المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشبكة ............فصة بقلم بوفاتح سبقاق



بوفاتح سبقاق
06/08/2008, 10:09 PM
عدت إلى بيتي حاملاً أكياسًا سوداء, مملوءة بمختلف الأغراض المنزلية, مشيتي وشكلي ومشترياتي, توحي جميعها بأنني موظف مثل كل الموظفين الذين يملأون البلاد, ويتأثرون بأي تأخر مفاجئ في دفع الأجرة الشهرية.

أسكن حيًا شعبيًا, يعج بالبطالين من مختلف الأعمار والمؤهلات, ألتقي بهم كل صباح ومساء, ولفرط إحساسي بمعاناتهم, أصبحت أستحي منهم وأنا أدخل إلى بيتي بتلك الأكياس السوداء, جميعهم أناس طيبون, ولكنهم يئسوا من التهميش والعيش على حافة الحياة, قطار العمر يسير, ولكنهم مازالوا يعيشون في انتظار صافرة الانطلاق الفعلي للقطار.

كانت كل المؤشرات تدل على أن قطار حياتي سيواصل مسيره بالرتابة والروتين نفسيهما, ولكن ما إن دخلت بيتي حتى فوجئت بتوقف غير متوقع للقطار.

- ماذا حدث? لم تجتمعوا في غرفة الضيوف منذ العيد الماضي, ومالي أرى الحزن يكتنف وجوهكم?

- لقد جاء رجل أمن يبحث عنك, وترك لك هذا الاستدعاء ويقول بأنه يجب أن تذهب إليهم في أسرع وقت.

- عادي جدًا, ربما الأمر يتعلق بتحقيق إداري ما.

- ومنذ متى يوزع رجال الأمن الأزهار على بيوت المواطنين.

- يجب أن نكون موضوعيين, رجل الأمن مواطن عادي مثلنا جميعًا, لديه أسرة وأطفال, ويعيش معنا في هذا الوطن ويتأثر بغلاء المعيشة وبتقلبات الطقس.

بالرغم من التطمينات التي أودعتها في نفوس أفراد أسرتي, فإنني تناولت الغداء والتساؤلات تتصارع في ذهني, ماذا يريدون مني? لم أرتكب أي خطأ طوال حياتي, وليس لدي أي مشاكل مع أي كان, قد يكون الأمر تحقيقًا إداريًا كما أردت إيهامهم بذلك, ربما ثمة ترقية في الأفق, لم أسمع بها بعد.

دخلت مبنى الهيئة الأمنية وكلي تفاؤل, بعد دقائق وجدت نفسي في مكتب صغير يحوي أثاثًا متواضعًا, في حين كانت صورة الرئيس تتوسط الجدار, حيث أضفت على المكان نوعًا من المهابة, وأحسست بأنني تحت الرعاية السامية لفخامته.

نظر الرجل إلي مليًا, وقرأ الاستدعاء من جديد, ولم ينبس ببنت شفة ثم رفع سماعة الهاتف:

- لقد حضر برجليه, تعالوا بسرعة إنه عندي.

ما إن سمعت هذه الجملة حتى هرب التفاؤل وجاء التشاؤم الذي يحمل في طياته السقوط في الهاوية.

- هل ثمة مشكل سيدي?

نهض من مكتبه ودار حوله, واقترب مني وجلس قبالتي وتفرس في وجهي مليا, خيل لي بأنه سيقول:

- وأخيرًا قبضنا عليك, أنت الذي لم تتوقف أمام الضوء الأحمر, في وسط المدينة أمس.

وكنت بصدد تحضير الإجابة التالية:

- ليس لي سيارة أصلا.

لكن الرجل لم يقل شيئا ونهض من جديد, وبعد لحظات دخل أربعة رجال دفعة واحدة وأحاطوا بي, شكلهم يوحي بأنهم أبطال فيلم (الهروب من الجحيم).

ولكنني تمالكت ما تبقى من أعصابي وقلت:

- هل من خدمة أقدمها لكم? أظن أن ثمة خطأ في الاستدعاء.

- هل أنت صالح بن علي.

- نعم.

- من مواليد 1965 وابن عبدالقادر.

- نعم.

- تعمل في البلدية.

- نعم.

- هل أنت عضو في الشبكة?

دارت في ذهني شبكات عدة, شبكة التهريب, التزوير, الإرهاب وربما شبكة الهاتف النقال.

- عن أي شبكة تتحدثون? ربما تقصدون الشبكة الاجتماعية بالبلدية, فعلاً لقد أشرفت على تسيير هذه المصلحة سابقًا, ولكن كل الأمور كانت قانونية, وتمت بكل شفافية, ويمكنكم التأكد من ذلك مع رئيس البلدية.

- نحن نتكلم عن شبكة دعم وإسناد الإرهاب التي تنتمي إليها, لا تنكر الأمر, لدينا كل الأدلة.

- هذه تهمة كبيرة في زمن الوئام والمصالحة, أنا مواطن عادي, وكل أهل المدينة يعرفونني, ربما هناك خلل في معلوماتكم.

- ومن أنت حتى تشكك في معلوماتنا, لدينا رجال يعملون في الخفاء وفي وضح النهار.

تأملت المجموعة الصوتية التي تحيط بي, والتي كانت تعزف أسوأ مقطوعة سمعتها في حياتي, تذكرت اللقطة الشهيرة في الأفلام المصرية, والتي عادة ما يطلب فيها المتهم الاتصال بمحاميه الخاص, ولكني كنت بعيدًا كل البعد عن هذا السيناريو, فليس لدي حتى رقم هاتف بواب المحكمة, وحتى لو تسنى لي المحامي الخاص أشك بأن هذه الوجوه المرعبة, ستسمح لي بطلب حتى كوب من الماء.

غريب هذا الموقف, يقولون بأنهم يملكون شبكة معلومات قوية, ويتهمونني بالعضوية في شبكة إسناد, ويبدو أنني وقعت فعلا في شبكة الصياد, نحن في زمن العولمة والشبكات, لو قبض على المرء في شبكة أوربية, لربما كانت المعاملة أفضل, وحقوق الإنسان أكثر ضمانًا.

- هل تعرف مسعود سالم?

- الاسم ليس غريبًا عني, آه, تذكرت, لقد تعرفت عليه أثناء تأدية واجب الخدمة الوطنية, ولم أره منذ سنوات عدة, هل يبحث عنه ذووه?

- إنه إرهابي تم القبض عليه خلال الحملة الأخيرة, التي شنتها الأسلاك الأمنية المشتركة على معاقل الإرهابيين.

- وما ذنبي أنا إذا كان شخص عرفته منذ أكثر من عشر سنوات, التحق بصفوف الإرهاب, حتى العائلة الواحدة لا يمكن تجريمها إذا انحرف أحد أفرادها.

- كفاك من هذه الخطب الرنانة, وموعد الحملة الانتخابية مازال بعيدًا, بكل بساطة, لقد وجدنا رقم هاتفك الشخصي في المذكرة التي كان يحملها صديقك حين تم القبض عليه.

اقترب مني كبير المستنطقين:

- هذا الرقم ألا تعرفه?

- نعم, ولكن ما ذنبي إن كان من عرفته خلال الخدمة الوطنية قد تغيرت قناعاته, لقد كان رجلا طيبا ومسالما.

- كفاك دفاعا عنه, لقد تم القبض عليه ورماك في الجحيم.

- لقد سقطت في الشبكة يا لئيم, أضاف أحدهم, هذا الأخير لم يتكلم مطلقًا, وكان يبدو أطيبهم, ولكن عندما يقع المرء بين أنياب الأسد لا ينتظر الحصول على نقطة نظام.

- من فضلكم أنا مواطن شريف وحقوقي مصونة حسب الدستور. اقترب كبير المستنطقين من النافذة ودار في الغرفة وكأنه يعرض أزياءه القمعية, وانتصب أمامي وصرخ في وجهي:

- لا تعرف عن الدستور سوى حقوقك وأين واجباتك كمواطن, يبدو أن الحس المدني لديك منعدم, المهم أنت تعترف بأنك أعطيته رقمك الهاتفي من أجل الاتصال والتنسيق.

- ألا يوجد فيكم من ينصفني, لقد أعطيته رقم هاتفي قبل العشرية السوداء, ومن كان يتوقع أن يحدث كل هذا ببلادنا.

- نحن لسنا في حصة تلوين يا هذا, نحن الآن في العشرية الصفراء.

امتلأت الغرفة ضحكًا, يبدو أنهم لا يعرفون حتى معنى العشرية.

- المهم أنك تعترف بعلاقتك به وتواصلك الدائم معه.

- لم أرتكب أي خطأ حتى أعترف, أنتم مثلا, أليس لديكم معارف وأصدقاء عبر كل التراب الوطني? ألا يحدث أن تعطوا للبعض منهم أرقام هواتفكم, أنتم الآن معي, هل تعرفون ماذا يفعل هؤلاء الآن? وهل أنتم تتحملون كل أخطائهم?

- نحن من يحقق معك, ولست أنت من يطرح علينا الأسئلة, لحد الساعة مازلنا نعاملك بكل احترام وهذا لأنه وصلتنا معلومات عنك تقول بأنك مثقف.

- وما الذي يثبت أنك لم تلتق بصديقك قبل أيام من القبض عليه?

- لاحظ الرقم المكتوب في المذكرة جيدا.

- رقمك الهاتفي الشخصي وأنت اعترفت بذلك.

أضحى الأمر مسرحية مقرفة, أبطالها معروفون ومخرجها معروف, وأصبحت أنا الجمهور, الذي يتعين عليه التصفيق, ولكنني سرعان ما استدركت الموقف.

- ولكن الأرقام الأولى مختلفة الآن, لقد أعطيته رقمي الهاتفي حسب الشبكة الهاتفية القديمة, التي كانت مستعملة سابقًا وهذا يدل على أنني لم ألتق به منذ سنوات عدة.

- استنتاج فيه شيء من المنطق, لديك قدرات لايستهان بها في ربط الأمور ببعضها, لديك موهبة مغمورة, يمكن الاستعانة بها للقضاء على أعداء الوطن.

- ربما هذا يعتبر دليل إبعاد الشكوك عنك ولو مؤقتا.

- لم أفعل شيئا لأخفيه, ويمكنكم مواصلة تحقيقكم.

- لقد أنقذتك الشبكة الهاتفية يا مثقف, قالها بكثير من التهكّم.

- يمكنك الانصراف, من الواضح أنك مواطن نزيه, لن نزعجك بعد اليوم, أضاف كبير المحاورين.

خرجت من عندهم, وأحسست بأنني عدت للحياة من جديد, وكدت أتحول إلى مجرد ملف يضاف إلى العشرية السوداء.

ونظرا للإرهاق الفكري الذي وصلت إليه, قررت التوجه مباشرة للبيت لأرتاح وأزف إليهم الخبر السعيد بأنني والحمد لله مواطن لا ينتمي إلى أي شبكة, وفيما أنا تائه وسط شبكتي الفكرية, إذ بأحدهم يناديني, خلته لأول وهلة واحدًا من المجموعة الصوتية المقرفة, يطلبني من جديد لسماع أغنية اضطهادية جديدة, ولكنني عندما استدرت, عرفت بأن الأمر يتعلق بأغنية بدوية أصيلة.

إنه أحد معارفي القدامى, اقترب مني, وهو يتصور بأنني في قمة السعادة.

- لقد ذهبت إلى البلدية ولم أجدك.

- مرحبًا هل من خطب?

- متى تعلنون عن قائمة السكنات الاجتماعية?

- يعلنون, القائمة مازالت على مكتب رئيس البلدية, وليست لي علاقة بالموضوع, ولكن أعتقد أن الأمر لن يطول أكثر.

- أعطني رقم هاتفك المنزلي لأتصل بك من حين لآخر, أنت تعرف بأنني أسكن بعيدًا عن المدينة.

نظرت إليه مليًا, هل يحافظ على قناعاته?, لا يمكنني المجازفة.

- هاتفي المنزلي معطل منذ شهور, يمكنك الاتصال بي على رقم البلدية.

دخلت البيت ووجدت الجميع ينتظر في غرفة الضيوف, التي عاد إليها البريق كثيرًا هذا اليوم, وما إن أخبرتهم بسلامتي, وأن الأمر مجرد تشابه أسماء, حتى لا أثير مخاوفهم,غادروا الغرفة وتركوها خاوية على عروشها.

عادت الطمأنينة والسكينة إلى البيت, وواصل قطار حياتي مساره بكل رتابة وروتين, وجلست أمام التلفاز, محاولاً العيش في عالم الأحلام من أجل تناسي الواقع الأليم الذي عشته, وفيما أنا أتابع فيلم السهرة, إذ بإعلان إشهاري يظهر فجأة يتحدث عن شبكة أوربيت وقنواتها الفضائية المميزة, فغيرت المحطة مباشرة لأنه أصبحت لدي حساسية مفرطة من الشبكات.

محمدذيب علي بكار
07/08/2008, 06:05 AM
الاخ بوفاتح الحقيقةالقصة رائعة وموشوقة بيحيث يبقى المتلقي مشدودا ليعرف ماحصل لقد استوفيت كل عناصر القصة وهناك تقدم كبير جدا عن ذي قبل دمت قلما مبدعا عن المسحوقين من اجهزة القمع الى مزيد من التقدم والابداع اخوك محمد

بوفاتح سبقاق
07/08/2008, 12:12 PM
تحياتي الخالصة
شكرا على مروركم الكريم

يوسف أبوسالم
07/08/2008, 04:12 PM
المبدع بو فاتح

حقيقة القصة أعجبتني
لتناولها موضوعا عانى منه الكثيرون
ولا يزال غيرهم يعانون أيضا
ولا تخلو القصة من حس ساخرٍ رائع بقولك
ومنذ متى يوزع رجال الأمن الأزهار على بيوت المواطنين.
حقا هل يوزع رجال الأمن الأزهار على المواطنين ...!!!؟؟؟؟
السرد في القصة مشوق ولم أشعر بتكلف فيه
كان منهمرا بشكل معقول جدا
وكانت لغة السرد ..منسابة دون تكلف حشو تعابير لا ضرورة لها
ولا تخدم سياق المعنى
استخدام الحوار ساهم في تنويع السرد وتشويق المتلقي أكثر
من مميزات السرد لديك في هذه القصة
قدرته على جذب وشد انتباه المتلقي واهتمامه
حتى النهاية
لكني آخذ على القصة بعض الإشارات ...مثل
مازلنا نعاملك بكل احترام وهذا لأنه وصلتنا معلومات عنك تقول بأنك مثقف.
هل هذا صحيح فعلا
وهل يتم احترام المثقف في تلك الدوائر على مدار الوطن العربي كله ......لا أظن
وكذلك اقتناع المحققين السريع ..لمجرد وجود أرقام مختلفة
وهو أمر لا أظنه يتم بهذه السهولة
فالتهم يمكن أن تدبلج أساسا من دون وجودها فهل يعجو المحققون عن الحصول على رقم
المتهم الجديد وكتابته بل وتزوير كتابته بأي تاريخ يريدون
المهم
قدمت لنا وجبة ممتازة ...سعدنا بقراءتها
وكنت أحب لو أنها كانت أقصر قليلا فقط
سلم قلمك المبدع

بوفاتح سبقاق
07/08/2008, 05:21 PM
أخي يوسف
مشكور على متابعتك المستمرة
في الحقيقة مواضيع من هذا النوع تتطلب كتابة رواية
إنه واقع مؤلم في العالم العربي

سلامي و تقديري

يوسف أبوسالم
08/08/2008, 12:03 PM
أخي يوسف
مشكور على متابعتك المستمرة
في الحقيقة مواضيع من هذا النوع تتطلب كتابة رواية
إنه واقع مؤلم في العالم العربي

سلامي و تقديري


أخي بو فاتح

أنا معك تماما أن مواضيع من هذا النوع تحتاج إلى روابات
لتععدد حالاتها وأشكال المعاناة فيها
هذا أمر مفروغ منه
ولكنني تمنيت أن تكون قصتك هذه أقل مساحة لأنها قصة قصيرة
وكلما كانت القصة القصيرة ذات مساحة متوسطة صفحتان ( وهذه وجهة نظر فقط )
كلما كانت التفاصيل فيها أقل وقراءتها أسرع وأسهل
شكرا لك

بوفاتح سبقاق
08/08/2008, 04:53 PM
أخي يوسف
شكرا على الإهتمام
و ملاحظتك ستؤخذ بعين الإعتبار