المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الملعون قصة قصيرة



خالد القيسي
30/12/2005, 06:17 PM
دلف إلى مكتبنا مُكفَهِر الوجه متأبطاً دفترهُ تحتَ معطفهِ الاسود , بدى " شارلوكهولمز" قاطباً حاجبيه , وسيجارته تأن من قبضة أصابعه المصفرةَ من أثارِ التبغ , يجر قدماه بِخُيَلاءِ المفكرين والقادة العظام, وبالكاد ترتفع أحداها عن الارض قليلاًَ حتى تتبعها الاخرى"يا أرضُ اشتدِ".

اخيراً وصل الى مكتبه المهترئ, فَتعَرقت الجدرانُ خجلاً ونَشَرَتْ رطوبتهاَ التي أسقطت الدهان ,وتصاعَدَت في أذني هُجَينِيَةَ أمي الساخره عندما كنت أعود اليها بما لا يرضها .


جتنا يا" النحله "تجر الثوب

تمشي على نويعم الريش.



إنتبه لوجودي ومن بعيد تمتم بصوت خافتٍ ليجهدني في إدراك ما يقول , فساعدتني نَمطيتهُ وتَذَكُري صباحاته السابقهَ فَرددتُ التحيةَ بِمثلها , متشاغلاً بوريقاتٍ أمامي لكي لا يلاحظ مراقبتي الخفيه لسكناته , فيقيم الدنيا ولا يقعدها لاسيما أنه مُتأبطٌ دفتره نذير الشؤم لكل مرؤوسيه.



أطفأ سيجارتهُ ونفثَ سحابةً كثيفةً من جوفهِ ليزيد من ضبابيةِ المكان,جلس الى الطاولةِ المسكينه , فتح أحدى الادراج مخرجاً زجاجة عطر ثمنها ضعف راتبه الشهري وراح ينفث منها الشذى.

إسترقت النظر اليه دون أن أنْبَسَ ببنت شفه, متسائلاً من أين لك هذا..؟؟



وبعد تغلب الشذى على التبغ أيقنت أنه حصل عليها من تلك الفتاه المغناج التي طلبت مني شهادة زور, وإعارتها ضميري لساعةٍ واحدةٍ أمام المدير العام , الذي إستجوبها عن مغادرتها المتكررة دون أعذار ومع أناسٍ كثر بأوقات الدوام ..؟؟



- لابد أنه قام بالمهمة , ولكني أعرفه صاحب مبدأ ومواقفه في ساحات الوغي لاتنسى" كما كان يدّعي " حتى أنه قام بالإجهاز على أجازاتي السنويه والعرضيه والمرضيه وليعوض وصولي المتأخر عن الدوام خمسة أوعشرة دقائق كل يوم .



يبدو انني أضلمه كثيراً , استعذت من الشيطان الرجيم الذي يوسوسُ لي شراً باتجاه زميلي الذي لا يبتعد عني بضع خطوات , لعنت نفسي الاْماره بالسوء ووضعت الوريقاتِ أمامي .

بينما اعاد زميلي زجاجة العطر الى درج مكتبه فبادرت متسائلاً كيف أُصبح ؟ وكيف أمسى؟؟...



فَتحتُ بتسائلاتي صندوق العجب !! فراح يحدثني عن مساءه الجميل وثروته الفاحشة التي وصلت اليه إرثاً من سلالته العريقه!! وأنه في عملهِ هذا المكتب المنسي بدا بدائرتنا المنسيه إنما هو فقط من أجل الخدمه العامه والعداله الاجتماعيه وحقوق الانسان!! وأن وجوده بجانبي إنما هو فقط حتى يشعر بالتساوي بالقيم البشريه مع الأوادِم في جُزر

الباو باو...!!!!!!!!!!!! .



لعنت نفسي من جديد على هذه العلقه التي لا أدري كيف الخلاص منها , تذكرت فوراً أن السكوت من ذهب ولكن بعد فوات الأوان !؟.



- قررت أن أضع حداً لحديثه فأبديت أعجابي بالشذى الذي نشره في أجوائنا .

ليخبرني أنها هدية زوجته له في عيد زواجه منها بعدما حضرا من عاصمة الاناقه الفرنسيه وانفلت عقال لسانه يصف لي قصر"الإليزيه" , وبرج" أيفل "ومتحف "اللوفر" الذي زاره في شهر عسله الميمون يرفقه صاحبه الصوف والعفاف والرقه وا........



-استتفهتُ نفسي من جديد ولعنت يوماً ولدت فيه لإسرةٍ فقيرة ,وقررت أن ألوذَ ُ إلى صمتي حتى ينهي ما بجعبتهِ , فلا بُدَّ من نهاية.



قَلَّبتُ اوراقي وبدأتُ العمل على تصويب اخطاءه الإملائيه التي حفظتها عن ظهر قلب فقد أصبح بينناً "عِشرَهْ عُمُرْ".



وراحَ يتابعني محذراً إياي من الأخطاءِالتي قد تخالف التعليمات المنَزَلَةَ علينا من الإدارة العُليا ومصادر أُخرى , ساكباً في أُذني كُلَ النصائحِ والتوجيهاتِ , وكان عليَّ أن أبدو نظامياً, أحترمُ المَرجِعِيات وأن أكون مُتواطئِاً على غير سجيَتي, كيفَ لا وأنا المُحتاجُ لهذا الطبل حتى يوافق على منحي أحد حقوقي والتي لا بدَ أن يُوَشَحَ بموافقتهِِ !



شجعني عَزفُهُ على وتر القانون والتعليمات والإنضباط على المبُادرةِ في الحصولَ على إجازةٍ لمدةِ يومٍ واحدٍ لزيارة جدَّتي التي تأجلَ موتها مراتٍ حتى تكتحلَ عيناها بمرآي , وحرصت أن أكون صادقأً بعدما وَقَرَ في نفسي من نيةٍ للإنضباط , فالأجواء مواتيةٌ والإنظمة المتكوبةُ والتعليمات تفرش أمامي بساطاً أخضراً نحو التغيير, وها هوَ صديقي يعزفُ الألحانَ النظاميةَوعطَرَ الأجواءَ بالتعليمات !, وهو الراعي لسيادة القانون في هذا الجزء المنسي من العالم .



سحَبتُ ورَقَةً وكتبتُ بأَفضلَ ما وُهبتُ من موهبةٍ في الصياغةِ التخطيط استرحامي" لجلالة قدره" بالوافقة على منحي إجازةً ليومٍ واحدٍ أمضي جُلّ َساعاتهِ إما منتظراً لحافلةٍ تقلُني وإما في ثرثراتِ المسافرينَ التافهةَ التي لا تدعُ كبيرةً ولا صغيرةً , لاجدني سياسياً تارةً ومُحللااستراتجياً طوراً آخر, ولكن لا بأس إن كنتُ في النهايةِ سأُكَحِلُ بم يتبقى لديَ من ساعاتٍ عينانِ تنتظران رحمةَ السماءِ .



كتبتُ ما يَجب عليَّ كتابتهُ في طلبي مستمطرأً كلَ عباراتِ التفخيمِ والتبجيل لراعي التعليمات " جلّ َقدرة"وكاد الورقُ يبكي على الحالةِ الإنسانية التي أُعاني والتي أَجبرتني على طلب الإجازة .



طبعتُ إسمي المشئوم نهاية الصفحة ,خربشتُ توقيعي , تقدمتُ منهُ ,ووضعتُ طلبي أمامهُ مُطأطِئاً رأسي قائلاً:

- لو سمحت يا أستاذ .

- ماهذا؟

- طلب إجازة ليومٍ واحد.

- ومن قال لك أن الوضع الفني للدائرة يسمح لك بساعة واحدة ؟

- ولكنه حقي يا أستاذ

تغير ملامح وجههِ وقال بحدة:

- ُ الحق في هذه الدائرةُ يمنحْ ولايُنتَزَع يا أُستاذ .

- ولكن زميلتنا

جُن جنونهُ ولم يرغب في إكمالي عبارتي ليقول:

- ما بها زميلتك؟

-العفو يا أُستاذ فلم يتشرف مكتبنا بأنوارها منذ أكثر من شهر!.

- ولكنك تعرفُ أن حالتها النفسيةَ ...

فأيقنتُ أن " ريما ما زالت على عاداتها القديمة" فأجبتهُ بأنني فعلاً بحاجةٍ ماسة لهذ اليوم لكنهُ أصرَّ على موقفهِ برفض طلبي فكان لزاماً عليَّ العودةَ الى عاداتي القديمةِ أيضاً.

فهدأت من نبرتي معتذراً:

- العفو يا بيك لم أكن قاصداً , وهي تقرأك السلام .

إنفرج قليلا وتابع:

-وأين رأيتها؟

وكان لابد من المضي قُدُماً

- لقد قابلتني صدفةً ودعتني لإحتساء فنجانِ قهوة.

- وذهبتْ؟

- نعم.



صعِقَ الرجل وحملَقَ في الأفق حتى الزاوية المعتمة من المكتب, هزَّ رأسهُ وانبجستْ شفتاه بابتسامةٍ أبانت أسنانهُ , سحب قلمهُ من جيبهِ وهو يقول :

-أما كنت تخبرني من البدايةِ يا ملعونْ.

خربشَ الموافقة , فسحبتُ إجازتي تاركاً صديقي وحيداً يضرِبُ أخماسً بأسداس .



وقلت له وأنا خارجٌ من المكتب

:- نسيت .











جميع حقوق الطبع محفوظة للكاتب خالد القيسي

25/12/2005م

طارق شفيق حقي
30/12/2005, 10:10 PM
سلام الله عليك أهلا بالأستاذ خالد القيسي في منتدى المربد مربد الحرف
نسعد بكل حرف جديد فالحرف في وقتنا غدا واجباً مقدساً

مبدئيا هنا الترحيب السريع
والأجمل هو العودة للابداع فالحرف دواء القلوب

لك من أجمل التحيات تفيد وتسفيد

خالد القيسي
30/12/2005, 10:49 PM
وعليك السلام أستاذ طارق

ولك مني كل ود وبانتظار مداخلاتك بين نبض حروفي
تحياتي

جميل بثينة
31/12/2005, 09:20 AM
قصة جميلة النهاية هي الأجمل
الحوار رغم قصره كان معبرا شكرا للقاص

طارق شفيق حقي
01/01/2006, 12:03 AM
قاص بامتياز

سلام الله عليك وهذه عودتنا الثانية
لغة رشيقة ووصف جميل
قصة متكاملة العناصر القصصية وقد اتت القفلة أو نقطة التنوير جميلة نوعا ما وربما تحمل سخرية رمادية
القصة تكشف عورة ظهرت في خلق هدف القصة المظلوم كثيراً صاحب العطر الجميل
الحوار جميل رغم أنه يصور لغة أعتقد انها مضت في عصرنا أقصد هذا التسلط ومصادرة التعبير ربما لا زال بعضها لكن هي سمة تتسم بها فترة من تاريخ بلادنا ككل

أجاد القاص عرض المنلوج الداخلي في أول القصة والذي يجذب كل من يسكنه مثل هذا الحوار الداخلي اذا كان الحدث مشابها


بكل الأحوال سرني هذا القلم المميز
أستاذ القيسي المربد يفخر بقلمك الجميل القوي وفكرك
أهلا بك تضيف لبنة فنية فكرية اليه يا مرحبا مرة أخرى
__________________