المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عيسى العوام



عبد المنعم جبر عيسي
09/11/2008, 06:23 PM
إنه بطل مسلم ، أدي واجبه كاملا تجاه دينه ووطنه ، فكان من المؤمنين المخلصين ؛ الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، وقام بدوره علي الوجه الأكمل ، حتي قضي نحبه بطلا شجاعا ، لن يري الناس له مثيلا !

آمن بأن الحق والعدل لا يهزمان ، وإن قوي الشر والظلم في مواجهتهما ، أو حاصرهما بعض الوقت ، أو انتصر عليهما في بضع جولات .. وعمل طوال حياته في خدمة الحق ورعايته ونصرته ، وبذل في سبيله كل غال ونفيس ؛ يمكنه امتلاكه .
لبي نداء الإسلام عندما دعاه ، لعلمه التام بأن الجهاد هو ذروة سنامه ، فجاهد في سبيل الله بكل قوته ، مناصرا للدين ومعليا كلمته ، وإن واجهته في سبيل ذلك الصعاب والشدائد .
كان ذلك في عام ٥٨٧ ه ، عندما حاصر الصليبيون مدينة ( عكا ) العربية المسلمة ، وضيقوا عليها الخناق برا وبحرا ، حتي زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، لولا أن قيض الله لتلك اللحظات المريرة رجلا غير كل الرجال ، كان قدر المسؤولية فتحملها بصبر ، بعد أن باع نفسه وماله لله رب العالمين .
فقد كان الناس في المدينة المحاصرة ، بحاجة إلي المال لكي يتقووا به علي العدو ، بشراء السلاح والطعام والمؤن ، وبحاجة أيضا إلي الرسائل التي تطمئنهم علي قوة الجيش الإسلامي ، الذي يقوده البطل ( صلاح الدين الأيوبي ) ، في مواجهة المعتدي الغاشم .. حتي يكون كل ذلك دافعا لهم في الإستماتة ومقاومة العدو .
وحار المسلمون في الطريقة التي تمكنهم من ايصال المال والرسائل ؛ إلي الأهالي المحاصرين في مدينة ( عكا ) لكنهم لم يجدوا غير طريق البحر لتنفيذ ذلك .. بعد أن أحكم العدو حصاره البري علي المدينة ، بطريقة تجعل من المستحيل علي أي انسان الوصول إلي المدينة ، دون أن يعترضه جنودهم .
لذلك لم يجد القائد ( صلاح الدين الأيوبي ) غير البحر سبيلا ، لإيصال المال والرسائل إلي المدينة المحاصرة .. فراح يفتش بعينيه الخبيرتين بين رجاله ، باحثا عن بطل ؛ يمكنه اختراق سفن العدو ، للقيام بهذه المهمة .
هنا فقط .. ظهر البطل ..
كان سباحا ماهرا اسمه ( عيسي ) .
لم يكن له في زمانه مثيل ..
لقد برع ذلك العوام في السباحة والغوص ، بشكل فاق جميع أقرانه .. فتطوع ذلك البطل مشكورا ؛ للقيام بتوصيل الأموال والكتب إلي أبطال ( عكا ) .. عندما عرف حاجة المسلمين هناك إلي هذا العمل العظيم .
لكن المسلمين أشفقوا عليه من تلك المهمة التي تبدو مستحيلة .
غير أن المؤمن المخلص والمجاهد الحق ؛ لا يبالي بالصعاب ولا يهتم بالشدائد ، لا يخاف المحن مهما عظمت واشتدت ، لأنه كما قلنا : باع نفسه وما يملك لله ، فلا بأس بعد ذلك بما يحدث ، لأنه ثمن ضئيل جدا في مقابل سلعة غالية ونعيم مقيم دائم .
وفي لمح البصر وضع ( عيسي ) خطته ..
رسم فيها كيف يمكنه عبور البحر ، من بين مراكب العدو الرابضة في المياه من حول المدينة .. ليصل بالمال والكتب إلي رجالها الأبطال ، ويطمئنهم إلي قوة الجيش الإسلامي وقرب انتصاره ، حتي يكون ذلك دافعا لهم علي مواصلة القتال والصمود في وجه عدوهم الغادر .
* * * * *
وسرعان ما بدأ ( عيسي العوام ) أولي مغامراته ..
فقام علي الفور بربط أكياس المال وأوراق الرسائل إلي وسطه ، بعد أن غطاهما بطبقة رقيقة من الشمع ، حتي يمنع تسرب الماء إليهما .. وعندما حل الظلام ، قفز في الماء وراح يسبح فوق سطحه بكل قوة ونشاط ، حتي لاحت أضواء المدينة المحاصرة من بعد .. وبدت له أيضا سفن الأعداء .. ككيان خال من الرحمة .. وعندما وجد عيسي نفسه بين تلك السفن ، بدأ يغوص تحت سطح الماء ، بإتجاه شاطئ مدينة ( عكا ) ، كغواصة عجيبة الشكل فولاذية التكوين ، لا تبالي بالمخاطر ولا تأبه بالأعداء المتربصين بها في كل شبر من المياه .. كان يغوص تحت الماء بعض الوقت ، ثم يخرج الي السطح في هدوء وحذر للحظات ، ليلتقط الأنفاس ويطمئن علي خط سيره ، ثم يواصل غوصه وسباحته بإتجاه الشاطئ .
ظل ( عيسي ) علي حالته تلك حتي بلغ الميناء ، بعد طول مشقة وعناء .. فاستقبله الأهالي بفرح وسرور ، وتبدل حزنهم فرحا وقلقهم طمأنينة وأمنا ، بعد أن تأكدوا من أن النصر آت قريب .
وفي سرعة ؛ سلم ( عيسي العوام ) ما يحمل من مال ورسائل ؛ إلي قادة المسلمين في ( عكا ) ، الذين أعجبوا به وبشجاعته النادرة .. ثم عاد بنفس طريقته في السباحة والغوص ، فكان ذلك مما عظم من شأنه بين قادته ورفاقه المقاتلين .
ومرت الأيام ..
تفوق ( عيسي ) خلالها علي نفسه ، بشكل أدهش قادة الجيش المعادي ، وألقي بالشك والحيرة في قلوبهم ، إذ رأوا من أهالي المدينة صمودا أكثر ومقاومة أشد .. بعد أن صور لهم خيالهم المريض ؛ قرب استسلامهم أمام قوة جيوشهم !
ومن عجائب ذلك العوام ( عيسي ) أنه تصادق مع طائر جميل ، كان يرافقه في سباحته إلي مدينة ( عكا ) ، حتي إذا وصل إلي أهلها المنتظرين في شغف ، عاد هو إلي قيادة الجيش ، فيطمئن المسلمون بذلك إلي أن ( عيسي ) وصل سالما ، وإلي أنه سوف يعود في وقت قريب !
* * * * *
جن جنون العدو الصليبي ، فلم يكونوا يتوقعون أن يطول حصارهم للمدينة كل هذا الوقت ، ولا يبدو هناك أمل في استسلامها في وقت قريب .. وفي عجلة : جمع قائد الجيش الصليبي قواده للتشاور في الأمر .. قال القائد :
- لقد حيرني هؤلاء المسلمون في أمري .. تصورنا أن ( عكا ) لن تصمد في وجوهنا اسبوعا .. فها هي تقاوم كل هذه المدة الطويلة !
جاء صوت قائد حاد المزاج :
- بل وخسرنا العشرات من أشجع فرساننا في مناوشاتهم لنا !
وقال قائد آخر بدت الكآبة شديدة علي وجهه :
- إنهم يقاتلوننا بكل قوة وثبات .. غير مبالين بكثرة عددنا وقوة عتادنا !
أجابه آخر وهو يرقب اللاشئ من الهواء :
- أمرهم عجيب هؤلاء المسلمون !
بينما جاء صوت قائد الجيش حانقا :
- من المؤكد أن ( صلاح الدين ) قد توصل إلي طريقة ما ؛ تمكنه من إيصال المال والمؤن إلي أهالي ( عكا ) المحاصرين .. ما هي تلك الطريقة ؟ أيمكن لأحدكم أن يخبرني ؟!
لم يجب أحد القادة بحرف .. بل صمتوا في خزي واضح .. فجاء صوت القائد أشد غضبا :
- تكلموا !
ثم صمت للحظات قبل أن يضيف بحسرة :
- لا بد أن نتعرف علي تلك القوة التي تمد المدينة المحاصرة بالمال والمؤن !
حلق الصمت فوق الرؤوس ، بدت الوجوه عابسة واجمة ، وهي تحمل هم هزيمة ثقيلة ، ارتسمت بقوة فوق الملامح الشاحبة .. صرخ فيهم قائد الجيش بحقد :
- هل تفهمون ؟!
دقائق ثقيلة مضت .. انصرف القادة خلالها وبقي قائد الجيش وحيدا ..
حزينا ..
يعض أنيابه من الغيظ ..
( قل موتوا بغيظكم ... )
* * * * *
في احدي الليالي المظلمة ، تجهز ( عيسي العوام كعادته ، بعد أن ثبت الأموال والرسائل في وسطه ، بنفس طريقته الفريدة التي تعود عليها ، ثم سبح في قوة ونشاط باتجاه ميناء ( عكا )
لمح مراكب العدو عن بعد ، وقد وقفت ساكنة ذليلة .. بدأ في التخفيف من وطأة ضرباته ، عندما اقترب منها .. ثم غاص تحت الماء باتجاه الميناء ، وبعد مدة خرج إلي سطح الماء ليجدد الهواء في رئتيه .. ثم .. و..
آن للفارس العظيم أن يبلغ هدفه ، الذي أنفق كل سنوات عمره بحثا عنه وسعيا إليه ..
آن للمجاهد أن ينال الثمرة الرائعة .. ثمرة جده واجتهاده ..
الشهادة ..
وما أعظمها من ثمرة تستحق ما ينفق في سبيلها .. وما يبذل من أجل الوصول اليها ..
كانت مفاجأة تدهش القلوب والأبصار ..
جندي صليبي بدا متيقظا فوق سطح مركبه .. أحس بحركة غير عادية في المياه .. دقق النظر .. كأنه رجل تنفس بسرعة ثم غاص إلي الأعماق ..
أيمكن لرجل واحد ؛ أن يقوم بذلك العمل الكبير ..
لم يستطع عقل الجندي الصليبي أن يستوعب كل هذا التساؤل .. لكنه أسرع الخطي في نفس الإتجاه الذي غاص فيه ( عيسي ) .. أمسك بقوسه وقد جهزه بسهم ، أحس به يخرج إلي السطح بعد دقائق قليلة .. حدد هدفه بكل دقة ثم أطق سهمه بكل عنف بإتجاه مصدر الصوت .. و..
سمع صوت آهة جاهد صاحبها كثيرا لكي يكتمها .. أطمئن بذلك بأنه أصاب هدفه تماما .. أسرع إلي قائده ليقول بفرح :
- قتلت مسلما الآن حاول الوصول إلي الميناء .
فقال القائد بصوت يفيض سخرية :
- أتراه من ساعد أهالي المدينة علي الصمود كل هذا الوقت ؟
أحس الجندي بما في حديث مولاه من سخرية .. فانصرف من أمام سيده وقد صدمته كلماته .. في نفس اللحظات كان ( عيسي العوام ) يواجه موقفا صعبا ، بعد أن نزف الكثير من دمه ، بدأ يترنح في سباحته .. ضعفت ضرباته .. ولم يكن أمامه من سبيل إلا مواصلة السباحة باتجاه الميناء حتي يؤدي أمانته ويوصل رسالته ، ققد كان هذا هو ما يشغله .. وما يؤرقه ..
وواصل ( عيسي ) سباحته ، ولكن كان هذه المرة إلي طريق مختلف .. إلي روضات الجنات .. حيث النعيم المقيم والزهر اليانع .. لينعم بإذن الله تعالي بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر ..
وانتظر الجيش الإسلامي عودة ( عيسي ) كعادته في كل مرة ..
وطال انتظاره هذه المرة .. حتي صديقه الطائر الجميل .. الذي تصادق معه ( عيسي ) ، لم يرجع إلي معسكرات الجيش ، ليطمئنهم إلي قرب عودته ..
لذلك أحس المسلمون بالخوف عليه ، وبدأ القلق يتسرب إلي نفوسهم من أجله ..
ومرت أيام ..
تأكدوا بعدها أن أمرا خطيرا داهمه .
وفي تلك اللحظات بالضبط .. كان حراس الميناء في ( عكا ) يقومون بانتشال جثة لرجل يعرفونه جيدا .. بعد أن قذفته الأمواج إلي الساحل .
كان هو .. نفس البطل ..
( عيسي العوام ) ..
وجدوه بكامل عدته .. حول وسطه الحزام المغطي بالشمع .. فكوه بسرعة .. وجدوا به المال الذي تعود أن يزودهم به ، كذلك وجدوا الرسائل ، التي كتبها لهم ( صلاح الدين ) يحثهم فيها علي مواصلة القتال والصمود والصبر .. يدعوهم إلي المقاومة حتي آخر رمق .. وينبئهم بإنتصاراته علي العدو في شتي الميادين .. ويعدهم بقرب الخلاص من المعتدي الآثم ..
أطمئنت نفوس الأهالي وإن حزنوا للبطل .. الذي وجدوا فيه قدوة صالحة .. بعد أن أدي واجبه ميتا .. تماما كما كان يقوم به وهو حي يرزق .. عجبوا له أكثر من حزنهم عليه .. وكان ذلك دافعا لهم في المقاومة .. فاستبسلوا في الدفاع عن مدينتهم .