المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة / السقوط المعلق



بنور عائشة
13/11/2008, 07:04 PM
ـــــــــــــــ السقوط المعلـق ـــــــــــــــــــ

بقلم / بنور عائشــة ( عائشة بنت المعمورة)



تسللت "سمية" إلى فراشها وإحساسها بالخطوات تصعد الدرج خطوة.. خطوة تكسر ظلمة المكان الصامت... المريب... بعدما تاهت في القرية الصغيرة التي تتقاطع فيها البيوت البعيـدة عن بعضها البعض.. كانت تحلم أن تصرخ في وجوههـم قائلـة:
ـ أريد أحلاماً كبلتها عيونكم وخنقتهـا أفكاركم وطوَّقتها عاداتكم؟ لكن كل مرة كانت تمشي نفس الطريق دون التفاتة.. تكابر في تحد عيوناً تحاول أن تسرق منها نظرة..ابتسامة..
لم تجهل قيمة العلم ولكن جهلت جهلهم للعلم، وراحت تشرّع الأبواب الموصدة أمامها.. مرة بالهروب ومرة بالتحايل ومرة بالبكاء كطفل يسرقون منه لعبه.
كانت هكذا تبكي لأنهم أرادوا أن يسلبوها عقلها.. فبكت !!
كانت آخر المحاولات أن تبكي على أحلامها المقيدة، فرضـت عليها الإقامة الجبرية وكل مـرة كانت تتحجج بالشهادات الطبية وبضعة نقود تشتري بها ضمير طبيب لأن أخلاقه ماتت كضميره؟!
شعـرت وقتهـا أن قناعتها تفوق طموحاتها وأحلامها، وتتوق إلى ما هو أكبر من ذاتها وعقلها؟!
وأن لا تسرق منها أنفاسها ولا يسرق منها ضميرها أمام بضعة نقود؟!
كانت تبكي ألماً وحرقة وهي تحاول أن تفهم "فاطمة" أن لا تتخلى عن دراستها وتثابـر ولا تخشى السياط وتنهزم أمام عجرفة أخيها وصمت والدها وبكاء أمهـا وخوف إخوتها…
يمر الليل البهيم كصمتها الدامي وتسري قشعريرة في جسدها النحيل، فتخترق قلبها سهام الخيانـة.. تقف أمام الحدس مذهولة.. تصافح وجهها الحنون قهقهـات خبيثة وعبثية كلام معسول ونظرات شفقـة وإذلال منها..
انتبهت فجأة أن الحقيقة انجلت أمامها، وأنها مجرد صورة للموناليـزا اختزلت الحياة كلها في ابتسامة، علقت على الجدار للزينة وأن لا تباع في المزاد..
فتحــت الرسالة وعيناها تلاحق الكلمات بحسرة، تقرأ… وتقرأ.. ثم رحلت بمخيلتهـا إلى اللحظات الأولى عندما رأته.. حاولت أن لا تداري نظراتها نحوه.. حددت ملامح وجهه وحروف عينيه، لم تبتسم بل حدقت فيه قاطعــة كل الأزمنة الماضية في لحظة هو أمامهــا.
لم تتمكــن من أن تنبس شفتاها بكلمة، كل الذي أدركته أنه ليس من زمنها وليس من عمـــرها.. ثم طأطأت الرأس غير مبالية.. تحدق في الغـرفة الضيقة والأسوار التي تطبق على مخيلتها كي لا تهرب مرة ثانية إلى فضاء التفكير وأن مجرد إخفاء الحقيقة هو عجز وقصور أمام الذات اللاواعيـة فيستبعد الحلـم باشمئـزاز يمنعها من أن تنفــذ إلى اللذة التي أخرجتها عن حالتهـا الطبيعية ولم تدركها إلا عند إحساسها بالألم، لم يخطـر ببالها أن تفصـــل لحظة هيجانها الصامت وتشتد وطأته فتتضخم الأحلام أمامهــا لتدرك أنها تحمل الرسالة بين يديها.. ثم تقرأ مـا كتبت له يومًا…
في البدء جاءني الارتباك ولم أعثر على الكلمات التي يمكن أن أكتبها، ورحت أفتش في ذاتي عن حرائق موجعة أحاول تضميدها.. فقد انكوت في لحظات انسحاب بدخان سجائرك التي تخنقني حد الغثيان..
أخذت موعداً لألقاك وروحي ترفرف بين جوانحي مزهوة بطقوس العشق والأحلام.. مازلت أذكر في أحلامي أنك جالس على مكتبك وتنفث دخاناً يملأ الغرفـة ضباباً كثيفاً.. رحت ألملم شتات عمري الباقي في، وانتفضت في وجهك كمن ضاع منه ظله في دوائر دخانك الذي أرعشني وأحسست بالضياع فيه.
شعرت بالخيبة وهي تتملكني أمام انهزامك ببساطة عند سيجارة قذرة تسكنك.. تحتوي روحك.. تلهث بأنفاس متقطعة.. تحاول أن تهرب من لحظاتك الروتينية.
فاجأني عنادك وأنت تشتري جنون لحظة بمنطق جديد.. أرفضه بداخلي وأختصر التناقض في الاعتذار.
لم يكـن من السهل تلقين الكلمات،و لم يكن من السهل محو الألم.. لكـن بتلقائية حزينة شئت أن أروض الاعتراض دون مكابـرة ودموع الأسى تخنقني، واحتقر انفعالي..
ما قيمة الأشياء حينما نفتقدها؟!
يضحكني الذي يحدث أمام هذا السقوط المعلق وتعلقي بالانهزام المدمر، ومحاولة استعادة توازني في لحظات دهشتي واستغرابي.
تبعثرت أنا.. وشعرت برغبة قوية في صفعك لتستفيق من غفوتك.. اكتشفت منفاي فيك وسجني الذي أعوض فيه خيباتي الراكضة في انهزام جراحي والتي تشبهني حد الألم..
أخفيت أسئلتي التي كبلتني وعُدت أفتش عني فيك وأتأمل بتنهيدة أرجعتني إلى ساعة الاعتذار، وتذكرت حينما قلت لك لحظتها.. أعتذر..
كـانت هذه آخر الورقــات عندي أسقطها أمامك.. أعتذر.. فلقد كان يلزمني الكثير من الصمت والقليل من الكلام معك.. لأعيد ترتيب أشيائي وأزيح عنها بقايا العمر الذابل المتجدد فيكَ؟!!
لم أجرؤ على إعادة المحاولة أو فتح الملفات العقيمة التي أصابتني بالدوار، وغيَّرت مجرى حياتي وتركتني فريسة خيانة الأفكار..
هل يمكن أن أغفر لك جنونك، وتسقـــط أمام بوحي لأمتلكـك من جديد.. وقد تفتقد امتلاكي بلذة، لأنني اختفيت وراء ذاكــرتي واختبأت خلف حماقاتي..
ليس ثمة أشياء بيننا نتقاسمها، أو نصارع من أجلها ونخضع بعضنا لها.. سوى الحب…
كانت هذه الرسالة الوحيدة التي بقيت عند "سمية" مخبأة بين طيات ملابسها.. تعيد قراءتها كلمـا أحست بالحنـين إليه وإلى ذكراه…
ـ تواصل القراءة بحسرة تملأ جوانحها..
مشفقة عليك هي أيامك التي تحترق في قذارة سيجارتك.. تنفث عبر شرايينك، اعتقدت أن منطقك هذه المرة غلبني فطالما كنت أحترم عقلك ومبادئك.. ولكن هذه المـرة فقط خذلتني أفكـاري وصار المنطق عندك ينتهي ضد المنطق.. قد تشتري كل شيء بمالك.. عيونهن ولحظة جنون ليلي.. قد تشتري الأجساد العارية والابتسامات المارقة، قد تشتري الأحلام والسعادة العابرة، لكن هيهات أن تشتري الحب؟
كنت تمتـلك أنفاسي وأحلام الطفولة وبعض حماقاتي.. كنت أشعر بالأمان وأتحمل مسؤولياتي بجنون الحب وقوة استسلامي، وكان حتفي قــذارة سيجارة تتفوهها عند كـل شهقة، فأشفق على منطق أيامك الجديد..
ثم تبحر في فضاء أفكارها مرددة…
ـ كنت مجردة من أنا.. أنا كنت وحدي مسافرة في رحلة متعبـة، مدركة يقيناً أنها لا تحتمل، لكن مشيت إليها حباً وكرهاً...
طوت "سمية" الرسالة.. ثم راحت تمزقها قطعة.. قطعة.. فتحت النافذة ورمت بها في الفضاء الرحـب،و هي تراقبها في هدوء تام والوريقات ترتفع وترتفع مع النسمات الباردة التي تعبث بها وترسلها بعيـداً..

عبد المنعم جبر عيسي
16/11/2008, 01:33 PM
استاذة بنور ..
تحية ابداع تتجدد
تحملين معاناة المرأة علي كاهلك .. وأكاد أجزم بأنك تعيشين هم بطلاتك لحظة بلحظة .. تبدعين وأنت تكتبين عنهن .. وتتعذبين أيضا بعذابهن .
وتصرخين بكل قوتك فينا محذرة .. ومطالبة .. ومنبهة .. لوحات فنية غاية في الروعة ، مفعمة بالشفافية .
لعلها عبقرية الأديب المبدع عندما تصدق كلمته .. أو هو جمال القاص عندما يري بعيني خياله ما لا يراه الناس .. يعايش واقعه ويسعي لتغيير سلبياته والإرتقاء بقضايا أبناء جنسه .
ولكن لدي شعور أرجو أن لا يصدق معك .. أعتقد أن القارئ يحسه بأعمالك ، وأرجو أن تنتبهي له .. يتلخص في أنك لا تكتبين بحيادية ، وهو أمر يجب عليك المسارعة بالتخلص منه ، لأنه لو لم يقتلك حزنك فسوف تستنزفين طاقاتك الإبداعية خلال قدر محدود من الأعمال .. أيضا لا يجب أن لا يشعر القارئ بوجود عداء مع الرجل ، حتي لا تفقدين جمهورك من الرجال ، فتفقدين بالتالي قدرتك علي التأثير فيهم لتحقيق رسالتك بالتغيير .
وأرجو أن لا تنسي أن رأيي هذا خطأ يحتمل الصواب ، وليس العكس .
تحياتي وتقديري لقلم يمتعني كثيرا .

بنور عائشة
21/11/2008, 11:48 AM
تحية طيبـة ....................

أخي عبد المنعم شكرا لك على هذه الطلة الجميلة التي سكنت وأبحرت بعمق بين ثنايا الكلمات و لا يبدو لي أنني ممن يرفعن الشعارات لمجرد الشعارات ولا أتحامل على الرجل حتى هو يعلم الله ما يعانيه ..ولكن للأسف قصصي من رحم مآسي تؤلمني بوجـــــــــــــع كبير وأتأثـــــــــــر لها لليالي وأيام مما تتعبني الكتابة فيها وشخصياتي أكثــــر وقد وضعت يدك على الجرح .........
لأن الواقع أكبر مما نكتب ؟

على كل حال ماذا لو قرأت روايتي " اعترافات امـــــــــــرأة " الفائزة مؤخرا بجائزة نعمان الأدبية فقد تسقط أو تغير رأيك ومن ثمة تدرك جيدا أن الكتابة عن الانسانية ومعاناتها أمر فضيع ..فضيع جدا ........حتى الرجل في روايتي القادمة سقوط فارس الأحلام لها رؤية أخـــــــــرى بانتظار ذلك
دمت قارئا وفيــــــــــا ذو بصيرة ثاقبة .


ولك قراءة أخرى بعين أخرى في قصة // أنيــــــــن عاشقة //


دمت أخي الكريم .

محمدذيب علي بكار
21/11/2008, 12:19 PM
الأخت الأديبة القاصة بنورعائشة
انه ليس سقوط انه النهوض من الكبوة بعد ان تلاشى مع بقاي الورق الممزق والمتطاير
هذا الصراع مع الذات والذكريات هو استجماع قوة للنهوض والبدء من جديد
نص في غية الجمال من حيث اللغة والاسلوب حتى في بعض الاحيان تشعر انك تقرأ شعرا
ونفس طويل وايقاع متناغم يدل على حرفيه عالية


دمت مبدعة وأقبلي مروري المتواضع
أخوك محمد

بنور عائشة
03/12/2008, 03:42 PM
تحية طيبة ...........


ـــ يسعـــــدني هذا المرور الجميل وما أسعدني أكثر هذا الاحساس العميق بالقصة الذي يشعرني بالفعل أنه هنـــاك رؤى قد تختلف ولكنها تصب في الأعمــاق الإنسانية ..

ــ تميز وروح إبداعية عالية للغايـــة ...


دمتم بكل فخر قراء مميزين جــــدا ...


بالتوفيق ..........

أحمد غانم عبد الجليل
30/12/2008, 03:24 PM
الأديبة القديرة بنور عائشة ...
بلغة أدبية محترفة, تحاكي الشعر في بعض أجزائها تعمقت القصة في مشاعر إمرأة تعاني من الخيبة و التسلط, من قبل المجتمع الذكوري الضيق الذي تعيش فيه بقيمه و أفكاره الجامدة, و من ناحية أخرى من قبل الرجل الذي أحبته و جعلته أملا للتغيير, فإذا بها تدور في حلقة مفرغة من المتناقضات ..

خالص تحياتي