المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نابليون بونابرت .. أسيرا !



عبد المنعم جبر عيسي
19/10/2008, 02:39 PM
ما بين يومي ١١ يونيو و١٨ ديسمبر من عام ١٨١٢ م ، كانت بداية النهاية للامبراطور ( نابليون بونابرت ) ، وهي تلك الفترة التي قضاها ؛ ما بين خروجه من ميناء ( دانتزج ) ، علي رأس جيشه الضخم المكون من أربعمائة وعشرين ألف رجل ، قاصدا غزو روسيا .. وما بين عودته سرا إلي قصر ( التويلري ) بباريس .
كانت فترة عصيبة ، عاني خلالها ( نابليون ) مع جيشه ؛ وبرغم أنه لم يدخل حربا بمعناها المعروف إلا أنه فقد الآلاف المؤلفة من جيشه ، راحوا ضحايا الجوع والعطش والبرد والقتل علي أيدي رجال حرب العصابات الروسيين ، الذين اعتمدوا في قتالهم للأمبراطور علي استراتيجية جديدة وغريبة ، تعتمد علي الحرق والتدمير وجره إلي السفر بجيشه الجرار لمسافات شاسعة ، في ظل ظروف جوية ومناخية قاسية ، بشكل لم تعرفه الحروب العسكرية من قبل ، أفقدت الأمبراطور عبقريته العسكرية التي عرفت عنه .
وكانت تلك الإستراتيجية - التي اعتمدها قيصر روسيا - تتلخص بكل بساطة في الإنسحاب الدائم أمامه ، وتدمير القري والمدن التي يتم الإنسحاب منها ، وكذا تدمير وحرق كافة صور الحياة علي وجه الأرض ، لحرمانه من التذود بالمؤن أو الراحة ، ثم استخدام أساليب جديدة في الهجوم علي جيشه ، بواسطة فرق صغيرة العدد خفيفة الحركة ، حرمت الجنود وقادتهم طعم النوم ، أو الاحساس بالراحة .. فتجمعت كل تلك العوامل ، لتهزم الأمبراطور !
وتحالف الأعداء مع غدر الخصوم السياسيين ، لتهزم ( نابليون ) من جديد في ( واترلو ) .. التي أفل فيها نجمه إلي الأبد ، وعاد محطما إلي ( باريس ) ، التي ساد فيها الفزع والهلع ، بعد أن وصلتها الأخبار بتقدم جيوش التحالف المعادية نحوها بقيادة القائدين ( بلوخر ) و ( ولنجتون ) .. وعبثا حاول الأمبراطور اقناع مجلسي ( النواب ) و ( الشيوخ ) الفرنسيين ؛ بتجهيز حملة جديدة لإنقاذ الوطن ، حيث رأي أن الجيوش المعادية يتقدم في سرعة وبغير نظام باتجاه العاصمة ، ومن السهل علي أي جيش منظم هزيمتهما .. لكن المجلسين رفضا طلبه وقررا اقالته ، استجابة لطلبات خصومه السياسيين ، الذين روجوا أن ( نابليون بونابرت ) هو أس الفساد ، وأن الحرب القائمة أعلنها الحلفاء ضد هذا الرجل وليس ضد فرنسا ، مطالبين بنبذه حتي يجنبوا البلاد حربا طاحنة ؛ غير مضمونة العواقب .
لكن الأمر العجيب ، أنه كان بإمكان ( نابليون بونابرت ) حل المجلسين والتخلص من مضايقات أعضائهما إلي الأبد ، لكنه قال كلمته الشهيرة :
- لن أضحي بفرنسي واحد في سبيل تحقيق مطامعي !
وهكذا انقضي يوم ٢١ يونيو عام ١٨١٥ م في مناقشات حادة بمجلسي البرلمان والحكومة الفرنسيتن ، ولم تنم ( باريس ) تلك الليلة ، بل اشتعلت شوارعها بالمظاهرات الشعبية الحماسية ، لتطالب بحماية الأمبراطور المحبوب ، لكن تلك المظاهرات لم تكن لتفعل شيئا ، أمام اصرار نواب الشعب علي عزله وابعاده عن سدة الحكم نهائيا .
واستجاب الأمبراطور لرغبة النواب ، وقرر التنازل عن العرش - لصالح ابنه ( نابليون الثاني ) - ووضع نفسه تحت تصرف عدالة القانون الإنجليزي ، وأرسل رسالة الي الملك ( جورج الرابع ) ملك انجلترا ، يعرض فيها عليه انهاء حياته السياسية ، والحياة في بريطانيا أو الولايات المتحدة كأي مواطن عادي ، رغبة منه في تجنب سفك المزيد من الدماء .. ثم سلم الأمبراطور نفسه إلي البارجة البريطانية ( بليروفون ) التي استقبله طاقمها بحفاوة بالغة ، تليق بمكانته كمحارب شجاع .. وأقلعت البارجة باتجاه الشواطئ الإنجليزية .
وكان استقبال الشعب الأنجليزي للأمبراطور المهزوم حافلا ، في كل الموانئ الانجليزية التي وصلت اليها البارجة ، حيث كانت الجماهير الغفيرة تخرج إلي كل ميناء يصل إليه ( نابليون ) لرؤيتة والتلويح له وتحيته ، ولكن قرار الملك ( جورج الرابع ) جاء مخيبا لآمال الجميع .. فقد قرر بعد مناقشات مع حلفائه نفي الأمبراطور المهزوم إلي جزيرة ( سانت هيلانه ) ، لمنعه من القيام في المستقبل بأي عمل ، يؤثر علي السلم والامن الدوليين .. وأسقط في يد الأمبراطور ، فما كانت صحته لتتحمل جو الجزيرة شديد الحرارة ، واحتج ( نابليون ) بشدة علي هذا القرار ، مناشدا الشرف الأنجليري أن يعيد النظر في أمره ، بصفته محاربا نبيلا .. حارب انجلترا عشرين عاما ، ثم وضع نفسه تحت تصرف قانونها العادل ، وأنه قدم إلي بلادهم طواعية كضيف وليس كأسير حرب .
لكن احتجاجه هذا ذهب أدراج الرياح ، فما كانت الحكومة البريطانية لتلتفت إليه أو تعيره أدني اهتمام ، أمام اصرار قادة التحالف علي معاقبة الرجل ، بل كلفت السير ( جورج كوكبورن ) باصطحاب الأمبراطور في رحلته إلي الجزيرة ، وتم التنبيه عليه مشددا أن ينادي ( نابليون ) بلقب جنرال وليس ( امبراطور ) أو ( مولاي ) ، وتجريده من سيفه الأمبراطوري .. كما أجبر ( نابليون ) علي التخلي عن صحبة حاشيته الضخمة ، ويختار منهم طبيب واحد وأربعة ضباط واثني عشر خادما ، يعاملون جميعا كأسري حرب .
وتم اختيار السفينة الحربية ( نوتمبرلاند ) لتقل ( نابليون ) إلي منفاه النائي البعيد .. التي أقلعت في صباح يوم ٩ أعسطس عام ١٨١٥ م تحمل الأسير العظيم الذي دوخ العالم طولا وعرضا .. ومعه حاشيته الصغيرة المكونة من الكونت والكونتس ( مونتولون ) وابنهما ، والكونت والكونتس ( برتران ) وأطفالهما الثلاثة ، والبارون ( جورجود ) والكونت ( لاس كاساس ) والدكتور ( أوميرا ) .. تحرسها عشر سفن حربية انجليزية .
وبينما بدأت السفينة في التحرك ، وقف الامبراطور علي سطحها ، وراح ينظر ببصره عبر القنال الإنجليري ، عله يرقب الشاطئ الفرنسي للمرة الأخيرة في حياته ، نظر الأمبراطور في صمت وخشوع إلي تلك الأرض التي عشقها .. وحارب من أجلها .. ثم خلع قبعته وانحني للأرض النائية البعيدة ، هاتفا من أعماق فؤاده :
- وداعا فرنسا .. يا أرض الأبطال !
واضطر كل من رآه إلي مشاطرته حزنه ووداعه لأرضه الغالية .. ووطنه العزيز ، فسرعان ما خلعوا قبعاتهم هم أيضا وانحنوا محيين تلك الأرض التي عشقها الأمبراطور الأسير !

عبدو عمر
21/10/2008, 09:34 AM
السلام عليكم
شكرا على المعلومات القيمة
تقبل مروري البسيط
عبدو عمر

عبد المنعم جبر عيسي
22/10/2008, 04:20 PM
كانت لحظات الفراق مريرة .. نجح الأمبراطور في تجاوزها بسرعة ، بعد أن لمس في الحاضرين مشاطرة لحزنه ووداعه المؤثر لوطنه الغالي .. فسرعان ما شمخ برأسه إلي السماء ، ومضي في هدوء وثبات إلي قمرته ليجلس وحيدا ..
وبدأ يمضي وقته - خلال الرحلة - إلي المنفي ؛ بين القراءة وتجاذب أطراف الحديث ؛ مع من يختاره من أفراد حاشيته ؛ من أصدقائه المقربين إلي قلبه ، فيتحدث إليهم بكل بساطة ووضوح عن تجاربه ، وما صادفه طوال تاريخه الحافل ؛ من أفراح وأتراح وانتصارات وانكسارات ودسائس ومؤامرات .
كما كان الأمبراطور لا يتردد في مشاركة طاقم السفينة طعامهم ، أو الجلوس معهم للتحدث في أمور شتي ، والتعامل معهم برقة تنم عن شرف رفيع وأدب جم .. ولم يكن من طبعه الجلوس إلي مائدة الطعام لأكثر من عشر دقائق .. لكن هذا تغير تماما مع أول أيام الأسر ، حيث كانت جلسات الطعام مع قائد السفينة وضباطها تمتد لأكثر من ساعة أو ساعتين ، يقضيها الأمبراطور معهم بين أحاديث السمر أو الموضوعات العامة أوالمناقشات ذات الطابع الجاد ، ثم يقضي أمسيته في التمشي فوق سطح السفينة ، مع أصدقائه من أفراد حاشيته ، وعندما يتعب كان يجلس علي أحد المدافع اعتاد الجلوس عليه ، فيجتمع حوله من يأنس إليه من البحارة والضباط ، وقد تمتد تلك الجلسات لساعات .. وقد أطلق الإنجليز علي هذا المدفع - فيما بعد - اسم : ( مدفع الأمبراطور ) !
وقد بدأ الأمبراطور ( نابليون ) خلال تلك الرحلة في كتابة مذكراته .. فكان عندما يمليها علي صديقه ( لاس كاساس ) ينتصب واقفا .. ثم يذرع الغرفة ذهابا وعودة ، يروي الحوادث بكل تفاصيلها وتواريخها .. وكأنه يقرأ في كتاب مفتوح .. واستمر علي هذا الحال طوال أيام الرحلة السبعين .. حيث وصلت السفينة ( نورثمبر لاند ) إلي جزيرة ( سانت هيلانه ) مساء يوم ١٥ أكتوبر عام ١٨١٥ م .. وفي ظهر اليوم التالي ألقت السفينة مرساها في ميناء الجزيرة ، التي تبعد عن القارة الأوربية مسافة ستة آلاف ميل .
وعند عصر ذلك اليوم ، استعد الأمبراطور للنزول إلي سجنه الأبدي .. فشكر قائد السفينة علي ما لقيه من معاملة طيبة طوال أيام الرحلة .. وكان الوداع أيضا مؤثرا ، وعيون الحاضرين مغرورقة بالدموع ، والأمبراطور يهبط إلي أرض الجزيرة .. !
وكانت تلك الجزيرة عبارة عن كتلة صخرية كبيرة ، تبلغ مساحتها عشرة أميال طولا وستة أميال عرضا .. [ وصفها الأمبراطور في مذكراته بالصخرة ] يمر بها مجري مائي .. ويحيط بها سور صخري وتلال صخرية ؛ تكاد تصل إلي عنان السماء ، تعلوها المدافع بكثرة.. وليس به سوي ثلاث فتحات للدخول إلي الجزيرة أو الخروج منها .. عليها حراسة مشددة ، تجعل من المستحيل الهرب منها ..
ومشي الأمبراطور في شارع حقير من شوارع قرية ( جيمس تاون ) قاده إلي غرفة متواضعة ، تم تجهيزها لتكون مقرا لإقامتة ؛ لحين الإنتهاء من اعداد منزل آخر تقرر تجهيزه ، ولم يكن بها سوي سرير حديدي ذو مظهر بسيط عليه مرتبة ووسادة ، وفي بعض أركانها تناثرت بعض قطع الأثاث القديم ، لا تليق مطلقا بمقام الأسير ، ووقف عند بابها ونوافذها الحرس المدججون بالسلاح .
وعندما رأي الأمبراطور كل هذا ، ارتمي علي أقرب مقعد صادفه ، وراح يفكر في هدوء وحزن .. ثم رفع رأسه في أسي ؛ طالبا من المحيطين به تركه وحيدا ، وأطفأ الأنوار .. عله يجد بعض الراحة والسلوان ، في وحدته القاتلة .. وهكذا قضي الأمبراطور ليلته الأولي في المنفى!
واستيقظ في صباح اليوم التالي مبكرا .. وامتطي صهوة جواده في صحبة رفاقه .. في اتجاه قرية ( لونجوود ) ، التي تبعد نحو ثلاثة أميال من ( جيمس تاون ) ، لمعاينة المنزل الذي تعده الحكومة البريطانية ؛ ليكون سجنه الدائم .. وكانت دهشته عظيمة عندما رآه ، كان عبارة عن كوخ حقير ، استعمل فيما مضي كحظيرة للبقر ، ثم جري إعداده بشكل سريع ليكون صالحا للسكن .. حوله مساحة جرداء من الأرض يتخللها مجري مائي صغير .. ولم يكن به من ميزة ؛ إلا أنه في موقع أقل حرارة وألطف جوا ، من باقي الجزيرة !
وفي طريق العودة ، كان الأمبراطور محطم النفس كسير الفؤاد .. وأثناء عبوره منطقة ( البرير ) شاهد منزلا ريفيا صغيرا ، فأرسل من يسأل عما إذا كان بإمكانه الإقامة في هذا المنزل ، لحين الإنتهاء من تجهيز منزله في ( لونجوود ) .. وكان صاحبه رجلا طيبا اسمه مستر ( بالكومب ) ، فقبل عن طيب خاطر أن يخصص إحدي غرف منزله الجميل ، لإقامة الإمبراطور .. لكنه شكره وأصر علي الإقامة في ملحق خارج المنزل ؛ يتكون من غرفتين تعلو إحداهما الإخري .
وأقام الأمبراطور مدة شهرين في ضيافة المستر ( بالكومب ) ، كانت أسعد فترات حياته في المنفي .. عاش خلالها احساس الأسرة الريفية ، وكان يمضي وقته في صحبة هذه الأسرة السعيدة ، المكونة من زوج وزوجة وولدين وبنتين ، اندمج معهم الأمبراطور بشكل كامل ، وتناسي خلال تلك الفترة أحزانه وآلامه .. وعندما كان يحل موعد نومه كان يخرج إلي عرفته فيأوي إلي فراشه البسيط ، بينما يتولي صديقه ( لاس كاساس ) إحكام غلق نوافذ الغرفة ، ثم يتوجه إلي الغرفة الأخري لينام مع ولده ، أما ( مارشان ) والخادم الآخر فكانا ينامان علي عتبة باب الغرفة ، التي قدر لمولاهما أن يشغلها .. يحيط بالمنزل الحرس المسلحون ، لإحباط أي محاولة للهرب !
وفي العاشر من ديسمبر ، انتقل الأمبراطور للإقامة في منزله ، بعد أن تم الإنتهاء من تجهيزه .. وعندما تفحصه الأمبراطور وجده غير كاف لإقامته وحاشيته .. فأضطر لنصب خيمتين خارجه لإقامة كل من الجنرال ( جورجود ) والدكتور ( أوميرا ) طبيبه الخاص ، أما الجنرال ( براترن ) وزوجته وولده ، فاضطروا للإقامة في منزل آخر يبعد مسافة ميل من منزل الأمبراطور .. !
وبدا للجميع .. أن الأمبراطور ( نابليون بونابرت ) يعيش أياما صعبة قاسية ، ومن المؤكد أن الأيام القادمة ستكون أشد صعوبة وأكثر معاناة .. وأنه سيري خلال هذه المحنة ؛ ما لم يره خلال تاريخه الحافل بالأحداث !

عبد المنعم جبر عيسي
22/10/2008, 04:23 PM
السلام عليكم

شكرا على المعلومات القيمة
تقبل مروري البسيط

عبدو عمر


وعليكم السلام ورحمة الله
أسعدني مرورك أخي الفاضل
تحياتي

عبد المنعم جبر عيسي
18/08/2009, 10:10 AM
وكانت الرقابة على الأمبراطور وحاشيته شديدة ، فكان الجنود المدججون بالبنادق يحيطون بهم أنَّى ذهبوا .. وتم منعهم من الوصول الى شاطىء الجزيرة ، أو الإتصال بالأهالى والتحدث معهم ، فكانوا يرسلون الإحتجاج تلو الإحتجاج الى الحاكم بدون جدوى .. وفى ذات يوم زار الأمبراطورَ ( نابليون ) قائدُ إحدى السفن التى صحبته فى رحلته الى المنفى ؛ وهو على وشك الرحيل الى أوروبا ، وسأله عما كان يحتاج الى شىء .. وسرعان ما تدفقت عبارات الإحتجاج على لسان الأمبراطور ؛ على المعاملة السيئة التى يلقاها وحاشيته من أولى الأمر بالجزيرة ، وطلب منه أن يبلغ المسؤلين الإنجليز شديد احتجاجه وعتابه ، وأملى على صديقه ( لاس كاساس ) مذكرة جاء فيها :
- إن الأمبراطور يرجو أن يسمع – برجوع البريد – أخبارا عن زوجته وابنه ، ويريد أن يتأكد إذا كان هذا الأخير ما زال على قيد الحياة ، وهو ينتهز هذه الفرصة ليسجل شديد احتجاجه على المعاملة الشاذة التى يلقاها .
- لقد وضع الأمبراطور نفسه بمحض ارادته تحت حماية القانون الإنجليزى ، وكان بإمكانه أن يحتمى بملك آخر كالأمبراطور ( فرانسوا ) والد زوجته ( مارى لويز ) ، ولكنه وضع ثقته بدون تبصر فى عدالة الأمة الإنجليزية ؛ فكان ما كان .
- إن الأمبراطور ليس أسير حرب كما تزعمون ، وإذا سلمنا بهذا الأمر ؛ فإن لأسير الحرب حقوقا ثابتة عند جميع دول العالم المتمدينة ، ويطلق سراحه بمجرد انتهاء الحرب .
- اذا كان وزراء انجلترا مصممين على استمرار هذه المعاملة الشاذة ، فإن الأمبراطور سيكون سعيدا لو أصدروا حكما بإعدامه فى الحال ، فالموت أحب إليه من حياة هى الجحيم بعينه .. !
وكان ( نابليون ) فى قمة ثورته وغضبه ، يملى على أفراد حاشيته احتجاجات شديدة اللهجة ليحملوها إلى الحاكم ، فيؤجلوا ارسالها بضعة أيام حتى تهدأ ثورته ، ثم يسألونه عما إذا كان مصمما على ارسالها ، فيغضب فى بادىء الأمر لعدم اطاعتهم أوامره ، ثم لا يلبث أن يعود إليه هدوء نفسه فيقول : ( أنتم محقون .. إن مركزى وكرامتى يحتمان على الصمت والصبر ، وأن أترك أمر الإحتجاج لكم وحدكم .. ) .
ثم حاول ( نابليون ) أن يكتب رسالة خاصة ؛ إلى الملك ( جورج الرابع ) .. وأرسل الى حاكم الجزيرة يستأذنه فى ذلك ، لكن اصرار الحاكم على قراءتها قبل ارسالها جعله يتراجع عن كتابتها ، لأنه رأى أن هذا التصرف محط لكرامته .
وفى يوم 17 ابريل عام 1816 م ؛ وصل حاكم الجزيرة الجديد : سير ( هدسون لو ) ، ولما قُدِّمَ للأمبراطور اشمأز من منظره ، لكنه قال بعد انصرافه :
- إن شكله ووجهه يبعثان القشعريرة فى نفسى ، ولكن يجب أن لا نتسرع فى الحكم على الرجل .. فقد تكون أخلاقه بعكس ما يُنْبِىءُ عنه وجهه البشع .. !
ولم يَصْدُق حدس ( نابليون بونابرت ) هذه المرة .. فلقد لاقى على يدى هذا الحاكم أهوالا جسيمة ، حولت حياته فى المنفى إلى جحيم لا يطاق .. وعجلت بنهايته المحزنة على يدى هذا الحاكم القاس ، الذى وضع نصب عينيه الإنتقام لأمبراطوريته التى لا تغيب عنها الشمس ، بعد أن دوخها هذا الأمبراطور عشرين عاما خلال حروبه معها .. فجاءت أيامه الأخيرة سلسلة متصلة الحلقات من الأحزان والنكبات والألآم .

عبد المنعم جبر عيسي
21/08/2009, 07:33 PM
وتعاقبت السنوات ، وحالة الأمبراطور ( نابليون بونابرت ) تسوء يوما بعد يوم ، وكانت تقارير شهرى نوفمبر وديسمبر من عام 1818 م مليئة بتفاصيل ما يتلقاه الأسير من صنوف العذاب والآلام والمذلة ؛ على يدى ( هدسون لو ) .. وبلغ اليأس بالأمبراطور الأسير مبلغا عظيما ؛ حتى أنه رضخ أخيرا لمشورة أصدقائه بأن يزوره الدكتور ( ستوكا ) جراح البارجة الانجليزية ( كونكرو ) ، بعد أن صمم طويلا على أن لا يراه طبيب انجليزى ، منذ أن أصدر الحاكم أمرا بترحيل طبيبه الخاص ( أوميرا ) لرفضه التجسس على مولاه .. وزاره الطبيب ( ستوكا ) مرتين ؛ وجده خلالهما فى أشد حالات الألم وانحطاط القوى الجسمية والنفسية ، ووجد نفسه بعدهما مضطرا لطلب اعفائه من هذه المهمة ، لتدخل الحاكم وحاشيته فى عمله بشكل أقلقه وأزعجه .. فوجد ( نابليون ) نفسه مرة أخرى بلا طبيب يعنى به ويشرف على حالته الصحية .
ومضت التسعة أشهر التالية فى عذاب مستمر ، ولم يأل حاكم الجزيرة جهدا فى أن ينغص على الأسير المريض حياته ، لدرجة جعلته يصدر أوامره بإحكام إغلاق الأبواب ، وعدم السماح لأى شخص من طرف الحاكم أن يزوره .. وقد كتب ( نابليون ) فى مذكراته عن هذه الفترة ؛ قائلا :
- فى يوم 11 و 12 و 13 و 14 و 16 من شهر أغسطس عام 1819 م حاول بعضهم أن يقتحم علىَّ دارى للمرة الأولى منذ مجيئى الى الجزيرة ، ولقد أصدرت أوامرى بغلق جميع الأبواب وإحكام قفلها ، ولقد سبق أن أنذرت أولى الأمر بالجزيرة أن انتهاك هذا الحرم الضيق المكون من ست غرف صغيرة ؛ لن يتم إلا إذا ساروا على جثتى .. لقد مضى علىَّ عامان وأنا أقاسى من مرض الكبد المتفشى فى هذه الجزيرة ، وقد أستُبعد الدكتور ( أوميرا ) فى يوليو من عام 1818 م والدكتور ( ستوكا ) فى شهر يناير 1819 م ، ومنذ ذلك الوقت وأنا أقاسى أبشع الآلام دون أن يكون على مقربة منى طبيب يداوينى ويخفف من آلامى ، وبينما أتقلب فى فراشى من شدة آلام الأزمة الكبدية الأخيرة ، والتى مضى عليها ستة أيام وليال دون تراخ أو هوادة ؛ إذا بى أفاجىء بهذا التدخل الذى لا معنى له ، والذى يتنافى مع أبسط قواعد الإنسانية .
ثم وافقت الحكومة البريطانية أخيرا ؛ على أن يرسل أصدقاء ( نابليون ) فى أوروبا طبيبا من قبلهم ، ووقع اختيارهم على الدكتور ( انتوماركى ) الذى وصل الى الجزيرة فى يوم 19 سبتمبر من العام نفسه .. واستقبله ( نابليون ) للمرة الأولى ظهر يوم 21 سبتمبر .. وعندما دخل عليه الغرفة وجدها غرفة مظلمة حقيرة الأثاث ، وكان المريض نائما فى أحد أركانها المظلمة ، لم يره فى بادىء الأمر لولا أن سمع صوتا خافتا رقيقا يناديه ويدعوه للجلوس .. ثم أخذ يسأله عن مولده ومؤهلاته والدوافع التى جعلته يقبل المجىء إلى هذه الصخرة النائية ، ثم سأله عن أخبار أصدقائه القدامى فى أوروبا .
وفى صباح اليوم التالى ، عاد الطبيب الجديد مريضه ، الذى كان ما يزال ملازما لفراشه ، بعد ليلة حافلة بالآلام والأوجاع ، وبينما هما يتجاذبان أطراف الحديث وقفت أمام باب البيت عربة ، كانت محملة بالصناديق المليئة بالكتب والمجلدات الواردة للأمبراطور من الخارج ، ولما أمر بفتحها وتفحصها بنظرة فاحصة ؛ قال لمن حوله :
- ليست الكتب هى الشىء الوحيد الذى يبحث عنه والد فى رسالة واردة من الخارج ، انظروا داخل الصندوق وافحصوه جيدا فلابد أن هناك شيئا آخر أحب إلى قلبى من كل هذا .
وسرعان ما وجدوا بين الكتب صورة لولده ، فما رآها حتى انهارت الدموع من عينيه ؛ ونظر إليها طويلا ثم قبَّلها بحرقة وشوق ، وقال وهو يبكى :
- ولدى العزيز ، ستكون خير خلف لوالدك إذا قدِّر لك أن تعيش رغم دسائس أعدائى !
وأمضى ( نابليون ) ليلته ساهرا يقرأ الجرائد والمجلدات التى وردت اليه ، ولما دخل عليه الطبيب فى الصباح وجده منهكا متعبا ، وكان لا يزال ممسكا بصورة ولده فناولها إلى طبيبه قائلا :
- أرجو أن تضعها على رف المدفأة بجانب صورة والدته ( ماريا لويزا ) .
ثم شمل الغرفة بنظرته وقال :
- فلعل صورتاهما يؤنسانى فى وحدتى القاتلة ! ألا ترى بعينيك مظاهر العظمة والأبهة التى تحيط بى فى هذا الركن الحقير ؟ شمعدانان بسيطان .. فنجانان مذهبان .. مقص صغير .. كوب ماء .. زجاجتان من ماء الكولونيا .. سرير حديدى .. هذا هو كل ما خرجت به من عظمة الماضى .. أين هذا من قصور ( التويلرى ) و ( الأليزيه ) ؟ ولكن كل هذا يهون عندما أتذكر أن ما ألاقيه ليس إلا حبا فى بلادى !
وعندما جال الطبيب ببصره فى أرجاء الغرفة ، لاحظ آثار الرطوبة الشديدة على جدرانها ؛ لدرجة أتلفت جميع الأبسطة المزركشة التى غطيت بها الجدران ، وكان مرسوما على احداها صورة نسر كبير ، نظر إليه ( نابليون مليا ثم ابتسم فى مرارة شديدة ، وقال :
- ايها النسر العزيز ، كان خليقا بك أن تظل محلقا فى فضائك الواسع ، لولا الذين ظللتهم بجناحيك خذلوك ونتفوا ريشك !