراً وسيعوضنا عن صبرنا وجوعنا " أيضاً كما قال " .
وإستطرد أنه سيقدم أدبه في أعظم منبر ثقافي في المدينة الفاضلة وأن من سيقدمه للجماهير صاحب القلم الرفيع والمواقف الشجاعة والكلمة الحرة الذي أبدى تفائلاً عظيماً بأعمالنا الرائعة ، وكمكافئة لنا على صمتنا وعدم طلبنا وجبة العشاء قررا أن يصطحبنا معه الى امسيته في مركز المدينة وأخيراً طلب من النوم مبكراً لنحظر أنفسنا في الصباح ليوم سيكتبه التاريخ .

نُيِّمْنا في الزاوية المخصصة وغُطْينا بغطاء أعدته جدتي في زفاف ابنتها المدللة التي أصبحت فيما بعد أمي على الشاب المهذب الذي أصبح فيما بعد والدي .

اغمضنا جفوننا لننام ففتحة في أذهاننا صور المستقبل العظيم والفرح القادم في الصباح ليرفعنا ووالدي الى العلا ، رأينا الاضواء والصالات الواسعة والجماهير تصفق حتى أننا رأينا العقد الموقع مع كبرى دور النشر لطباعة مليون نسخة من أدبه الفريد .
ودفعة واحدةً تلاشى كل شيء عندما فُتِحت عيوننا في عين الشمس المتسللة عبر الشباك الوحيد في غرفتنا البائسة لتوقظنا من حلم تمنيت أن لا تجبرني أشعت شمس الصباح على فقدانه .
نظرت في وجه شقيقي وجلست أتفقد المكان فكان والدي يشد حزام حذائه ووالدتي تطرد بقايا ماء هرب الى الارضية من حوض الاستحمام ، إنتبهت لنا فأماطت لثام شفتيها الورديتين وظهرت غمازات الفرح على خديها وأشارت له بأننا أفقنا من سباتنا ، فإبتسم الآخر ورحب بنا كأمراء عادوا من سفر بعيد .
سألته أن كان ما زال موافقاً على إصطحابنا في يومه العظيم فوجدته ما زال على وعده لنا حسب إتفاقنا في الليل ، وقال لنا أنه يتفائل بوجوهنا وأنه يريدنا أن نكون من كبار أدباء المستقبل بحجة أننا نمتلك كل عناصر المعاناة وما علينا الى اختيار القالب الادبي الذي سنبدع فيه .
غُسَِلتْ وجُوهنا وسُرح شعرنا والبستنا والدتي ثيابنا الانيقة التي أرسلها لنا أحد الميسورين ليلة العيد قبل الماضي .

خلتني شخص آخر في المرآة عندما نظرت إلي بعد كل هذه الحفلة من النظافة والثياب الانيقة التي لا تخرج من" النملية " الا في الأعياد والمناسبات الغالية ، وكما يوم العيد تناول والدي كوب الشاي واقفاً وطلب من تناول الثريد المبلل بقطرات شايٍ يقطر عسلاً كشفاه أمي الوردية .

أنهينا المهمة بسرعةٍ كما طلب ودون أن تتسخ ثيابنا ووقفنا ننتظره حتى أفرغ كوبه الساخن بسرعةٍ فائقةٍ ، تأبط أوراقه وإحتضنت راحتيه أكفنا الصغيرة وخرجنا الى عالم ما بعد الباب .
أما الانثى الوحيدة فتركناها تنجز ما يجب عليها إنجازه بين الجدران الاربعة بعدما قرأت علينا المسكينة تعاويذها وأودعتنا السلامة وأودعة والدي شيئاً سمعنا صوته كحبات المطر من خلف الباب نصف المغلق ليخرج علينا وحو يمسح عن فتيه شيئاً قد يكون بقايا الشاي؟ أو لقمة من ثريد ؟!

أشارت لنا من خلف الباب الذي أغلق قبل أن ننطلق مسرعين للخروج من حينا خوفاً من أعين الحاسدين كما أفهمتنا أمنا ,فوصلنا الشارع الكبير ذا البنايات الشاهقة والشبابيك الواسعة التي يدخل منها الهواء والمحال التي تعرض على أبوبها أشياء أجمل من تلك التي رأيتها بالأمس .
نظرت الى والدي فكان أضخم العمارة المجاورة وأعلى من أعمدت الانارة البعيدة وكأن المطر بلل جبينه ووصل السيل الى أيدينا الصغيرة وراح يعرفنا على الاماكن التي نمر بها بصوت كاد يذوب في مزيج أبواق السيارات وأصوات الباعة .

خرجنا من عباب ذاك الشارع الى آخر أصغر منه ثم الى آخر أصغر حتى خلت أننا خرجنا من المدينة وكان لا بد من السؤال إن كنا خرجنا منها فعلاً فأجاب بالنفي فسألته

- الى أين نحن ذاهبون ؟

- الى المركز العظيم حيث ينتظرنا عشاق الثقافة وكبار الادباء

فسألته بصيغة يغلب عليها الرجاء وظهر فيها تعبي

- اليس مركزك في البنايات الضخمة التي تركناها خلفنا ؟

- لا

- أين إذاً ؟

- لقد أصيح قريباً من هنا

- ولكننا في حي لا يختلف عن ذلك الذي نسكن فيه

وتوقفنا على باب بيت كبيت جدي فأخبرنا أننا وصلنا مرادنا وقرأت لوحة مكتوبة بخط والدي تعرف بالمكان ، تأملته ... لم يكن كصورة الامس فلاحظ والدي خيبة رسمت على وجوهنا فطأطأنا رؤوسنا خشية أن نغضبه ، ودخلنا من الباب الكبير لنجدنا في ساحة صف بها عدد من الكراسي وفي المقدمة وُضِعت طاولة وكرسيان بجوارها عرفنا أن أحدهما له .

لم يركض أحد علينا ولم يقطع أحدهم حديثه ليرحب بنا ولم تحضر الجماهير التي رأيتها بالأمس وما هي الى لحظات حتى أجلسنا في الصف الاخير من الساحة وطلب من أن لا نتحرك من أماكننا حتى لو بقيت الصفوف الامامية فارغة وأسرع ليعتلي صهوة كرسيه بجانب زميله النحيف المختلف عن صورة الامس هو الآخر .

وبدءآ يتحدثان بلغة المذياع التي لا أفهمها ولم أدر لم كان يعبس تارة ويبتسم تارة أخرى ؟ ولم كان يحرك يديه في كل الاتجاهات ؟ وأخيرا صفقت له كما الجميع ونزل عن صهوة كرسيه وراح يحدث الجميع والضحكات ترتسم على وجهه فعلاً .

تحلق الحضور في دائرة كبيرة وراح أحدهم بتوزيع أطباق من الحلوى طالما وعدنا بها ، وما رأيتني مسروراً كما كنت عندما قدم لي أحدهم طبقاً كغيري بلا مماطلة ولا وعود .

وأخيراً تذكرنا والدي بعد رحيل الاغلبية وتقدم نحوي مبتسما ًقائلاً

- ما رأيك بوالدك الآن ؟

فقلت له وأنا التهم ما تبقى من طبقي

لقد كنت شرهاً حتى أنني خشيت عليك من مرض السكر ؟؟؟!!!!|

عأعين الحاسدين كما أفهمتنا أمنا









جميع حقوق الطبع والإقتباس محفوظة