عبد المنعم جبر عيسي
27/09/2008, 11:51 AM
- محكمة .. !
كلمة واحدة ، هتف بها حاجب المحكمة ، يقف الحضور ، يعلو الصمت كل الوجوه ، وكأن علي رؤسهم الطير ، يدخل رئيس المحكمة ، ومن خلفه باقي أعضاء هيئتها ، يجلسون في أماكنهم ، فيجلس جميع من في القاعة ، يبدأ القاضي نظر القضايا التي يعج بها ( الرول ) .
إنه في يوم 10 / 11 / 2003 م المبارك ، وبمقر محكمة ( كوم حمادة ) الجزئية ، برئاسة السيد المستشار / ..... وعضوية كل من السيد المستشار / ...... والسيد المستشار / ....... وسكرتارية السيد / ....... للنظر في القضايا الوارد ذكرها بجدول الجلسة .
وكان يجلس وسط الحضور ، يضايقه الزحام ، يقتله همس المحامين .. الذين لم يعد يثق فيهم ، حتي ضاق ذرعا بصوت انفاسهم .. روائح تبغهم .. يسمع أحاديثهم عن قسوة قاضي ( الأثنين ) وشدته ، لاحظ ارتباك البعض منهم أمامه .. تشفي فيهم .. وأحس بالشماتة تملأ نفسه تجاههم ، حمد الله أنه لم يوكل واحدا منهم للدفاع عنه ، كان يشعر بأن لديه القدرة علي الدفاع عن نفسه ، وتوضيح وحهة نظره .
تأمل ملامح القاضي ، كانت تنم عن قسوة وشراسة ، تساءل بينه وبين نفسه :
- هل سيتمكن فعلا من ذلك ؛ أم أنه .. و..
ثم بتر خواطره ، دق قلبه بقوة وعنف ، وقد أحس أن اللحظة قد اقتربت ، وأن الحاجب سوف يهتف باسمه فورا .. أحس أن قدميه ستخزلانه ..
تذكر والدته الحبيبة ، تذكر أنه خرج صباحا دون أن يخبرها بحقيقة وجهته .. ربما خوفا علي مشاعرها ؛ أوثقة في قدراته ، وأنه سوف ينجح في اقناع عدالة المحكمة بسلامة موقفه ، وبراءة ساحته .. للمرة الثانية تساءل بينه وبين نفسه :
- هل أحسن بتصرفه هذا ، أم أخطأ ؟ أم كان من الأفضل له أن يصارحها لكي تكون علي بينة من الأمر ؟
تذكرها .. وهي تودعه صباحا ، كانت تنظر إليه بخوف ، هل كانت تشعر بمعاناته ، وأنها تراه للمرة الأخيرة ؟ هل كانت تحس بما يدور داخله ؟ هل كانت تحس بخوفه وإحساسه بالضياع ؟
كان يشعر بخوف هائل يغمر كيانه ، وكانت الحياة - علي اتساعها - ضيقة مظلمة أمام ناظريه ، يحس بانقباض قلبه يحيل حياته إلي جحيم .. يحس بنفسه تتكسر علي جدران المحكمة الرخامية ؛ وهو يسمع صوت الحاجب يشق صمت القاعة هاتفا بإسمه ، يقف .. يتحرك مترنحا بإتجاه المنصة ، يوقفه شرطي غليظ الجثة والملامح :
- أنت ......؟
يومئ برأسه أن نعم ، يجره الشرطي نحو المنصة ، يشير إلي القاضي هاتفا :
- المتهم يا سيدي !
* * *
ربما غاب عن الوجود لحظتها ، ارتسم الماضي أمامه بكل أحزانه ، تداخلت أمام عينه كل الحقائق ، اختلفت الصور ، تدافعت المعاني ، تمني لو لم تلده أمه ، يشعر أنه أشد الناس شقاء في هذا الوجود .. هل يمكن أن يكون بريئا ؟ أم أنه مدان من قمة رأسه حتي أخمص قدميه ؟ يشعر بابتسامات المحامين وشماتتهم ، تؤلمه سخرياتهم .. يري القاضي في شكل جلاد يقتص منه ، يعاقبه علي جريمة لم يقترفها .. لكن .. هل تحدث للقاضي ؟ هل قال شيئا ؟ هل دافع عن نفسه ؟ أم خانته شجاعته وفصاحته ، فانهار وخارت قوته ؟
ربما لم يلحظ تلك النظرات التي شيعته ، تلك الآهة المكبوتة في العيون ، يذكر جيدا أنهم اقتادوه بغلظة إلي قفص الإتهام ، ليجد نفسه أخيرا بين المشبوهين ومعتادي الإجرام ، يتأكد أن للحياة وجه آخر قبيحا ، يشعر بالحزن يتغلغل داخله ، يسري تحت جلده .. يبحث عن بقايا نفسه .. ذاته .. رغبته السابقة في المقاومة ، يرغب في الصراخ .. بل يرغب في البكاء .. يشعر بمرارة الهزيمة تملأ حلقه .. تدمر بقاياه ..
* * *
أيعقل كل هذا ؟!
أم أنه يعيش حلما كئيبا وكابوسا رهيبا ، يتمني الخلاص منه ؟ يتأمل وجوها تحيط به ، تغمره بنظراتها .. يعجب لضحكاتهم .. سخرياتهم من كل شئ .. أراد أن يصرخ فيهم .. أراد أن يقول شيئا .. خانته شجاعته للمرة الألف .. لم يدر من أين جاءه كل هذا الجبن ؟
يسترجع ذكريات الماضي ، يستعرض كل ما مر به ، يحاول تذكر شئ معين كان يشعر أنه بحاجة لتذكره ، هل فقد ذاكرته أيضا ؟ أم فقد احساسه بوجوده ؟ أم رغبته في ال .... ؟ يتوقف فجأة .. وقد مزق صوت الضحكات هدوء نفسه ، سمعهم يقولون :
- ألا يقول شيئا ؟ ألا يتحدث ...؟
يذوب داخل نفسه ، يشتد التصاقه بها والتفافه حولها .. يدرك أنه لم يكن حاسما في يوم ما ، كان يهرب من كل الناس .. في كل اللحظات .. بل في أشد اللحظات حاجة للمواجهة ..
هل كان يوما هو .. نفسه .. أم أن كل ما حوله يجبره علي حماقاته ؟ هل عاش ما مر من عمره ، أم أنه سرق منه ؟ أرغم علي أن يكون غير ذاته .. والضحكات ماتزال تملأ رأسه .. تضغط أحاسيسه .. تحتل أركانه . . كان يتمني أن يحسم أمرا .. أو يقرر شأنا ..
كان يرغب في أن يعلو صوته بقاعة المحكمة .. ليقول إنه برئ .. لكنها طبيعته .. أو عادته ..
أخيرا قرر أمرا ..
وما تزال الضحكات تجلجل في المكان .. لتحيل حياته إلي سجن رهيب داخل سجنه .. يقرر أن يهرب من جديد ..
يتأمل جدرانا خرسانية تحيط به .. يقرر أن يحطمها .. يتذكر كلمات كانت أمه تقولها له .. كانت تصف رأسه فيها بالصلابة .. يتأمل تلك الوجوه التي تحيط به .. لم يشعر في هذه اللحظات ، أن ضحكاتهم قد توقفت تماما .. وأن عيون أصحابها معلقة به الآن ..
بإنتظار خطوته التالية..!
س ت ا ر
لا يختلف الرواة فى أن أمه زارته ظهر اليوم التالى ، بسجن مركز ( كوم حمادة ) ، حيث لاحدود لامتهان الانسان ... وابتسمت له ، لتخفف عنه وترفع من روحه المعنوية .... ثم بدا بعد ذلك أنها كانت أشد حاجة لمن يسرى عنها ويخفف ، ويرفع من روحها المعنوية ... فقد عادت الى بيتها مساء نفس اليوم ، وماتت ... مخلفة فى قلبه جرحا قد لا يندمل !
كلمة واحدة ، هتف بها حاجب المحكمة ، يقف الحضور ، يعلو الصمت كل الوجوه ، وكأن علي رؤسهم الطير ، يدخل رئيس المحكمة ، ومن خلفه باقي أعضاء هيئتها ، يجلسون في أماكنهم ، فيجلس جميع من في القاعة ، يبدأ القاضي نظر القضايا التي يعج بها ( الرول ) .
إنه في يوم 10 / 11 / 2003 م المبارك ، وبمقر محكمة ( كوم حمادة ) الجزئية ، برئاسة السيد المستشار / ..... وعضوية كل من السيد المستشار / ...... والسيد المستشار / ....... وسكرتارية السيد / ....... للنظر في القضايا الوارد ذكرها بجدول الجلسة .
وكان يجلس وسط الحضور ، يضايقه الزحام ، يقتله همس المحامين .. الذين لم يعد يثق فيهم ، حتي ضاق ذرعا بصوت انفاسهم .. روائح تبغهم .. يسمع أحاديثهم عن قسوة قاضي ( الأثنين ) وشدته ، لاحظ ارتباك البعض منهم أمامه .. تشفي فيهم .. وأحس بالشماتة تملأ نفسه تجاههم ، حمد الله أنه لم يوكل واحدا منهم للدفاع عنه ، كان يشعر بأن لديه القدرة علي الدفاع عن نفسه ، وتوضيح وحهة نظره .
تأمل ملامح القاضي ، كانت تنم عن قسوة وشراسة ، تساءل بينه وبين نفسه :
- هل سيتمكن فعلا من ذلك ؛ أم أنه .. و..
ثم بتر خواطره ، دق قلبه بقوة وعنف ، وقد أحس أن اللحظة قد اقتربت ، وأن الحاجب سوف يهتف باسمه فورا .. أحس أن قدميه ستخزلانه ..
تذكر والدته الحبيبة ، تذكر أنه خرج صباحا دون أن يخبرها بحقيقة وجهته .. ربما خوفا علي مشاعرها ؛ أوثقة في قدراته ، وأنه سوف ينجح في اقناع عدالة المحكمة بسلامة موقفه ، وبراءة ساحته .. للمرة الثانية تساءل بينه وبين نفسه :
- هل أحسن بتصرفه هذا ، أم أخطأ ؟ أم كان من الأفضل له أن يصارحها لكي تكون علي بينة من الأمر ؟
تذكرها .. وهي تودعه صباحا ، كانت تنظر إليه بخوف ، هل كانت تشعر بمعاناته ، وأنها تراه للمرة الأخيرة ؟ هل كانت تحس بما يدور داخله ؟ هل كانت تحس بخوفه وإحساسه بالضياع ؟
كان يشعر بخوف هائل يغمر كيانه ، وكانت الحياة - علي اتساعها - ضيقة مظلمة أمام ناظريه ، يحس بانقباض قلبه يحيل حياته إلي جحيم .. يحس بنفسه تتكسر علي جدران المحكمة الرخامية ؛ وهو يسمع صوت الحاجب يشق صمت القاعة هاتفا بإسمه ، يقف .. يتحرك مترنحا بإتجاه المنصة ، يوقفه شرطي غليظ الجثة والملامح :
- أنت ......؟
يومئ برأسه أن نعم ، يجره الشرطي نحو المنصة ، يشير إلي القاضي هاتفا :
- المتهم يا سيدي !
* * *
ربما غاب عن الوجود لحظتها ، ارتسم الماضي أمامه بكل أحزانه ، تداخلت أمام عينه كل الحقائق ، اختلفت الصور ، تدافعت المعاني ، تمني لو لم تلده أمه ، يشعر أنه أشد الناس شقاء في هذا الوجود .. هل يمكن أن يكون بريئا ؟ أم أنه مدان من قمة رأسه حتي أخمص قدميه ؟ يشعر بابتسامات المحامين وشماتتهم ، تؤلمه سخرياتهم .. يري القاضي في شكل جلاد يقتص منه ، يعاقبه علي جريمة لم يقترفها .. لكن .. هل تحدث للقاضي ؟ هل قال شيئا ؟ هل دافع عن نفسه ؟ أم خانته شجاعته وفصاحته ، فانهار وخارت قوته ؟
ربما لم يلحظ تلك النظرات التي شيعته ، تلك الآهة المكبوتة في العيون ، يذكر جيدا أنهم اقتادوه بغلظة إلي قفص الإتهام ، ليجد نفسه أخيرا بين المشبوهين ومعتادي الإجرام ، يتأكد أن للحياة وجه آخر قبيحا ، يشعر بالحزن يتغلغل داخله ، يسري تحت جلده .. يبحث عن بقايا نفسه .. ذاته .. رغبته السابقة في المقاومة ، يرغب في الصراخ .. بل يرغب في البكاء .. يشعر بمرارة الهزيمة تملأ حلقه .. تدمر بقاياه ..
* * *
أيعقل كل هذا ؟!
أم أنه يعيش حلما كئيبا وكابوسا رهيبا ، يتمني الخلاص منه ؟ يتأمل وجوها تحيط به ، تغمره بنظراتها .. يعجب لضحكاتهم .. سخرياتهم من كل شئ .. أراد أن يصرخ فيهم .. أراد أن يقول شيئا .. خانته شجاعته للمرة الألف .. لم يدر من أين جاءه كل هذا الجبن ؟
يسترجع ذكريات الماضي ، يستعرض كل ما مر به ، يحاول تذكر شئ معين كان يشعر أنه بحاجة لتذكره ، هل فقد ذاكرته أيضا ؟ أم فقد احساسه بوجوده ؟ أم رغبته في ال .... ؟ يتوقف فجأة .. وقد مزق صوت الضحكات هدوء نفسه ، سمعهم يقولون :
- ألا يقول شيئا ؟ ألا يتحدث ...؟
يذوب داخل نفسه ، يشتد التصاقه بها والتفافه حولها .. يدرك أنه لم يكن حاسما في يوم ما ، كان يهرب من كل الناس .. في كل اللحظات .. بل في أشد اللحظات حاجة للمواجهة ..
هل كان يوما هو .. نفسه .. أم أن كل ما حوله يجبره علي حماقاته ؟ هل عاش ما مر من عمره ، أم أنه سرق منه ؟ أرغم علي أن يكون غير ذاته .. والضحكات ماتزال تملأ رأسه .. تضغط أحاسيسه .. تحتل أركانه . . كان يتمني أن يحسم أمرا .. أو يقرر شأنا ..
كان يرغب في أن يعلو صوته بقاعة المحكمة .. ليقول إنه برئ .. لكنها طبيعته .. أو عادته ..
أخيرا قرر أمرا ..
وما تزال الضحكات تجلجل في المكان .. لتحيل حياته إلي سجن رهيب داخل سجنه .. يقرر أن يهرب من جديد ..
يتأمل جدرانا خرسانية تحيط به .. يقرر أن يحطمها .. يتذكر كلمات كانت أمه تقولها له .. كانت تصف رأسه فيها بالصلابة .. يتأمل تلك الوجوه التي تحيط به .. لم يشعر في هذه اللحظات ، أن ضحكاتهم قد توقفت تماما .. وأن عيون أصحابها معلقة به الآن ..
بإنتظار خطوته التالية..!
س ت ا ر
لا يختلف الرواة فى أن أمه زارته ظهر اليوم التالى ، بسجن مركز ( كوم حمادة ) ، حيث لاحدود لامتهان الانسان ... وابتسمت له ، لتخفف عنه وترفع من روحه المعنوية .... ثم بدا بعد ذلك أنها كانت أشد حاجة لمن يسرى عنها ويخفف ، ويرفع من روحها المعنوية ... فقد عادت الى بيتها مساء نفس اليوم ، وماتت ... مخلفة فى قلبه جرحا قد لا يندمل !