المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بنية القصيدة "مديح من أهوى " للشاعر:محمد عمران (1من 2)



صلاح الحسن
29/12/2005, 07:28 AM
مدخل : " مديح من أهوى " المجموعة الشعرية الأخيرة لمحمد عمران , ونقرأ فيها : مدار بديعة , وجه ريم , مديح من أهوى , كائن الشعر الذي اسمه أنا ( سيرة ذاتية ) , رباعيات الصباح , شجرة التكوين , قصيدة لم تتم (مشروع سيرة ذاتية ) , حيث خطفه الموت قبل أن يتمّها . والمجوعة صدرت عام 1998 عن وزارة الثقافة بعد وفاة الشاعر , ويتجه عمران فيها نحو الصوفية , ونجد في قصائده كثيراً من مفردات المتصوفة , و مصطلحاتهم , وطقوسهم : كالجوهر , والتجلّي , والدف , والبخور , وتنفتح نصوصه على الكون والحياة , وتدور مواضيعه حول المرأة , والحب , والطبيعة . وفي هذا الاتجاه نحو الصوفية , يعبر عمران عن موقفه من الواقع , والفساد , والخراب , فيمجّد الحب , ويرفع الأنقاض عن الأشياء الجميلة ليباركها , وتغدو المرأة في هذه المرحلة النواة المركزية لعالمه المنشود , عالم التصوف والمثال , والمحور الرئيسي في قصائده . وهي امرأة واحدة , و تعدّد أسمائِها ( ريم , وبديعة , ومريم ) , يعني أنها لا تحمل اسماً محدداً , بل هي في كل الأسماء , جسدُها محراب روحها , وما كان جسداً , بل كوكباً , أو مداراً , أو حديقة , أو نهراً لا ينضب وله ضفتان من نور , وهي موجودة في كل الأمكنة والأزمنة.
وتغتني المجموعة بالثنائيات , وتتضح شاعرية عمران من خلال قدرته على تهميش الفارق بين هذه الثنائيات , التي تتداخل , وتتحاور , دون أن تتصارع بشكل ضدي . (1)
وتقوم قصيدة عمران في هذه المجموعة على عناصرَ فنيةٍ مختلفة أهمها: التكرار , التناص , الصورة التركيبية, العناصر القصصيّة , التنقل النصي . وأذكرها هنا دون أن أغلّب عنصراً على آخر , لأنها ساهمت – في رأيي – مجتمعة , وبنسب متفاوتة , في بناء قصيدته :
1 - التكرار: التكرار ظاهرة ملحوظة في بنية القصيدة الحديثة , ويستخدمه الشعراء باطّراد , وتنبع أهمية التكرار من قدرة الشاعر على استخدامه فنياً , كي لا يغــدو ترديداً مملاً , ويأخذ التكرار أهميته الفنية في شعر محمد عمران من قدرته على بث الحركة في القصيدة , وأخذها من زاوية إلى أخرى , بما تنسجم مع الثنائيات التي تقوم عليها قصيدته , يقول في قصيدة " مدار بديعة" :
لفضاء وجه بديعةَ
اشتعلت فراشات القصيدةِ
في مرايا الأطلسيّ (2)
هذه اللازمة التي افتتح بها هذا النشيد؛ ليختتمه بها , ولكن بعد أن يغير فيها تغييراً يبدو بسيطاً في ظاهره :
لفضاء وجه بديعةَ
احترقت فراشات القصيدةِ
في مرايا الأطلسيّ (3)
فالقصيدة تبدأ باشتعال الفراشات , وتنتهي باحتراقها, وبين الاشتعال والاحتراق , يتحرك النص تراجيدياً على ثنائيات روح بديعة , وجسدها(المقدسين) , غيابها , وحضورها , خفائها , وتجليها
وفي قصيدة " وجه ريم " يكرر عبارة: توقف .. فثمة ظلٌّ لريمْ , أكثر من مرة , محافظاً على العبارة نفسها :
إذا ما مررتَ بحبة قمح ٍ تغني
وحبة رمل تصلي
توقفْ
فثمة ظلٌّ لريمْ
وإن كنتَ تطفو على خمرة مثقله
وغاص بك الحزنُ , وانقضّت الأسئله
وحاصر حوتٌ زوارقك المنزله
فلاح على الليل شطٌ يتيمْ
توقفْ..
فثمة ظلٌ لريمْ (4)
إنه يبحث عن ريم , ويعرف أ نها موجودة في كل مكان , لكنه لا يقف إلا على ظلالها , ولكن لابد أن تتجلى , وتظهر كالآلهة , وهنا تتبدل كلمة وجه بظلّ :
وإن هزّ قرنيه ثور السماء الذي يحمل الأرضَ , فاختلَّ ميزانها
فتدلتْ على كفة مدنُ , وعلى كفةٍ أممٌ
وتأرجحت الكائناتُ , وداختْ , وتم التصدّع في الكونِ والزلزله
وتمتْ ألوهية القنبله
وفي هذه البلبله
تجلى على الأفق وجه إله قديمْ
توقفْ
فثمة وجه لريمْ (5)
هذا التبدل الذي أصاب كلمة في العبارة المكررة , جعل المعنى يتحول وينقلب من الظل إلى الوجه , ومن الحقيقة إلى الخيال . ومن خلال هذين المثالين نستطيع القول: إن التكرار لدى الشاعر وظيفي , يحمل سمة التغير , ويبتعد عن الرتابة , ويساهم في التعبير عن الحالات المختلفة التي يعيشها.
2 - التناص: التناص عملية معقدة , تقوم على التفاعل بين نص وآخر , وتعبر عن أرقى مظاهر علاقة الشعر(ولاسيما الحديث) بالثقافة , ومن هنا تصبح شيئاً لازماً , وقد يكون اعتباطياً , غير مقصود , وغير ظاهر , وقد يكون قصدياً , يصدر عن وعي الشاعر حين يدخل في معارضة مع النص الآخر . (6)
وينتمي التناص في هذه المجموعة إلى القسم الأول فهو اعتباطي , لا تتم ملاحظته بسهولة , ولكن بقليل من إنعام النظر , استطعنا أن نقف لديه على تناصات مختلفة , كالتناص الديني , والتناص مع الموروث الشعبي , تناص الشاعر مع نفسه, أما ما يتعلق بالأسطورة فقد تضاءل في هذه المجموعة حتى كاد يختفي , وسنقف في السطور التالية على هذه التناصات واحدة , واحدة:
أ - التناص الديني : تنفتح نصوص هذه المجموعة على النصوص الدينية , الإسلامية والمسيحية , على شكل عبارات تنفلت من لاوعي الشاعر , وتندس في قصائده , وهي سمة لشعر عمران في مرحلته الأخيرة , يقول في قصيدة " مدار بديعة ":
أنا في مدار بديعة ارتفع الحجابُ
أرى قباب النور دانية القطوفْ
وأرى سماءً من أريج الشعرِ ترفل بالجلال الأنثويْ
وأرى بديعة تستوي شمساً على عرش القصيدة (7)
وهذا يحيلنا إلى قوله تعالى : ( في جنة عالية * قطوفها دانية)(8) , وإلى قوله تعالى : (الرحمن على العرش استوى) (9) , ويظهر التناص الديني في استعارة عبارات الحمد والتمجيد التي يرددها المؤمنون , المسيحيون والمسلمون, في صلواتهم , من ذلك قوله في قصيدة " مديح من أهوى " :
الحمد للشعر استعنتُ بوجهه فأعانني
في وحشة الصمت الجريحِ
وهدى خطا قلبي إليك , حبيبتي
فأظلت النعمى يدي (10)
أما الصلوات المسيحية , ماورد في نفس القصيدة:
المجد للأنثى , لما تخفي , وما تبدي الأنوثة من ظهوراتٍ ,
وتحتضن الأنوثة من جذورْ
المجد للدفء المقدس في خلاياها , وللماء الطهورْ (11)
وفي هذا الاستخدام يقترب النص من الصلاة الربية (12) ,التي تقوم على تقديس الرب بعبارة (المجد لله في الأعالي ) , أو السلام المريمي كما في قصيدة " قصيدة لم تتم " :
السلام عليها إذن حين تصحو
السلام عليها
السلام عليها
والسلام على غرفة لم تمتْ (13)
ونقف أخيراً في التناص الديني على التناص مع القصة الدينية , من ذلك قوله في " قصيدة كائن الشعر الذي اسمه أنا" وهي قصيدة النثر الوحيدة في هذه المجموعة , وفيها يستلهم قصة بلقيس وسليمان والصرح:
تقدمي إلى عرشك على ذهب القصيدة
وكشفت عن ساقيها
فصاح الكائن: إنه صرح من الدموع والصلوات (14)
ب - التناص مع الموروث الشعبي : كذلك لن نعدم في هذه المجموعة تناصات جزئية مع الموروث الشعبي , يقول في قصيدة " شجرة التكوين ":
يعلق قرطين تعويذتين على أذنيها
وعقدين في عنقها من محار الغجرْ (15)
وهو هنا يتكئ على العادة الاجتماعية المعروفة , حيث تعلق الأم الرقى والتعاويذ في عنق طفلها ,لتمنع عنه العين والحسد , وما حال الشاعر مع حبيبته إلا كهذه الحالة.
أما ما ذكرته قبل قليل حول التناص الأسطوري , فقد جعلته يدخل ضمن الموروث الشعبي , حين تتعامل الشعوب مع روح الأسطورة , التي تنتقل (شفاهياً) من جيل إلى آخر , حتى تصل إلى الشاعر, وتدخل في قصيدته " وجه ريم " :
وإن هزّ قرنيه ثور السماء الذي يحمل الأرضَ , فاختلَّ ميزانها
فتدلتْ على كفة مدنُ , وعلى كفةٍ أممٌ
وتأرجحت الكائناتُ , وداختْ , وتم التصدّع في الكونِ والزلزله (16)
حيث كانت الشعوب تلجأ إلى الغيبيات في تفسير الظواهر الكونية , والحكاية تقول : يحمل الأرض ثور ضخم على قرنيه , وكلما تعب حولها من قرن إلى آخر فتحدث الزلازل .
ج - تناص عمران مع نفسه: هو تناص غير قصدي لكنه يستدعي في ذاكرة القارئ الخبير نصوصه الأخرى , وكي نبتعد عن المغالاة والإطالة , نذكر ماقاله في " رباعيات الصباح " :
قل للطريق : انفرش ذهباً وقصائدَ
هذي البهيةُ آتية من جهات الطقولةِ ,
قل للطريق : ابتعدْ إن شمس الزنابقِ والقبراتْ
من تجيُ الصباح بأبهة النورِ , في يدها أفق من نباتْ (17)
وهي العبارة التي تذهب بنا إلى قصيدة " أفق من نبات " في مجموعته المشهورة (باسم الماء والهواء) :
هذا إذن أفق النباتْ
فجر من الأشجار متشح الذرى بالقبرات الخضرِ
مشتعل الأصابع بالصلاةْ (18)
ليبقى النص أخير سلسلة من العلاقات مع نصوص أخرى (19)
يتبع