المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اكتشاف - مصطفى نصر



طارق شفيق حقي
30/07/2008, 12:13 AM
أرسل الكريم مصطفى نصر هذه المادة للمربد:


اكتشاف
قصة : مصطفى نصر

أعد حقيبة سفره فى المساء ، وضع بها الهدية التى سيقدمها إلى أخته بمناسبة زفافها فى الغد بدمنهور. أمسك الهدية :
- ما رأيك ؟
قالت زوجته فى جفاء :
- حلوة .
أحس بطريقتها الجافة فى الحديث، لكنه أكمل رغم ذلك :
- ستعجب أختى حتما .
لم تجبه ، قامت فى تكاسل . هكذا هى منذ أن تزوجته . سنوات يحايلها ويراضيها على أمل أن تقنع بحياتها معه ، وتصفو حياتهما معا مع الأيام ، لكن كل ذلك لم يفلح . يعرف أنها تحب ابنه . ولقد اعتنت به طوال فترة مرض أمه ؛ وبعد موتها حتى تعلق الولد بها وصار لا يستطيع الاستغناء عنها . أنجبت منه ولدا آخر. حاولت كثيرا أن تتخلص منه ، لكنها لم تقدر. جاء الولد رغم كل ما فعلته . هو يتحملها ، ولا يظهر لها ضيقه بها ، رغم ما تفعله .كل يوم مطالب جديدة لكى تثير مشاكل معه : الشقة فى حاجة إلى بياض. المراتب والوسائد فى حاجة إلى تنجيد . ويوافق رغم ظروفه الصعبة . يقترض من أخيه وأمه وأصدقائه حتى أصبح مدينا بمبالغ كبيرة من أجلها . ماذا سيفعل ، لديه ولدان فى حاجة إلى رعاية ؟ أين سيذهب بهما؟ لقد تحملها – أول الأمر – من أجل ابنه الذى كان فى شهوره الأولى ، وهاهو يرتبط بولد آخر . ابتسم لها ، قال مداعبا :
- أول مرة سأفارقك منذ أن تزوجنا .
لوت رقبتها بعيدا عنه ولم تجب .
عندما أعلن عن رغبته فى حضور حفل زفاف أخته فى دمنهور ، وضرورة البيات هناك ، كان بوده لو ناقشته أو اعترضت على سفره ، أو حتى طلبت منه أن يعود من هناك بعد انتهاء حفل الزفاف لينام فى بيته . لكنها لم تعلق كعادتها ، وكأنها قد ارتاحت لأنه سيتركها وحدها فى البيت . قال : تعالى معى أنت والولدان .
قالت فى ضجر : لا ، سأبقى فى شقتي .
رغم مشاكلها معه تعامل الولد – ابن أختها – وكأنه ولدها . والولد يحبها ويرتاح لها كثيرا وهذا الذى يهمه ، فالمهم أن يأمن على الولدين معها .





فى الصباح الباكر أيقظ الولدين – رغم اعتراضها وضيقها من ذلك - قبلهما. الولد الأكبر ابتسم له وتعلق فى رقبته وقبله ، لكن الأصغر بكى ، ثم أكمل نومه بعد ذلك .
ابتسم لها وداعبها : ستوحشنى يا جميل .
لم تجبه .
- لن أتأخر عليكم ، ليلة واحدة لا أكثر .
سارت خلفه . تريده أن يسرع فى الخروج ، لكى تغلق الباب خلفه وتعود إلى نومها.
مر الوقت ككل يوم ، انشغلت بعمل البيت وبالولدين ، لكن قلقا – لا تدرى سببه - ظل يصاحبها وهى جالسة فى مدخل الحمام تغسل الأوانى كعادتها .
اقترب موعد عودته من العمل ، نعم ، قبل الساعة الثالثة بقليل تسمع صوت احتكاك حذائه على درجات السلم ثم صوت جرس الباب . تعرف دقته ، تقول لابنها ساخرة : البك شرف .
تقف متكاسلة ، تفتح له الباب ، يحمل – هو – أكياس الفاكهة دائما ، وبيده الأخرى كيس الخبز . عمله قريب جدا من البيت . لا يأتى منه مباشرة . فلابد من الذهاب إلى السوق – فى طريقه – لشراء ما يلزم البيت ، فهو لا يريد أن يتعبها .
لكنها – هذه المرة لم تسمع صوت جرس الباب ، وتذكرت أنها لم تسمع صوته ولا مرة واحدة طوال اليوم ، لم تأت أمها ككل يوم ، ولا أحد أخوتها، حتى الجارات اللائى كن يطلبنها للحديث معها ؛ أو لأى شئ آخر ؛ لم يأتين إليها . أحست بالخوف هل حدث شئ فى الخارج وهى مشغولة مع الولدين . أسرعت إلى الراديو ، أدارته، كل شئ فيه كما هو . أغانى عادية فى إذاعة الشرق الأوسط . ونشرة الأخبار فى البرنامج العام كادت تنتهى . سيأتى – هو –بعد قليل ويخبرها بما حدث ، سيحكى لها عن أخبار الدنيا كلها ، عما لاقاه فى السوق، عن بائعة الجبن والزبد التى تجلس أمام أشيائها تمضغ اللادن ، والمساحيق والكحل تملأ وجهها ؛ فى انتظار من يتزوجها من الباعة هناك ؛ بعد أن مات زوجها . وعن الرجل العجوز الذى يسب الزبائن ، خاصة النسوة ؛ فيعاملهن بقسوة ، وابنه يعتذر لهن ؛ ويراضيهن بعيدا عن والده . ويحكى لها عن عمله ، عن زميله عبد المنعم ونوادره مع المديرين الكبار ، فهو يشترى لهم ما يلزم ، ويسمسر فى الأسعار .
تسمع دون أن تتجاوب معه ، لكنها تحس الآن بأنها كانت تهتم بما يقول ، وتريد أن تبدى رأيها ، وأن تعرف أخر أخبار عبد المنعم .
ساعة الحائط دقت ثلاث دقات وهو لم يأت . قالت للولد الأكبر :
- كنت أنتظر عودة أبيك ، هو فى دمنهور اليوم ، لقد نسيت .




عندما يدخل الشقة يغسل الطماطم والجرجير بنفسه، يتحدث عن فوائدهما ، إنهما يساعدان على الهضم ، ولولاهما لتعب – هو – وأحس بالإمساك . كانت تمل حديثه هذا ، وتضيق به وتتمنى أن يصمت .
بعد ذلك تضع الأطباق فوق المائدة ، ويقف هو لشى اللحم أو تحمير الكبدة أو السجق . لابد أن يفعل شيئا فى المطبخ ، يتحدث مبتسما رغم عبوسها الدائم . يذكر عبد المنعم زميله – وهو جالس أمام المائدة – " طلب المدير العام منه أن يشترى له سمكا من " حلقة السمك " ، فسمسر منه جنيهين كاملين " ويضحك قائلا :
- الغريب أن المدير العام أعطاه جنيها أخر نظير تعبه .
تريد أن تقول : " لكن دى سرقة " تحاول أن تقولها فلا تستطيع ، فيكمل – هو – وكأنه يحس بما تريد أن تقول :
- عبد المنعم غلبان ، أولاده كثيرون ، فى مراحل التعليم المختلفة ، وراتبه ليس كبيرا .
قال الولد الكبير :
- أريد أن أكل .
مر الوقت دون أن تحس ، تقترب الساعة من الرابعة الآن ، ولم تأكل هى ولا الولدان . هى لا ترغب فى الأكل فما ذنب الولدين ؟!
قامت لتعد الطعام لهما ، كان زوجها بعد أن يتناول طعامه ، يصلى ويرتاح قليلا ، ثم يخرج إلى عمله الآخر لكى يسد الديون التى كانت السبب فى تورطه فيها بطلباتها التى لا تنتهى .
تنام – هى – قبل أن يعود ، تضم الولدين إليها ، لكن هذه الليلة النوم يعاندها ، تطلبه فلا يأتى.
وحدها فى الشقة الكبيرة ، تسكن الدور الأول العلوى ، تسمع – طوال الوقت – صوت احتكاك الأحذية والشباشب بدرجات السلم القريبة من باب شقتها ، لكنها – الليلة – لا تسمع شيئا . أرادت أن تفتح الباب لترى ما يحدث فى الخارج ، لكنها خافت ، حدثت حالات سرقة كبيرة فى الحى . آه لو علم اللصوص إنها وحدها فى الشقة مع طفلين صغيرين ؟!
يعود هو من عمله قبل الحادية عشرة بقليل ، يفتح الباب بمفتاحه ، ويصيح على الولد الكبير، تتثاءب هى متظاهرة بالرغبة فى النوم . يقدم الحلوى للولدين ولها ، ثم يسرع إلى المطبخ ليغلى اللبن ويعد العشاء الخفيف قبل أن يخلع ملابسه . أحيانا يأتى إليهم بالطعام واللبن الساخن فوق السرير، خاصة فى الشتاء .






آه ، لقد نسيت أن تشترى لبنا للولدين ، ظنت أنها ستجد من يشتريه لها . منذ أن تزوجت وزوجها هو الذى يشتريه كل مساء. تابعت باب الشقة ، لم تصدق أنه لن يأتى الليلة ، وإنها ستقضى الليل كله بدونه ، رأته يجول فى الشقة بابتسامته الواسعة، أحست بالخوف ، غطت وجهها بالغطاء، بكت ، قال الولد الكبير :
- ماما ، ما الذى يبكيك ؟
- والدك لن يأتى الليلة .
- لكنك تعلمين هذا منذ الصباح .
- نعم أعلم .--------