المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نص مجموعة «مجنون أحلام» لحسين علي محمد



د. حسين علي محمد
12/08/2008, 08:17 AM
نص مجموعة «مجنون أحلام» لحسين علي محمد

مجنون أحلام
ــــــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم
ـــــــــــــــ
أصــــوات مُعاصرة
ـــــــــــــــ
أسسها:
د. حسين عـــــــــلي محمد
أبريل 1980
ـــــــــــــــ
مستشارو التحرير:
د. أحمــــــــــــــــد زلـــــط
بدر بديـــــــــــــــــــــــــــر
د. صــــابر عبد الدايــــــــم
محمـد سعـد بيـــــــــــومـي
رئيس التحرير:
د. حســــــــــين علي محمد
مدير التحرير:
مجــــــــــــــــدي جعفــــــر
سكرتير التحرير:
فرج مجاهد عـــبد الوهاب
المراسلات: مجدي محمود جعفر ـ 13 ش مدرسة التجارة ـ ديرب نجم، شرقيــة.
موقعنا على الإنترنت:
http://www.aswat.4t.com/

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ أصـوات مُعاصرة
السنة 26- العدد 150 - أغسطس 2005م



مجنون أحـــــلام

قصص قصيرة


د. حسين علي محمد


(الطبعة الأولى)
دار الإسلام للطباعة، المنصورة 2005م




















بسم الله الرحمن الرحيم
الإهـــداء



إلى الصديق الكاتب المسرحي
علي محمد الغريب




«ليست الحياة ما عاشه المرء، لكن ما يتذكره وكيف يتذكره لكي يرويه».
ماركيز.

د. حسين علي محمد
12/08/2008, 08:18 AM
*مجنون أحلام*
.....................

«صالوننا» طائرٌ في البراري، وسائقه معصوب الرأس، مفتوناً بغناء جميل، يتصاعدُ من إذاعة صنعاء:
يا ريم وادي ثقيــف .:. لطيف جسمك لطيف
ما شفت أنا لك وصيف .:. في الناس شكلك ظريف
وتحاول «أحلامُ» أن تُحرِّك شفتيْها بالغناء من تحتِ الخمار، و«العزي» سائق الصالون، يسألني:
ـ أغنية جميلة يا أستاذ ..؟
فأشير برأسي.
لكنه يريد مني إجابة، فأقول وأنا أضع يديَّ ـ كالبوق ـ على أذنه:
ـ ن .. ع .. مْ!!!
فيضحك!، ويقول:
ـ أنا كنت أقول إنها ستعجبك!
***
كنتُ جالساً منذ أسبوعين ـ في أواخر شعبان ـ على صخرة ناتئة، على جانبِ طريقٍ جبليٍّ عالٍ من أرض «الوصاب السافل»، حين رأيتُ الموجةَ ذاتَها، تخرجُ من بيتٍ قرميدي قديمٍ، وترُشُّ برذاذها وجهي، وثيابَ «عاطف».
كنا يوم خميس، وكنتُ صائماً، فاستعذتُ بالله من الشيطان الرجيم، وطلبتُ من عاطف أن نعود لسكننا لنجهز الإفطار.
نظراتُ «عاطفٍ» ـ صديقي، وزميلي في تدريس اللغة العربية في مدرسة معلمي بني علي، الذي يجلس جواري ـ تُلاحقها وهي تواصلُ انحدارها نحو البئر، خلف حمارٍ ضريرٍ ـ كما عرفتُ منها، فيما بعد ـ لتملأ من مائه «دابّتيْن»!
***
في اليوم التالي .. يوم الجمعة .. كانتْ عيناها ساعة الغروب قنديلين يضيئان سمائي، وأنا في طريقي لبقالة «قايد»، لأشتري ـ بالأجل ـ البامية، أو البازلاء، ودجاجةً صغيرةً، أطهوها بعدَ صلاة المغرب، ثم أذهب لبقالة قايد لأجلس على كرسي مهمَل قديم وأستمع للحلقةِ الأخيرةِ من مسلسل «هند، والدكتور نعمان» من بطولة كمال الشناوي.
كنتُ عائداً من بيتِ الشيخ محمد الأهدل حيثُ أشرحُ لابنه ـ في مدرسة المعلمين ـ درساً صعباً من دروس النحو، قبل الامتحان الذي يأتي بعد أسبوع.
انحدرتْ من شارع هابط إلى الطريق .. ومشتْ بجواري..
رافقتني إلي البقالة، وحدثتني عن طفلها اليتيم «عادل»، الذي لا يتحرك رغم بلوغه الخامسة، وعن بيتهم شبه المهدم بجوار المسجد الجامع الذي نصلي فيه الجمعة، ونحضر إليه مبكرين لنصلي ركعتيْن ثم نقرأ فيه «سورة الكهف» قبيل ارتقاء الإمام المنبر.
...
بجوار "بقالة قايد" خيمة هدمتها الأمطار والريح.
قالت:
«بيتنا يشبه هذه الخيمةّ!».
وابتسمتْ، في مرارة ..، وأنا، قاب قوسين أو أدنى من الموت إعجاباً بها، ولا يشغلني إلا بهاؤها، وجمالُ صوتها.
وكنتُ قدْ رأيْتُ وجهها عدة مرّاتٍ وهي هابطة إلى البئر، لتملأ الوعاءيْن.
كانت الطرقات ذاهلة، وكان الشيخ «قايد» مشغولاً بالمداعة، وبجواره ـ على الأرض ـ خنجره ومدفعه!، وطفل وطفلة يلعبان .. وهو جالس بملابسه الداخلية، ورذاذ المطر الخفيف تتشربه الأرض، كما يتشرب الخمارُ دموع الأرملة التي لا أعرفُ اسمها!
وهو يُضاحكني:
ـ المسلسل يعجبك يا أستاذ عبد السلام؟ .. باقٍ ساعة ونصف، سأنتظرك بعد صلاة العشاء.
ويأخذ نفساً من المداعة، ثم يضيف في صوتٍ حانٍ:
ـ لا بد أن تُشاهد معي الحلقة الأخيرة!
وأنا أقولُ مؤكِّداً:
ـ لا بد.
***
قال عبده، ابن الشيخ قايد ـ تلميذي في مدرسة المعلمين ـ أمام التلاميذ في الصباح:
ـ مع منْ كنتَ تمشي وتتحدّث يا شيخُ وأنت عائد من بيت الأستاذ محمد الأهدل مساء أمس؟
لم أجب.
أضاف:
ـ كنتُ عائداً من «بني محمد» فرأيتُكما أمامي في الطريق.
تجاهلتُ قوله، فأضاف:
ـ هذه الأستاذة "أحلام"!
قلتُ:
ـ لا أعرف اسمها!!
قال:
ـ ابنة المرحوم الشيخ عبد الله العلَوي، شيخ القبيلة السابق.
وأضاف، متبرعاً بتعريفي:
ـ وأرملة سلطان بن نايف العلَوي، المدير السابق بوزارة الخارجية، بصنعاء.
سألتُ مستفسراً:
ـ ولماذا جاءت إلى بني علي؟
ـ زوجها مات في حادث مرور، منذ عامٍ، وعادت لتقيم مع خالتها في بيت أبيها.
أردف موضحاً:
ـ تُناديها أمها!
كدتُ أسأل:
ـ ولكنْ، هل المرأة التي عاشت في صنعاء تستطيعُ العيش في هذه القرية الجبلية الصعبة؟ وتنزل لتملأ الماء من البئر؟
لم يُمهلني، فأكمل:
ـ هي حاصلة على بكالوريوس في التربية، وتُريد أن تسافر للقاهرة لتحصل على الدكتوراه! إنها تعمل معيدة بكلية التربية في جامعة صنعاء.
استفسرتُ:
ـ كيف تكون مُعيدة وهي مقيمة هنا أيام الدراسة؟
قال:
ـ بذلت وساطات، وأخذت إجازة لمدة عام!
ووجدها التلاميذُ فرصةً سانحةً للكلامِ وارتفاع أصواتهم، فاضطررتُ أن أتجاهل كلامه، وأمضي في شرح الدرس.
بعد خروج التلاميذ من المدرسة جاء عبده إلى حجرتي، وقال لي بعد أن تأكَّد من أنّني وحدي:
ـ كنتُ أول أمس مع زميلي مهند.
ـ من مهند؟
ـ ابن عم الأستاذة أحلام.
لم أتكلم، فأضاف:
ـ سألتني عنك، فقلتُ لها إنك دكتور.
ـ لم أناقش بعد الدكتوراه يا عبده .. سأناقشها الشهر القادم.
ضحك:
ـ ما تفرق يا أستاذ .. الأستاذ بركات مفتش اللغة العربية في ذمار قال لنا إنك دكتور في التاريخ من جامعة الأزهر، وإنك ستدرِّس هذه السنة فقط في بني علي .. أما العام القادم فقد تدرس في جامعة مصرية.
واستطرد:
ـ لماذا لا تبقى هنا لكي تدرس التاريخ في جامعة صنعاء يا أستاذ؟
***
أتوجهُ لصلاة الجمعة، أبطئُ من خطوي أمام باب دارها، الذي كان في هذا اليوم مفتوحاً. فوجدتها فرصة لاستراق النظر: رأيتُ طفلها ذا السنوات الخمس جالساً، وأمامه بعض اللعب، ورأيتُ وجهها سافراً، وكانت تكلم عجوزاً (عرفتُ فيما بعد أنها خالتها أو أمها كما تُناديها أحياناً).
سمعتها تقول: منذورة لسبع عجاف، يا خالتي.
وخالتُها تقولُ: فرحك قريب، ربما قاب قوس، أو أدنى، سأزوجك ابن أخي في ذمار.
فكدتُ أقع على وجهي ـ أنا الذي أحلم بها، وتُطاردُني في أحلامي ـ بين الصخور الناتئة!
***
كان «عاطف» قد ذهب صباح الخميس لزيارة صديقه «يوسف» مدرس اللغة العربية في قرية «الثلوث» بالوصاب العالي، وتركني .. فاستسلمتْ أبوابُ قلبي لخوفٍ مُقبل، وحزنٍ مُقيم.
ساعةَ خروج التلاميذ من المدرسة أبصرتُها.. أهي «أحلام»؟!
جاءت تسأل عن ابن عمها مهند، وعن مستواه في الدراسة.
كانت منقبة.
حينما رأيتُها على باب حجرتي، في المدرسة قلتُ لها:
ـ هل ستتزوّجين ابن خالك في ذمار؟!
ضحكت:
ـ ابن خالي حزام؟!! .. لا..
ـ هل هو متعلم؟
ـ إنه طبيب .. متخرج من موسكو.
ـ لماذا إذن لا تسمعين كلام خالتك؟
ـ إنه يريد أن يتزوّج الآن ويستقر.. وأنا ـ كما قلتُ لك ـ سأذهب مُبتعثة للقاهرة بعد خمسة أشهر، مع بدء العام الدراسي الجديد لأكمل دراساتي العُليا، في تربية عين شمس، ولأحصل على الماجستير والدكتوراه؟
قلتُ وقد فارقني اليأس:
ـ هل تذهبين وحيدة؟
ـ سآخذ ابني معي.. لأعالجه!
كانت شجرة النبق ذاوية الغصون، وكان طائرٌ غريبٌ على طرف الحجرة الشرقية يبكي جرحه الجديد، وكنتُ مثقلاً بالتأويل المُطارد لسر حبي القديم لهيفاء الذي ذبل قبل أن يكتمل، وعن فشلي المتكرر في تجارب مُشابهة، وتذكُّري لجراحٍ لا تبرأ!!
وتذكّرتُ «عاطف» ـ الذي كان منتشياً ـ ليلةَ الأمسِ وهو يسكبُ الملحَ على جراحي:
ـ كيف بلغتَ الثانية والثلاثين ولم تتزوّج بعد؟
وضحك:
ـ أنا في مثل عمرك، ولديَّ ولد عمره خمسة أعوام، وسيأتي مع أمه لنعيش معاً في ذمار في العام المقبل، سأدرس في مدرسة عثمان بن عفان الإعدادية للبنات ـ كما وعدني الأستاذ بركات ـ وزوجتي أخصائية اجتماعية سأحاول أن أجد لها عملاً في نفس المدرسة.
... وكنا ـ ساعتها ـ نستمع إلى أم كلثوم تشدو بأغنية قديمةٍ عن «أهل الهوى»، ونحن نجلس أمام سكننا في ضوء القمر، فالكهربا تُطفئ أنوارها في التاسعة مساء!
تعمل من السادسة للتاسعة فقط!
***
قالت «أحلام»:
ـ متى ستذهبان إلى صنعاء؟
ـ بل قولي متى ستذهب؟
ـ ألن تذهب مع الأستاذ عاطف؟
ـ ستنتهي علاقتنا بالمدرسة بعد إعلان النتيجة يوم 14 رمضان، ونأخذ من المدير «إخلاء طرف».
استفسرتْ بعينيْها، فأضفْتُ:
ـ سيذهب «عاطف» لصديقه يوسف في «الثلوث» بالوصاب العالي ليمضي معه أقل من أسبوع، ثم يذهبان إلى صنعاء للسفر إلى مصر في الثاني والعشرين من رمضان.
سألتْ:
ـ وأنت؟ ما خطتك؟
ـ سأذهب في صباح الخامس عشر إلى الحديدة لأمضي خمسة أيام هناك، لشراء بعض الهدايا لأخواتي، ثم أمضي إلى صنعاء لأقيم فيها يومين قبل العودة إلى مصر.
قالت في نبرة حاسمة:
ـ أنا مُسافرة إلى صنعاء في اليوم نفسه، في «صالوننا» الخاص. إذن آخذك معي إلى الحديدة.
ـ هل خالتك ستكون معك؟
ـ ستكون معي إلى أول مرحلة في الطريق، ثم تنزل عند بنتها في «الجرّاحي»؟
رأتني منشغلاً، فسألت:
ـ هل تعرف الجراحي؟
ـ نعم، نمِتُ فيها ليلة واحدة في فندق فقير، هو فندقها الوحيد كما أظن، ولن أنساها لأني أصبتُ فيها بالملاريا!!
ضحكتْ.
***
هانحن في منتصف رمضان. ويوشكُ اليومُ أن ينتصف .. أبدو مستسلماً في دِروعي الداجنة..
و«أحلامُ» ساكتة.. أو تحدِّثُ خالتها بصوت منخفض.
يجلسان في الكرسي الثالث.
وأنا أجلسُ بجوار السائق الذي يدندن مع أغنية شعبية لليلى نظمي تنطلق من إذاعة صنعاء.
وكأنه تذكّر أن معه أشرطة، فأخرج شريطيْن لصباح ومحمد رشدي من الدرج الذي أمامه.
...
«أحلام»؟!!
(أيمكنُ أن يكون هذا اسمها؟)
لم تسأل عن طقوسِ القتل أو شكل السلاح!
ليس لي أمل في شهوة الجموح، وأنا أستمع إلى صوتِها، أو أرى وجهها ـ كما رأيته في الطريق إلى البئر، أو أمام حجرتي بالمدرسة ـ فهي مُحاصرة بابنها "عادل" ذي السنوات الخمس، وخالتها العجوز.. والنسر الذي لم يطر منذ ثمانية أشهر، وقابعٌ في غُرفةٍ، في مدرسة، في بني علي، لا يبدو أنه قادرٌ على التحليق.. أو جامحٌ على التدجين!!
***
ما هذه الحشائش الطرية ... في سهولِ زبيد؟
باق أقل من ساعة ونصل إلى «الجرّاحي».. تلك القرية الملتهبة في أول يونيو..
خالتها نامت، ألاحظ أن كثيراً من العجائز ينمن في السفر؟ .. لماذا لا تكلمني «أحلام» عن بعثتها القادمة، وما ننوي أن نفعله معاً بحياتنا؟
أخَذَت عنواني في «المعَادي» ورقم هاتفي..
لماذا تجلسُ «أحلامُ» وحيدة في الكرسي الأخير من «الصّالون»؟
هل قطعتْ ـ قبلَ أن تجيء اليومَ معي ـ حبْلاً للعجوز، كي تغلق بابها الأخير، ورغبتها في الزواج من ابن أخيها في ذمار؟، وهل أخبرتها أنها تنوي أن تتعلّق في صارية نسر مصريٍّ جريح، هو نسرها الأخير؟.
وهل تجيء إلى «المعادي» تاركةً أحزانها في قمة الجبل؟
وهل تعودُ الحياةُ إلى ساقيْ ابنها في المعادي فنراه يلعبُ مع أقرانه، بينما «هي» تصهلُ صهيلَ الأرض المتشققة للماء؟!!
***
أخبرتها أنني سأناقش الدكتوراه في التاريخ الإسلامي في هذا الصيف، وإنني سلمتُ الرسالة للمناقشين في أوائل سبتمبر الماضي، ونزلتُ من بني علي إلى الجراحي عدة مرات لأسألهم هاتفيا عن الموعد فقالوا في آخر يونيو، أي بعد تسعة وعشرين يوماً من الآن؟
***
سألتُ الشيخ الأهدل (وهو ناظر مدرسة معلمي بني علي، وحاصل على الماجستير في الشريعة من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية):
ـ هل من الممكن أن أتزوّج يمانية؟
فضحك:
ـ ولماذا تتزوّج يمانية، وأحد شيوخنا ـ عرفتُ فيما بعد أنه الإمام الشافعي ـ قال «من لم يتزوّج مصرية فليس بمحصن؟».
قلت جادا:
ـ أنا أسألُ: هل تمنعُ التقاليد والأعراف هنا زواجي من يمانية إن أردتُ أنا وأرادت هي؟
قال مبتسِماً (وهي عادةٌ له عند الكلام):
ـ لابد من الكفاءة.
قلت وأنا جاد:
ـ أنا من الأشراف؛ أمتلك وثيقة نسب مؤكَّدة من وزارة الداخلية.
وابتسمتُ:
ـ معي صورة منها، داخل حقيبتي هذه!
ضحك، ونظر في عينيَّ كأنه يعرف مقصدي:
ـ حسني أم حسيني؟
ـ حسني.
ـ إذن، على بركة الله، لا مشكلة!
***
هاهو «صالوننا» طائرٌ في البراري، وسائقه معصوب الرأس، مفتوناً بغناء جميل، يتصاعدُ من إذاعة صنعاء بعد أن أغلق المسجل:
يا ريم وادي ثقيــف .:. لطيف جسمك لطيف
ما شفت أنا لك وصيف .:. في الناس شكلك ظريف
يهز رأسه يمنةً ويسرة.
في كلِّ خطوةٍ موجة..
و«أحلامُ» المنتشيةُ بأشجارٍ تتكاثرُ في السهلِ.. تشيرُ إلى كلِّ موجةٍ في سيول زبيد.. وتعدني ـ قبل صهيل البداية ـ أن تظل شجرة مورقةً، ونهراً يدفق بالخصبِ، لا يقاربُه جفاف، وأن تظل دائماً الأم، والزوجةَ، والبنتَ.. وشجرة توتٍ أخضر، تعطي بامتدادِ الفصول والمواسم.
***
كنتُ مفتوناً، أغلق نوافذ فكري، لا أُفكِّر في العاقبة..
ألم أعرض عليها الزواج أمس؟ ووافقت؟
ووحدها.. كانت ترى الخضرة في الأفق، والأيائل في البراري، والشموسَ تضيءُ الغدَ، وابنَها ـ القعيدَ ـ يعدو في طرقٍ جميلةٍ مُعبَّدةٍ.
***
نزلت خالتها في الجرّاحي، وانطلق بنا «الصالونُ» إلى زبيد.. فالحديدة.
أراها تنظر إلى الأفق مستبشرة.
لم تتكلمْ بعُدُ..، فمازالت مدينة الحديْدةُ بعيدةً، والأرضُ مترامية. والخطى التي غادرت عتمة الوصاب.. تتأملُ في لحظاتٍ تليقُ ببداية جديدة!

الرياض 20/5/2003م

د. حسين علي محمد
12/08/2008, 08:20 AM
*برق في خريف*
.........................

عندما رآها مصادفةً على مدخل محطة مصر، رجعت إلى ذاكرته ثلاثون سنةً من الوجْدِ والانتظار. صاح في قلبه توق قديم إلى وجهها الأبيض الجميل الذي لم يُغيره الزمن:
ـ نادية حمدي؟! .. غير معقول!
أشرقت في عينيها ذكرى قديمة، أن تُخرج له مسرحيته الفصيحة «الثائر» في «بيت القاضي» بين الدور الأثرية المُغلقة، بعد تجاربها في إخراج مسرحيات أخرى بالعامية لنعمان عاشور، وسعد الدين وهبة.
صاح في ملامح صوتها حب قديم:‏
ـ محمود عماد؟!!
ما اضطربت ابنةُ الثالثة والخمسين، وهي تقول في جرأة حسدت نفسها عليها:‏
ـ ظللتُ أنتظرك عشرة أعوام .. فلماذا تأخرت عشرين سنة؟!‏
قال ابن الخامسة والخمسين في هدوء:
ـ بل افترقنا ثلاثين!
تقدّمت إلى شباك التذاكر ـ دون أن تسأله عن مقصده ـ وحجزت تذكرتين للإسكندرية!
.. وعندما لاذت به، وتلاشت المسافة بينهما، وجلسا بجوار بعضهما في القطار المتجه إلى الإسكندرية، كان يريد أن يصيح:‏
ـ غبتُ عنكِ ثلاثين سنة .. لأن المسرحية الفصيحة ـ التي لم تخرجيها أبداً ـ ضاعت مني في سيارة أجرة ..
ـ ياه!‏ .. أين؟
.. وبلع ريقه:
ـ في بور سعيد، حينما زرتُها في بداية الانفتاح السعيد!
أخلت للحيرة مكانا في ملامحها، فأضاف ضاحكاً:
ـ لعلي كنتُ أريد أن أُغيِّر نهاية مسرحية «الثائر» التي لم تعجبك.
.. لكن صوتها انبعث فجأة:
ـ ما كان يجب أن تبتعد عني .. انتظرتُك حتى مللتُ الانتظار!
تلاشت ملامح السعادة في وجهه، وترقرقت في عينيها دمعتان!‏
وقال كأنه يحدث نفسه:
ـ أضاعت مني بور سعيد «الثائر» إلى الأبد!!
***‏
أخرجتْ ديوان شعر.
أخذت تقرأ قصيدة حزينة بصوت تمثيلي يبهره كما كان قديماً!
تيقن أنها هي .. نادية حمدي!‏!
لم تشرق الشمس منذ الصباح.
أضاء برق مفاجئ ـ تكرر عدة مرات ـ الظلمة التي اكتنفت عربات القطار ساعة الغروب!
استرق نظرة إليها، ما بالها لم تشخ؟!
أخذ قلبه يدق، كما كان يدق كلما تذكّرها..‏
أغمض عينيه، وتذكر رحلاتهما في قاهرة أواخر الستينيّات وأوائل السبعينيّات، من حدائق الدرّاسة إلى حدائق الأورمان، ذكرياتهما السعيدة في حديقة الحيوان، رحلاتهما للمسارح في مساءات القاهرة المضاءة بلون أزرق عقب هزيمة يونيو الحزين، مظاهرات الطلبة في نهايات عبد الناصر وبدايات السادات، فرحتهما بانتصارات أكتوبر و«سينا يا سينا باسم الله .. باسم الله»، مشاركتهما في انتفاضة الخبز (التي كان يسميها السادات انتفاضة الحرامية)، أغاني الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، الشاي الأخضر، الحسين، .. المطار: يودعها وهي مسافرة إلى فرنسا في ندوة عن التجريب المسرحي، وهي تُداعبه في إلقاء تمثيلي فاردة ذراعيْها:
لكني مهما كنتُ أُحبك أعشقُ فني أكثرَ منكْ
فوداعاً يا ثغراً مهما افترّ لغيري ..
يذكرُ قبلاتي .. أو يتلو شعري
وسأسألُ نجمَ الغربةِ عنكْ
وسأسألُ ريحَ المرفأ عنكْ!
وهو يكملُ:
حتى إن عُدتِ وجدْتِ شبابكَ في صدْري(1)
الأتوبيس النهري، والسياحة الفقيرة ـ كما كانت تُسميها ـ إلى الأهرام، ومكتبة جامعة القاهرة، ومشاغبات الشحاذين لهما وهما يصعدان القلعة، وفرحتهما بليلة الرؤية، وليالي رمضان، وزياراتهما المتكررة لسور الأزبكية للتقليب في الكتب القديمة.
ها هو قد وجدها، ولن يدعها تُفلت منه!
...‏
غاب في عناق الماضي الذي كان وتذكُّر تفاصيله الصغيرة ..‏
أغمض عينيْه ..
.. حين وقف القطار في محطة الرمل..
أغلقت «نادية حمدي» ديوان الشعر .. وضعته في حنو ـ كأنه طفل صغير ـ في حقيبتها، وكانت فتاتان دون العشرين على الرصيف في انتظارها.
عانقت الفتاتين.
قالت في همس لمحمود عماد:
ـ ابنتاي سما .. ورنا ..
وابتعدن.
أشار لسيارة أجرة ..
ووجد نفسه ـ ثانيةً ـ وحيداً في شقته الواسعة!.‏.

الرياض 7/9/2002م
...........................................
(1) من قصيدة لمحمد الجيار.

د. حسين علي محمد
12/08/2008, 08:21 AM
*اصطياد الوهم*
........................

هاهي النجمة «ليلى زهدي» ..
رآها «صبري عثمان» وهي قادمة إلى مقهى «هارون الرشيد» الذي اعتادا ارتياده معاً منذ عشر سنوات..‏
كان جالساً إلى مائدة وحيدة خارج المقهى.
الناس يمرُّون من أمامه باتجاه واحد!..‏
أقبلتْ من بعيد ..‏ من الاتجاه الآخر.
سقط وجهه على صدره.
حين دخلت المقهى، وتجاوزته.. ومضتْ ..‏ إلى مائدة أخرى، ترك كوب الشاي الذي لم يشرب منه.
نهض وأخذ يلملم أوراقاً، وذكرى غاضبة، وأعواماً تركتها وراءها..‏
جلس إلى مائدتها.
فتحت حقيبتها، وأخرجت رواية ضخمة.
.. لما رأته لم تبتسم:‏
قالت غاضبة، وهي تحاول أن تجعل نبرات صوتها كالمعتادة:
ـ إنني لا أصدق! .. هل هذا صبري عثمان الذي أعرفه؟ (وبلعت ريقها) .. هل هذا صبري ابن الثالثة والستين الذي دخل السجن في عهدي الملك فاروق وعبد الناصر .. وهاهو السادات أخذه ستة عشر شهراً في أحداث خبز يناير 1977م؟
ضحك .. وكأن ضحكته تقول لها:
ـ لكمْ أنتِ غريرة أيتها النجمة الجميلة!! ..
لم تلتفت إليه.
أضاف في خجل:
ـ لا تتعجبي! .. فقد كتبتُ مسرحية «صلاح الدين يدخل القدس» وأرسلتُها إلى صحيفة «الكفاح» اللبنانية التي نشرتها، عقب زيارة السادات التاريخية للقدس (قالها ضاحكاً) فطلبتْني الرئاسة بعد أسبوع!
قالت ساخرة:
ـ قرأتُها، حمداً لله أن النساء لم يظهرن فيها! وأن الرجال ـ وحدهم ـ هم الذين يتحمّلون وزر "البطولة" فيها!
شد كرسيا، وجلس في مواجهتها:
ـ لا تكوني قاسية في أحكامك.
تعرّف عليها منذ عشرة أعوام في صالون صديقه الناقد المسرحي محيي الدين فوزي، أعجبته ثقافتها الضخمة ـ بجانب جمالها اللافت ـ وكان إذا قرأ فصلاً من مخطوطاته المسرحية تُبدي إعجابها بكتاباته التي لم تأخذ حظها في العرض المسرحي والمُتابعة النقدية .. عدَّها من جمهوره.
وضحك:
ـ كتبتُ ثلاثين عاماً ضد الحكومات، فما التفت لي أحد إلا السجانون! .. وكتبتُ مسرحية تاريخية تشير إلى اللحظة التي نعيشها، فاستدعتني الرئاسة، للتشاور في تقديمها على المسرح القومي وطبعها في كتاب.
ضحكت:
ـ هذا هو الثمن؟
ـ أنا لم أمدح أحداً
ـ أنت تعرفني، لا أقول إلا ما أعتقده.
أضاف جادا:
ـ لقد استمتعتُ بكتابة كل فقرة من فقرات هذه المسرحية، وهذا يكفي.
ابتسمتْ ساخرةً .. ولم تُعقِّب.
أضاف:
ـ الناس سئمت الحروب، وتريد أن تستمتع بالحياة.
قالت ساخرة:
ـ وهل تصدِّق ـ أيها الكاتب الكريم ـ أن السلام الذليل مع إسرائيل سيأتينا بالمنَّ والسلوى كما يقول زعيمك؟
قال متراجعاً:
ـ خفِّضي صوتك، أريدُ أن أعيش، وأن تُعرض مسرحيتي في المسرح القومي!
قالت، وهي تحمل حقيبتها، وتُغادر المكان، وعلى وجهها علامات القرف :
ـ إن سلامك هذا ـ كمسرحيتك ـ أسوأ مسرحية مونودراما لممثل واحد، هو أنت!
أضاف لنفسه بصوتٍ عالٍ سمعه جيرانه في المقهى، بعد أن خرجت:
ـ وماذا يعنيني رأيها؟ إنها لم تذق ـ على أي حال ـ مرارة السجون! .. ثم إن المسرحية ستُقدم على مسرح الدولة بعد شهر ..
لقد كتب أكثر من عشر مسرحيات لم تُعرض مسرحية منها.
وعرفه الناس سجيناً أكثر مما عرفوه كاتب مسرح.
وهاهي مسرحيته التي كتبها عن «بطل تاريخي» بحث عن السلام من خلال الحرب، ستضعه في مصاف الكتاب الكبار.
هاهي ليلى زهدي تنضم إلى جوقة صديقه الناقد الكبير محيي الدين فوزي، الذي ازورّ عنه أمس، وهو يقول في لهجة حقيرة وشتائم رخيصة:
ـ لم أعجب لتقديم مسرحيتك على المسرح القومي، من إخراج المخرج الكبير سالم النقاش، فالسلطة تكافئ أحبابها!!
.. ماذا فعلتم أيها الأوغاد لي ولمسرحي المخطوط على امتداد خمسة وعشرين عاماً؟
وأنت أيها الناقد الكبير قرأت مسرحياتي ولم تكتب عنها كلمة واحدة، لأنها لم تُقدم للناس كما كنتَ تقول؟
...
انسحب إلى مائدته .. لا يود التفكير الآن؟ .. «ليلى» مزاجها غير رائق، وتتهمني بالخيانة! .. إنها تجعل المسرحية التي شارك فيها على الأقل عشرة أشخاص مسرحية ممثل واحد، وتقول في لغة باترة بصوت يشبه صوت سناء جميل، أو صوت عادل إمام في أدائهما المسرحي الفخيم:
« إنها أسوأ مسرحية مونودراما لممثل واحد!».
...
صفق «صبري عثمان» بشدة يطلبُ شاياً سادة، متوسلاً إلى النادل أن يُخفِّض صوتَ المذياع لأنه يريد أن يكتب الفصل الأول من مسرحيته الجديدة «لماذا يغضبون مني؟»..
داعبته فكرة شيطانية، فضحك:
ـ مسرحيتي الجديدة أبطالها نساء. تقوم حول صداقةٍ شيطانية بين مخرجةٍ سينمائية وامرأة أعمال. فهل يقدمها المسرح القومي (دون تدخل الرئاسة هذه المرة)؟، وهل تسنح الفرصة فتقوم ليلى زهدي ببطولتها؟!!

ديرب نجم 3/3/1983

د. حسين علي محمد
12/08/2008, 08:22 AM
*اللهم أخزك يا شيطان*
...................................

كان الموقف صعباً للغاية.
مشت سيارة «سمير» على غير هدى في شارع الشميسي القديم .. ما كان يريد غير أن ترضى عنه «صباح»، فلا تعود إلى البيت لتشكو إلى المهندس صالح والدكتورة سناء منه ..
وكأنه لا يعرف الطريق، سألها:
ـ هل نذهبُ من شارع الملك فهد أم من شارع التخصصي؟
قالت في غضبٍ ونفور:
ـ لا أدري! .. كل الطرق توصلنا إلى الحديقة ..
اهتز إطار مقود السيارة بين يديه ..
ضرب جبهته بيده، وكأنه يقول لنفسه: كيف أجهل طريقي وأنا الذي أعرف مدينة الرياض جيداً؟ .. أعرفها منطقةً منطقةً، وشارعاً شارعاً، بل أعرف أماكن فيها قد لا يعرفها أحدٌ من أبنائها؟!!
ألم أقم فيها منذ خمس عشرة سنة منذ تخرجي من هندسة الإسكندرية والمجيء إلى العمل بالمملكة وأنا في الثالثة والعشرين من العمر؟
وأجاب على نفسه بصوت مسموع، سمعته صباح:
ـ بلى!
...
قالت له ضرتها «الدكتورة سناء» قبيل العصر .. لقد اكتشفتُ أن «صباح» تثق فيك (قالتْها الخبيثة بلهجة كأنها تقول له «إنها تحبك»)، ولهذا فهي تُهاتفك دائماً قبيل الفجر .. وتستشيرك فيما يجد من أمور!!
كيف عرفتْ وهي تقيم في شقة أخرى، تعلو شقة صباح، في العمارة نفسها؟!!
قال في لهجة غاضبة:
ـ ألستُ ابنَ خالتَها، وقبل ذلك صديق الأسرة؟
وأضاف في برود:
ـ ألا تطلبينني أنت أيضاً شاكيةً لي من بعض الأمور التي تغضبك، ولا تعجبك منها ومن غيرها؟!
كاد يقول لها:
ـ ومن صديقي ورئيسي المهندس صالح أيضا!
ولكنه أمسك لسانه في آخر لحظة!
قالت الدكتورة سناء:
ـ ألم تعلم؟
ـ ماذا؟
ـ لقد قالت صباح لصالح أن سميراً لم يعد صديق الأسرة فقط، أو ابن خالتها فحسب، بل صار أخاً وأباً لها في الرياض؛ تستشيره في أخص خصائصها! .. وستعمل في المستقبل ما يُشير عليها به!
ما الذي يجعل «صباح» تكلم زوجها في ذلك الأمر؟! وبهذه اللغة؟!!
هل في الأمر خطةٌ ما ـ أو وقيعة ما ـ تُريدها «الدكتورة سناء»؟ أو تُدبِّر لها؟
.. هل تريد لهما السقوط معاً .. لتنفرد بالمهندس صالح؟! وهل تريد أن تقول له إنني أصون عرضك، بينما من جاءت لك بالوريث ـ بعد الخامسة والخمسين ـ تتلاعب بك .. مع من؟ .. مع صديقك «سمير»، ابن خالتها، الذي أقنعك بالزواج الثاني لتُنجب الوريث، ورشحها لك؟!!
لقد قالت «الدكتورة سناء» لسمير حينما حضر:
ـ صباح في حالة سيئة اليوم، خذها فسِّحها في إحدى الحدائق .. التي نذهب لها معاً مساء كل خميس.
وظلت «الدكتورة سناء» تداعبه، وتضحك معه بصورة لم يعرفها فيها من قبل، بل أخذت «صالح الصغير» ابن صباح معها، وتركت «سمير» ينفرد بها، بعيداً عن مضايقة الطفل الذي اكتسب شغب أمه!!
وقالت:
ـ دعْ صالحاً الصغير معنا، فصباح في حاجة لأن تستريح من مضايقاته أربع ساعات!
قال في نفسه:
ـ هل حددت لنا الخبيثة الساعات التي نقضيها معاً؟!
اكتشف سمير ـ وصباح تجلس بجواره في سيّارته ـ أنه ينظر لابنة خالته باشتهاء، لم يلحظه في نفسه من قبل!
راقبها، وتأمَّل كل جزء من أجزائها قبل أن تتحرّك السيارة.
هل وأد الإنسان في داخله، ولم يعد يتذكّر الصداقة مع صالح زميله ورئيسه في العمل؟ بل ولا يتذكر خالته «زينب» التي تقول له كلما يُسافر إلى كفر الشيخ في إجازة:
ـ أنا مطمئنة على صباح، طالما أنت في الرياض.
ـ في عيني يا خالتي.
ـ هي أختك الصغيرة.
***
.. رأى «سمير» أنه صار وغداً ـ بل وسافلاً ـ بالفعل!!
وصلا إلى حديقة «العليا» ..
جلسا متجاوريْن على الأرض في المكان نفسِه الذي كان يجلس فيه، ومعهما «الدكتورة سناء» و«المهندس صالح» و«صالح الصغير» منذ أسبوع.
نظر إليها حينما أعطته قطعة من اللادن، ورآها تتشدّق بها، ولسان حالها الآن .. كما يصورها له خياله .. أنها امرأة ساقطة فعلاً!!
هذه البنت التي أخذت دبلوم التجارة منذ خمس سنوات، ورشحها لرئيسه المهندس صالح، الذي كان قد اقترب من الثامنة والأربعين، حينما سأله المهندس صالح والدكتورة سناء عن بنت «غلبانة» و«على قد حالها» تأتي لهما بمولود أو مولودة!
رشحها لهما وهو يعرف أنها بنت جميلة، لكنها منطوية ومنكسرة، فأبوها المهندس الزراعي مشلول منذ عقد من الزمان، وأمها ـ خالته ـ ناظرة مدرسة ابتدائية في كفر الشيخ، لم يُنجبا غيرها، وكانا يتمنيان أن تتعلّم وتتخرّج من الجامعة، ولكن درجاتها في الشهادة الإعدادية وجهتها إلى مدرسة التجارة!.
لم يقُل لهما أول الأمر أنها قريبته.
لكنهما ـ المهندس صالح والدكتورة سناء ـ كان قد عرفا أنها ابنة خالته قبل إتمام إجراءات الزواج؟
سأل سمير نفسه منذ عدة أيام:
ما الذي يجعل «صباح» الآن متمردة، وتُريد أن تجعل رأسها برأس الدكتورة سناء الأستاذة بطب الإسكندرية، والأستاذة الآن بجامعة الملك سعود بالرياض؟
حينما جاءت «صباح» إلى الرياض من أربعة أعوام ونصف رفضت الدكتورة سناء أن تُقيم معها «ضرتها» في شقة واحدة، في العمارة التي يُقيمان فيها في منتصف شارع «الخزان»، في الطابق الرابع. ووجد المهندس صالح ـ ويا لحسن الحظ ـ شقة في الطابق الثاني من العمارة نفسها .. فأقامت فيها الزوجة الشابة.
لم يُشعِر المهندس صالحٌ الدكتورةَ سناء أن زوجته الجديدة ضرة لها، بل أشعرها ـ دائماً ـ أنها خادمتها، وأنها لا تُدانيها في المنزلة أو القدر، وأنه تزوّج منها لمجرد المجيء بالولد.
وجاء الولد بعد تسعة أشهر، واقترحت الدكتورة سناء أن يسمى باسم أبيه، فسموه «صالحاً».
***
داعبت فكرة شيطانية مخيلة سمير، وهو يجلس بجوار صباح: ماذا لو أخطأ ـ هو الذي لم يُخطئ من قبل، ولله الحمد ـ مع ابنة خالته صباح؟
فكَّر سمير فيما سيقوله الناس عنه إذا خان صديقه، وارتكب فعلاً شائناً مع صباح ـ ابنة خالته، أو أخته الصغيرة! ـ أو ما يمكن أن يجرى له أو يُصيبه في الرياض، من العقاب الشرعي .. الموت رجماً .. إذا شاع أمره معها، فأُصيب بإحباط!! .. واستغفر الله العظيم من الشيطان الرجيم.
...
ربما ليثُبت لنفسه أنه مروض لنمرة شرسة، قال لها:
ـ ألاحظ مؤخراً أن وجهك مصفر دائماً .. هل أنت متعبة يا صباح؟؟!
استمرّت في مضغ اللادن بصوت مسموع، ولم ترد، بل رفعت حاجبيها، تسأله أن يُعيد سؤاله!!
أضاف في غير اكتراث:
ـ أنت لم تعودي «صباح» ابنة خالتي التي عرفتها .. أو صباح التي كانت منذ خمسة أعوام حينما تزوجت المهندس «صالح رشاد»!!
.. قالت في ضجر:
ـ أنت لم تعرفني أبداً، ولا تحس بما أُعانيه!
.. ابتسم:
ـ حينما رشحتك للمهندس صالح كنتِ أكثر جمالاً وحيوية من الآن، كنتِ تُشبهين عارضات الأزياء! .. ما الذي جرى لك؟ .. ولماذا لا تبوحين لابن خالتك بهمومك وهواجسك؟!!
قالت:
ـ لم أحس أنني تزوّجت!
استفسر بهزة رأس، فقالت:
ـ حاولتُ طوال أربعة أعوام أن أثبت لنفسي أني مروضة جيدة للنمور .. أو للقرود .. مع صالح وسناء فلم أستطع!
قال وهو يزن كلماته جيداً، لأن «صباح» خفيفة، ولا يثق بها، فقد تنقل ما يقوله إلى المهندس والدكتورة:
ـ هما أليفان، وطيبان وأولاد حلال .. فلماذا تثيرين حفيظتهما عليك دائماً؟!! .. هل تعلمين أن «الدكتورة سناء» هي التي أصرّتْ على أن يتزوّج صالح منك بعد أن جاءت ورأتك في كفر الشيخ، بعد ترشيحي لك؟!
ضحكت ضحكة صفراء:
ـ قديمة!!
أضاف في لهجته الودود التي يُتقنها:
ـ وهل تعرفين أيضاً أنها تحب ابنك أكثر من حبك أنتِ له؟
قالت وهي تنظر للناحية الأخرى:
ـ قديمة!
وابتلعت ريقها، وأضافت وهي متوترة:
ـ هي تقول ذلك، ولكني لا أصدق!.
وارتفع صوتها:
ـ هل الأم المستعارة للطفل تحبه كالأم الحقيقية؟!!
..............
قال وقد نفد صبره:
ـ وهل تُدركين أنها هي التي رجتني أن آتي بك لهذه الحديقة؟، وهي التي أقنعت «المهندس صالح» أنك في حاجة للفسحة والبُعد عن جوِّ البيت؟ .. بل أخذت ابنك معها، حتى تستمتعي ...
قاطعته، جادةً، كأنها لا تسمع ما يقول:
ـ بم أستمتع؟ بهذا الحرِّ الذي يكاد يشوي وجهي في الحديقة؟!!
ومرّت بأصابعها على جبهتها، لتنزل قطرات من العرق.
ردَّ عليْها في برود:
ـ بل تستمتعين بهذه الفسحة، وبهذا الترويح!
قالت صارخة:
ـ ليس هذا ترويحاً (وبلعت ريقها، وقالت بصوت متوتر بالغضب كأنها تُلقي قنبلة) أحس أنني على شفا حفرة؛ سأقع فيها!
ونظرت إلى الأرض، وهي تؤكد على الكلمات:
ـ .. سأسقط!
قال وهو يبتلع ريقه في صعوبة، حريصاً على أن تبدوَ نبراته مستنكرة:
ـ ما الذي أوحى لك بهذا الشعور؟!!.
قالت، وهي لا تسمعه:
ـ لم أشعر أنني زوجة! .. لم يُشعرني زوجي أبداً أنني امرأته!
(وبكت):
ـ لم يعطني حقوقي كزوجة له!
ارتاع سمير، وهي تكلمه بهذا الأسلوب، فتأكد أن أعصابها تالفة!
وأضافت، لتخفف من هول ما أصاب سمير:
ـ بل أنا ابنة المهندس الزراعي المشلول، العاطل عن العمل، والأبلة .. ناظرة المدرسة الابتدائية .. أين أنا منهما؟ .. أنا خادمة عند المهندس صالح والدكتورة سناء! .. أتسمعني؟!! .. خادمة الدكتورة والمهندس، بل حتى ابني صار ابنهما، وأنا مربيته.. بل أنا أرخص قطعة أثاث في البيت..
انتفضت واقفة، وهي تقول آمرة:
ـ قم .. انكشفت اللعبة!
قال غير فاهم ما ترمي إليه:
ـ ماذا تقصدين؟
ـ صالح وسناء يتآمران على سقوطي، بإرسالك لي!!
.. ماذا تقول هذه المجنونة من ترهات؟ .. هل نسيت أني في مقام أخيها الأكبر؟ وأني حاميها وحافظها بعد الله هنا؟
.. فاجأه الرد، فصمت.
أضافت:
ـ إنهما يعاملاني كأني خادمة، جئتُ لهما بالولد! .. بل إن سناء تعامل ابني الصغير كأنه ابنها هي، وتلومني على تقصيري معه وإهمالي في تغيير ملابسه .. وصالح ضريني أمس على وجهي أمام الضيوف (زميلات زوجته من جامعة الملك سعود، اللاتي كن في ضيافتها، وكنتُ أنا الخادمة التي أقدم لهن الأكل)، حينما فاض بي الكيل وأنا أراه يُعاملني باحتقار، قلتُ له: إنني زوجتُك يا باشمهندس أيضاً .. ولستُ خادمتك أنت وهي .. وأنتَ لستَ رجلاً مادمت تُعاملني بهذه الطريقة!!
استغرب سمير ما يسمعه.. استدرك قائلاً:
ـ الدكتورة سناء لم تقل لي شيئاً عمّا حدث بالأمس!
كأنها ترفع راية التسليم، ولا تدري أي شيطان يعبث بها، أو يتكلم بصوتها .. قالت في صوت واهن، تخنقه العبرات:
ـ قلت لك يا ابن خالتي .. سأسقط بالتأكيد!! .. إن لم يكن اليوم فغداً.
ضجّت النيرانُ في أعماق «سمير»، وتذكّر أنه بعيد عن زوجته منذ عام ونصف، وأنه يُعاني من الحرمان، ويتشوق لامرأته التي ظلت تطارده في أحلامه منذ شهرين نحو ثلاثة أسابيع متتالية، حتى أخذ تأشيرة السفر إلى مصر، وأنه سيُسافر بعد غد، ويمكث هناك شهرين.
.. واختفت صورتا زميله ورئيسه «المهندس صالح» و«الدكتورة سناء» من أمام عينيه .. وضحك، وهو يقوم، ويُشير لها بيده لتقف .. ليُنقذها من هذا الحر، وهو يقول لها:
ـ الحديقة ليست ملائمة لهذا الكلام.
............
نظر سمير إلى صباح فرآها ممشوقة القد، شاحبة الوجه، زرقاء العينين .. مظهرها ينم عن حزن كبير يحتويها، وشيطانه يُحدثه .. بأنه قدْ جاءت الفرصة الملائمة، وتخيّل أنه يضربها على صدرها الناهد، قائلاً:
ـ إن كنتِ مصممة على السقوط، أليس من الأفضل أن تسقطي معي الآن؟! .. هيا إلى شقتي.
هل هي خيالات الوحدة؟!!
..............
لم تجئ معه زوجته إلى الرياض إلا تسعة أشهر إلا قليلاً.
وجد نفسه يستغفر الله العظيم، ويبتعد عن صباح قليلاً، ويقول لها:
ـ صباح! .. لا بد أن تتكلمي .. نفِّسي عن نفسك .. كلمي المهندس والدكتورة في مشاكلك معهما، وهذه آخر مرة أستمع لك، أو أتدخَّل. لأن ظروف عملي تقتضي مني أن أنتقل إلى فرع الشركة بالمدينة المنورة!!
وقال لها وكأنه والدها:
ـ حلي مشاكلك بنفسك ..
ودون أن يُفكِّر وجد نفسه يقول:
ـ هذه آخر مرة أراك فيها أنت والدكتورة سناء.
وعندما وجدها تحدق في وجهه مستفهمة، وهما يخرجان من باب الحديقة أضاف:
ـ سأذهب بعد يومين إلى كفر الشيخ لرؤية الأسرة في إجازة تمتد شهرين، ولا أريد أن أُغضب خالتي، بأن أقول لها إن ابنتها تُعاني .. أو غير موفقة مع زوجها بالرياض.
جَاهَدَ كيْ يبدو مبتسماً، وهو يفتح باب السيارة، وقال وكأنه يحدث نفسه:
ـ هذه المرة لا بد أن تجيء زوجتي معي إلى المدينة المنورة؛ فقد قالت لي من قبل إنها ستجيء معي للإقامة في المملكة إذا عملت في المدينة أو مكة.

الرياض 9/1/2002م

د. حسين علي محمد
12/08/2008, 08:22 AM
*شرخ آخر في المرآة*
.................................

وقفت «نورا» أمام المرآة ذاهلة.
ما هذه التجاعيد التي بدأت تغزو وجه ابنة الرابعة والأربعين؟ وما هذه الشعرات البيض التي تتسلل وسط شعرها الناعم الكستنائي الطويل الذي ورثته عن أمها رحمها الله.
عاشت حياتها تجري .. حصلت في الثالثة والعشرين على بكالوريوس الصيدلة، وكانت الثالثة على الدفعة الأولى من كلية الصيدلة بجامعة الزقازيق، ولكنها رفضت التعيين مُعيدة في الجامعة ليفتح لها والدها صيدلية، ولتتزوّج ابن عمها الذي يصغرُها بعاميْن، حتى لا تضيع ثروة والدها ـ الذي لم يُنجب غيرها ـ بعيداً.
هاهو زوجها ـ الطبيب البيطري ـ قد مات منذ عام ولم يُعقِّب، وهاهو أكثر من طبيب وصيدلي يعرض عليها الزواج، وحلمُ مُداعبة طفل صغير تنجبهُ لم يمتْ بعد.
لكن المشكلة أن كل من تقدَّم لها متزوج .. وله أبناء!
لا بأس ..!
أعادت التحديق في المرآة وجدت شرخاً كبيراً فيها، وصورة زوجها الرّاحل فوق السرير ـ من خلفها ـ تعبس في شحوب في الزاوية البعيدة قبل أن تغيم شيئاً فشيئاً.
أيُطاردُها ميتاً أيضاً؟
اتسعت ابتسامتها وهي تتحسس استداراتها وانحناءاتها!!

الرياض 17/5/2003م

د. حسين علي محمد
12/08/2008, 08:23 AM
*سره الباتع*
..................

*المولد .. وما أدراك ما المولد؟!
«كفر الشيخ عمران» إحدى قرى مُحافظة الشرقية.
قرية صغيرة من خمسة آلاف قرية مصرية .. تضم نحو ستة آلاف نسمة.
عندما عدتُ من القاهرة لزيارتها قال لي ابن خالتي محمد الشامخ، شيخ الخفراء، والمُغرم بالطرب، والأذكار، وليالي غناء أم كلثوم:
ـ الله يخرب بيوتهم الذين عملوها.
ـ ماذا عملوا؟
ـ قالوا إن مولد الشيخ عمران .. لا يجب أن يُقام هذا العام منعاً للغلط!، والذي يريد أن يقيم مولداً .. يعمل له مولداً في بيته!!
ورجعتُ إلى الوراء عشرين عاماً من حياتي الماضية .. كنا صغاراً .. وكان مولد الشيخ عمران كل شيء بالنسبة لنا .. فالقروش القليلة التي نأخذها من الآباء والأقارب كمصروف، والملابس الجديدة الزاهية، والمراجيح، والبنات الحلوة، وعلب البخت، والعصير .. والسوبيا .. وزملاؤنا الذين يجيئون لزيارتنا من إكراش .. وديرب البلد .. وصفط .. هذا ما نفهمه من العيد الصغير (عيد الفطر) .. والعيد الكبير (عيد الأضحى).
وأسمع من حولي الأصوات من جديد تتناقش:
ـ والله .. الشيخ عمران ما يتنازل عن حقه!
وأرد في انفعال:
ـ أستغفر الله العظيم.
ويسألني محمد الشامخ:
ـ لماذا تستغفر؟
ـ لأنه ميت .. لا يستطيع أن ينفع نفسه، فكيف يتنازل أو لا يتنازل؟
.. ويصير عليَّ الشامخ، ولا يُجاريني فيما يتصوّر من غضبي:
ـ ألا تذكر أنهم من سنتين فكّروا في إلغاء "المولد" .. ولكنْ، عملها الشيخ عمران .. وفِطست لهم بقرتان!
ـ لا يا فالح، ... ثلاث بقرات لعلي المسكين، لكن كانت بفعل فاعل.. واحد أنت تعرفه وضع لها السم في البرسيم، ومحاضر الشرطة في ديرب نجم تشهد على ذلك!
وأضفتُ ضاحكاً:
ـ وشيخ البلد جدير أن يكون أول من يعرف ذلك.
فابتسم، وصمت مُرغما!!
*سره الباتع!:
«الشيخ عمران» ـ كما يعتقد العامة ـ شيخ له سره الباتع في الكفر الذي يحمل اسمه، بل في مركز ديرب نجم، بل في محافظة الشرقية! وله زواره ومريدوه .. في الشرقية كلها. وفي العيديْن يأتي عشرات الآلاف لزيارته!
وممّا يروونه:
قال لي شيخٌ معمم في الزقازيق إنه دليل الحجاج في الحجاز، ومن يتوه عن ركبه وجماعته يجده راكباً فرساً أبلق (لم يقُل لي ما معنى «أبلق»؟) يدله على جماعته!
وقالت لي حاجة في الثمانين من عمرها (أأعترف وأقول لكم إنها عمّتي؟) إنها تاهت أثناء حجها عن الشارع الذي كان يقيم فيه الحجاج المصريون في مكة، فصرخت: يا دليل التائه يا شيخ عمران!
وإذا بها تُبصر شيْخاً ذا لحية بيضاء تنشق عنه الأرض، ويمشي أمامها حتى يوصلها إلى سكن الحجاج المصريين، دون أن يحدثها، وحينما حاولت أن تشكره ـ بعد وصولها ـ لم تجده!!
جملة معترضة:
يقال إنه من قيمة 400 أو 500 سنة كان الشيخ عمران سلطاناً (أو ابن سلطان) على الحجاز، وأدركته الجذبة، فمشى ومن حوله عسكره، إلى بادية الشام، فغزة هاشم، فبلبيس، فهذه الأرض التي عُرفت بعد مجيئه بكفر الشيخ عمران، ويقال إنه كان يقدم بيديْه الطعام لجنده وزوّاره، وكان الناس يفتقدونه ـ في حياته ـ في موسم الحج، والإشارة واضحة!. وقد استقر من حوله الدراويش والأتباع، وكان رجلاً صالحاً له زوّاره ومريدوه، وحينما مات بنوْا له مقاماً.
(شي الله يا شيخ عمران!)
في صباح العيد:
في صباح العيد، وبعد خروجنا من صلاة العيد، همس في أذني محمد الشامخ: إن الشيخ عمران غضبان على البلد، وأنه رفض أن يفتح بابه ليلة العيد!
نعرف جميعاً أن بعض الكهول من أبناء القرية يحتفلون في ليلة العيدين بحلقة ذكر داخل مقام الشيخ الذي يتوسّط مقابر القرية، ويُضيئون الكلوبات ويتمايلون يمنة ويسرة، وينشدهم الشيخ عبد الهادي حدّاد قصائد الوجْد والهيام والحب الإلهي، ويظلون كذلك، يغنون ويتمايلون حتى يخرجوا لصلاة الفجر، ثم يؤدون صلاة العيد في المسجد، ويعودون لبيوتهم.
ولما قال لي محمد الشامخ إنه رفض أن يفتح بابه، ضحكت!
وقلتُ له:
ـ الشيخ محمد أبو فاضل معه مفتاح للمقام، أحضره لي وأنا أفتحه الآن!
فاستعاذ بالله، وحذرني من غضبته!!
وأضاف الشامخ مكتئباً:
ـ إن الحضرة وحلقات الذكر التي تقام ليلة العيد لم تقم، وهذا فأل سيئ، ونذير شؤم على البلد، بل المنطقة جميعا!
وتفل، مستعيذاً بالله، ثم أضاف في كآبة بادية:
ـ من عصر أمس لم يفتحوا باب المقام.
قلتُ ساخراً:
ـ الجماعة الذين يأخذون النذور فعلوها!
سأل مستنكراً:
ـ ماذا فعلوا؟
ـ أعطوكم مفتاحاً غير مفتاح المقام!
ـ وما مصلحتهم في ذلك؟
ـ ليُشيعوا القلق في الناس، فتكون وسيلة ضغط، لإقامة «المولد».
ولم يصدق محمد الشامخ، رغم أني طلبتُ منه أن يأتي بنسخة المفتاح التي عند محمد أبي فاضل، وأنا أفتح له المقام، وقال وهو يهز كتفيه:
ـ وما الفائدة إذا كانت ليلة العيد قد مرّت؟
قلتُ له:
ـ وماذا فعلت في ليلة العيد؟
ضحك وقال:
ـ لم يأتني النوم، فظللتُ أديرُ في رأسي أسطوانة أم كلثوم «الليلة عيد .. ع الدنيا سعيد»!!
أصل الحكاية:
منذ شهرين وعشرة أيام، (أي في اليوم الثاني من عيد الفطر الماضي) وأثناء «زفة الشيخ عمران» حدث قتال بين عائلتي جمال ومحروس بالنبابيت والطوب، وأصيب رجال .. وأُجهضت نسوة، وكانت القرية في موقف عصيب؛ فالكل يخشى أن يخرج من بيته بعد المغرب.
وتصالحت العائلتان المتنازعتان.
ولكن أحد «الخبّاصين» قال إن عائلة محروس ـ وهي عائلة العمدة ـ ملأت بيتاً إلى سقفه بالشوم والنبابيت، وأنها ستستعمل بندقية أحد أبنائها، العامل بالشرطة بمركز ديرب نجم (ليس من أبناء قريتنا ضباط والحمد لله، وإلا لصارت البندقية مدفعاً في حكاياتهم)، وتستمر الحكاية، لتقول إن العمدة درءاً للشر، اتفق مع الشيخ محمد الشامخ (وهو شيخ الخفراء، ومن عائلتنا، عائلة جمال) طلب قوة من شرطة المركز (مركز ديرب نجم) يوم الوقفة، ترد الباعة الذين يجيئون لساحة الشيخ عمران، وطبع منشوراً في مطبعة الاستقلال بالمنصورة في ثلاثة آلاف نسخة، وزع على كل قرية من قرى المركز منه مائة نسخة، يقول فيه:
«إعلان هام»
لن يقام مولد الشيخ عمران هذا العام نظراً للظروف التي تمر بها الأمة، ومشاركة منا لجيشنا وقواتنا المسلحة، واستجابة لصوت الزعيم الملهَم جمال عبد الناصر، حتى لا يعلو صوت على صوت المعركة، وكل عام وأنتم بخير ،،،
لكن بعض الخبثاء علقوا:
ـ المفروض أن هذا الإعلان ـ أو هذا «البيان» ـ كان منذ عامين ونصف، وتوقيته الصحيح يونيو 1967م لا فبراير 1970م!!
ثاني أيام العيد:
شوارع البلد خالية في «يوم الزفة»، كان يأتي إلى القرية في هذا اليوم عشرات الآلاف، فتضيق بهم شوارع القرية، والطرق المؤدية إليها!!
هاأنذا أسافر إلى القاهرة، في اليوم الثاني من أيام العيد، وكان لا يتحرّك من القرية شخص قبل مساء اليوم الثالث، بعد انتهاء العيد.
وأنا أركب الحافلة عائداً إلى القاهرة من ديرب نجم، أسرَّ لي أحد الركاب:
ـ الشيخ عمران أخذ بثأره، نفقت جاموسة شيخ الحفراء الذي كان يمنع البائعين الفقراء يوم الوقفة من المجيء للمولد لبيع أشيائهم والارتزاق منها.
ويرد «العمدة» الذي كان يجلس أمامنا، وبجواره ابنته:
ـ لا تصدقهم يا أستاذ خالد، الجاموسة مريضة منذ شهر، وذبحها الشيخ محمد الشامخ اليوم، بعد أن استشار الطبيب البيطري الذي كان يُعالجها، وتأكّد منه أن لحمها غير ضار وغير معدٍ!

المساء 17/4/1970م.
ـــــــــــــ
*نشرت هذه القصة بعنوان «شي الله يا أبو شبانة..!».

د. حسين علي محمد
12/08/2008, 08:24 AM
*أحــزان نادية*
....................

جلست «نادية» في ـ أول أيام إجازة نصف العام ـ في النادي، أمام المنضدة التي اعتادت أن تجلس مع محمود عليها!
النادي شبه مهجور .. وأوراق الأشجار متساقطة بكثرة فوق الحشائش التي كانت تبدو دائماً زاهيةً لامعة.
ما كانت تريد غير أن تسترجع لحظات من الزمن الجميل .. من خمسة عشر عاماً ضيعها محمود في نزوته، وسرق منها أحلامها، وعمرها الذي لن يعود.
أين محمود الآن؟!
إنني أذكره دائماً، وكأن حياتي تعلقت به رغم ما فعله معي!
رأت النادل من بعيد، عيناه كرصاصة نارية تخترق تجاويف صدرها .. كأنه يسألها لماذا أنت وحيدة .. ولماذا لا أرى الدكتور محموداً معك تملآن المكان حياةً وضحكاً؟!!
كم كانت تضيق صدراً من مطاردات النادل لهما في خلوتهما بالنادي .. وسؤاله المتكرر:
ـ ماذا تشربان؟
.. لماذا يبتسم الآن؟
هل يريد أن يقول إن محموداً يأتي هنا كثيراً مع لعبته الصغيرة ناهد؟!
ـ أريد شاياً بالحليب.
إنني لم أجيء هنا من أول الصيف الماضي.
تجنبتُ الأماكن التي كنا نغشاها معاً.
هل رأى «محموداً» مع «ناهد» تلميذته الساقطة التي تزوجها بعد أن صارت حكايتهما في النادي والجامعة على كل لسان .. وتزوج ابن الخامسة والخمسين من لعوب في الرابعة والعشرين؟!!
استدار النادل ليُصافح فتاة تُشبه ناهد .. تميل إلى القصر .. والنحافة .. ما الذي أعجبه فيها؟!!
لاحظت «نادية» ظهر شخص أمام باب النادي في الزاوية البعيدة .. ظهر كظهر محمود .. لبست النظارة الطبية، فلم تر إلا ظهره!
كنا زميلين في قسم علم النفس بكلية المعلمين (قبل أن يتحول اسمها إلى كلية التربية)، وكنتُ الأولى دائماً، وكان ينافسني على التفوق، لكنه كان يأتي بعدي دائماً.
حينما تزوجنا، ونحن معيدان صغيران بالكلية، كان الجميع يحسدوننا على الحب والتفاهم اللذين يظلاننا .. أين ذهب ذلك الحب؟ وأين اختفى ذلك التفاهم؟
استدارت الفتاة التي كانت مع النادل لتلحق به، وتتعلّق في ذراعه .. وتتمايل في مشيتها كتمايل عارضات الأزياء!
ما الذي يجعل الأستاذ الجامعي يقع في حب تلك «المهرجة المسخوطة»؟!
رنَّ في أذنيها صوتُ والدتها الواهن:
ـ أنتِ يا أستاذة علم النفس .. فشلتِ في معرفة نفسية زوجِك .. وفشلتِ في التعامل معه بعد الخمسين؟
قالت في نبرات غاضبة:
ـ لا تحمليني وزر ما حدث.
ـ لماذا تغضبين إذا قلنا الحقيقة؟ .. أنتِ لم تُحافظي على طائرك.
أجابت صارخة:
ـ حاولتُ .. فلم أوفّق!
كان جو يناير شديد البرودة، وكان هناك رذاذ خفيف!
قالت خالتي سامية ذات يوم:
ـ كان المفروض أن يكون زوجك أكبر منك في السن بخمسة أعوام .. لا زميلك!
.. أبعد الخمسين تقولين ذلك يا خالتي؟! .. إنها تكرر أقوال أمي! .. وإنني لم أشعر بحكاية السن هذه أبداً!
تركت «نادية» نقود المشروب على المنضدة، وأسرعت تُعلق حقيبتها في كتفها.
كادت تقع على الأرض في أولى خطواتها المتسارعة للحاق بمحمود.
لاحظت أنها ـ منذ أسبوعين ـ تعرج عرجاً خفيفاً، لا تدرى سببه!، ربما أصابها «النقرس» اللعين، ستذهب إلى طبيبها هذا المساء لتستشيره.
نظرة حزينة تبدو في عيْنيْها وهي تُغادر النادي .. لقد جاءت لتستعيد شيئا من الماضي .. فطاردها ..
تدحرجت خطواتها على الطريق .. تريد أن تراه .. هل هو محمود؟!!
وقف الرجل والمرأة أمام بائع جرائد.
هل هما محمود وناهد؟
لاحظت بل تأكّدت أنه هو .. تأكدت من ظهره!
أصبح الشيب يغزو شعره.
ابتسمت ابتسامة خفيفة.
كنتُ أصبغ شعره كل أسبوع، بل إني صبغتُ شعره يوم زفافه على ناهد.
ـ أنت تحبينني بلا شك يا نادية!
ـ اسأل قلبك.
ـ لماذا إذن تُطارديِني في الجامعة والنادي وبيوت الأصدقاء؟
ـ أريد أن أُحافظ على صورتك كأستاذ جامعي!
ـ أنتِ أيضاً أستاذة جامعية؟
ـ هل تلومني على شدة حبي لك، ومحاولتي أن أحافظ على صورتك من عبث هذه العابثة؟
ـ أنتِ يا هانم .. كسرتِ الصورة! وزعمتِ أني أحب تلك التلميذة الصغيرة.
ـ ليست صغيرة، بل في الرابعة والعشرين.
في استنكار:
ـ وعرفتِ عمرها؟
مالت عليه لتقبله، وتخفف من حدة الحوار:
ـ أحبك كأنك طفلي!
وكأنه يريد أن ينهي الكلام، وهو يبتعد عن فمها:
ـ نحن مساء الخميس .. ألم تنسي شيئاً؟!!
ـ نسيت ..
وكأنها تتذكر:
ـ هذا يوم الزيارة الأسبوعي .. نزور والدتك ثم نذهب لزيارة والدتي!
قال وهو يعاود مرحه القديم:
ـ لا والدتي .. ولا والدتك اليوم!
وهي مهمومة، وتُجاهد أن تبتسم؟:
ـ هل سنقضي اليوم في البيت؟
ـ لا ..
ـ ماذا إذن؟
قال والدهشة تملأ عينيها:
ـ هذا يوم صبغ الشعر الأسبوعي! .. بعدها سأذهب لزيارة صديق عائد من مؤتمر علمي في فرنسا .. وسأجد عنده بعض الأصدقاء، ونسهر معاً.
...
وصبغت شعره، وذهبت لأمها وعادت لتجد معه ناهد، في شقتها هي التي أثثتها من رحلتها إلى الكويت .. وحينما ثارت عليه وصفعته على وجهه أخبرها أنها زوجته من شهور!
ضربت نادية الأرض برجليها، وملأت الدنيا صراخاً. ركبت سيارتها وذهبت إلى أمها التي كانت معها منذ ساعة. هجرت عش الزوجية، وعولجت شهوراً طوالاً من الصدمة في مصحة نفسية، بعد أن طلقها، وأقام في الشقة التي ملأتها بالأثاث من إعارتها أستاذة لعلم النفس في جامعة الكويت، وحرمها من مكتبتها التي كونتها كتابا كتاباً ومجلدا مجلداً.
كادت تشده من البذلة التي أتت له بها من إعارتها ـ وما زال يرتديها!! ـ وتقول له:
ـ اخلع بذلتي يا عرة الرجال!!
ولكنها وجدت ساقيها تتعثران، وتسقط على الأرض على بُعد خطوات قليلة من بائع الجرائد، وينظر محمود للجسد الذي ارتطم بالأرض في تجاهل تام، وكأنه لا يعرف مطلقته .. هذه المرأة ـ التي عاش معها خمسة عشر عاماً ـ من قبل!!

الرياض 15/1/2002م

د. حسين علي محمد
12/08/2008, 08:25 AM
*عكرمة .. يرفع السلاح*
..................................

توطئة:
قال المرجفون في المدينة:
إن كل مراكبي قد غرقت
وأن أيامي القادمة للنسيان
وخضرة حديقتي للذبول، فالموت!
فهل صدَّقتهم؟!!

1
ألفت رؤية الغريب أمام مدخل البيت يُجالس الحارس .. فاستسلمتْ أغصان فؤادٍ مسربل بقصائد الضياع، وكانت روحي تنزف الحروف .. متقطعة، وأصدقائي يقولون ثرثرة عمياء، بلا بصيص ضوء.
قلتُ لنفسي أول الأمر «يا عكرمة! أنت لا تُبصر أكثر مما يُبصرون، أنت لك عينان كليلتان، وهم لهم ملايين الأعين»!
تدثرتُ بالصمتِ، وأنا أرى أولاد القردة «يرسمُون» على أغلفة كتب الفتوح عار حاضرنا الذي نرسمه ملوناً، ويأخذ ـ عندنا، يا للفجيعة! ـ شكل النبيذ! .. في أنهارٍ تجري بفخرنا الذي تُسطره القصائد العصماء! .. بينما يرسمونه متوجاً بالعار، والخزي والسقوط!
لماذا يهلل الخائفون المذعورون لانتصار البغال المرتجى؟!، ويغنون لأعراس النشوة القادمة، وهم يقدمون لحم أمهاتهم وبناتهم .. للغريب، ويتلون على مسامعه الصماء قصائدهم الميتة، عند مفترق الطرق ..!.

2
كان «مطيع» الحارسُ يهذي بكلامٍ ـ لا يُصدقه أحد ـ عن فتوحات الغريب (الذي عرفتُ ـ فيما بعد ـ أن سمه «بنيامين») مع نسائنا!!.
وكان «مطيع» يُقارضه على حبلِ الحوار ـ بلا حياءٍ ـ ثناءً، ونفاقاً رخيصاً.
...
رأيتُ ـ فيما يرى الرائي ـ الحارس مؤرجحاً في مشنقة ، (كتلك المشانق التي نصبها الغريب لأهالينا في دنشواي منذ مائة سنة) وألفاظه الغامضة المُنافقة بجملٍ تعيسة تعتمل في لسانه .. وللغريب عار الهزيمة يُطارده، يأخذ شكل القتل في وسط النهار. هلْ أُجاهر وأقول ما رأيتُ؟!.
كان الغريب يحملُ صحيفةً سوداء كاذبة، معانقاً سلاحه، يحتفي بنصره القادم / المحتمل، ويقبل نسره الظافر، ويُعطي لنهاية النهار فرحة شهوة المنتصر، ويتركُ لنا تعاسة الظلام المُواتي الذي يلوح في الأفق!
...

3
أدار الفتي الغريبُ وجهه غاضباً حينما رآني، لماذا يغضبُ وأنا لا أعرفه، وأنا ـ أيضاً ـ صاحبُ العمارة التي يجلس مع الحارس على «دكة» أمامها، ويمُدُّ ساقيْه في وجْهي؟!!.
قالت الخيول الصافنة متسائلة:
ـ هل تظنُّ أني أحببتُ البغل؟
مطيع (الحارس) مستبشعاً الكلمة، يضع يده على فمها، ويصرخ في جنون:
ـ لماذا تصرخين أيتها الصافنات؟ إنه بجواري على دكة المدخل (في صوت هامس) يكاد يسمع كلامنا؟
قالت ـ وهي لا تأبه بشيء ـ متأففة:
ـ إنكما عند الجميع كشخص واحد .. مطيع ـ بنيامين.
(وهو يحدق في جنون وتتسع حدقتا عينيه، ويتهاوى في قاع الجنون والحضيض) .. كان يتساءل عن معنى ما قالت:
ـ إن البغال لا تتزوّج الصافنات!!
(وتضحك الخيول ضحكاً هستيريا) مُضيفةً:
ولأن الحارس استطاع أن يُبصر أخيراً، لم تتزوّج البغالُ الخيول، ولم تنعمْ بعاره الجميل!

4
كانت الصافنات تُغني في المساء الأخير، أغنيتها الأثيرة، التي رددتها كثيراً في الأيام الأخيرة، مناديةً من لا أُبصره:
أيها المستجير من الرمضاءِ بالنار ..
لا تترك السيف
لا تخلع الدرع
أنت في قيامتك الكبرى
رايتك مرفوعة للريح
والغريب مدجج بالخراب
وخطواتك لن تقتلعها الريح
لك موتُ يجدرُ بشهيد
وللغريب حياةٌ مجللة بالعار
لك أن تعيش طويلاًً ..
أنت والنسور في الأعالي
كان الطين يرسخ شهادته، في السهول الخضراء، والأرض توثِّقها في الجذور .. فلن تقتلع الريح خطوتك .. يا عكرمة ..
يا ابن الأرض، ها هي الريح بجانبك .. تدفق الدماء في الجسد، وتزهو الريح لأنك نبتها الذي لم ينحن، وتقول: ستقتلع وحشَ الغابة الذي يهددك بالمحو، ستنتصر على الغريب، فلا تخف .. وهاهي الخيول تقول: إنها أحبتك منذُ رأتك .. تُحاول أن تضمك لصدرها بقوة، بعد أن كانت قد ابتعدت زمناً ..
تقول: هل يصعد قاربك يا عكرمة .. فوق بحار الشوقِ المشتاقة؟!
...
لم تقر أن كل مراكبك قد غرقت، كما يقول المرجفون في المدينة!

الرياض 11/3/2003م

د. حسين علي محمد
12/08/2008, 08:25 AM
*الحافلة التي لم أحلم بها*
......................................

إذا كنت من سكان شارع خيرت أو أحد الشوارع القريبة من ميدان لاظوغلي، وأردت أن تذهب لجامعة القاهرة ـ مثلي ـ فما عليك إلا أن تركب الحافلة ذات الرقم 20 أو عشرين بشرطة، ويا ويلك إن كنت!!
فهذه الحافلة نادراً ما تأتي، وإذا جاءت فزحمة لا تُطاق!!
ولا تقل لي إن كل الحافلات في مدينة القاهرة هكذا، فحافلات هذا الرقم من نوع فريد!!
وسأروي لك ما حدث لي معها خلال أقل من أربع وعشرين ساعة!
أمس ـ الثلاثاء ـ كان اليوم الدراسي الأخير في هذا العام الجامعي (كما كنا نعرف منذ أسبوع، ولكني اكتشفتُ لاحقاً أنه قبل الأخير) .. انتهت المُحاضرات في الثانية عشرة، صليت الظهر في مسجد الكلية الصغير (..وكان المصلون أقل من عشرة طلاب، في كلية فيها أربعة آلاف طالب! ما علينا!)، ثم انتظرت صاحب البريد عبد الحميد ـ والسجعة غير مقصودة ـ حتى يعود من مكتب بريد الجيزة بخطاباته، فوجدتُ خطاباً من والدي ـ الذي يكتب بصعوبة ولا يستطيع أحد غيري أن يقرأ كتابته (أو بالأحرى «أن يفك خطه») ـ ومع الخطاب حوالة بريدية باثني عشر جنيهاً «تُصرف من بريد الجيزة بميدان الجيزة» .. قلتُ: أصرفها غداً.
وأبي ـ عادةً ـ يرسل لي في كل شهر عشرة جنيهات، لكنه في هذه المرة أرسل مبلغاً أكبر، رغم أننا سنمضي ثلاثة أسابيع في الامتحانات وليس شهراً، لعله "يرشوني" .. حتى أذاكر، ولا أذهب لدور السينما في هذا الشهر العصيب، الذي يُتوِّج تعب الأسرة معي في عام!
في طريق الخروج ـ وقُرب باب الجامعة الذي يُفضي إلى الشارع ـ قابلتني زميلتي «أنوار»، وهي قرويّة من إحدى قرى طنطا، وتُسافر بالقطار يوميا .. ولم تغب أبداً عن أية مُحاضرة، قالت لي بصوت عال:
ـ محمود، اليوم ليس الأخير، تعال للقاعة 12 غداً.
ـ ماذا تقصدين؟
ـ الدكتور عبد العزيز الأهواني عاد من الخارج، ويريد أن يلتقي بالطلاب غداً .. من التاسعة إلى الحادية عشرة .. يريد أن يُدلي لنا ببعض الملاحظات قبل الامتحان!
كان الدكتور قد غاب عن محاضراته ثلاثة أشهر، وعلمنا أنه في أسبانيا، وحمدنا الله أن الدروس توقفت، وسنمتحن في الصفحات القليلة التي درسها لنا في أربعة شهور قبل سفره.
كدتُ أرفع صوتي معبراً عن سخطي، ولكني تذكرتُ أن أبي أرسل لي حوالة بريدية، وبدلاً من المجيء من لاظوغلي إلى الجيزة حيثُ مكتب البريد في الرابعة مساء .. آتي في الغد لحضور المُحاضرة وصرف الحوالة، وأضرب عصفوريْن (أو أحقق طلبيْن) بمشوار واحد!!.
رسمتُ ابتسامة باهتة على وجهي، ووجدتني أقول:
ـ على خير إن شاء الله، شكراً يا أنوار.
ووقفتُ أمام الجامعة ـ في ظلال أشجارها ـ من الثانية بعد الظهر حتى الثالثة إلا ربعاً أنتظر الحافلة الموعودة، حتى جاءت تتمخطر في خيلاء كعروس ليلة زفافها .. ولم أستطع أن أركب .. لسبب بسيط .. هو أن على الباب أكثر من عشرين شخصاً متشعبطاً، وكان عليَّ أن أركب الحافلة ذات الرقم 12 بشرطة للسيدة زينب التي تفوت بكثرة، وأنزل عند دار الهلال بشارع المبتديان ـ وأمشي إلى لاظوغلي! فقد كففت عن الشعبطة على الباب منذ أن وقعتُ ـ منذ شهريْن ـ أثناء رجة عنيفة في الحافلة 20 دفعت بي من الباب إلى أرض الشارع، وأشكُّ الآن في أن ضلوعي سليمة! ووقعتُ أمام ترام .. لولا أن سائقه ابن حلال، ولولا أن لي بقية من عمر، لكنتُ الآن في عالم آخر!
في صباح اليوم (الأربعاء) .. انتظرتُ الحافلة أكثر من ساعة، ثم جاءت إلى المحطة محمَّلة، فهي تُُعبئ من أمام محطة دار الهلال .. والسنية .. والمالية .. ثم تجيء ولا مكان فيها لقادم جديد!
.. وكان عليَّ أن أركب الحافلة رغم كل شيء.
قلتُ وأنا على الباب للشاب الذي يسد الطريق بمنكبيه:
ـ لو سمحت يا أستاذ!
قال في لهجةٍ اجتهد أن تكون رادعة لأمثالي من الركاب، الذين يريدون ركوب الحافلة رغم الزحام البادي:
ـ ليس في الداخل مكان .. أنت ترى أمامي سيدات .. يعني لا أقدر أن أتحرَّك!
دفعني شاب يلبس بنطلوناً أزرق، كان راكباً على الباب، ولكنه نزل، وأتاح لي أن أركب، ثم تشعبط على الباب مثلي:
ـ يا أستاذ أنت مؤدب قوي .. تقول له لو سمحت!!
وأضاف في صوت آمِر:
ـ زاحِمْ وادخلْ .. لكيْ أدخل وراءك!
ولم أجد بدا من المزاحمة والدخول.
جهاز الاستقبال يلتقط مُناوشات من حولي؛ المرأة البدينة تقول للشاب الذي كان يسد الباب بذراعيْه:
ـ لوْ سمحت تأخَّر قليلاً .. أنت تلتصق بي!
صوت رجل عجوز في السبعين:
ـ يا خبر .. ضلوعي تكسّرتْ!
ـ متأسف يا بابا.
ـ .. كسرت وسطي بذراعك
ـ أبوس رأسك يا عمي
العجوز في قرف:
ـ لا أريد أن تبوسها .. ولكن تأخَّر قليلاً لو سمحت .. حتى أستطيع أن أتنفس!
يُبعد الشاب رأسه إلى جهة أخرى، في قرف:
ـ إيه الحكاية؟! .. ما قلت لك آسف.
زميله الشاب يستظرف:
ـ لا يا سيدي لم نصطلح .. لازم تبوس رأسه!
ويقهقه:
ـ الأتوبيس بطيء .. ماشي كالسلحفاة.
المنيرة .. المنيل .. كوبري الجامعة.
كان عليَّ أن أقترب من الباب، ولا بد أن أستسمح الشاب القريب من الباب مرة ثانية.
.. وحاولت أن أخترق الكتلة البشرية الصلبة.
العجوز لوى شدقيه، وسقطت نظارته فوق أنفه، لكي تتسع حدقتاه وينظر لي من فوق النظارة:
ـ تفضَّل يا سيدي المحترم.
ولا يتحرك خطوة واحدة!!
ويدفعني قاطع التذاكر بشدة:
ـ إلى الباب يا سيد .. حتى لا تعطلنا ..
وفي غناء قبيح:
ـ لو سمحت .. انزل بسرعة!
اكتشفتُ أن النثر من الممكن تلحينه وغناؤه، وأدركتُ عبقرية أولاد سيد درويش وأحفاده!
دفعني الشاب ـ والحافلة مازالت مندفعة ـ دفعة كادت تودي بحياتي، وحياة أربعة على السلم.
الأورمان..
وأنزل قبل محطة الجامعة بمحطة؛ ففي مرات كثيرة سابقة كنتُ لا أتمكّن من النزول إلا بعد محطتين أو ثلاث محطات من محطة الجامعة.
حمدتُ الله لأني نزلتُ كامل الأعضاء، ولم أفقد جزءاً من أجزاء جسمي في موقعة النزول!
الساعة التاسعة إلا دقيقتين .. عليَّ أن أسرع الخطى حتى لا تفوتني المحاضرة الطارئة عن الأدب الأندلسي، فهي محاضرة مهمة، وتخص الامتحانات!
شيء خطير أوقفني عن الجري ..
.. لقد اكتشفتُ أنني قد سُرقت!!
سُرقت «محفظتي» ـ يا أولاد الحلال! ـ ..
سُرقت المحفظة التي أضعها في الجيب الخلفي من البنطلون، والتي فيها بعض أوراقي (فيها مشروع قصة لم تتم بعد!)، وفيها: نقودي، وبطاقتي الشخصية، والحوالة البريدية التي أرسلها لي والدي بمصاريف الشهر الأخير، شهر الامتحانات !
تذكرت الفتى الواقف على الباب، الذي كان يدفع الجميع بمنكبيه وساعديْه، وزميله صاحب البنطلون الأزرق، الذي كان يدفعنا بظهره!! وكانا يتبادلان الضحكات والنكات، وثالثهم ـ الذي يتقاسم معهم الإيراد «محصِّل التذاكر»!!
وكان عليَّ ـ بعد حمد الله ـ أن أفكر في العودة بعد انتهاء محاضراتي في الحادية عشرة .. بعد ساعتيْن .. في آخر أيّام الدراسة!
عليَّ أن أقطع المسافة من الجامعة إلى لاظوغلي ـ وهي تقترب من الكيلو مترات الثمانية مشياً على الأقدام.
ووجدتُ نفسي أقول ـ متجاوزاً أحزاني ـ شكراً لك أيها اللص الذكي، فقد أرحتني وأرحت ضلوعي من رحلة الموت مرتيْن يوميا!!
ووجدتني أحدث نفسي:
يُمكنني أن أعيش في القاهرة بلا بطاقة هوية، قلم يسألني أحد عنها طوال سنتيْنْ ..
لكنْ ماذا سأفعل في «مصروف» الشهر الأخير؟!!
ضاعت مائة وسبعة وثلاثون قرشاً، هي كل ما معي.
وضاع مشروع القصة التي كانت تؤرقني وتقض مضجعي خلال الشهرين الأخيرين ..
وضاع صك حوالة قيمتها اثنا عشر جنيهاً بالتمام والكمال،
فهلْ يصرفها لي مكتب بريد «الجيزة» بدون «صك»؟!!
وتذكّرت ـ وأنا أبتسمُ في مرارة ـ أنني ليس معي ما يدل على هويتي إلا بطاقتي الجامعية، وهي ـ للأسف ـ غير معترف بها في البنوك أو مكاتب البريد!!

المساء 28/3/1970
ـــــــــــــــــــ
*نشرت في المساء بعنوان « رحلة الموت مرتين يوميا».

د. حسين علي محمد
12/08/2008, 08:26 AM
*الأعمار بيد الله*
........................

عادت «هيفاء» من العمل إلى بيتها بعد الظهر، وهي تقول لزوجها:
ـ مررتُ على الطبيب، وقال لي إنها عملية سهلة .. ولا بد أن أعمل العملية اليوم!
قال لها زوجها:
ـ إنك لم تشعري بآلامها إلا منذ أسبوع فقط، أعني أنها ليست مزمنة. وباق على العيد سبعة أيام ، والدار تحتاج إلى شغل كثير! .. نحتاج إلى غسيل وطحين .. وخبز، وتفصيل هدوم للولدين!
صرخت:
ـ أنت مستخسر فيَّ الفلوس؟ .. أللجنيهات السبعة التي سأعمل بها العملية قيمة؟ .. أنا سأعمل العملية وأدفع أجرها من راتبي.
قال زوجها مقاوماً ما وسعته المُقاومة:
ـ أنت تستحقين ثقلك ذهباً .. لكن البيت محتاج لك هذا الأسبوع، وبعد العيد يا ستي نعمل لك العملية كما تُريدين!
ولكن هيفاء رأسها وألف سيف إلا وتنفذ الذي قالت عليه، أليست هي المتعلمة الوحيدة في القرية؟ (حاصلة على دبلوم تجارة، وتعمل في الوحدة المحلية، ولها كرسي تجلس عليه، ومكتب لا يُشاركها فيه أحد، وهاتف خاص بها في القرية التي لا يوجد بها هاتف إلا في بيت العمدة؟).
دخلت الحجرة، وأغلقت الباب على نفسها، ثم خرجت إلى الحمّام، وظن زوجها أن عقلها رجع إلى رأسها، ولكنها خرجت بعد دقائق، وقد استحمّت، ولبست ثوبها الجديد، وقالت لزوجها:
ـ أنا ذاهبة إلى العيادة .. ولو كنت تريدني تعال ورائي.
ولم تكن في حاجة إلى تحديد اسم الطبيب صاحب العيادة، فالقرية ليس فيها إلا طبيب واحد، وعيادة واحدة!!
وأخذ زوجها ـ ابن الثامنة والعشرين ـ أباه وذهبا وراء «هيفاء»، أم الطفلين ماجد وصبري.
***
في العيادة الفقيرة ـ بجوار المستشفى الحكومي ـ الذي يعمل فيه الطبيب «عامر»، وفي حجرة مبنية من الطوب اللبن، ومؤثثة تأثيثاً ريفيا فقيراً، ليس في مستوى العيادات الموجودة في المركز أو المحافظة، قال لهم الطبيب الشاب، الذي عرفت القرية أنه من القاهرة:
ـ العملية سهلة إن شاء الله، وتطيب الأستاذة «هيفاء» منها في أقل من أسبوع، وستبقى تحت ملاحظتي ثلاثة أيام فقط.
وحينما قال الأب:
ـ ألا نستطيع أن نؤجلها أسبوعين حتى يمر العيد؟
أظهر الطبيب علامات الجد على محياه، ورفع النظارة الساقطة على أرنبة أنفه وهو يقول:
ـ إن شاء الله تشفى منها في أقل من أسبوع ـ كما قلت لكم ـ وتعود إلى البيت وتعمل الكحك والبسكويت للأطفال!
***
في شهر نوفمبر الماضي أتى إلى القرية هذا الطبيب، وهو ليس أول طبيب يأتي إلى القرية، فقد أنشئ المستشفى منذ سبعة أعوام (تم افتتاحه في عيد محافظة الشرقية القومي، 9 سبتمبر 1962م)، وجاء قبله طبيبان وطبيبة واحدة، ولكنه أول طبيب يفتتح عيادة بجوار المستشفى، وهو أول طبيب "جريء" يعمل جراحات للرجال ولأطفال والنساء!
يقول أحمد ـ زوج هيفاء ـ مستسلماً لوالده:
ـ إنه عمل أكثر من ستين عملية جراحية ـ كما علمت من ممرضه «إسماعيل» لم تخب واحدة قط! ، معظمها عمليات الزائدة الدودية، والحصوة، والقرحة، والبواسير، وختان الأطفال.
ليلة مجيئه ـ لأول مرة إلى القرية ـ مرض شيخ القرية (محمد السعدي)، وزاره الطبيب في بيته، وقال له إن عنده الزائدة، وعليه أن يعملها الآن ولا يجب أن ينتظر حتى الصباح.
وأجرى له العملية في المستشفى ـ وكان ذلك قبل أن يفتح «عيادة» له ـ ، وبعد يومين كان الشيخ (محمد السعدي) مثل الحصان!!
***
حضر «صادق» شقيق هيفاء، وهو مهندس يعمل في مجلس المدينة، في سيارة المجلس التي يستخدمها في ذهابه وفي إيابه، ويستغني عن خدمات السائق أحياناً إذا كان يُريد السيارة في مهمة خاصة له.
سلم على الجميع، واستفسر من الطبيب عن العملية، وقال للطبيب «على بركة الله». فهو رب الأسرة ـ بعد موت والده العام الماضي ـ وقال لأحمد ووالده:
ـ لقد استشارتني «هيفاء» بالهاتف، وأنا في الشغل، وقالت لي إنها عملية سهلة، وسيُجريها الدكتور عامر بسهولة.
قال الأب:
ـ أية عملية؟ .. إننا لم نعلم بها.
ـ إزالة لحمية من الأنف.
ـ ولكنها تحتاج إلى طبيب أنف وأذن وحنجرة في الزقازيق أو المنصورة.
قال صادق، وهو يدفع الهواء بقبضة يده اليمنى:
ـ إنها عملية سهلة، يعملها الأطباء المبتدئون، بلا مصاعب!
قال الأب، الذي يستشيره الناس في مشكلاتهم، ويُحكِّمونه في قضاياهم:
ـ ولكنها عملية ليست ملحة، فلماذا تعملها الآن؟
وأضاف في صوت خافت اجتهد ألا يُبين نبرات غضبه:
ـ من الممكن أن تؤجَّل العملية لبعد العيد!
قال صادق في حسم:
ـ ولماذا نؤجلها، وهي لا تأخذ أكثر من عشر دقائق؟!!
***
في داخل الحجرة التي لم تهيأ يوماً لأن تكون حجرة عمليّات، وعلي سرير مهترئ قديم ـ يبدو أن عمره أكبر من عمر المريضة «هيفاء» ـ ذات الثلاثة والعشرين ربيعاً ـ أعطى الطبيب المرأة حقنة البنج المخدرة، ويبدو أن قلبها الواهن الضعيف لم يتحمل الحقنة، فأخذ يدق بعنف ثم توقف!!
حاول الطبيب النابغ أن يُعطيها حقنة منبِّهة، ولكنها ماتت!
لم يصدق الطبيب أن المريضة ماتت هكذا بسهولة.. ولم يصدق صادق الذي كان معهما داخل حجرة العمليات، أن «هيفاء» قد ماتت بمثل هذه السهولة، فأخذ يبكي بصوتٍ عالٍ، وتشنج الممرض الذي لم يشهد مريضاً يموت عندهم من قبل، وألجمته المفاجأة!
سمع أحمد وأبوه صوت نشيج صادق، فدفعا الباب ودخلا. ما هذا؟!! لطفك يا رب؟ .. الزوجة التي كانت مصرة منذ دقائق على إجراء العملية، وثائرة، سكتت .. سكتت إلى الأبد!!
«هيفاء» نائمة ميتة على سرير العمليات، لا حركة تصدر منها، والطبيب واجم .. وصادق والممرض يبكيان!
***
في الليل أقيم سرادق العزاء، والممرض يجلس في زاوية من المضيفة ـ بين قراءتين للقرآن الكريم ـ يشرح للفلاحين، بصوتٍ خافت، حكاية الحقنة التي لم تتحملها «هيفاء»، والزوج ووالده يستقبلان المعزين، ويبدو أن المفاجأة ألجمتهما فلم يدمعا دمعة واحدة.
قال أحد الفلاحين للمرض إسماعيل:
ـ وماذا كان شعور أحمد؟
ـ رجل .. لم يدمع دمعة واحدة .. حملها على كتفه مغطاة بعباءة والده، إلى سيارة صادق التي أعادتها للبيت.
ـ العجيب في الأمر أنهما لم يُبلغا النيابة والطب الشرعي أنها ماتت ميتة ليست عادية!
انتفض الممرض:
ـ ومن قال ذلك؟ .. إن الطبيب «عامر» ماهر، من أمهر الأطباء، ولكن الأعمار بيد الله!
قال منصور، وهو طالب في السنة الأولى بكلية الحقوق:
ـ سألت أبا أحمد فقال لي ذلك؟
قال إسماعيل:
ـ ماذا قال؟
ـ قال ما قلته: .. إن الطبيب ماهر، ولكن الأعمار بيد الله!
ـ هل جاءكم كلامي؟
أضاف منصور مستغرباً:
ـ العجيبُ أن والدي يُدافع عن الطبيب. قال لي منذ ساعة: أنا عملتُ عنده عملية صعبة ونجَحَتْ، ولكن الأستاذة هيفاء عمرها هكذا!
***
في صباح اليوم التالي جاءت النيابة وجاء الطبيب الشرعي ـ وتتهم أسرة هيفاء منصوراً بأنه هو مَنْ كان وراء إخراج هيفاء من المقبرة وتشريح جثتها، ويقول منصور إنه لم يفعل شيئاً، لكنه يؤكِّد أن الطبيب الشاب استُدعي للتحقيق، وثبت من التحقيق أنه لم يأخذ تصريحاً بافتتاح عيادة، أو إجراء عمليات جراحية، ـ ويبتسم منصور مقرراً ـ رغم أن والده عمل عملية جراحية مرّت على خير ولم يمت فيها!، ـ بصوتٍ عالٍ: إن هذا الطبيب ممارس عام، لم يتخصص بعْدُ، وليس من حقه أن يعمل عمليات جراحية، لكنه كان يقول لكل متردد على المستشفى «عندك عملية الزائدة الدودية» و«يلهف» منه سبعة جنيهات!!

المساء 19/4/1970م

د. حسين علي محمد
12/08/2008, 08:27 AM
*رحلــة أخـــــــــرى*
.............................

خلعت «صابرين» حذاءها .. مسحت المكان بعينيها .. اختارت منضدة ترتفع نصف متر .. صعدت فوقها.
الموسيقى تنبعث شجية خافتة، لكنها سرعان ما تعلو شيئاً فشيئاً .. وتحاكي صوت أغنية «أنت عمري» لأم كلثوم، بموسيقاها الراقصة التي تألفها آذان الجميع.
يتلوى جسدها الثعباني.
الأكف تشتعل بالتصفيق ..
تشعر لغثيان حينما ينبعث صوت المغني المخنث من المسجل.
ما الذي أصابها اليوم فقيّد خطواتها فل تعد تتخطّر كمهرة؟ .. إنها لا تشعر بالرقصة، ولا تستمتع بها كما كانت تستمتع طوال الليالي الماضيات.
ثلاث سنوات تتربّع على عرش الرقص الشرقي، اختارت ملهى «ليالي الجنة» لأنه ينفرد بتقديم الراقصات وحدهن، مع مغنين مجهولين يغنون لهن الأغنيات ذات الموسيقى الراقصة!
ما الذي أصابها فجعلها لا تشعر بلذة أو جمال في الموسيقى والغناء، وفي هذا الذي تفعله من حركات يبتسم لها الرجال والنساء شبه العاريات؟!
أنّى تنظر ـ في كل ناحية ـ ترى أختها التي ماتت أمس، وترى أباها الذي رحل منذ خمسة أعوام بلحيته الخفيفة البيضاء وبسمته الهادئة التي تغمر المكان؟
ماتت أمها وهي طفلة، ومات أبوها ولم تبق لها إلا أختها « عبلة» .. وهاهي عباة قد ماتت قبل أن تحصل على الثانوية العامة.
تزداد الموسيقى صراخاً .. لكنها لا تشعر بها .. تهبط من فوق المنضدة .. وتدل إلى حجرتها القريبة، وتمسح أصباغها بالمنشفة قبل أن تغسل وجهها!
مسئولو الصالة يعجبون مما فعلته «الملكة» .. والمدير يصرخ: لماذا لم تُتم عرضها؟ .. لكن النور الدّاخلي كان يُغمرها .. فلا ترد على استفساراتهم الصارخة.
تكلموا كثيراً دون جدوى.
كانت مشغولة عنهم بما تراه رأي العين؛ فأختها عبلة تفتح أحضانها الطاهرة لاستقبالها، ووجه أبيها المبتسم يملأ المكان .. والجنة ـ الجنة الحقيقية ـ تُناديها!

الرياض 31/5/2002م

د. حسين علي محمد
12/08/2008, 08:27 AM
*في المدى قنديل يضيء*
.....................................

(1)
ها نحن جميعاً قدْ خرجنا من سجون السلطة، وتبوّأنا المناصب، وكان الوقوفُ خلفَ الحكم الوطني وتأييده مدخلاً لنا .. في المشاركة في حكم ثوري حلمنا به منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية، بل منذ ثورة 1919.
صار أحدُنا رئيساً لقطاع السينما، وصار الثاني مشرفاً على هيئة المسرح، وثالث رئيساً لمجلس إدارة إحدى الصحف، وهاأنا قد صرتُ مديراً للرقابة على المسرح.
أنا واحد منهم ومعهم، فلماذا يتهمونني بالتحمس لنص «الأستاذ وتلميذه» .. الذي كتبه رفيقنا القديم حسام منير الذي أخذ بأيدينا جميعاً إلى دروب النضال، وعلمنا كيف نحلم بالتقدم، والغد؟! .. لكنه بعد قضاء عدة سنوات بالسجن، ترك القاهرة وعاد إلى طنطا، ليُدير مدرسة إعدادية، وهو على مشارف الخامسة والخمسين، يعيش وحيداً دون زوجة أو ولد، فقد ماتت زوجته وهو في السجن، ومات ابنهما الوحيد من عدة أعوام تحت عجلات سيارة طائشة!! .. موت أقرب إلى الاغتيال.
اختار أن يكون قنديلاً بعيداً يُضيء درباً ما من دروب الوطن الرحب، والمُترامي الأطراف.
يقول عنه أحباؤه وعارفوه إنه شمس ٌ تُضيء المدى، في تجرد وإخلاص نادرين.
(2)
قدّم حسام منير نصه المسرحي منذ ثلاثة شهور، ووضع له عنواناً صارخاً «لماذا انهزمنا؟»، فاقترحتُ عليه أن يعدِّله، فكتب فوقه بالقلم الجاف «الأستاذ وتلميذه».
قالت لي جميلة عودة:
ـ لماذا لا يريدون عرض هذا النص المسرحي الجميل، الذي قرأته في جلسة واحدة، فرأيته يضع يديه على الجرح الذي سالت منه دماء غزيرة؟
فصمتُّ!
أضافت:
ـ .. لعل السبب أنه مازال مُحافظاً على انتمائه الحزبي، لذلك الحزب السري، ولم ينضم معنا ـ أو مع قوافل المنضمين ـ للاتحاد الاشتراكي.
وخرجت إلى مكتبها لتُجري مهاتفة.
.. لم تعرف المسكينة أنه ترك الحزب الشيوعي، وفارقه للأبد!!
قال لنا الأستاذ حسام منير حينما سألناه بعد الخروج من السجن من ثلاثة أعوام:
ـ لماذا لا تجيء معنا إلى الاتحاد الاشتراكي؟
ـ أنا سأعود إلى طنطا لأربي أجيالاً مؤمنةً تصنع الغد، وأقرأ التاريخ الذي هو حبي ومهنتي.
ـ والعمل السري؟
ـ كفرتُ به بعد أن رأيت من تاجروا به يصلون إلى المناصب، ويتمسكون بها كأنها غاية المراد من أحلام العباد.
ـ وما رأيك في الانضمام إلى حزب عبد الناصر؟
ـ تقصدون الاتحاد الاشتراكي؟
ـ وهل هناك غيره؟!
يرجع برأسه إلى الوراء، ويضحك ضحكة مشروخة، ويضرب يده اليمنى باليسرى لتُحدث فرقعة صاخبة:
ـ إنه لا حزب ولا يحزنون.
ويُضيف مكتئباً:
ـ إنه شيء .. بلا لون ولا طعم ولا رائحة!
قلت مبتسماً، وأنا أضع فمي على أذنه:
ـ هل ستكوِّن خلايا شيوعية جديدة؟
انتفض كمن به مس:
ـ لم أعدْ شيوعيا يا أستاذ!
فاجأتني لهجته، فتلفتُّ حولي، وقلتُ له:
ـ اطمئن .. لم يسمعنا أحد!
قال مبتسماً:
ـ يا أستاذ أنا لم أعد شيوعيا!
قلتُ له:
ـ هل أثَّر فيك الإخوان في المعتقل؟
ـ لستُ منهم، لكنهم ـ كثَّر الله خيرهم ـ أوقدوا فيَّ شمعة الإيمان من جديد! .. وأعادوا لي الأمل في الحياة في ظلال العقيدة!
(3)
هانحن ـ في منتصف أبريل 68 ـ نجتمع لقراءة نصه الذي يبدو عند البعض مُلغزاً ومثيراً، بعد هزيمة يونيو القاتلة، و«بيان مارس» الذي أذاعه عبد الناصر، وخطط فيه بجرأة وطموح للمستقبل.
أقول: فلنبْدأ به .. بإبداء المُلاحظات على النص، أو تلقي آراء من طالعوه.
لكنهم يضحكون، ولا يريدون أن نقرأ شيئاً، ويقترحون الرفض، وبلا سبب!
الرفض بدون قراءة لنص أستاذهم الذي علمهم كيف ينظرون إلى الغد؟ .. لماذا؟
لأنه رفض أن ينضم إلى الجوقة؟!
أم لعودته إلى الدين؟
...
النص يدور حول ثوريين قديميْن، يتاجران بهموم الناس، ويلوكان كلمة «الاشتراكية» بإدمان غريب، ويبيعان الكلام في سوق أشبه ما تكون بسوق نخاسة عصريٍّ!
لماذا يخاف من النص الرفاق السابقون الذين يتربّعون على قمة هرم السلطة؟! ويتعاونون ـ أو هكذا يقولون ـ مع أركان نظامٍ يُحاولون ابتلاعه إذا وجدوا الفرصة الملائمة لذلك .. والنظام يستعصي على مُحاولاتهم!!!
ظل النظامُ قادراً على الانتماء لتراب هذه الأرض.. وحتى وهو يترنَّح بعد الهزيمة، لم ينس أن الرفاق انضموا إليه بصعوبة، وكانوا يؤثرون أن ينضموا إليه كمنظمات لا أفراد!
هل النصُّ يفضح هؤلاء حقيقة كما قالت لي أمس جميلة عودة رئيسة لجنة القراءة ومساعدتي (مساعدة مدير الرقابة)؟!
يضحك الناقد الجامعي البدين (الدكتور سعد زهران)، القارئُ المتعاون، الذي كان رفيقاً لنا من قبل. وهاهو في رجعيته المقيتة يدَّعي أنه يُحافظ على أخلاق الشعب من الانهيار الذي ستأتي به مسرحية، بطلها رجلان ينهبان الشعب ويتشدقان بالكلمات الكبيرة التي لا تُشبع جائعاً، ولا تُشارك في صدِّ هجوم الصهاينة الذين يستحمون الآن في قناة السويس!
.. متى كانت لك أخلاق يا وغْد؟!!
وهل ترفض نص الأستاذ حسام منير لأنه يفضح أمثالك من المتسلقين، الذين لا يُبصرون إلى مدى أكثر من رغباتهم الشخصية؟
يقول:
ـ كان من الأفضل أن يجعل في المسرحية بطلةً من الطبقة الكادحة .. تغسل في البيوت حتى تربي أولادها، ومخدومها (أو أستاذها) يريد الزواج منها، لأنه معجب بكفاحها!
أو يكتب عن عامل أو فلاح ابنه يُقاتل على الجبهة.
قلتُ في لومٍ لهم:
ـ اكتبوا أنتم هذا النص .. أو هذه النصوص لنقدمها على مسرح الدولة .. نحن تقرأ نصوصاً ولا نقترح موضوعات!
تخرج جميلة عودة .. وينفضُّ الرفاق مصرين على الرفض دون قراءة، ويبقى صبري جميل وسعد رمضان.
صبري يغني لرمضان أغنيته المفضلة:
ـ ماذا يشغلك الآن يا سعد؟!!
ـ لا شيء!
ـ كنتُ أريد أن أسألك ..
ـ تفضل ..
يسأل في صوت هادئ، كمن يُحدث نفسه:
ـ ماذا يريدُ أن يقول صراحةً هذا النصُّ الذي رفضناه؟
ينفعل سعد رمضان، ويندفع خارجاً من الباب:
ـ إنه يفضحنا يا صبري .. ولذا كان لا بد من رفضه.
.. وصبري يسألني غير مصدق:
ـ هل يقول ذلك حقيقة؟
أجبتُ، وأنا أحاول أن أخفي غضبي:
ـ لا أدري؟ ..
قال في ود حقيقي:
ـ عمّ يتكلم إذن؟
ـ إنه يرينا أستاذاً وتلميذه وهما يتكلمان ويتكلمان ويتكلمانِ .. دون أن يفعلا أي شيء .. أي شيء .. أو أي فعل حقيقي؟
قال صبري ضاحكاً:
ـ وما الضرر في كلامهما؟ .. لقد تكلمتُ أنا أيضاً مع الأستاذ حسام منير من يومين هاتفيا، وطلبت منه أن يعود إلى القاهرة، وطلبتُ منه أن يتزوّج شغّالة مسكينة تعمل عند جاري، بدلاً من أن يُضيع حياته في طنطا، يُعلِّم الأطفال! .. وضحكنا وتبادلْنا كثيراً من النكات!!
.. ويقلب صفحات النص ـ دون قراءة ـ ويقول في اشمئزاز ظاهر:
ـ مسكين!! .. سيضيع عمره في الكلام .. أضاع معظمه في الحديث والتبشير بالشيوعية .. وسيُضيع القليل الباقي في ذمِّها، وهو يُحاول أن يُخرجُ أفضل ما نسمعُ من كلماتٍ ثوريّةٍ؟!!
قام في تثاقل يستأذن:
ـ أنا أقسم لك أنني لم أره منذ إغلاق خليج العقبة قبل حرب الأيام الستة، منذ أحد عشر شهراً تقريباً، وهو ـ كما يبدو ـ مكتئب .. لماذا يكتب إذن إذا كانت كلماته تشبه الطعنة فينا أو تُشبه شهادة الزور ونحن تلاميذه؟!
قلتُ معترضاً:
ـ أولاً أنت لم تقرأ النص لتحكم عليه، وثانياً: ألم تقل من دقيقة واحدة إنه كان يتبادل النكات معك أمس؟
قال وكأنه بوغت:
ـ أنا الذي كنتُ أقول النكات في الهاتف، وكان يُشاركني الضحك أو التعليق.
قلتُ له وأنا أشعر بغثيان:
ـ لماذا تخافون من النص وصاحبه قد ترك القاهرة لكم، وذهب إلى موطنه في طنطا، وترك لكم الجمل بما حمل؟!
.. ولم يُجب!!
.. استأذنتُ منه، وأغلقتُ النص المسرحي، وغادرتُ قاعة الاجتماع التي كانت تفوح منها رائحةُ اغتيالٍ خبيثة!!

ديرب نجم 20/8/2000م

د. حسين علي محمد
21/08/2008, 09:09 PM
*ومضة الرحيل*
.......................

هند ـ صاحبة البيت ـ أرملة جميلة، بيضاء، في الثامنة والأربعين.
وفريد ـ حاصل على مؤهل عال في الإعلام ـ يبحث عن عمل، ويُراوده أمل!
حينما وقفا ـ عاريين، الرجل العزب والمرأة الجميلة الممتلئة ـ وحيديْن، في حضرة الراعي، بعدما دقّت أجراس الفضيحة .. تضاحك الرجال والنساء.
الرجال الذين قالوا إنهم يمشون على الصراط المستقيم، وتشبث كل منهم بمسبحته، كأنه ستشهد على طهارته.
والنساء اللاتي لم يضحكن ضحكة بريئة أبداً.
كان فريد وهند يلعقان جراحهما،
ويشهدان أنهما خاطئان،
وأن خطيئتهما تُفسد مياه نهر النيل.
...
أشار الراعي بذراعه، فانطلق الأطفال ـ الذين لم يُخطئوا أبداً ـ يقذفونهما بقطع الحجارة الصغيرة.
كان المشهد بعد صلاة المغرب، ولكن الأفق لم يُظلم!
كانا يريان شموساً صغيرة تجتهد أن تضيء
وكان زورق هند وفريد الهادر بالخطيئة ـ بعد قلق ثلاثة أشهر وعواصف أربعة عشر يوماً وضياع تسع ساعات وجحيم خمس وأربعين دقيقة .. يرسو أخيراً ـ بعد حكم القاضي ـ ..
على شطآن السكينة،
والإيمان،
والموت الطاهر الذي يعني الحياة!
وأومض السيف فرأيا عصافير صغيرة تحط فوق رأسيهما، وسمعا صوت أناشيد بعيدة ترحب بالملكيْن الطاهريْن.

ديرب نجم 21/8/2003م

د. حسين علي محمد
21/08/2008, 09:10 PM
*النظر إلى الخلف*
...........................

كان مرتدياً جلبابه الفلاحي المتسع، في ذلك الصباح الشتوي من يناير، واضعاً يديْه خلف ظهره .. يمشي مشية متئدة حتى لا يظهر العرج الخفيف الذي أصاب خُطاه بفعل داء «النقرس» اللعين، تصحبه زوجته وقد هبطا درج العمارة الكبيرة حيث زارا ابنهما الوحيد المهندس «طلحة» لتهنئته بافتتاح مكتبه الهندسي، الذي افتتحه بعد عودته من ألمانيا حاصلاً على الدكتوراه في الهندسة. ذلك المكتب الذي يعمل فيه معه مهندس ومهندسة وأستاذ استشاري كبير.
توقفت زوجته «الدكتورة منى» ـ الأستاذة بكلية الزراعة، والمعروفة في المنطقة ـ عن المشي لتكلم سيدة استوقفتها. يبدو أنها تُريد مساعدتها في شيء، أو تسألها عن نتيجة ابنها أو ابنتها في الفصل الدراسي الأول.
قلل خطواته لتلحق به زوجته دون مشقة، بعد أن تنتهي من أمر هذه السيدة.
الزقازيق التي كانت تبدو كقرية كبيرة أيام أن كان طالباً بالمرحلة الثانوية في منتصف الستينيات .. ها هي تتسع وتتسع في السنوات العشر الأخيرة التي ترك فيها جامعته مستقيلاً، وذهب إلى الإمارات ليتخفف من الصراعات والمشاكل التي كابدها في جامعته التي أسسها.
سمع صوت السيدة التي استوقفت زوجته يأتي من الخلف:
ـ الدكتور محمود الأنصاري؟
رد في تلقائية، دون أن يترك لزوجته فرصة الرد:
ـ نعم يا أفندم، محمود الأنصاري.
نظر، وجد امرأة سمراء عجفاء تُقارب الخامسة والخمسين. ظنها لأول وهلة سائلة، فأدخل يده في جيبه ليُخرج صدقة تليق به، ليُعطيها .. ضحكت:
ـ أنا سميرة عاكف.
أخرج يده من جيبه بسرعة، وضرب جبهته كأنه يوقظ ذكريات مر عليها أكثر من ثلاثين سنة.
ـ ياه .. ليس معقولاً؟
صافحها بحرارة، وهو يقول لزوجته:
ـ كانت سميرة زميلتي في كلية الاقتصاد من ثلاثين سنة. كانت مع أول دفعة التحق بها أبناء الفلاحين بعد هزيمة 67.
وقال وهو يؤكد على كلماته:
ـ لكنها ليست فلاحة! فأبوها كان مدير أمن الشرقية الأسبق.
ضحكت سميرة، فأنارت ضحكتها وجهها الأسمر، وهي تقول في حرج:
ـ مازلت تتذكر؟
كاد أن يكمل «كان نفسي أشوفك يا سميرة من زمان» .. ولكنه كتمها في فمه!
ومر في فكره أنه توجه إليها خاطباً بعد التخرج، ولكن والدها لواء الشرطة (اللواء محسن عاكف) أوصد الباب في وجه ابن الفلاح الصغير.
قال لها مبتسماً ابتسامةً عريضة اعتاد أن يراها من يعرفه كلما تحدّث:
ـ إلى أين أنت متجهة؟
أشارت إلى الطابق الرابع من العمارة التي هبط منها:
ـ طالعة لرؤية ابنتي المهندسة «شيرين» التي تعمل في «مكتب طلحة للاستشارات الهندسية».
صافحها متعجلاً، ولم يسأل زوجته إذا كانت تعرف سميرة أم لا؟
ووجد ريقه يجف، فلم يسأل سميرة:
ـ أتعرفين أن طلحة ابني؟.
مشى عدة خطوات، ووجد زوجته مشغولة بتصفح واجهات المحلات، فنظر إلى الخلف خلسةً، ووجد سميرة أيضاً تنظر خلفها!

الرياض 5/3/2004م

د. حسين علي محمد
21/08/2008, 09:10 PM
*بلا دموع ...!*
...................

دعا حسام الله أن تكون خطيبته هند مع أمها فقط في البيت، وأن يكون أخوها عمر مدرس الفيزياء في مدرسة القرية الثانوية ـ الذي يكبرها بعامين قد ذهب لحصة دروس خصوصية صيفية، وتمنى أن تفتح هي الباب، حتى ينعم بنظرتها التي يُحب أن يراها دائماً.
أما والدها المهندس عثمان فهو متأكد أنه لن يراه، فهو يعمل في شركة بترول بالصحراء الشرقية، ولا يعود إلا كل شهر مرة ليُمضي مع أسرته عشرة أيام، وهو قد سافر منذ عشرة أيام لا غير.
لكن الله لم يستجب دعاءه، فقد فتحت له الحاجة عنايات (أو أم عمر) الموجهة المالية والإدارية بإدارة الزقازيق التعليمية.
***
قدّمت أم عمر الشاي لحسام وابن خالته صدقي ـ وهو محاسب بإدارة المنصورة الهندسية، وأشيب، وفي الخامسة والأربعين ـ ولاحظ حسام أن أم عمر متوترة، وأن بريق دمعتين منطفئتين في عينيها.
قال:
ـ أين هند؟
ـ في الإسكندرية.
ـ لماذا سافرت وحدها؟ .. اعتادت ألا تسافر إلا معي أو مع الأستاذ عمر.
قالت أم عمر في آلية:
ـ الإسكندرية قريبة.
بلع ريقه في صعوبة:
ـ ومتى ستعود إن شاء الله؟
ـ قبل نهاية الإجازة بأسبوع.
نحن في أول الإجازة .. فهل ستُمضي شهريْن عند خالها في الإسكندرية؟ .. وكيف سيقضي هو هذه الفترة العصيبة؟
***
دخلت أم عمر إلى الحجرة المُجاورة، وعادت وهي تحمل حقيبة يد سمراء كم رأى هند وهي تحملها في كتفها، وكم وضع لها بعض الورود فيها، وهما يمشيان معاً في الزقازيق.
خطبها منذ عام، وقدّم شبكة متواضعة من دبلتين: ذهبية لها وفضية له، وابتدأ يجمع القرش إلى القرش حتى يُؤثث شقته المتواضعة ـ التي تتكوّن من حجرتين ـ في الزقازيق.
كانت هند غير راضية بها، لكنها تعرف أن العين بصيرة واليد قصيرة وسيستأجران ـ فيما بعد ـ شقة أخرى تكون أوسع من تلك التي كجحر الثعلب، ولا تزيد عن سبعين متراً.
حسام وهند من قرية لا تبعد كثيراً عن الزقازيق، كانا في مدرسة واحدة منذ المرحلة الابتدائية، فالإعدادية، فالثانوية. وكانا يتنافسان دائماً على المركز الأول. والتحقا بكلية التجارة، وهاهما قد تعيّنا معيديْن منذ ثلاثة أعوام.
كانت حكاية حبهما على كل لسان منذ نهاية المرحلة الثانوية.
***
جلست أم عمر على الكنبة، ووضعت الحقيبة بجانبها.
قال حسام:
ـ لم تقل لي هند أنها ستُسافر لزيارة خالها الباشمهندس محمود في الصيف.
جو القرية خانق .. يحس برائحة خانقة .. لعلها رائحة يد حلة محروقة، تختلط برائحة سمك نفّاذة .. يبدو أنها منبعثة من البيت المواجه الذي يبعد ثلاثة أمتار فقط عن الحجرة التي يجلسون فيها.
قال صدقي لحسام وهو يميل على أذنه:
ـ عجِّل .. أحس برائحة غير طيبة تملأ المكان!
يبدو أن أم عمر قد سمعت المُلاحظة، فبدا على وجهها ما يشير إلى الامتعاض.
قال حسام:
ـ ولماذا لم تقض الصيف هنا؟
قالت أم عمر:
ـ ابن خالتها الدكتور محسن عاد من أمريكا .. وذهبت لتسلم عليه .. وأنت تعلم أن شقة الدكتور محسن تُواجه شقة خالها محمود.
كان محسن يكبره بأربعة أعوام تقريباً، وكان الأول على مدرسة القرية دائماَ.
تذكَّر أنه حينما توجه لخطبتها منذ عام سمع من أحد فلاحي القرية أن هنداً على علاقة بمحسن ابن خالتها.
قال ـ وهو يبلع ريقه بصعوبة ـ ولا يكاد هو نفسه يسمع صوته:
ـ لقد عاد من أمريكا بسرعة!
قال صدقي وهو يبتسم:
ـ بل الأيام هي التي تجري بسرعة!
قالت أم عمر وهي تؤكد على حروف كل كلمة، وتهش بيدها اليسرى ذبابة تُصر أن تقف على أنفها:
ـ نال الدكتوراه في زمن قياسي.
رأته ينظر في الأرض ويفرك أصابعه، فأضافت:
ـ حصل على الشهادة في عامين ونصف، وكانت جامعة الإسكندرية قد أوفدته في بعثة لخمسة أعوام.
سأل صدقي الذي يُقيم في المنصورة من خمسة وعشرين عاماً ـ وهو من جيل أم عمر، ولا يعرف معظم أبناء القرية:
ـ الدكتوراه في الطب؟
قالت الموجهة المالية:
ـ لا .. في علم الاجتماع السياسي.
***
تذكر حسام أن هنداً في لقاءاتهما الأخيرة كانت تكلمه عن ابن خالتها «محسن» كثيراً، وأنها كفَّت عن غناء أغنية أم كلثوم الأثيرة «الأطلال» التي كانت تغني مقاطع منها كلما تُقابله في حديقة الجامعة، وتشتبك أيديهما معاً.
رفع حسام كوب الشاي فوجده بارداً، وكان ابن خالته «صدقي» قد انتهى من كوبه.
قال للسيدة أم عمر وهو يهم بالقيام:
ـ لقد تأخَّرنا .. تُصبحين على خير .. سلمي لي على الأستاذ عمر حينما يجيء.
قالت في آلية:
ـ سيأتي بعد قليل .. ألا تنتظره؟
ـ الوقت متأخر كثيراً ..
وأضاف وكأنه يتخلص من الكلمات:
ـ سأراه في زيارة تالية إن شاء الله.
مدَّ يده ليسلم عليها، ولكنها كانت مشغولة بفتح الحقيبة السوداء، التي أخرجت منها علبة قطيفة حمراء .. علبة لا يجهلها، وفتحتها قليلاً فرأى دبلته لهند.
أغلقت العلبة، ووضعتها في ظرف أبيض، وقالت ـ وكأنها تؤدي مهمة رسمية ـ بلا مشاعر:
ـ هذه رسالة من هند لك.
أغمض «صدقي» عينيه وتحرك خطوتين إلى الأمام ليُغادر الحجرة، ولم يسألها «حسام» ماذا في هذه الرسالة؟ ومدَّ يده أمام أم عمر ليخلع دبلته الفضية، ويضعها في الظرف نفسه، ويُمرر لسانه على حافة الظرف ليلصقه بهدوء، ويضعه في جيب بنطلونه الخلفي .. بلا دموع!

ديرب نجم 17/8/2003م

د. حسين علي محمد
21/08/2008, 09:11 PM
*تلك الليلة*
.................

1-الزعماء يغيرون الجغرافيا:
هربْتُ من السجن، حينما عبرتُ النفق الذي يمتد أربعة عشر متراً تحت الأسوار.
تخيّلتُ صديقي الناصري صبري عبده حينما يصحو ويكتشف هروبي، فيصرخ في أقرب جارٍ له في السجن:
ـ عثمان خائب وغرير .. لماذا هرب؟ .. سيجيئون به من تحت الأرض .. ويعذبونه!!
أتخيله يلحق بي، ويصرخ:
ـ لماذا هربتَ من السجن؟
ويحاول أن يشدني ليرجعني إلى السجن رأفةً بي وخوفاً عليَّ، فأوشك أن أفتك به.
لكني على كل حال تركتُ الأسوار ورائي ... فلماذا أشغل نفسي به؟
توقعتُ أن أُضرب بالرصاص ساعة الفرار .. يُطاردني جندي مع زملائي الثلاثة الفارين، ويطلب منا التوقف، فنجري، فيُطلق علينا النار.
كيف ستستقبلني أمي؟ وهل ستكلمني كلامها المعهود .. لقد جاوزت الأربعين يا بني .. فمتى تُسعد قلبي ببنت الحلال؟ .. ثم تقصُّ لي ما جرى لأبناء القرية جميعاً في غيابي .. الذين تزوّجوا .. والذين ماتوا .. والذين سافروا للعمل في ليبيا والعراق.
هل سأستطيع أن أمكث يوماً مع أمي التي شُغلت عنها في السنوات الخمس الأخيرة بالعمل مخرجاً مسرحيا في القاهرة؟.
قال لي صبري عبده محذراً:
ـ أنت واهم إذا ظننت أنك ستغير التاريخ.
وضحك:
ـ الزعماء وحدهم هم الذين يغيرون التاريخ والجغرافيا أيضا.
وحين رآني مستغرباً:
ـ حينما ينتصرون يغيرون التاريخ، وحينما يتركون أرضهم لأعدائهم كما فعل زعماء العرب في حرب 1967م، فهم يُغيرون الجغرافيا!
كيف يكون ناصريا ويتكلّم عن زعيمه بمثل هذا الجنون؟!!
بصقت بصقة كبيرة ناحيته، وأنا أقول في سري:
ـ وغد، سافل.
أضاف ضاحكاً:
ـ لا تغضب يا سيدي! .. ليس زعيمنا وحده من غيّر الجغرافيا!
وأضاف بلهجة ساخرة:
ـ زعماء كثيرون فعلوا مثلما فعل زعيمك.
وقال وكأنه يُغني سخريةً ومرارة:
ـ يا قلب لا تحزن!

2-التجربة الأولى:
أصرَّ مساعدي محمد فهمي على أن يحذرني من مغبّة معارضة السادات في ذهابه للقدس، وقال لي:
ـ إن شعبك ـ أيها الناصري الحالم ـ تعب من القتال والحرب، ويريد أن يعيش.
قلتُ في قرف:
ـ ولكن إسرائيل لن تتركنا!
قال وهو يرتدي مسوح الحكمة:
ـ ستعيش وحيداً.
وأضاف:
ـ اقرأ جيداً التاريخَ الذي يقول: إن أبا ذر قد لفظ الأنفاس وحيداً في الربذة.
قلتُ ـ مُتغابياً عن مغزى كلماته ـ في قرف:
ـ ما علاقةُ الصحابي الجليل بعالمنا الآسن؟!!
وضحك:
ـ كانتْ معهُ زوجُهُ.
فقلتُ له وأنا أدير وجهي للناحية الأخرى:
ـ أنا غير متزوج!
ثم استدركتُ:
ـ وأنت أيضاً ناصري .. لكن سلوى .. خنساء هذا العصر ـ أقصد خطيبتك الشاعرة الممثلة ـ ستُخالف التاريخ.
فقال في لهجة تمثيلية:
ـ لماذا يا سلوى جعلتِ أبا ذر يعودُ إلى مكة، ويُقابل السلطان ويقول له ما لا يُحب سماعه؟!!
تحدّثتُ مع بطل مسرحية «ليلى والمجنون» ـ في استراحة من التجارب ـ وهو من المعجبين بالرئيس المؤمن، فقلتُ له: إن نص الخطاب الذي ألقاه السادات في القدس أكثرُ منْ رائع، لأنه يجعل أمريكا اللاعب الأول ـ الذي يملك كل أوراق اللعبة! ـ في المنطقة، ولا مانع من أن نحول هذا الخطاب إلى نص مسرحي يجعلُ مصر في صورة حسناء تُباع في سوق الرقيق بدولارات "مضروبة"؟!، فقال ضاحكاً:
ـ ولماذا لا نبدأ تجارب إخراج هذا النص ـ بعد أن تستكمل كتابته ـ في القدس المحتلة، وفي عيد الأضحى القادم؟
الوغد ..
أخطأتُ في اختيار من أفضي إليه بخواطري ..

3-صفحة من مذكراتي:
22 ديسمبر 1977م:
« قال لي صبري عبده:
ـ لماذا لحقت بنا هنا؟
ـ لأني فكرتُ في كتابة نص مستوحى من خطاب الرئيس المؤمن، وفكر سامح سري في أن أخرجه في القدس المحتلة.
ضرب الباب بقبضة يده:
ـ سامح سري مباحث! هل كنت تهذي؟ ..
قلتُ في حزن:
ـ لم أكن أعرف.
صمتنا برهة، فأضاف:
ـ والنص؟ .. هل كتبته؟
ـ لا..
وقلتُ وأنا أُبدي الفزع لأُريحه:
ـ وهل يحاسبونني على نيتي؟!!
لم يرد!
... وضحكنا ..
...
يضحك صبري عبده ـ المسجون قبلنا من يناير 1977م، في أحداث الخبز ـ حينما يسمع قصيدة ـ مجهولة القائل ـ عن تحرير القدس، فتمتلئ عيناه بالدموع، ويقول:
ـ القدس ثالث الحرمين، نحبها ونعتز بها، لكنها لن تعود إلينا أبداً.
قلتُ:
ـ ستعود .. بألف تأكيد.
وأضفتُ:
ـ لقد احتُلت من قبل في زمن الصليبيين، وأعادها صلاح الدين.
قال ملحنا ما يقوله في حزن:
ـ صلاح الدين لن يعود يا حبيبي، لأن الجالسين على الكراسي لن يتركوها!!
قلتُ:
ـ الشعوب ستجبرهم على ذلك؟ وستنضم إلى صلاحٍ، وتُحارب في صفوفه!
قال وهو يدير وجهه للناحية الأخرى:
ـ وحاميتهم أمريكا ـ التي تُمسك أوراق اللعبة كما يقول الرئيس المؤمن ـ أين ذهبت؟ ..
وأجاب على سؤاله مقهقهاً في حزن جريح:
ـ هل أكلتها القطة؟
لعنتُ ـ في سري ـ صبري عبده ومن على شاكلته من الناصريين المثبطين، وثوار الزمن الأخير، الذين يُسجنون ويضيعون أعمارهم في السجن بلا قضية .. وبلا أُفق!
وذكّرتني أقواله بقصيدة سمعتُها من يومين من شاعر مسجون آخر ـ يبدو أنه من فصيل ماركسي ـ وكنا نتكلم عن الزمن القادم الجميل، فأخرج من جيبه قصيدة يتحدث فيها عن صورة العالم الذي يريده بعد خروجه من السجن، يقول فيها:
وأنا أيضاً
أحلمُ بالزمنِ القادمٍ ..
يبتلعُ الفقّاعات الطافيةَ على الوجهِ .. ونُصبحُ قممَ الأشياءْ
سنصيرُ السادةْ
سأصيرُ رئيساً عصريا
يشربُ كأسَ الويسكي في الحانةْ
ثمَّ يعودُ سريعاً ..
ليُضاجعَ زوجَ رئيسِ الوزراءْ!!

4-أصل القضية:
مشيتُ بعد منتصف الليل على شاطئ الترعة التي أعرف أشجارها، والتي ستوصلني إلى قريتي حيث بيت أمي!
لا أريد أن أتذكر تلك الليلة الأخرى السيئة .. ليلة القبض عليَّ.
قال لي مساعد المخرج: سأتزوج سلوى الخميس القادم .. يا أستاذ .. سلوى .. شاعرة لا ممثلة! (ووجّه كلامه لها) لم تستطيعي أن تنجحي كممثلة في المسرحيات الست التي مثلتِها من قبل .. لم تعقب سلوى، وضحكت وهي تتذكر المسئول الكبير ـ المعجب بها والذي يُطاردها هاتفيا ـ والذي يجلس دائماً في الصف الأول .. ولا يُشاهد شيئاً من أدائها لأنه ينام ..
وقلتُ ضاحكاً:
ـ إذا تزوجتما .. فمن يمثل دورك في «ليلى والمجنون»؟!
ضحكت ..
وضحكنا .. وأغمضتُ عينيَّ لأفتحهما على ضابط وشرطيين .. يطلبان مني التوجه معهما إلى (لاظوغلي):
ـ خير؟
ـ سؤالان، وتعود إلى بروفاتك.
ولم أذهب للاظوغلي للتحقيق، وإنما إلى السجن مباشرة .. السجن الذي فيه صديقي القديم، وزميلي في منظمة الشباب: صبري عبده .. لنتشاجر، ونضحك، ونحزن! .. ونقضي معاً ستة أشهر .. مليئة بالحوار، والشجن، والعذاب!

4-لحظة الفاجعة:
هاهي قريتي الغافية لا تصحو على وقع خطوات ابنها الذي لم يزرها منذ عامٍ ونصف تقريباً.
رأيتُ أمي نائمة، لا تتحرك، ولا تفتح عينيها.
بدأ الحلم ينحسر .. الخارج ليس أقل شراسةً من السجن.
.. أخبرني أخي محمد أن أمي مصابة بجلطة منذ شهرين، وأنها لا تعي شيئاً ممّا يدورُ حولها، رغم عَرْضِها على أكثر من طبيب خاص .. فمستشفى القرية بدون طبيب! .. وأخبرني أن زوجته ماتت منذ عشرين يوماً ـ لماذا لم يصلني الخبر؟ .. هل كنتُ بعيداً جدا؟ .. وهل السجن ناءٍ إلى هذا الحد؟ .. هل كنتُ في واق الواق؟ ـ وأخبرني أن ابنته الوحيدة تعمل الآن مدرسة في سلطنة عمان منذ تزوّجت في أواخر الصيف الماضي.
الساعة الرابعة صباحاً .. هل سأصلي الفجر في المسجد؟ .. أم أن الأفضل أن أُصلي في البيت حتى لا يراني أحد؟!!
...
...
صافرة عربة الشرطة تقطع الصمت!
.. لم أستمتع بهروبي ..
يبدو أن أسوار السجن الكبير تمتد بعرض الوطن وطوله!!

ديرب نجم 15/9/1983م

د. حسين علي محمد
21/08/2008, 09:12 PM
*لن يُكلِّم نفسه في الشارع*
..........................................

(1)
الأربعاء 31 من مارس 2004م:
دخلت مكتبة «جرير» أبحث عن بعض الكتب، لأستكمل بحثي الذي أعده لملتقى أدبي في الأردن يُعقد بعد شهرين.. ويُشارك فيه بعضُ أساتذة النقد الأدبي في جامعات عربية وأجنبية.
لم أجد جديداً..
هذه الكتب لديَّ في مكتبتي..
فلأعد إلى البيت لأشاهد برنامج «بلا حدود»، .. حاولتُ أن أتذكّر اسم الضيف فلم أستطع!
....
.. وأنا أُطالع واجهات المحلات في شارع «العليا» حيث أسكُن، وجدتُ أمامي «مكتب الزهراء للسفر والسياحة»، رأيْتُ موظفيْن يجلسان على مكتبين متجاوريْن: أحدهما سعودي والآخر مصري. اقتربتُ من المصري، وسألتُه:
ـ هل هناك رحلات الليلة إلى جدة؟
تحرّكت أصابعه على لوحة مفاتيح الحاسوب، وقال بعد أقل من دقيقة:
ـ أربع رحلات.. الثامنة والنصف، والتاسعة والنصف، والحادية عشرة والنصف، والثانية صباحاً.
نظرتُ في الساعة فوجدتُ أنها تقترب من الثامنة.. فقلتُ:
ـ احجز لي في موعد التاسعة والنصف.. واجعل العودة بعد يومين.. بعد ظهر الجمعة.
قال وكأنه يُخاطب نفسه:
ـ الجمعة الثاني من أبريل؟ ..
حدَّق في الحاسوب الذي أمامه، وضغطت أصابعه على لوحة المفاتيح .. صمت لحظة، ثم رفع رأسه إليَّ:
ـ هناك موعدان .. الثانية والرابعة.
قلتُ دون تردد:
ـ الرابعة أفضل .. حتى نصلي الجمعة هناك، ونأخذ راحتنا!
أخذتُ التذكرة، ونقدتُ الموظف 560 ريالاً قيمتها، واستوقفتُ سيارة أجرة لتعود بي إلى البيت لآخذ حقيبتي شبه الجاهزة للسفر، وفيها بذلة مكوية، وبعض الملابس الداخلية، ومجموعة محمد جبريل القصصية «سوق العيد» التي ظهرت منذ ثمانية أعوام، ولم أجد الفرصة لقراءتها.
ركبتُ سيارة الأجرة.. أخرجتُ هاتفي الجوّال، فجاءني صوت هاشم من الطرف الآخر:
ـ كيف حالك يا أبي؟
ـ انتظرني في مطار الملك عبد العزيز في الحادية عشرة.
قال وكأنه غير مصدق:
ـ متى؟.. الليلة؟
ـ الحادية عشرة الليلة يا هاشم.
قال وهو يطير من الفرح:
ـ ستجدني أنا و«شادية» في انتظارك.
(2)
في الطائرة جلستُ على المقعد 37 (a)، ووجدت المقعد الذي بجواري خالياً، فوضعتُ عليْه المجموعة القصصية التي في يدي.. قرأتُ عناوين صحيفة «الندوة» التي وزعتها علينا المضيفة:
«العمالة الوافدة تُغطي شوارع مكة، وتُهجِّر ملايين الريالات للخارج .. المليك يدعم برنامج مكافحة الملاريا باليمن .. ضبط مزورين وشبكة تمرير مكالمات وأغذية فاسدة في مداهمة بالعاصمة المقدسة .. لماذا خسر الأهلي (السعودي) ثلاث نهائيات متوالية؟»..
...
لا أدري كيف تعرّفتُ على الدكتور «ماهر رشاد»!
تعرّفتُ عليه عام 1995م تقريباً.
كنتُ قد أصدرتُ ديواني الخامس، وأراد نادي الرياض الأدبي أن يُقيم لمناقشته أمسية من تلك الأمسيات الأدبية التي يقيمها يوم الثلاثاء. حضر بعض النقاد السعوديين، ومن الأساتذة المصريين المقيمين في الرياض، حضر بعض أساتذة النقد الذين يُدرسون في جامعتي الإمام والملك سعود، وفي كلية المعلمين.
كانت ندوة جميلة، ألقيتُ فيها خمس قصائد، وقدم أحد الأساتذة دراسة عن مفهوم التناص في شعري، وآخر عن الحوار ومغزاه في شعري، وكان من النتائج العجيبة التي توصّل إليها أن الحوار يكثر في شعري، لأني انطوائي منعزل، أقيم في الرياض (ومن قبل أقمتُ في طرابلس وصنعاء: في طرابلس سنة، وفي صنعاء أمضيْتُ فصْلاً دراسيا) بمفردي، بعيداً عن أسرتي!، قبل أن تموت المرحومة زوجتي! (ولم يستطع الدارس أن يربط بين الحوار في شعري ومسرحياتي الشعرية؛ حيث إن لي ثلاث مسرحيات شعرية، مُثِّلتْ إحداها على مسرح «الطليعة» بمصر، وهو مسرح تجريبي!!).
يومها فرح بي الأساتذة المصريون: عبد الحميد إبراهيم، وحلمي القاعود، وصابر عبد الدايم، وحامد أبو أحمد، ومحمد علي داود، ويحبى عبد الدايم، وعبده زايد.
اعتبرت هذه الأمسية احتفالية أكثر مما اعتبرتها تكريماً لشعري المتواضع، الذي هو في أغلبه سياسي، ويشتبك مع قضايا الواقع، فيناقش تخلف العرب والمسلمين، وتكالب الغير علينا، وهذا ما يعيبه عليّ بعض النقاد، ويعدونني ناثراً ـ أو خطيباً ـ ضللتُ الطريق إلى الشعر!
في هذه الليلة، أبصرتُ رجلاً طوالاً، يميل وجهه إلى الشحوب، يمسك بكلتا يديه كراسة زرقاء يُدوِّن فيها ملاحظاته كمتابع للشعر وللنقاش الذي يدور.. كأنه يحتضن طفلاً صغيراً يخاف عليه!!، لكنه لم يُشارك في مناقشة شعري.
في نهاية الأمسية تعرّف عليّ، وعرّفني بنفسه أنه متابع لخطواتي الشعرية، وأنه قرأ لي بعض القصائد في «الثقافة الجديدة» و«إبداع» بمصر، و«المنتدى» بالإمارات، و«البيان» بالكويت، ودعاني ليلتها ـ وكنا في الحادية عشرة مساءً في ليلة من ليالي ديسمبر ـ لتناول الشاي معاً في شقته في شارع الخزّان.
من حواري معه عرفت أنه أستاذ للصحافة في جامعة الملك سعود، وأنه لا يميل إلى فنون الأدب، لكنه يُحب قراءة المحاورات الفكرية، ويكتفي في القراءة الأدبية بمتابعة بعض الأشعار التي تروقه، وبعض الأسماء، وأنا منها، وأنه لا يميل للقصة أو المسرحية أو فنون السرد عموماً.
في يوم الجمعة التالي كنت معزوماً على الغداء عنده، وكانت الجمعة الأخيرة من شعبان، وعلمتُ يومها أنه متزوج من سيدة فاضلة، زميلة له (تعمل أستاذاً مشاركاً في الجامعة نفسها)، تزوّجها من خمسة وعشرين عاماً، وأنجب ولدين.. تخرجا من كليتي العلوم والطب، وبنتاً ستتخرّج هذا العام من كلية الهندسة.
أخبرني أنه من أسرة عريقة بالإسكندرية، تعمل بالتجارة، وقال لي إنه يمتلك مزرعة كبيرة في المنوفية ـ يُقدر ثمنها بسبعة ملايين من الجنيهات ـ يعمل فيها أبناء شقيقته الوحيدة.
وفي لقاء تال سألتْني زوجته الفاضلة «الدكتورة حنان» لماذا لا تتزوّج وأنت في الثانية والخمسين، والمرحومة زوجتك قد رحلت منذ عامين؟ وقالت إنها تُريد مني أن أتزوّج لأعيش حياتي وأستمتع بها، وأجد زوجةً تهتمُّ بي، بعد أن تخرّج ولداي من كلية الطب، وسافر أكبرهما (وليد) إلى بريطانيا وتزوج فتاة إنجليزية، لم يُعقِّب منها بعد، بينما (هاشم) مازال ينتظر أن يجد فتاة تقنعه بجدوى الزواج!!
حاولتُ أن أشرح لها أن السعادة ليست في الزواج فحسب، وإنما في أشياء أخرى، منها طاعة الله، والتوافق بين الإنسان وحياته التي يحياها، وكيفية الاستمتاع بالوقت، فلم أفلح.
بل فوجئتُ بسؤال الدكتورة حنان لي:
ـ هل تعرف الشاعرة سماح صبري؟
ـ طبعاً.. وأعرف أنها شقيقتك.
وقفزت إلى ذهني صورة زميلتي «سماح صبري» في آداب القاهرة من خمسة وثلاثين عاماً، كانت تسبقني بعاميْن، وكانت تُشاركنا في ندوات الجمعية الأدبية بمبنى المدينة الجامعية، التي كانت تُقام مساء كل أحد، ويشرف عليها دكتوران شابان، هما الدكتور عبد المنعم تليمة والدكتور طه وادي (وقد صارا أستاذين جهيرين بعد ذلك)، وألقيتُ فيها أولى نماذجي الشعرية قبل أن أُصدر ديواني الأول..
ـ إنها أختي.
عرفتُ منها أنها لم تتزوّج، وأنها في الخامسة والخمسين.
حينما رأيتها في إجازة رمضان وجدتُ أن ملامحها القديمة لم تتغير، وأن شعرها الكستنائي مازال محتفظاً بنضارته وحيويته (وتساءلت يومها ـ بيني وبين نفسي ـ لماذا لم ترتد الحجاب؟)، وعلمتُ أنها صارت رئيسة قسم في وزارة التربية والتعليم حيث كانت تعمل، ولم يتغير فيها شيء (كانت درست معنا السنة التمهيدية للماجستير، لكن لظروف لا أعلمها لم تتم دراستها العليا).
حينما سألتُ عنها جاري في الرياض، بعد العيد: مصطفى العبد، وهو محاسب مسن في بنك الرياض، وهو كما يقول من نفس شارعهم في كفر الشيخ، قال: معلوماتي قليلة، وهي سيدة فاضلة، وجميلة، ولقد حصلت على الماجستير فقط ـ في النحو ـ منذ عدة أعوام. وهي من أسرة مُكافحة، فقد كانت أمها ربة بيت فاضلة معروفة بتقواها وصلاحها، وكان أبوها مدرساً للعلوم بمدرسة المساعي المشكورة الثانوية بشبين الكوم، ولم ينجب إلا ابنتيه: الأستاذة «سماح» والدكتورة «حنان»، وأنه قد أمضى حياته في المنوفية، ولم يعد إلى كفر الشيخ إلا بعد تقاعده.
وأضاف وكأنه يختم شهادته:
ـ إنها ست.. (واستدرك) بنت حلال .. طيبة .. في حالها .. مكسورة الجناح، رغم مرحها البادي، وابتسامتها العريضة!
وقلتُ له ما أعرفه عنها، وهو أنها كانت من النابهات، ولا أدري لماذا لم تُكمل دراساتها العالية وبخاصة أنها لم تتزوّج!
........
قالت الدكتورة حنان، وكأنها تتكلم عن امرأة أخرى، ليست أختها:
ـ ليتك تتزوجها!
قلتُ وأنا نصف متحير:
ـ يبدو أن ذلك سيكون!، فقد أصبحتُ أضيق بوحدتي!
زغردت كلماتها:
ـ أنا أغبطك عليها.. إنها جميلة، ورشيقة، وتستطيع أن تعيش معك هنا في الرياض!
(3)
كدتُ أرسل قصتي (أو مشكلتي مع ابني هاشم) لعبد الوهاب مُطاوع ليكتب لي الحل في «بريد الجمعة» بصحيفة «الأهرام»، وتتلخّص في أني مررتُ خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة بعدة تطورات جعلتني لا أستطيع أخذ القرار الصحيح في أي مشكل، ومنها:
1-لم يحضر وليد لزيارتنا منذ عامين؛ يكتفي بمهاتفته القصيرة ـ من لندن ـ لي كل يومين، أو ثلاثة أيام.
2-أنني تزوجتُ سماح، ولكني طلقتُها بعد شهرين، حيث لم نستطع التكامل، أو التأقلم معاً.
3-ابني هاشم الذي كان من أكثر المعارضين لزواجي من «سماح»، وقع في شراك «شادية ماهر» ابنة أختها (الدكتورة حنان)، وكان من المستحيل أن أُوافق على زواجه منها.
4-لم يصبر الولد على رفضي، ولم يُحاول استرضائي، وكان قد تعاقد للعمل في مستشفى في جدة، فتزوجها في الصيف الماضي، بعد عودتي من الرياض إلى القاهرة، دون أن أحضر حفل خطبته، ولم أحضر ليلة عرسه التي أقامها في فندق كبير!.
5-لم أُسافر إلى القاهرة هذا العام الدراسي.. لا في إجازة عيد الفطر، ولا في إجازة عيد الأضحى.. أنزل لمن؟ .. ولد في لندن، والآخر في جدة (... وتزوج دون مشيئتي!).. وقال: لا تحملني ثمن فشل زواجك من خالتها!.. هذه هي البنت الوحيدة التي أعجبتني، وإذا لم أتزوجْها فلن أتزوّج غيرها!
.. لكني اخترتُ أن أجنب الأستاذ عبد الوهاب مُطاوع حل مشكلتي، التي قد تبدو تافهة، ولذا لم أرسلها له.
(4)
هاهي أضواء جدة تبدو من نافذة الطائرة..
هل ستسعد شادية وهاشم بلقائي..
أم أن الجيل الجديد لا يهتم؟
سأسعدُ بلقائهما..
ستظل تركض يا فريد.. من شارع إلى شارع.. ومن أفق إلى آخر؟..
هاهو هاشم وزوجته يأخذانك في سيارتهما الخاصة.. وهاشم يحوطك بيده، وأنت تجلس بجواره، وهي (شادية) في المقعد الخلفي.. تنظر في المرآة فتجد وجهها طافحاً بالسرور.
ويُدمدم في أعماقك سؤال، تكاد تسمع نبراته:
كيف وقفْت ـ ذات يوم ـ في وجه المحبيْن؟!!
لاحظتَ انتفاخ بطن شادية..
هل تسألهما عن قدوم الحفيد الأول لك، أم تنتظر حتى يأتي الكلام في سياقِه العادي؟..
تُلاحظ أن سرعة السيارة تتجاوز الـ 120 كيلاً، فتقول في حنو بالغ:
ـ قلل السرعة، حتى نستمتع بهذه اللحظات الجميلة في شوارع جدة، وحتى لا تؤذي حفيدي.
وتملأ الضحكة الكبيرة وجه «شادية»..

الرياض 7/9/2004م

د. حسين علي محمد
21/08/2008, 09:12 PM
*بيت خـــالـتي*
.......................

إنه يشكُّ في نظراتي التي تطلب منه دائماً الصمت .. وألا يتكلم .. حتى لا يهدم العش!
هل أطلب منه المغفرة وأنا لم أعمل ما يستوجبُ الغضب .. أو الشك!
أعبر أصص الزهر مصحوبة بكواكبَ معتمة في الأفق .. أمشي نحو بساتين خضراء، معلقة على الحائط، في لوحةٍ فاتنةٍ .. تتابعها عيناه في عتمةِ ما بعد الغروب .. إنه لا يُشاركني في ترحالي الأسبوعي إلى بيت خالتي، في رحلة تصحبني فيها خفافيش الذكريات وسود الأماني!
ما بيننا سور عالٍ لم تستطع الكلمات أن تقتحمْه!
نظرة حزينة تبدو في عيْنيْ «رشاد» وهو يراني عائدة .. يرنو إلى الأفق دائماً مغمضاً عينيه كأنها يحلم، أو يخاف أن ترى الناس حلمه الأسود أو توجسه الدائم الذي لا يُفارقُه.
بعطف وشفقةٍ يمسك الطفل ـ طفلنا ـ في يده، ويخشى أن يلفظ الكلمة التي تعتمل في صدره، أو يستحضرها من قباب الوحشةِ والشك التي لا تُغلق أبوابها.
فإذا عدتُ من بيت خالتي الوحيدة، ورأى تهدُّج صوتي ورعشة أطرافي وأنا أحكي له عن مرضها الذي يُقعدها، وانتظارها الأسبوعي لي .. وكأنني نسمة الحياة التي تنتظرها .. يهز رأسه ساكتاً، وأقرأُ في عينيه حزناً يصحبه الشكُّ، فيكادُ يصرخُ فيَّ:
ـ إنك لا تزورين خالتك إلا لكيْ تريْ حبيبك القديم .. ابن خالتك .. الدكتور حسام.
...
لكنه لا يستطيعُ أن يقولَها.
... كان كاذباً دائماً في تخيلاته التي لم أناقشه فيها، ولم يُفض بها إليّّ .. فهو في حاجةٍ إلى ما يؤكِّد شكوكه التي أخشى أن تقتل ما بنيناه بيننا من احترام وود على امتداد ما يقرب من عقد من الزمن، وهاهو ينسق في صمتٍ أبجدية شكوكه يوماً فيوماً لترسم بعد ذلك عريضة اتهام!
هل يمتلك شجاعة الروح ويقول لي ما يحزنه من زيارتي لبيت خالتي؟
وهل أمتلك أنا شجاعة القلب، وأقول له ذات مرة: إن «الدكتور حسام» يُقيم في الزقازيق، وليس مع والدته في «القلعة»، ولم يأت لزيارة أمه إلا مرتيْن أوْ ثلاثاً لم أره خلالها.
لماذا يظل «رشاد» رغم زواجنا من ثمانية أعوام وإنجابنا طفلاً منذ خمس سنوات .. يظل واقفاً أمام السور العالي الذي شيّده من شكوكه وأوهامه؟.
ما بين الصخور تتحرّك يا رشاد ..
صحيح أنا لم أتزوجك إلا بعد سفر «حسام» إلى أمريكا، ليحصل على الدكتوراه في التربية .. وقول أمه ـ خالتي ـ ذات صباحٍ غائم لي: «إنها سمعت من صديق له أنه ـ الغادر ـ تزوّج أمريكية حتى يأخذ الجنسية، وكم كانت تريد أن تفرح بزواج وحيدها من ابنة أختها»، وكان آخر خطاب منه لي قد مرّ عليه شهران!!
هل كانت خالتي تتآمر على حبنا؟
وفي لحظة تفكيرٍ عميقٍ ـ تزوّجتُ من «رشاد» .. ـ زميلي المهندس في الإدارة الهندسية بالجيزة، وزميلي في الدراسة في هندسة عين شمس.
وعاد «الدكتور حسام» من أمريكا، ليعيش عزباً، وليعمل مدرساً في كلية التربية بالزقازيق، ويكاد يُقاطع والدته لأنها كانت السبب في أن يفقد حبيبته ـ أنا، حبيبته «سناء» ـ التي كم حلم بها، حينما رددت إشاعة موهومة من زميل كاذب!!
كم فكرت في عدم زيارة خالتي العجوز، التي أضحت على مشارف السبعين!
وكم تتعبُني رحلتي الأسبوعية لها من ميدان الجيزة إلى «القلعة»، وسط زحام قاتل أصبحتُ لا أُطيقُه!
هل ستعيش طويلاً ليتجدد شك «رشاد» الصامت في مسلكي؟
وهل سأظل على زياراتي المتكررة لها مساء كل خميس؟ ..
إنها مريضة! ..
هل كنتُ مجرمةً يوم تمنيتُ موتها من أسبوعين، حتى أرتاح من شكوك «رشاد» ونظراته الحزينة الصامتة!
لقد تزوجت رشاداً، عن اقتناع فكري .. وجاء الحب والمودة بعد عشرته اللطيفة، وإنسانيته الدّافقة .. وليس في قلبي أو عقّلي غيره .. فلماذا يُدمِّرُ الشك حياته؟
و«حسام» ـ ابن خالتي ـ لم أره منذ ثلاث سنوات، ولا يُشكِّل في حياتي غير هاجس حب قديم .. نسيتُهُ بالفعل .. فلماذا يُصر «رشاد» على تذكيري به؟.
لماذا لا أصطحبُ رشاداً معي لزيارة خالتي يوم الخميس القادم، وكل خميس بعده؟ ..
رغم أني لم أفعلها طوال السنوات السبع الماضية، فسأصحبه مع طفلي «هاني» .. ليرى الواقع الحزين، وحالتها المرضية المتردية!!
لن أترك «رشاداً» في رحلاته الطويلة: في شروده الدائم، أو في شكه الذي لا ينتهي.
من الخميس القادم سأجعله يُضمِّد جراح قلبه!

الرياض 25/1/2000م

د. حسين علي محمد
21/08/2008, 09:13 PM
*أم داليا*
.............

هل أنا أم .. أم قاتلة محترفة؟
أنا الأستاذة الجامعية التي أدرس علم النفس، وأرصد السلوك البشري وأحلله.
استيْقظتُ ذات صباح لأجد نفسي في مأزق رهيب .. فضيحة لا يمكن معايشتها! ..
ابنتي الوحيدة داليا .. التي ترمّلتُ عليها قبل ولادتها، فقد عاش أبوها ـ ضابط المظلات ـ سبعة أشهر معي، قبل أن يموت بسكتة قلبية .. وهو في عز شبابه.
فاجأتني ابنتي المهندسة الشابة، التي تخرجت منذ عاميْن وعملت في الإدارة الهندسية ـ في مجلس المدينة ـ منذ خمسة أشهر، حين قالت: إنها حملت سفاحاً من الشيطان!
استدعيتُ عمَّها «سعفان» شيخ قرية الصوالح لنتدبّر فيما فعلتْ الكلبة، فذبحها أمامي، وقفل عائداً إلى قريته!
لم يره أحد في مجيئه أو ذهابه، فاتهمني الجميع أنني القاتلة! ..
لم أجد أدنى رغبة في دفع جريمة القتل عني ..
قلتُ:
ـ تهمة لا أدفعها، وشرف لا أدّعيه!
حينما حكم القاضي عليَّ بسبعة أعوام سجناً تحدّرت دمعتان من عيني:
دمعة إشفاق على ابنتي التي لم أعايشها بما فيه الكفاية فسقطت، ودمعة حزن .. لأني لم أر الشيطان مقيَّداً ذبيحاً! ...

الرياض 5/1/2002م

د. حسين علي محمد
21/08/2008, 09:14 PM
ثلاث قصص قصيرة جدا من التغريبة اليمانية
***
1-الرحلة الأولى

هذه هي رحلتي الأولى إلى قرية "بني علي" من قرى «الوصاب السافل».
السيارة تكاد تغرق في سيول زبيد ما بين "الجراحي" و"الأحد"!
هواء الليل البارد في منتصف سبتمبر يدير رأسي.. إلى كل ذبالة مصباح في القرى التي نمر عليها مُعلقة على قمم الجبال.
أرتدي نظارتي الطبية.
أحدق بشدة.
لعلي ألمح ـ عبر رشات الندى ـ الذي يتسلل من النافذة
وجهاً نحيلاً، طيباً..
كوجه أمي.

الرياض 7/10/2004م






















2-الباذنجانة الصغيرة

الباذنجانة الصغيرة البيضاء
معلقة في يد الطفل الصغيرة
ويده الثانية
متشبثة بفستان أمه.
تمشي معتدلة كمهرة برية تتخطر.
وتجري خُطاه الصغيرة، حتى يظل ممسكاً بذيلها!
تجري خطاه الصغيرة.. وتجري
لا يلتفت إلى الباذنجانة التي قضم منها قضمةً واحدةً..
.. هوتْ إلى الأرض مباغتةً
لم يُحس بها، ولم يلتفت إليها!
تنتظرها النمال ـ التي لم تتناول إفطارها بعد ـ
في هذا الشِّعب المشمس، بين قريتيْن.

الرياض 7/10/2004م





















3-حياة!

أجلس في غرفتي الملحقة بالمدرسة، فوق السرير الذي أعدتُ ربط أركانه وقاعدته بحبال بلاستيكية، اشتريتها من بقالة «محمد الصغير».
أطالع مجلة «اليوم السابع»: الموضوعات السياسية الساخنة أولاً، ثم السينما، ثم بقية الفنون.
ها هو يوم جليدي آخر.
درجة الحرارة لا تتعدى الصفر.
العنكبوت الممدد بين ضلفة الباب المعتمة، والركن .. يُخيل لي ـ مع التصدع الباقي من أثر الزلزال ـ أنه يُشبه خطيباً يصرخُ في الناس، وترتفع يداه كخطيب سياسي يُضاحك الجماهير!
أتنحنح..
لا أسمعُ إلا صوتي!!

الرياض 7/10/2004م




(انتهت المجموعة)

د. حسين علي محمد
21/08/2008, 09:17 PM
(للمؤلف)
أ-شعر:
1-السقوط في الليل، القاهرة-دمشق 1977م، ط2، الإسكندرية 1999م.
2-ثلاثة وجوه على حوائط المدينة، القاهرة 1979م، ط2، الإسكندرية 1999م.
3-شجرة الحلم، القاهرة 1980م.
4-أوراق من عام الرمادة، الزقازيق 1980م.
5-رباعيات، الزقازيق 1982م.
6-الحلم والأسوار، القاهرة 1984م. ط2، الزقازيق 1996م.
7-الرحيل على جواد النار، القاهرة 1985م. ط2، الزقازيق 1996م.
8-حدائق الصوت، الزقازيق 1993م.
9-غناء الأشياء، الزقازيق 1997م، ط2-القاهرة 2002م.
10-النائي ينفجر بوحاً، الإسكندرية 2000م.
11-رحيل الظلال، القاهرة 2005م.
12-المتنبي يشرب القهوة في فندق الرشيد، القاهرة 2008م.
ب-شعر (مشترك):
13-حوار الأبعاد (مع مصطفى النجار ومحمد سعد بيومي وسمير ددم)، القاهرة 1977م، ط2، حلب 1979م.
ج-مسرحيات شعرية:
14-الرجل الذي قال، الزقازيق 1983م.
15-الباحث عن النور، القاهرة 1985م، ط2-الزقازيق 1996م.
16-الفتى مهران 99 أو رجل في المدينة، الإسكندرية 1999م.
17-بيت الأشباح، الإسكندرية 1999م.
18-سهرة مع عنترة، المنصورة 2001م، ط2، المنصورة 2003م.
19-الزلزال، موقع «أصوات مُعاصرة»، على الإنترنت 2004م.
د-شعر قصصي للأطفال:
20-مذكرات فيل مغرور، عمَّان 1993م، ط2- عمان 1997م، ط3-الرياض 2004م.
21-كان يا ما كان، القاهرة 2005م.
هـ-قصص قصيرة:
22-أحلام البنت الحلوة، الإسكندرية 1999م، ط2-المنصورة 2001م.
23-مجنون أحلام، المنصورة 2005م.
24-الدار بوضع اليد، القاهرة 2007م.
و-دراسات أدبية:
25-عوض قشطة: حياته وشعره، المنصورة 1976م.
26-القرآن .. ونظرية الفن، القاهرة 1979م. ط2، القاهرة 1992م.
27-دراسات معاصرة في المسرح الشعري، القاهرة 1980م، ط2، المنصـورة 2002م.
28-البطل في المسرح الشعري المعاصر، القاهرة 1991م، ط2- الزقازيق 1996م، ط3-الإسكندرية 2000م.
29-شعر محمد العلائي: جمعا ودراسة، الزقازيق 1993م، ط2- الزقازيق 1997م.
30-دراسات في النص الأدبي العصر الحديث، ط1-الرياض 1995م، ط2-الرياض 1996م، ط3-الرياض 1996م، ط4، الإسكندرية 1998م، ط5، الإسكندرية 2001م، ط6-الرياض 2007م.
31-جماليات القصة القصيرة، القاهرة 1996م، ط2-القاهرة 2003م.
32-التحرير الأدبي، الرياض 1996م، ط2- الرياض 2000م، ط3- الرياض 2001م، ط4- الرياض 2003م، ط5-الرياض 2004م، ط6-الرياض 2005م.
33-سفير الأدباء: وديع فلسطين، القاهرة 1998م، ط2- القاهرة 1999م، ط3- الإسكندرية 2000م.
34-المسرح الشعري عند عدنان مردم بك، القاهرة 1998م.
35-كتب وقضايا في الأدب الإسلامي، الإسكندرية 1999م، ط2-القاهرة 2003م.
36-صورة البطل المطارد في روايات محمد جبريل، الإسكندرية 1999م.
37-من وحي المساء (مقالات ومحاورات)، الإسكندرية 1999م.
38-الأدب العربي الحديث: الرؤية والتشكيل، ط1-الإسكندرية 1999م، ط2-الإسكندرية 2000م، ط3- الإسكندرية 2001م، ط4-الرياض 2002م، ط5-الرياض 2004م، ط6-الرياض 2006م، ط7-الرياض 2007م.
39-دراسات نقدية في أدبنا المعاصر، الإسكندرية 2000م.
40-مراجعات في الأدب السعودي، ط1-الإسكندرية 2000م، ط2-المنصورة 2007م، ط3-الرياض 2007م.
41-شعر بدر بدير: دراسة موضوعية وفنية، الإسكندرية 2000م.
42-تجربة القصة القصيرة في أدب محمد جبريل، المنصورة 2001م، ط2-المنصورة 2004م.
43-في الأدب المصري المُعاصر، القاهرة 2001م، ط2-القاهرة 2002م، ط3-القاهرة 2003م.
44-أصوات مصرية في الشعر والقصة القصيرة، المنصورة 2002م.
45-حوارات في الأدب والثقافة (مع د. محمد بن سعد بن حسين)، القاهرة 2003م.
46-مقالات في الأدب العربي المُعاصر، المنصورة 2004م.
47-العصف والريحان (حوارات ومواجهات مع د. صابر الدايم)، المنصورة 2005م.
48-في الأدب السعودي الحديث، الرياض 2008م.
كتب بالاشتراك:
49-خليل جرجس خليل شاعراً وباقة حب إليه (بالاشتراك مع حسني سيد لبيب)، القاهرة 1978م.
50-الرؤية الإبداعية في شعر عبد المنعم عوّاد يوسف (بالاشتراك مع د. خليل أبو ذياب)، المنصورة 2002م.
51-فن المقالة (بالاشتراك مع د. صابر عبد الدايم)، ط1-الزقازيق 1981م، ط2-الزقازيق 1982م، ط3-القاهرة 1983م، ط4-الزقازيق 2000م، ط5-القاهرة 2001م، ط6-الزقازيق 2003م، ط7-الرياض 2008م.
52-زكي مبارك (بالاشتراك مع مجموعة مؤلفين)، القاهرة 1991م.
53-قراءات في نصوص أدبية حديثة (بالاشتراك مع الدكتورين محمد عارف محمود حسين وخليل أبو ذياب)، الرياض 2008م.
54-الأدب في عصر صدر الإسلام (بالاشتراك مع الدكتور خليل أبو ذياب)، الرياض 2008م.
55-المدخل إلى التحرير العربي (بالاشتراك مع الدكتور خليل أبو ذياب)، الرياض 2008م.
56-الشاعر الدكتور حسن جاد: دراسة ومختارات (بالاشتراك مع د. صابر عبد الدايم)، القاهرة 2008م.