المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب



د. حسين علي محمد
27/07/2008, 06:31 AM
النص الكامل لرواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب
.................................................. ..........

صدرت رواية "نفق المنيرة" عن اتحاد الكتاب والهيئة المصرية العامة للكتاب.وهي الرواية الثانية لحسني سيد لبيب بعد "دموع إيزيس".
وتدور أحداث"نفق المنيرة" أيام الستينيات، وقد اتخذ المؤلف من مدينته "إمبابة" مسرحا لأحداثها. وتقع في 304 صفحات، وتضم (49) فصلا. وقد أهدى المؤلف الرواية لروح والده. يقول في سطور الإهداء: "إلى من علمني أسمى المعاني وأنبل القيم.. إلى الذي علمني الصبر وقت الشدائد.. إلى والدي رحمه الله وغفر له".
ويقوم المؤلف الآن بوضع اللمسات الأخيرة للجزء الثاني، قبل أن يدفع به للنشر.
... وهذا نص الرواية
.........................
الإهداء


إلى الذي علمني أسمى المعاني وأنبل القيم
إلى الذي علمني الصبر وقت الشدائد

إلى والدي رحمه الله وغفر له

د. حسين علي محمد
27/07/2008, 06:34 AM
ـ 1 ـ

أهاجته الذكريات وهو يسترجع العمر الذي ولى. بلغ الستين من العمر. شخص نظره إلى الجسر أو النفق كما اعتاد الناس أن يطلقوا عليه، وتحديدا يشير إليه المارة من أهل المنطقة قائلين " نفق المنيرة "، أما الوافدون من خارج المدينة فقد يسمونه "نفق إمبابة".. وهو جسر تعبر فوقه قطارات السكة الحديدية الذاهبة والقادمة من الصعيد، وثمة فرع عند بشتيل يتجه إلى الخطاطبة وكوم حمادة في الوجه البحري. أما الجسر عند حمزة فوضع يختلف تماما عما ألفه الناس، فقد اعتاد أن يحكي لكل من يأنس منه مودة كيف بنوا الجسر. كيف شارك والد جده في أعمال حفر لخطوط السكك الحديدية مع زملائه عمال اليومية، وإن كان لا يحدد تاريخ بناء النفق بالضبط، مكتفيا بقوله إن أجداده عاصروا بناءه منذ عشرات السنين. أما هو فيعتز باسمه بالكامل حمزة بن محمد بن صابر بن رمضان، مؤكدا أن رمضان والد جده شارك في مد القضبان الحديدية. يتحدث عن نفسه فيقول إنه في مقتبل عمره بدأ يتكسب قوت يومه في غرزة، أقامها من الخوص والخشب عند مدخل النفق، خصصها كمقهى لعمال التراحيل والمزارعين والبائعين الجوالين الذين يجرون عربات الخضر والفاكهة.
في جعبة حمزة مرويات كثيرة تتداعى إلى خاطره، أشهرها ما كتب من عبارات تثير الحماس، على جدران النفق أيام حرب بور سعيد : سنقاتل.. سنقاتل.. سنقاتل.. يستطرد مزهوا بأنها كلمات الزعيم جمال عبد الناصر في خطبة الأزهر المشهورة. ألهبت الكلمات حماسه فانضم إلى صفوف المقاومة الشعبية، وشارك في قوات الدفاع المدني. تسلل مع المتطوعين عبر بحيرة المنزلة إلى بور سعيد. يستطرد باعتزاز راويا قصة الرصاصة التي استقرت في فخذه، وأثر الجرح ما زال ندبة تزين جسمه. يرفع طرف الجلباب ليعرض أثر الجرح، كلما استدعت المناسبة أن يحكي وقائعها، أو أنه يقحمها بلا مناسبة لكل من يأنس منه أذنا منصتة.. وتتداعى الخواطر معتزا مزهوا بأنه لم يترك مكانه بجوار النفق.
منذ وعى الدنيا والجسر شاخص في مخيلته، وإن كان يرى أن عمر الجسر من عمر آبائه وأجداده. لا يدري أحد كيف حسب حمزة هذا العمر الطويل، إنما يتمثل الجسر شريانا في قلبه، مثلما هو شريان يتدفق منه الناس يعبرونه إلى أحياء إمبابة.. إلى المنيرة الشرقية والغربية، وإلى مدينة العمال، ومدينة التحرير، ووراق العرب، ووراق الحضر، بل بات الجسر منفذا آخر إلى بشتيل..
ما زال حمزة يلذ له استرجاع صورة المنطقة التي تضم سيدي إسماعيل الإمبابي وأرض عزيز عزت والجرن وسوق الجمال وسوق الجمعة والكيت كات وعزبة الصعايدة.. والمدرسة الثانوية.. والترعة الممتدة في شريط واسع يمر من الجهة الغربية لكل هذه المناطق، ثم يقع النفق في نهاية الترعة. كان يمر منه الناس إلى مزارع المنيرة، وبيوت متناثرة شحيحة يعيش فيها البسطاء..
هكذا كانت الصورة في الماضي.. تغيرت الأحوال.. هجم سكان من بولاق أبي العلاء والفرنساوي والسبتية وجزيرة بدران والسيدة زينب وغيرها من أحياء القاهرة ليستوطنوا إمبابة. هجموا كالتتار، فأتوا على كل شيء أخضر, وأقاموا بيوتا أسمنتية. وفد السكان الجدد عابرين النهر إلى الغرب. إمبابة من أكثر مدن مصر كثافة سكانية، ومركزا جاذبا للنازحين من الريف إلى القاهرة خاصة أبناء الوجه القبلي لقربه من العاصمة ورخص القيمة الإيجارية وانخفاض مستوى المعيشة. تقع إمبابة على الضفة الغربية من النيل في مواجهة جزيرة الزمالك في الجزء الممتد بين كوبري الزمالك وكوبري إمبابة، وتمتد شمالا إلى صوامع الغلال وما بعدها. إمبابة في الأصل من القرى القديمة.
اسمها الأصلي في قول " نبابة " كما ورد في كتاب " جني الأزهار "، وفي قول ثان إن الاسم يرجع إلى نبات كان يزرع بكثرة في هذه الناحية، على شكل أنابيب، فيقال عن المنطقة أنبوبة أو أنابيب، وأدغمت النون والباء فأصبحتا ميما، فقيل عنها " إمبابة ". كانت تقع بين شطيْ النيل، لذلك يسمى جزء منها حتى اليوم " جزيرة إمبابة ". وفي سنة 715 هجرية تم تقسيم إمبابة إلى ثلاث نواح هي : تاج الدولة ومنية كردك ومنية أبو علي التي تعرف اليوم باسم كفر الشوام. وفي سنة 1274 هجرية فصلت ناحية رابعة هي كفر الشيخ إسماعيل الإمبابي. وفي سنة 1300 هجرية فصل منها جزء خامس هي جزيرة إمبابة. وظلت إمبابة على حالها حتى عام 1940 ميلادية حين صدر قرار وزير الداخلية بإنشاء بندر شرطة إمبابة.
تتناثر العوامات على صفحة النيل بمحاذاة العجوزة، وقليل منها قبالة الكيت كات.. وفي الكيت كات أقيم في الماضي قوس من أيام الحملة الفرنسية، عليه كتابة ونقوش شاهدة على عهود بائدة، ومستعمر كان يبحث عن شمس دافئة قرب أبي الهول والأهرام الخالدة.
أما اليوم فقد تغيرت الأوضاع، وانقلب الحال.. هدم السور وبني مكانه جامع خالد بن الوليد. يضحك من أعماقه وهو يذكر ملهى ليليا كان مقاما في البقعة نفسها، يحمل اسم صاحبته الراقصة الأجنبية كيتي. كان يؤم الملهى الباحثون عن سهرات ليلية، من الوجهاء وعلية القوم.. وسكنت في عوامة على النيل سلطانة الطرب منيرة المهدية، التي آثرت الحياة على صفحة النهر الخالد حتى وافتها المنية منذ شهور قليلة وهي في الثمانين من عمرها. ذاعت شهرتها قبل أن تظهر أم كلثوم. من أغانيها المشهورة " أسمر ملك روحي "، وكان يجتمع في عوامتها نخبة من وزراء مصر.
ما زالت إمبابة القديمة كما هي.. سيدي إسماعيل الإمبابي، شارع مراد، شارع السلام. إلا أن الترعة الغربية ردمت، وشق فوقها طريق أسفلتي، مزدحم بالمارة والمركبات.
اختفت المزارع الخضراء، والغيط الذي كان يحلو له الذهاب إليه، وهو في شرخ الشباب، يتنسم هواء يهز أوراق شجر البرتقال. يتبادل الحديث مع فلاح، الذي يعطيه كيزان الذرة، ويسمح له بالتقاط ثمار الفاكهة المتساقطة من الشجر.
أفاق من تأملاته على صوت سيد سبرتو، الطاغية المستبد، وهو يصرخ بصوت أجش:
ـ أنت يا زفت..
هرول إليه مذعورا، كمن لدغته حية رقطاء.. وأخذ الفتوة يعيد برم شواربه..
ـ الأكل جاهز يا معلم..
أتى إليه بطبق " مسقعة " أعدته حميدة.. التهم الطبق ولحس بإصبعه " دِمْعَة " الطبيخ.. ودون أن يطلب أسرع يقدم طبقا آخر، فالتهمه كسابقه.
خبط بكفيْ يده على كرشه، وتجشأ، وهمّ بالانصراف، فطلب منه انتظار الشاي، فثار في وجهه :
ـ أنا رائح أشرب بيرة من ثلاجة عمك توفيق..
وعم توفيق ليس أسعد حظا منه، فالمعلم يتجرع زجاجة البيرة، ولا يدفع ثمنها. إنه يعيش على إتاوات وسطو، نظير حمايتهم ـ هكذا يدّعي ـ والويل كل الويل لمن يعترض عليه.
استراح كثيرا حين انصرف. تمدد على الكنبة البلدي في الصالة الضيقة المطلة على الجسر، ونام نوما هادئا ساعة القيلولة، ريثما تعود ابنته وزوجها من سوق الخضار عصرا.

د. حسين علي محمد
27/07/2008, 06:35 AM
ـ 2 ـ

عاد من المدرسة بصحبة زميله. في يده ثلاث كراسات وكتاب إنجليزي. انثنى يمينا، قبل أن يودع زميله ويكمل السير من تحت النفق إلى بيته. إلا أنه أغراه بالسير معه في الشارع الواسع المفضي إلى سيدي إسماعيل الإمبابي ومحطة إمبابة ـ أول محطة يقف عندها قطار الصعيد ـ وقسم إمبابة. كان ثروت لم يكمل حديثه بعد، عما قرأ في كتاب " عودة الشيخ إلى صباه " من تفاصيل جنسية. وقف الاثنان أمام محطة القطار، لاحظ فتحي الاستعدادات لإقامة سرادقات لمولد سيدي إسماعيل الإمبابي. استمع من زميله عما شاهده في مسرح حمام العطار، قبل أن ينصرف كل إلى وجهته. عبر ثروت الشارع العمومي الواسع ودخل الشارع الضيق مخلفا عن يمينه ضريح الإمبابي.. وأكمل فتحي السير حيث عبر قضبان السكة الحديدية وأرصفتها، واخترق شوارع مدينة العمال إلى مدينة التحرير.
للحديث مع ثروت متعة ذات مذاق خاص، حيث يتطرق إلى أمور جنسية تثير خياله.
مسرح حمام العطار يقدم فاصلا من الرقص الشرقي للراقصة توحة، التي تعرض مفاتنها على أنغام الموسيقى، إلى جانب ما يقدمه المسرح من تمثيليات واستعراضات فكاهية.. ثروت زبون مستديم لهذا المسرح. كل عام يدخله عدة مرات. انتوى فتحي دخول المسرح عند افتتاحه، والاستمتاع بما يقدمه، وخاصة الفرجة على الراقصة العارية، كما بالغ ثروت في وصفها. تحسس جيبه فلم يجد معه إلا ثلاثة قروش ونصف القرش.. لا بأس، عليه ادخار ما معه، ليكمل من مصروف اليوم التالي. تذكر عمته وما تنفحه من مبالغ كبيرة. يمكنه زيارتها، كما تعود، وهو واثق أنها ستعطيه، دون أن يطلب. عمة كريمة منحها الله زوجًا موسرا. يربح الحاج عبد العاطي من تجارة القطن ما يجعله يعيش في بحبوحة. لا تألو العمة جهدا في مساعدة أقاربها المحتاجين وغير المحتاجين!
استلقى على الفراش، تخايله صور لم يتعودها. ألهب ثروت خياله بمفاتن المرأة. وليلى حبيبة قلبه، أليست فتاة تتمتع بمفاتن تشده إليها ؟ ثار ضد أحاسيسه الملتهبة. لا.. ليلى مخلوق آخر.. ليلى ملاك لا يصنف مع بائعات الهوى.. أتاه صوتها الرقيق وهي في حديقة المنزل تتحدث مع أمها.. نهض سريعا وأطل عليها من خصاص الشيش يتتبع حركاتها الرشيقة، وصوتها الهامس.. تمنى أن يفتح النافذة ويتحدث إليها حديثا دافئا، يعبر عن مشاعره وتعبر عن مشاعرها. هل يمكنهما تبادل أحاديث الهوى ؟ هل تبادله الحب ؟
دلفت ليلى وأمها إلى الداخل. عاد يستلقي على سريره حاضنا الوسادة، مقلدا عبد الحليم حافظ في فيلم " الوسادة الخالية ". إنه يشبه صلاح بطل الفيلم، وإن كانت التفاصيل مختلفة. تقلب في الفراش معذبا من حبه الصامت. ظل على هذه الحال إلى أن غلبه النوم.. ثم استيقظ على صوت أمه وهي تحدث أباه، تعاتبه على سيره على قدميه من السيدة زينب ليوفر قرش صاغ أجرة " الأتوبيس ". أعدت طست الماء الدافئ ليضع قدميه المتورمتين فيه، ويدلكهما. حكى لها ما حدث في إحدى المرات حين اندس وسط الزحام. مر عليه المحصل عدة مرات ولم يلتفت إليه. طاوع نفسه بأن يحرص على القرش في يده، إلى أن يطلبه المحصل، عساه ينجح في توفيره ليوم آخر. إلا أن ضميره لم يطاوعه. كان المحصل موليا ظهره إليه، شد من عزيمته في هذه المرة ومد يده ينفحه القرش المعروق في يده، ويأخذ التذكرة، وهو يشد قامته في إباء..
أنّب نفسه لمجرد التفكير في قضاء ليلة في المولد يلهو فيها ويعبث، باحثا عن اللذة.. بدأ يفيق على صورة الأب المكافح الذي هزمته الحياة في غير موقع، لكنه يواجهها برباطة جأش، وتحمل. بدأ يتنبه إلى أنه ينتمي للأسر الفقيرة. ابتأس لحاله. تطلع إلى المستقبل. إنه يعيد الثانوية العامة، بعد حصوله على مجموع 56 % لم يؤهله لدخول كلية الهندسة. قدم أوراقه إلى معهد الخدمة الاجتماعية. طلبوا منه تقديم بحث اجتماعي، فاختار موضوع " التسول كظاهرة اجتماعية ".. تردد على مكتبة إمبابة في مدينة العمال، واتجه إلى دار الكتب في باب الخلق. قرأ كتبا عديدة تتلاءم مع بحثه. أعجب بالبحث الذي كتبه، لكنه تردد في تقديمه، ودخول المقابلة الشخصية. إنه يطمح إلى دخول كلية الهندسة. قال لأبيه إنه ينوي إعادة السنة، فلم يعارض. طلبوا منه رسم إعادة قيد. لم يتردد أبوه في بيع طاقم الصالون ودفْع الرسم المقرر. انتفض من على فراشه، وجلس إلى المنضدة التي يستذكر عليها دروسه، طفق يكتب الموضوعات التي ينبغي استذكارها الليلة.
ما إن أحس بوقع خطوات الحبيبة، بصوتها الرقيق تنادي على أختها نجوى، حتى هرع ينظر إليها من خصاص شيش النافذة، ثم فتحها، ناظرا إليها قائلا :
ـ مساء الخير..
ـ مساء النور..
لم يزد الاثنان على تحية المساء شيئا. عاد إلى كتبه، مجددا العزم على تعويض ما فاته في العام الماضي. ما زال الوقت متسعا أمامه.. أول الخريف، الجو منعش ونسمات الليل تعطيه قدرا من الهمة. أتت أمه بقدح الشاي وانصرفت لحالها.
أتاه صوت المؤذن، فنهض لتوه يرتدي ملابس الخروج على عجل قاصدا أمين، الذي يقيم في المنيرة الغربية. كان على فتحي اجتياز المنيرة الشرقية، عابرا الترعة من فوق ساقيْ نخلتين وضعتا قنطرة عبور. ثم عبر قضبان سكك حديد الصوامع، عبر أرض متربة، حيث بيوت ناس أكثر فقرا منه. أيقظه من النوم. جلسا يتسامران. حكى له قصة حبه لليلى، وقد علقت في ذهنه قصة مجنون ليلى. وتمثل نفسه يشبهه. رحبت به أم أمين، وقدمت الشاي. اعتاد فتحي على مياه المضخة التي تغير طعم الشاي.
خرجا يتريضان في الشوارع. يتجادلان في مواضيع كثيرة، سياسية واجتماعية ودينية، وفي نشأة الكون ومصير الإنسان.
دارت مناقشات لم تفضِ بهم إلى شيء ! وفي منتصف الليل انصرف كل إلى بيته.

د. حسين علي محمد
27/07/2008, 06:35 AM
ـ 3 ـ

عاد من مدرسته، مارا بسيدي إسماعيل الإمبابي. لاحظ عمالا واقفين على سلالم عالية يتنقلون بها كالبهلوانات، ينصبون الأعمدة وخشبة المسرح والجدران الخشبية.
اليوم الخميس. عاد من المدرسة في الثانية عشرة. تناول طعامه ونام. صحا عصرا. هيأ نفسه لقضاء ليلة في المولد. لا ينكر الحيرة والتردد. صوت يثنيه عن الذهاب، وآخر يدفعه إلى خوض التجربة. في الأفراح، كان يلذ له أن يندس وسط الزحام ويتفرج على مفاتن الرقص الشرقي وهز البطن. كما أدمن الفرجة على أفلام مصرية بما فيها من رقصات واستعراضات. حيره الفن الذي يجيز ذلك. حيره الحلال والحرام.
أصبح في قلب المولد، وسط الزحام. خليط من الناس.
انعقدت حلقات الذكر، وشدت جماعات الطرق الصوفية بأناشيد المديح النبوي.
شدّه التمايل والأداء الموحد. ودّ أن ينضم إلى الحلقة ويؤدي الحركات نفسها.. وقف لحظات يتمايل مع الإيقاع.. عربات وخيام لألعاب الحظ وألعاب القوى. شاب بارزة عضلات ذراعيه، يحرك الثقل حتى نهاية مساره حيث يرتطم بالهدف فتفرقع بمبة، ويصفق الواقفون. يقوم شخص بإضافة ثقل ثان وثالث.. ينتقل إلى لعبة أخرى، حيث يمسك شاب ببندقية ليسدد هدفا في الوسط، دائرة ضيقة إذا رشقت الخرطوشة داخلها كسب الهدّاف قطعة ملبن !.. هناك لعبة الأطواق. يقوم المتسابق برمي الطوق الخيزراني على مجموعة هدايا. إذا استقر الطوق فوق الهدية كسبها الرامي. شدّه المولد، دنيا زاخرة بالألعاب مبهرة للمتفرجين. بائع العطور يجلس أمام بضاعته من العطر والمسك والبخور وعيدان السواك، إلى جانبه يقف بائع كتب دينية.. أعرض عن كل هذا مدخرا القروش التي معه لدخول مسرح العطار. صوت مكبر الصوت يأتيه من بعيد عن الفتاة المغناطيسية. دفعه الفضول إلى تجاوز دكان حلاق الصحة الذي يقوم بعملية الختان للصبية والبنات، والشحاذين بأسئلتهم الملحة، وعاهاتهم المثيرة للشفقة، ودعواتهم بطول العمر والذرية الصالحة. ولعبة الثلاث ورقات، التي تغري الزبون كي يشارك فيها فيقع في فخ نُصب بإحكام. فتاة تقف على منصة خشبية بمايوه يغطي نهديها وبطنها، يكشف صدرها حتى مفرق النهدين.
يكرر الرجل حديثه عن الفتاة المعجزة التي ما إن تمس اللمبة " النيون " جسمها تضئ. يتحدث الرجل ـ أيضا ـ عن فتاة ثانية سوف تتمدد في صندوق ويقوم الساحر بنشر الصندوق من منتصفه فينقطع نصفين. المعجزة أن الفتاة تعود سليمة، ببركة سيدي إسماعيل الإمبابي !.. يتوافد الناس للدخول وهم متأكدون أن الفتاة لن يمسها سوء، إنما هي خدعة. يندفع فتحي للدخول مع آخرين. ورجل الإعلان يطلب إفساح طريق للداخلين، دلالة الإقبال الشديد. لا بأس من الفرجة هنا، حتى يحين موعد دخول المسرح. النقود التي معه تكفي للدخول هنا وهناك وشراء قرطاس فول سوداني وقرطاس ترمس.
جلس على دكة خشبية بجوار شاب ريفي يرتدي الجلباب. ما زال مكبر الصوت يأتيه من الخارج، يستحث الناس على الدخول، حتى لا تفوتهم فرصة العمر.
تململ في جلسته. الوافدون على المكان يتقاطرون من حين لآخر. اكتظت الدكك بالناس. المكان ضيق. قد يسع عشرين، إلا أنه امتلأ بالعشرات. بدأ العرض بألعاب سحرية، ثم تلك الفتاة التي تتمدد داخل صندوق الساحر، ويغلق عليها أبوابه، ثم ينشره دون أن تئن الفتاة. رأسها تظهر من طرف الصندوق. يتم النشر، وتنفصل القطعتان. يصفق الناس إعجابا. يضم نصفيْ الصندوق ويفتحه فتنهض الفتاة التي يبدو أنها تكومت في أحد النصفين في غفلة من الجمهور.
النمرة الأخيرة عن الفتاة المغناطيسية، التي تمس اللمبة جسمها فتضئ. يحاول أن يتبين أية وصلات سلكية فلا يجد. يخمن أنها سلوك خفية ! ينتهي العرض. يخرج قاصدا مسرح حمام العطار الذي بدأ الناس يتوافدون إليه. يبدو المسرح أكثر رقيا من مسارح أخرى. الدعاية هادئة تنم عن ثقة زائدة بأن الجمهور يعرف أهمية ما يقدمه العطار. اصطفت بالداخل كراسٍ متواضعة، لكنها أحسن حالا من الدكك. جلس إلى جانبه كهل ذو شارب كث. كثير الثرثرة معه.
دخان أزرق انبعث من ركن بعيد. جماعة من الحشاشين يتبادلون الجوزة بينهم. امتعض منهم، لكن لا حيلة سوى اللواذ بكرسيه، والفرجة على ما يقدمه المسرح. مطرب متواضع الموهبة يغني عن فراق الحبيب. شتان بينه وبين العندليب الأسمر. تلاه مونولوجست يقدم فاصلا من النقد الاجتماعي. قال مقدم البرنامج عنه إنه من فرقة بديعة مصابني التي اشتهرت في الثلاثينيات والأربعينيات. انتهز الكهل الفرصة ليحكي لفتحي عن فرقة بديعة مصابني، وأنه عاصر الفرقة عند كوبري بديعة..
قال دهشا:
ـ كوبري بديعة ؟
ـ أجل.. كوبري الجلاء كان يعرف من قبل باسم كوبري بديعة نسبة إلى بديعة مصابني حيث كان مسرحها يقع عند مشارف كوبري الجلاء..
صمت قليلا، ثم أكمل :
ـ بالمناسبة كان اسمه كوبري الإنجليز، وكان اسمه كوبري البحر الأعمى..
يربط الكوبري بين الدقي وأرض الجزيرة الممتدة شمالا إلى جزيرة الزمالك، وجنوبا إلى جزيرة منيل الروضة..
دهش فتحي لكمّ المعلومات التي يختزنها الرجل عن فرقة بديعة والكوبري..
ـ ما السر في تسمية الناس للكوبري باسم بديعة ؟ هل هو عشقهم للفن ؟
ـ ما قلته صحيحا.. شهرة بديعة في الثلاثينيات والأربعينيات فاقت شهرة رجال الساسة والحكم.
قدم المونولوجست فاصلا من النقد الاجتماعي، عن المرأة التي تتدخل فيما لا يعنيها، والحماة التي تنكد على زوج ابنتها. ثم تمثيلية فكاهية بطلها نوبي حسن الظن بالناس، فيقع في مقالب ومطبات.. ثم أعدت خشبة المسرح لفاتنة الرقص الشرقي توحة.. قوبلت عند ظهورها بعاصفة من التصفيق المتواصل. تصايح الحشاشون. رمى أحدهم عمامته، تعبيرا عن إعجابه. كانت ترتدي " بذلة " الرقص التي تكشف جسمها كله، استمتع بمفاتن الراقصة، التي أشبعت فضوله في رؤية جسم المرأة. غازلت توحة ما يعانيه المراهقون من كبت، وأرضت أمزجة المتزوجين الباحثين عن امرأة أخرى !.. تمادت توحة في الإيماءات الجنسية التي قوبلت بتأوهات المراهقين. أنهت توحة رقصتها في منتصف الليل. كان الحشاشون قد وصلوا إلى السكر البين، وتلفظوا بعبارات إباحية استنكرها فتحي وهو خارج. ينتابه إحساس بأن مثل هذا المكان لا يناسبه. لولا صرخة الجنس تلهب جوارحه، ما ارتاد هذا المسرح.

د. حسين علي محمد
27/07/2008, 06:36 AM
ـ 4 ـ

تثاءب وهو يتقلب على الفراش. الجمعة أحب الأيام. إجازة من المدرسة، فينهض من فراشه متأخرا. سمع صوت ليلى، هب متجها إلى خصاص النافذة رانيا في الخفاء إلى الوجه الحبيب ! كانت تتحدث مع أختها لمياء. فتح دلف الشيش ببطء، ناظرا إليها، محييا إياها بابتسامة هادئة :
ـ صباح الخير..
أتاه الصوت الرقيق :
ـ صباح النور..
دخل الغرفة عاجزا عن إكمال الحوار. لم يزد على تحية الصباح شيئا. وسعته الفرحة فتغنى بأغنية عبد الحليم حافظ " أول مرة تحب يا قلبي "، عامدا أن يصلها صوته. تنبه بعد دقائق إلى أنها ليست في الحديقة.. حرك دلف الشيش غلقا وفتحا، لعلها تسمع فتأتيه، لكن محاولته ذهبت أدراج الرياح.
كاد يخنقه الدخان المنبعث من الفرن. أوقدت أمه فرن الخبيز، بأقراص الجلة وقطع خشب صغيرة مخلوطة بالنشارة. أحكم غلق الدلف الزجاجية، إلى أن تبدد الدخان، ثم عاد يفتح النافذة على آخرها. يتناهى إليه صوت أم ليلى وهي تحادث أمه:
ـ الحاج نِفْسه يأكل رغيف سخن يا أم فتحي..
ـ من عيني..
ظلا يتحادثان.. أم ليلى ارتقت السور الواطئ وأمه تحادثها وهي تضع أقراص العجين في الفرن. تعمد إلى نقله من مكان لآخر تبعا لحرارة الفرن وحالة النضج. أنهت الحديث واستأذنت بعد أن نادى الحاج عليها..
بدأ استذكار دروسه، حتى أتاه صوت ليلى تتحدث مع أمه عبر السور الفاصل بين الحديقتين، مقدمة لها كيزان بطاطا لوضعها في الفرن. هرول نازلا إلى الحديقة يتناول منها الكيزان. لمح وردة حمراء زاهية على فرع أخضر. قطفها وقدمها لها زارعا على شفتيه ابتسامة، تحاكي الفرحة المطبوعة في قلبه. ابتسمت ليلى شاكرة. مدت يدها تتناول الوردة والابتسامة معلقة على شفتيها ووجنتيها.
" اليوم من أجمل أيام حياتي ".. هكذا كتب في كراسة اليوميات، التي يسجل فيها اللحظات السعيدة والمواقف الحاسمة في حياته..
في المساء، ارتدى القميص والبنطلون وخرج متوجها إلى أمين.. لم يعبأ بطول الطريق الذي يقطعه ذهابا وإيابا دون ملل.. إذا كانت كراسة اليومية تسد حاجة نفسية للتعبير، فإن أمين كراسة ثانية لأسراره وخواطره.. إلا أنه تعمد ألا يذكر له شيئا عن سهرة أمس في مسرح العطار..

د. حسين علي محمد
27/07/2008, 06:36 AM
ـ 5 ـ

انصرف من المدرسة بصحبة أمين. التقيا مصطفى الذي سيطر بحديثه عن نرجس، البنت التي أحبها. شرح كيف التقاها أول مرة، حين جاءت زبونة تريد رتق صندلها. عرفته بنفسها، تلميذة في مدرسة باحثة البادية. يتبادل معها كلمات قليلة. أبانت له أن أخته سعاد دلتها على المحل. أعجب بحديثها. آلمه أنها تكبدت السير من المنيرة حتى شارع مراد. قالت إنها تسكن في المنيرة أيضا بالقرب من سكنه، وأن سعاد صديقتها. أصر أن يرتق الصندل بالمجان.
التزم أمين الصمت، يسمع ولا يعلق ولا يبدي رأيا. هذه ليست أول بنت يتحدث عنها. عرف كثيرات قبلها. يعمل مصطفى في محل إسكافي. يرتق الأحذية القديمة على ماكينة أو يحيك بالإبرة ما تمزق من جلدها.. ينظف بعدها الحذاء ويلمّعه بالورنيش. يظل يعمل حتى الواحدة ظهرا فيعود إلى داره سيرا على الأقدام، من شارع مراد مخترقا سوق الجمال والجرن وسيدي إسماعيل الإمبابي، مارا بمدرسة التجارة للبنات. ما أكثر أحاديثه مع فتحي عن البنات اللاتي يقصدن المحل، أخراهن نرجس. يعود إلى المحل في الثالثة بعد الظهر، حتى أذان العشاء، فينصرف إلى البيت منهك القوى. يغتسل طاردا رائحة الجلد والورنيش، ويتعشى ويشرب الشاي. ثم يستسلم لنوم عميق، ما لم يخرج مع الصحاب.. حسده فتحي على زبائن المحل من البنات. لم يصدق أن عاملا بسيطا مثله يمكن أن تقع بنت مدارس في هواه.
استأذن أمين لينحرف يسارا إلى المنيرة، يكمل الطريق بمفرده. آثر مصطفى تمضية بعض الوقت مع فتحي، الذي حكى عن سهرته في مسرح العطار.. حدثه عن الراقصة توحة. تذكر أمور الجنس التي أشبع ثروت بها خياله. تمنى أن يكون مثله. وجد ضالته في مسرح العطار. وجد في صاحبه مستمعا يمكن أن يجاريه. إلا أنه يختلف عنه، فقد لاحظ أنه لا يتحمس لما يحكيه عن المسرح. أدرك أنه من نوع آخر يختلف عن ثروت. لم يتحمس لكلامه، ولا تحمس لدعوته بقضاء أمسية معه، وإن كان منصتا جيدا لما يقول.
أغراه بالسير حتى بيته، وقضاء وقت معه. شقة ضيقة من ثلاث غرف، قريبة من مسجد زيدان. ينفرد بغرفة، بها سرير سِفَري خاص به، ومنضدة صغيرة منخفضة تكفي صينية الشاي بالكاد، وثلاثة كراسي. دخلت سعاد، بوجه مدور منور. مدت يدها بالتحية. نهض واقفا وسلم عليها، مبهورا بجمالها ورشاقتها. خرجت فلمح ضفيرة الشعر الأسود تغطي ظهرها. عادت بصينية مستديرة، عليها قدحيْ شاي، وانصرفت. قال مصطفى:
ـ إنها صديقة نرجس..
ـ ألهذا تعاكس نرجس ؟
ـ أبدا والله..
همس في أذنه حتى لا يتنصت له متطفل من أسرته، قال وهو يتحسس بإصبعيْ الإبهام والسبابة شاربه الخفيف :
ـ إني أحبها.. لا تعجب.. هي بنت ولا كل البنات.. أعجبت بها. جمال وأخلاق..
ـ هل ستتزوجها ؟
ـ أتمنى..
التزما الصمت.. قطعه فتحي بقوله، كأنه يحدثه عن نفسه :
ـ بمجرد أن تعجبك بنت غيرها ستنسى هذا الكلام، وتقع في حب جديد..
غضب. أكد أنها ليست بنتا عادية.. أعاد قوله بأنها " بنت ولا كل البنات ".. وتحسس من جديد الشارب الخفيف..
حين هم بالانصراف، دخل أبو مصطفى يسلم عليه ويسأل عن أحواله. كان عائدا لتوه من ورشة النجارة.
في المساء، توجه إلى صديقه الذي لا يكاد يفارقه.. يقضي بعضا من الوقت، عاتبا على صاحبه انعزاله عن حياة تموج بالأحداث. عرض عليه أن يخرج معه "ليشمّا الهواء"، فتشجع ونفض عن جسمه التراخي. ارتدى ملابس الخروج، قميصا أبيض بأكمام وبنطلونا تعاقبت عليه أتربة السنين. لاذا بركن في مقهى الربيع المطل على شارع عريض، وموقف أتوبيسات مدينة العمال. لعبا النرد. أحضر النادل صينية الشاي، قائلا :
ـ أي خدمة يا بهوات..
كسب أمين الدور الأول، فاتهمه فتحي بأنه " يقرص " الزهر حين يلقي به، لهذا هزمه. اكفهر وجه أمين. لعبا دورا آخر فتعادلا. ارتاح فتحي للنتيجة، فتشجع ولعب دورا فاصلا، انتهى لصالحه. أعطى النادل حسابه، وانصرف مع صاحبه، منفوشا كطاووس. نسيا اللعب وتطرقا إلى أحاديث عن نشأة الكون، حديثهما الأثير، كما تحدثا عن الاشتراكية، والوحدة بين مصر وسوريا التي لم تستمر طويلا. تحمس فتحي للمد الاشتراكي، وإلى الوحدة العربية سبيلا لجمع شمل العرب، بينا انفرد أمين برأيه في أن الاشتراكية تقضي على الملكية الفردية، وأن الوحدة التي ينادي بها عبد الناصر لن تتحقق لأن العرب أشتات مبعثرة.. يبدو أمين عقلانيا في أفكاره، رغم أن فقر أسرته يحتم عليه التحمس للمد الاشتراكي.
عجب فتحي من موقفه. جابا طرقات المنطقة والأحاديث لا تنتهي بينهما. انتقلا إلى أغنية أم كلثوم الجديدة " أراك عصيّ الدمع "، اتفقا على أنها أكثر من رائعة. السؤال الذي دار حول الأغنية أن جمهور "الست " ربما لا يتفهم معاني الكلمات. بعد ذلك، حدثه فتحي عن سعاد البنت الجميلة التي رآها اليوم لأول مرة، عن أدبها ورشاقتها. عجب من أخيها يعجب ببنت في مثل سن أخته !
عرّجا على غرزة حمزة. أراحا الأقدام من طول السير، وشربا الشاي الثقيل.
انضم إليهما، صاحب الشعر المشتعل بياضا من جراء الستين عاما المنصرمة من عمره، التي أعطت ـ في نظرهم ـ انطباعا بحكمة الرجل. أعاد حكاية الرصاصة التي استقرت في فخذه أيام حرب بور سعيد. تطوع في صفوف المقاومة الشعبية. تذكر الأيام المجيدة، وحماس القائد الذي أصر على مقاتلة الغازين. وعند اقتراب الساعة من الحادية عشرة، انصرف كل إلى بيته..

د. حسين علي محمد
27/07/2008, 06:37 AM
ـ 6 ـ

ظهر الاثنين الأول من نوفمبر عام 1965.
طرق متواصل على الباب جعل أم فتحي تهرع من المطبخ إلى الباب تفتحه، فإذا مصطفى متقطع الأنفاس.. ينزل فتحي السلالم ركضا إثر سماعه صوت صاحبه..
ـ ادخل.. ادخل..
لكنه لا يدخل. شده من ذراعه إلى الداخل، وصوته يعلن في ألم:
ـ التروللي وقع في النيل..
صكت صدرها بكفها.. ارتدى فتحي الملابس على عجل، وخرج معه، متجهين إلى حيث سقط التروللي باس رقم 44 أمام مستشفى العجوزة.
خرجت إمبابة كلها لدى سماعها النبأ المروع.. الرجال والنساء والأطفال.. حتى البيوت والمساجد والمدارس والشوارع والحواري والترع والأشجار والمحال، تخرج معهم في مسيرة جنائزية مهيبة. بعض النساء خرجن بجلابيب البيت، حاسرات الشعر حافيات الأقدام. مِنَ الناس مَنْ ركب سيارات الأجرة ومِنهم مَنْ ركب السيارات العامة ومِنهم من سار على قدميه كأنه يركض.. كان اليوم طويلا قاسيا كأن شمسه لم تطلع.. تقاطر الناس من كل مكان إلى موقع الحادث.. جاءوا من مدينة العمال والتحرير والمنيرة وتاج الدول وأرض عزيز عزت والجرن وعزبة الصعايدة وشارع السلام والكيت كات ووراق العرب والحضر. جاءوا من كل اتجاه وهم يتصايحون ويتباكون..
قال مصطفى بصوت متحشرج:
ـ أختي سعاد تعود في هذا الموعد من الجيزة..
طيب فتحي خاطره:
ـ ندعو لها بالسلامة..
ركبا سيارة وكل من فيها يحكون عن المأساة، التي راح فيها غرقى بالعشرات.
سيارة إسعاف تطلق صوتا كالصراخ، فيخلى لها الطريق. نزلا بعد كوبري الزمالك بمحطة، معتذرا السائق من عدم تمكنه من شق الزحام وإكمال الطريق. سأل فتحي:
ـ هل أخبرت والدك ؟
ـ هو الذي أخبرني عن طريق أحد العاملين بالورشة، وسبقني إلى هنا.. قد نلتقي به..
ازدحم الأهالي على الشاطئ، منهم من قفز عبر سور واطئ، ومنهم من مشى عبر حطام السور الذي كسره التروللي في اقتحامه المجنون. قفز الاثنان فوق السور اختصارا للوقت وشقا لهما مكانا بصعوبة وسط الزحام والصراخ والعويل.
شقا الطريق عبر أجساد مقهورة مرتعدة. رأوا العيون باكية فانهمرت دموعهما.. أخيرا تطلعا إلى سطح الماء. وصلا بالقرب منه. لم يريا من التروللي المنتحر سوى سنجتين حديديتين ظاهرتين فوق سطح النهر، كأنهما يستجيران بالله من دنيا المشقات. أما التروللي فقد غاص بركابه في جوف المياه. احتضنت المياه الضحايا. زغردت عرائس النيل المنتحرات من عصور قديمة، في محفل مهيب. شاب قفز إلى المياه بثيابه وجاهد حتى وصل إلى مكان التروللي. لم يألُ جهدا في كسر نافذة زجاجية قابلته. امتدت يده تمسك بمن تصادف. شد جثمان بنت إلى ناحيته، حمله بين ذراعيه عائدا به إلى الشاطئ.
الأهالي يكبرون ويوحدون الله. تصاعد الصراخ والصوات إلى عنان السماء. كان مشهد البنت الصغيرة مبكيا للجميع. امتدت سحابة الألم إلى كل العيون. صبي صغير جرى إلى النهر صائحا:
ـ أختي.. أختي..
لم يقصد جثمان البنت الذي حمله الشاب، إنما قصد أن يفعل مثل ما فعل الشاب وينتشل أخته من داخل التروللي الغريق. جرى شبان خلفه، في صراع مرير ليلحقوا به. كاد يغرق. شرب المياه رغما عنه. أنقذ في اللحظات الأخيرة.
بينا عجوز يضرب كفا بكف وهو يحوقل:
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. أهي ناقصة ؟ هل نضيف إلى مصائبنا مصيبة أخرى ؟..
تسارع الشبان في إنقاذه وإسعافه، بينا تطوع شاب في نقل الضحايا والمصابين.. يبدو أنهم جميعا غرقى.. المصابون هم الذين قفزوا من التروللي غب سقوطه، ألقوا بأنفسهم في الهواء. منهم من سقط في النهر فلحقه الأهالي وأسعفوه، ومنهم من سقط على الشط فأصيب بكسور ورضوض. نادى الشاب الواقف عند التروللي الغريق على زميله، كي يعاونه على سحب ضحية تستعصي عليه. تعاون الاثنان، وشدوا ثلاث ضحايا دفعة واحدة. احتضنت كل واحدة زميلتها.
تعالى الصوات من النسوان، كبّر الرجال ووحدوا الله. عجوز استغرقت في بكاء طويل قائلة:
ـ عيني على الصبايا..
لمح والد مصطفى، الذي تميز عن الآخرين بالمعطف الأصفر الذي يرتديه. مد يده يصافحه. منعه الحزن من الكلام. خطا خطوات فلمح ليلى. اقترب منها وحياها. ذهلت عمن حولها. وقفت مع أختيها نجوى ولمياء، يريدان الاطمئنان على بنت خالتهن، التي تستعمل التروللي في غدوها ورواحها إلى المدرسة. قال فتحي ملطفا:
ـ إن شاء الله سليمة..
ـ ربنا كبير..
عاد إلى صاحبه المنهار المستند إلى ساق شجرة. وقف معه لا يدري كيف التصرف. تتقاطر الجثث على أيدي الشبان. تطوعت مجموعة أخرى إلى نقل المصابين إلى مستشفى العجوزة، عابرين الطريق، اختصارا للوقت. جند الأطباء أنفسهم، لإسعاف الحالات البسيطة، وتجهيز غرفة العمليات للحالات الحرجة. أما الغرقى، فقد تكدسوا في صالة، بعدما امتلأت ثلاجة المشرحة عن آخرها، وسموها صالة الغرقى !
لمح حمزة في حركة دائبة. دخل وتبرع بدمه، ثم خطب في الأهالي يحثهم على التبرع. تقاطر الأهالي ملبين. تلميذات صغيرات هرولن للتبرع إنقاذا لزميلاتهن وزاحمن الكبار. تصاعد صياحهن الممزوج بالبكاء. كان مشهدا لا مثيل له، يفتقد النظام، لكنه الحزن الذي سكن في كل قلب فأدماه. خطب حمزة في البنات النائحات. قال لهن إن الضحايا شهداء عند الله، ندعو لهم بالمغفرة، ومثواهم الجنة التي وعد الله بها المتقين. كان فارس زمانه. لم يكل عن الحركة. جمع بطاطين من أهالي المنطقة، وحث الجميع على المساعدة، كل بما يستطيع.
على سور النيل وقف شيخ يترحم على الغرقى، يذكر الناس بمأساة الباخرة دندرة. يرد عليه شيخ آخر بأنه ابتلاء من الله العلي العظيم. بينما ثالث اقترب منهما، وذكرهم بالعوامة التي مشت فجأة في اتجاه كوبري الزمالك. ظن الناس أن جماعة من الجن هم الذين ساروا بها. أنقذ من فيها بأعجوبة. نجح رجال الإنقاذ في إرجاع العوامة الشاردة إلى حيث تقف. رأى شيخ معمم الرأس أن الكارثة سببها أننا بعدنا عن شريعة الله. أكد أن ما حدث غضب من الله سبحانه، إزاء القبض على مفكرين إسلاميين ورجال دين. ذعر رجل أشيب الشعر وأمره بالصمت:
ـ صه.. لا تتحدث في هذا..
أطلقت تلميذة صواتا عاليا، هز جميع الواقفين، وزلزل الأرض من تحت أقدامهم، حين شاهدت زميلة لها ضمن الضحايا. موكب آخر لبنات المدارس اللاتي نجوْن من الحادث حين تصادف وركبن التروللي الذي يليه. سرن على الأقدام في جنازة يشيب لها الولدان. صرخن بأعلى أصواتهن، دون أن يعرفن مَن الغريق ومَن المصاب ومَن الناجي. يبدو أنهن ينتحبن من هول ما سمعنه.
اهتزت عجوز للمظاهرة الجنائزية فانخرطت في بكاء مرير.
اطمأنت ليلى حين أقبلت بنت خالتها ضمن المظاهرة الجنائزية.
قال لليلى:
ـ الحمد لله..
ـ الحمد لله..!
لكن بنت خالتها كانت ضمن النائحات على زميلاتهن، دامية العينين. لم تهتم بمن يهنئنها على النجاة.
سعاد، البنت الطيبة التي رآها مرة واحدة فخفق لها قلبه، كانت ضمن الضحايا. اتجه إلى مصطفى الذي بدا عليه أن الصدمة أقوى من احتماله. احتضنه فأجهش ببكاء مرير. عمل على مواساته، إلا أن الكلمات لم تخرج من حلقه، وما ملك إلا أن انخرط هو الآخر في البكاء. سعاد، زهرة البنات، ما أقساها لحظة حين نعرف أن أحباءنا فارقونا. أسند رجلان والدها المنهار، بينا صوت أمها يعلو مخترقا عنان السماء:
ـ بنتي.. بنتي..
ـ استعيني بالله يا حاجة..
ـ بنتي.. بنتي..
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله..
في المساء، أقيمت سرادقات العزاء في بيوت عديدة. ارتدت إمبابة ثياب الحداد، في يوم لا مثيل له. أقام الجيران السرادقات، وتعانقت أصوات المقرئين وهم يتلون آيات من القرآن الكريم. تنقل حمزة من سرادق لآخر، مواسيا عائلات الضحايا. لم ينم حتى منتصف الليل، كما أنه بذل نشاطا غير عادي أثناء الحادث، غير عابئ بكبر سنه، وما درى بنفسه حتى رقد في منتصف الليل منهك القوى. وسرعان ما راح في سبات عميق. بينا فتحي أخذ يكتب في مذكراته قصة النهر الغاضب ومأساة لا مثيل لها ولا نظير. احتار في سرد خواطره الممزوجة بالألم، لكنه كتب كثيرا عن سعاد ضحية التروللي. انهمرت دموع سخينة وهو يكتب عن العذراء الصغيرة. عجز عن التعبير عن مشاعره. غلبته الدموع، فاختتم ما يكتب بعبارة مختصرة : "إن ما شاهدته يجل عن الوصف. إن مشهد سعاد وهي محمولة على نقالة لن يفارق خيالي ما حييت".. ثم طوى الكراسة وهو يبكي…

د. حسين علي محمد
27/07/2008, 06:38 AM
ـ 7 ـ

ازدحمت الخواطر في رأسه عن حال مصطفى بعد وفاة أخته. أشارت عليه والدته أن تذهب لتعزي الأسرة. هاجس دفين يحدثه أن ما حدث انتقام لسلوكه. حدث أمه في هذا، لكنها أرجعت كل شيء إلى أن الأعمار بيد الله، وإذا كانت هناك حكمة ما فلا يعلمها إلا سبحانه. استقبلتهما سيدات متشحات بالسواد..
دخلا.. سلمت الأم على مصطفى متأثرة:
ـ العمر لك يا ابني..
تركتهما ودخلت مع سيدات في غرفة مجاورة. انفرد فتحي بصاحبه لا يدري ماذا يقول. قال عن أخته كلاما كثيرا، عن وفائها لأصدقائها، عن تفوقها الدراسي. لؤلؤة ثمينة اختارها الله إلى جواره. فوجئ فتحي بنرجس تقتحم مجلسهما بصحبة أمها. انتفض كالمذعور ليقف بمحاذاة مصطفى، مادا يده مثله يتقبل عزاءهما. برغم الثوب الأسود الذي ترتديه، إلا أنه أفصح عن جمال صارخ، أكثر مما يكشف عنه ثوب آخر. عقصت شعرها الأصفر إلى الوراء. عيناها الزرقاوان، ووجهها الأبيض المدور، علامتان للجمال لا تخطئهما عين. لم يفلح احمرار العينين من شدة البكاء، في إخفاء الجمال المعلن. توجهت الجميلة الحزينة هي وأمها إلى غرفة السيدات.. أخذ يحدثه عن وفائها. قال إنها غير ما عرف من البنات. أوضح له :
ـ نرجس صاحبة المرحومة.. الروح بالروح..
وأشار بإصبعيْ السبابتين ملتصقين..
قال وهو حائر:
ـ لا شك أن الحادث الأليم سيغير من طباعك..
ـ بالتأكيد..
لفهما صمت. احتار دليله. فقد رأى مصطفى لم يزل متيما بحبها، أو أنه لم يبن أن المأساة غيرته، وجعلته يزهد الحياة. لِمَ العجلة ؟ مصطفى لم يكاشفه عن تغير الأوضاع، لكنه لم يكاشفه ـ أيضا ـ عن أحاسيسه نحو نرجس. ما بك تتعجل الأمور، تريد أن تصدر أحكاما فورية على كل شيء، المعلن وغير المعلن ؟
أفاق من صمته، طاردا هواجسه، متخذا موقف فرسان العصور الوسطى في أوروبا، هكذا قرأ عن طبقة النبلاء ! تربع مقرئ في الصالة الضيقة. طفق يتلو سورتيْ يس والرحمن. فاستمرآ الصمت الذي كانا عليه، وأصغيا لآيات الذكر الحكيم.
ما إن ختم المقرئ، حتى دخلت أمه تسلم على مصطفى ووالده، ولسانها يلهج بعبارات الترحم على المرحومة. صافحهما فتحي دون أن ينبس ببنت شفة.
عندما خرجا صادفا حمزة في الصالة، يؤدي واجب العزاء للأب المكلوم. اتجه إلى فتحي وأمه، قال كأنه من أهل البيت:
ـ شكر الله سعيكم..
واتجه إلى الغرفة يجلس مع الأب وابنه.
عندما وصلا إلى مسجد زيدان، استأذن من أمه ليزور أمين في المنيرة الغربية، بينا اتجهت هي إلى سوق الخضار. واصل السير في شارع الجامع حتى نهايته، ارتقى ساقيْ النخلتين، أو القنطرة التي صنعها الأهالي ليعبروا فوقها بين المنيرتين.
لا يدري سر المغناطيس القوي الذي يشده إلى أمين، كأنه وأمين توءمان. كلما تأججت مشاعره، أو تزاحمت الأحداث، هرع إليه يبوح بما يخالجه من أحاسيس.
لعل أمين منصت جيد، لا يحب إقحام نفسه وقطع حبل الحديث. لكنه لم يكسب صديقا غيره ! هرع إليه يفرغ ماعون الحزن الذي تشبع به أمس واليوم. جلس إليه يحدثه عن الصديقتين الجميلتين اللتين اكتشفهما هذه الأيام.. جميلة غرقت في النيل، وجميلة اتشحت بالسواد حزنا على صديقتها ! وصف له جمالهما الرباني. استرسل يحدثه عن الحب النابت في فؤاده برعما صغيرا ثم اقتلعته فجأة ريح عاتية !.. حدثه عن مصطفى الذي فقد أخته، وعلاقة الحب التي ربطته بنرجس. لكن مصطفى ارتبط ببنات كثيرات، ضحك على عقولهن بمعسول الكلام.
تنتهي علاقته بالبنت بمجرد أن يجد غيرها. آخر بنت كانت نرجس، زميلة أخته.
تدخل أمين في الحديث متأثرا بما أصاب مصطفى، مما اضطر فتحي إلى اختصار الحديث عن غرامياته، ويعلق على التروللي المنتحر، والمآسي التي صاحبته !
حبس في داخله آهة ندم على إطلاقه الكلام على عواهنه. حدث نفسه : "كان لابد أن أراعي المحنة القاسية.. كان لابد أن أتحاشى الحديث عن صاحبي بهذه الصورة المستهجنة". ثم وجد في فروسية ونبل عم حمزة ملاذا يهرب إليه، فتحدث عن شجاعته والدور الكبير الذي قام به. انتهى المجلس بخروجهما للتريض، كما هي العادة، وأصرا على المرور عليه وشرب الشاي عنده، تحية للشيخ صاحب الواجب والمروءة، الذي لا يختلف عليه اثنان.

د. حسين علي محمد
27/07/2008, 06:39 AM
ـ 8 ـ

لم ينم هذه الليلة. إن غفلت عيناه، حلت عليه كوابيس أنهضته من نومه في حالة من الفزع لم يعهد لها مثيلا. أتاه حلم مرعب لعمال غير محددة الوجوه، يحفرون مقبرة بعمق لا نهاية له، وهو مستكين ينتظر حتفه في هذا الجب العميق. ولما حان أجله، أحس بقوة تحاول دفعه للسقوط، فصرخ صراخا عاليا، لكن الصراخ لا صوت له، تردد صدى الصراخ في المقبرة التي لا قرار لها.
ينهض فزعا. يرفع طرف الغطاء الذي انحسر أغلبه من فوقه. ينهض من فراشه، يضيء مصباح الكيروسين المعلق على جدار في ركن من الطرقة الضيقة المفضية إلى دورة المياه. الكل نيام. وهو قلق فزع. حين أفاق، عاد إليه الهدوء وشملته السكينة. ما أقلق نومه رد فعل مباشر للحادث المشئوم، والضحايا من الشباب. ليلة لم تنم فيها إمبابة، ولا العجوزة، ولا المنطقة المحيطة بهما. أغلب الضحايا من طلبة وطالبات المدارس. حاول النوم فخاصمه. أعد قدح شاي لعله يعيد إليه الهدوء. فكر في الذهاب إلى حميدة، لكن الليل انتصف.
فتح باب الشقة التي لا تتعدى كونها غرفة نوم وصالة ضيقة تفضي إلى مطبخ وحمام. كانت في الأصل عشا مبنيا بالتبن والطين، حوّلها إلى بناء بالطوب الآجر، وغطى السقف بكتل الخشب الضخمة، وألواح الاسبستوس. سكنه المتواضع ملاصق لنفق المنيرة، عند المدخل المؤدي إلى شارع البصراوي الضيق الممتد حتى تلتحم نهايته يمينا ببشتيل حيث المزارع الخضراء. شارع ترابي آخر مواز للسكة الحديدية، والترعة تمتد بامتداده، يؤدي في نهايته إلى مطار إمبابة للطيران المدني الذي أنشئ في نهاية الأربعينيات، ومعهد الطيران الشراعي ومعهد التدريب على الطيران، وسمي لهذا "شارع المطار". سكن حمزة بهذا الموقع المميز، الذي يقع في مفترق طرق، منذ كان شابا في العشرينيات، كأنه حارس على نفق المنيرة، الذي تعبر من فوقه قطارات الصعيد من وإلى محطة مصر. يحس بكل رجة في أرضية الشقة، بحركة القطار، وصفارته المدوية أشبه بصراخ متواصل ينوح على الذين ماتوا وفارقونا..
انشرح صدره بسماع صوت المؤذن. قام ليتوضأ. فتح النافذة الضيقة فنفذ منها هواء رطب مشبع ببرودة. اتسع صدره للهواء الطازج، وطردت طواعية أشباح الليل وعالمه الخرافي. صلى وسبح وحمد الله وكبّر، ثم دعا ربه أن يصلح الأحوال ويحقق الآمال. كانت آماله محدودة متواضعة، لا تتعدى أن يعينه على مواجهة ما تأتي به الأيام، وأن يحقق لحميدة أملها في ولد تفرح به..
في الوقت الذي دعا ربه أن تنجب ابنته، كانت هي تتقلب في الفراش، تفكر في حال أبيها، الرجل العظيم، الذي أجهد نفسه يوم ارتمى التروللي في أحضان النيل، غير عابئ بمن يحمل. أخذ والدها يعين الناس على تحمل ما فاجأهم به القدر. حمل بطاطين وأغطية كثيرة من فاعلي خير، وقاد حملة للتبرع بالدم، فتجمهر خلق كثيرون في صف منتظم، وأعان رجال الإنقاذ قدر استطاعته. وفي المساء لم يترك سرادق عزاء إلا دخله. أشياء كثيرة قام بها، منها ما تعرفه ابنته، ومنها ما لا تعرف. حميدة بأبيها معجبة. هل زوجها صاحب مروءة مثل أبيها ؟ هي لم تكتشف بعد خصال المروءة والنخوة عنده. إنها لا تريد أن تتسرع، فزواجهما لا يتعدى سنتين. هي تعذر جابر المشغول بالخلفة. يحلم بولد تنجبه له، تصاعدت آهة الحزن تنهيدة كبيرة من صدرها، تكاد تبكي حظها. تتمنى أن يرزقها الله بولد أو بنت، فكل عطايا الرحمن حلوة..
تود أن تنجب طفلا تضمه إلى صدرها، تتحسس شفتاه حلمة ثديها، يتغذى من لبنها، تغمره بحنان جارف.. بتلقائية تناولت وسادة صغيرة وضمتها إلى صدرها، وأخذت تحلم بالولد أو البنت. تنهدت وقالت في سرها : يا رب.. كررت النداء، لكنها لم تنجح في حبس صوتها هذه المرة. تنبه زوجها، ففتح عينيه نصف فتحة..
ـ صحوتِ يا حميدة..
تحللت من الوسادة، إلا أنه لاحظ حالها ولم يشأ أن يظهر اهتمامه، استطرد:
ـ الفجر أذّنْ ؟
ـ مِن بدري..
بدأت تشعل موقد الكيروسين وتضع قدر الماء للتوضؤ.. ولما فرغا من الصلاة، ارتدى كل منهما جلباب الخروج، قاصدين سوق الجملة بروض الفرج. جهزا العربة "الكارو"، وتريثا إلى حين ينتهي الحمار من تناول أعواد البرسيم وشرب الماء، ولما أطلق نهيقه أدركا أنه شبع. وفي طريقهما مرا على حمزة، فقامت بترتيب فراشه، وكنس الغرفة والصالة.. ثم واصلا رحلتهما اليومية إلى سوق الجملة ليبتاعا ما يسوقانه في سوق إمبابة.. كان الطريق خاليا إلا من قلائل. نادرا ما يلتقيان بأحد. نباح الكلاب التي استيقظت متكاسلة، يتناهى إلى سمعهما من حين لآخر. عبرا نفق المنيرة واتجها يسارا إلى شارع المحطة في اتجاه النيل، مرورا بسيدي إسماعيل الإمبابي. توقفا بالعربة " الكارو " أمام قبة الضريح الخضراء. شخصا إلى نافذة ذات قضبان حديدية طولية. رفعا أيديهما وقرءا الفاتحة. أكثرت حميدة من الدعاء إلى الله أن يهيئ لها من أمرها يسرا. لم تكتف بذلك، أصرت على النزول والاقتراب من المقام. كلما اقتربت، استجاب الله لدعائها ؟ ترى أن الدعاء عند المقام يلقى القبول.
انتظرها جالسا على عربته، والحمار يقف مستكينا لا يلوي على شيء. كأن هناك لغة ما فهمها الحمار، بأن صاحبيه سيتوقفان قليلا. قرأت الفاتحة والصمدية والمعوذتين، ولهج لسانها بدعاء كثير، بكلمات عفوية.. تدعو الله أن يرزقها بولد، حتى لا يفكر زوجها في تطليقها، وتنعم بأمومة كسائر النساء.
المقام للولي الصالح الشيخ إسماعيل بن يوسف الإمبابي الذي يرجع نسبه إلى سعد بن عبادة سيد قبيلة الخزرج بالمدينة المنورة، أيام هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها. يقام له سنويا مولد من أكبر وأشهر موالد الجمهورية ويعرف باسم مولد إسماعيل الإمبابي.
واصلا الرحلة إلى السوق. في نهاية الشارع، مرا على قسم شرطة إمبابة. اتجها يسارا إلى كوبري إمبابة، فعبراه، وقد استطابت نفساهما بهواء الصباح النقي.. في السوق، قصدا مزادا صغيرا لشراء طماطم وكوسة. ورضيا بشروة ملوخية تملأ قفة كبيرة. حملا ما اشترياه على العربة. أعطيا الحمار فسحة من الوقت يأكل من "غلق" التبن، ويشرب الماء من سبيل الماشية القريب.
حين بدءا رحلة العودة، التقيا بعجوز مسنة فأعطتها حميدة ثلاث قطع من الطماطم. قصدا كوبري إمبابة، عند مدخله عربة البلح الأبريمي، ابتاعت منها قرطاسا صغيرا بقرش صاغ. كان البلح بداية فطورهما وقد لفحت وجهيهما نسمات الصباح المنعشة. حفزت النسمات الحمار على السير الحثيث، غير عابئ بثقل ما يحمل.

د. حسين علي محمد
27/07/2008, 06:39 AM
ـ 9 ـ

يحدثنا أحد الكتّاب عن تفاني العالِم الأثري الجليل محمد نافع في عمله وولعه به، حين كان يقوم بترميم قبة السلطان الغوري، التي تشققت جدرانها، فرأى فيما يرى النائم أن الجدران انهارت.. فقام فزعا من نومه ولم يصبر حتى يطلع النهار، وغادر منزله بالعباسية ماشيا على قدميه إلى الغورية فوجد الحال كما هي وأن ما رآه أضغاث أحلام.
ما حدث لمحمد نافع حدث مثيل له مع حمزة بن محمد بن صابر بن رمضان، الذي استغرق في نومه، وسبح في دنيا الأحلام، فرأى فيما يرى النائم جدار نفق المنيرة قد تشققت أحجاره، فإذا به يجري وهو جزع. يتحسس الجدران، يمرر سبابته على شق من الشقوق، تجزع نفسه، يصيح : ربي.. حلم أم علم ؟ يقرص لحم فخذه حتى يتنبه.. يصيح.. يتردد صدى الصيحة في فضاء لا نهاية له، يا هووه.. يا خلق الله .. النفق ينهار.. أنقذوا النفق.. أهو زلزال مفاجئ أم انهيار كامل ؟ لا يدري. لا أحد يجيب. يجري كالمجنون. يرفع ذراعيه باسطا كفيه على الجدار متحسسا الشقوق، يبكي، يتألم. الناس في بيوت مغلقة لا تسمع، أو أنها تتجاهل الصرخات.
أشرقت شمس نوفمبر في الصباح، فتبدد ما رآه حمزة في منامه، كأنه غير مصدق. إنه مجرد حلم يتبدد في اليقظة، فخرج من بيته يتطلع إلى البناء الحجري، ينتصب في أوله وآخره أربعة أعمدة حجرية شاهدا على متانته.. ولشد ما عجب من أمر النفق الذي يتحمل قطارات تزن مئات الأطنان.. تعبر فوقه ليل نهار، فلا يكل ولا ينهار. سار بطول النفق من بدايته إلى نهايته.. توقف لحظات يتحسس بكفيه الجدار السميك. لم يلحظ تشققات ولا وجد كسرا. لا شيء يعتور النفق. بدا أمام ناظريه سليما معافى. ما رآه في المنام كذب في كذب. هاهي
الحقيقة ناصعة ساطعة سطوع الشمس الدافئة في نوفمبر. إذن هو الحلم وإرهاصات الغافل عن الدنيا السابح في ملكوت الله. عجيبة هي الأحلام، ترينا فانتازيا تخلط بين الواقع والخيال.. قد تنبئ عما هو آت في مقتبل الأيام.. قد تكون الحاسة السادسة تُري المرء بشفافية تخترق كالأشعة حجب الغيب. تريه ما لا يراه بعينيه، ما لا يطوف بخياله. هدأت جوارحه وشمله الهدوء. اطمأن إلى النفق فعاد إلى غرزته وسكنه، فاصطدم وهو سائر بسيد سبرتو. بدا كالقضاء المستعجل، فاصطحبه معه. قال سيد متهكما:
ـ ما بك، تائها شاردا.. تذكرني بالمجاذيب الذين أراهم في الحسين..
تنهد.. إلا أنه فوجئ بكفه تهوي على ظهره كأنما قصمته نصفين..
عاتبه بصوت واهن:
ـ ما هذا يا سيد ؟
ـ إن كان يعجبك..
التزم الصمت، واصطحبه إلى الغرزة. تركه ليعدّ الشاي، فلانت عريكته وجلس إليه. انتهز فرصة الهدوء الذي شمله، وحكى له ما رآه في المنام.. قال متهكما:
ـ غطي نفسك " كويس " وأنت نائم، ولا تملأ بطنك بالأكل..
ضرب المنضدة الصدئة بمقبض يده، قائلا بصوته الأجش:
ـ نم خفيفا يا خفيف !
طفق يحدث كل من يقابل عما رآه في المنام، وينصت جيدا لكل كلمة ورأي. إنه يبحث عن تفسير..
حين مر عليه فتحي وهو عائد من مدرسته، بدا غير مهندم، ونبت شارب خفيف وذقنه أهمل حلاقتها منذ يوم الكارثة. يذهب اليوم إلى المدرسة بعد غياب عدة أيام. جلس إلى كرسي، واسترسل يثني على المجهود الذي قام به وقت الفاجعة:
ـ قمت بدور بطولي رائع، عجزت الحكومة عن القيام بمثله. يكفي اندفاعك وحركتك المكوكية في كل اتجاه. تسد النقص في كل مكان، أو تنبه إليه. الثواب عند الله تعالى. يكفيك فخرا أننا في المدرسة لا حديث لنا إلا عن بطولاتك..
دمعت عيناه لهذا المديح، قال:
ـ فعلت ما أملاه عليّ ضميري. لكن.. ليتني كنت أقرأ وأكتب مثلكم.. ما فعلته هو القليل..
ـ إنه التواضع.. لقد أديت دورا رائعا لم يقم به المتعلمون. قد رأيتك تتحرك في كل مكان. تدعو إلى التبرع بالدم، تجمع البطاطين، تحث الناس على التبرع بأي شيء. جبرت بخاطر أهالي الضحايا وزملائهم. واسيتهم. عالجت أحزانهم. شاركت في رفع المصابين على النقالات..
ـ على مهلك يا فتحي يا ابني.. هل نسيت فرسان الإنقاذ الذين اندفعوا إلى النهر الهائج يسارعون في انتشال الضحايا والمصابين ؟ هل نسيت ما قام به الأطباء؟ علمت أن أطباء جاءوا متطوعين. أكثر من طبيب تصادف مرورهم وقت الحادث، فهرعوا يبذلون العطاء. حمزة ليس إلا واحدا من وطنيين كثيرين..
ـ بارك الله فيك وفيهم..
كان سيد سبرتو قد انصرف ليعود ويستمع إلى هذا الحديث، فأكلته الغيرة فقال:
ـ سيد سبرتو كان له دور مهم.. لا تنسوا أنني لم آخذ أية إتاوات يوم الحادثة، الله لا يرجعها، ولا في اليومين التاليين. ومنعت رجالي من فعل شيء خارج عن القانون.
قال حمزة:
ـ فيك الخير..
بينما نكس فتحي رأسه، ولم يعلق بشيء..
استدار إلى فتحي وحكى له الحلم المفزع، الكابوس.. أجابه:
ـ إنه رد فعل لكارثة التروللي..
وجم قليلا وهو يتمتم:
ـ رد فعل..
شرح له معنى "رد فعل".. إنه انعكاس لما تحس به نفس الإنسان إزاء مشاكل عظمى أو مصائب تحل بها، فينعكس ذلك قلقا يتعاظم حتى لا يجد المرء مفرا لتخفيف الضغط إلا بهذا الحلم..
لم يفهم حمزة معظم الكلمات. تحسس شاربه الكث. خجل أن يطلب منه شرحا. ادعى فهم ما يقول..
أما أمين فقد دخل الغرزة محييا، حين لمح فتحي جالسا. استمع إلى حمزة وما قاله عن الكابوس الذي حل به ليلا، وعقب:
ـ خيرا إن شاء الله..
أكد حمزة للجميع أن ما يقلقه أن يكون الحلم نبوءة لما هو آت. استبعد الجميع حدوث شئ. النفق متين ومتماسك. لا داعي للمخاوف..
قال جابر:
ـ سلمها لله.. خليها على الله..
أجاب:
ـ ونعم بالله..
قالت حميدة:
ـ نسأل شيخا من شيوخ جامع الإمبابي..
قال محفوظ جاره في البيت المقابل :
ـ الحكومة بنت النفق، وهي مسئولة عنه.. لا تخف، كل شيء سليم وتمام.
حين انفض السامر الذي تقاطر عليه، لم يكذب خبرا، أحب أن يتأكد من سلامة الجدار المقابل، ربما الشقوق التي رآها في الحلم من هذه الجهة. عبر إلى الجهة الأخرى. عاين الجدار بنفسه. سار بمحاذاته، وفحص حجرا حجرا، لم يجد شقا واحدا أو كسرا ما. تصادف مرور قطار سريع، تعمد أن يضع يده على الجدار، ارتعشت يده قليلا بتعاظم الاهتزازات بالجدار. بعد مرور القطار عاد الجدار إلى حالة السكون، صلدا قويا، شاهدا على تحمّله وسلامته. خشي أن تكون كارثة التروللي بداية لمصائب أخرى لا يعلمها إلا الله..
ـ ماذا يحدث لو انهار النفق ؟
سؤال توجه به إلى كل من هب ودب، وتلقى ردودا مختلفة فأنصت إليها جيدا، وهو قلق خائف. لكن ثمة حقيقة ماثلة هي أن النفق حاز على شهادة صلاحية بعد مرور القطار من فوقه. فهل هذا كافٍ لطمأنة حمزة وبرئه من هواجسه ؟

د. حسين علي محمد
27/07/2008, 06:40 AM
ـ 10 ـ

اعتكف بالبيت لا يخرج منه إلا لظروف اضطرارية. أغلبها لتأدية الصلوات في مسجد زيدان. أصبح من أشد الناس حرصا على المجيء قبل الأذان بوقت كاف. يتوضأ وإن كان متوضئا في البيت، لكنه يجدد وضوءه، تأكيدا لما قاله شيخ المسجد إن تجديد الوضوء يضفي على المرء نورا على نور. يتناول مصحفا ويقرأ.. انقطع عن الصحاب. ترك ذقنه تكبر دون أن يمر عليها بموسى الحلاقة.
يخلو لنفسه. انقضت من أيام الحزن سبعة، وخرج والده يزاول عمله بالورشة. إلا أنه دائم اللواذ بالمسجد. أرسل صاحب المحل في طلبه، ولم يستجب. آثر حياة العزلة والبعد عن الناس. وفي طريقه إلى البيت بعد أن صلى الظهر بالمسجد، أتاه صوت قوي ينادي عليه، التفت وراءه، إلى نرجس التي ابتسمت قائلة:
ـ أين أنت يا أخي ؟
ـ في الدنيا..
ـ حالك يصعب على الكافر.. الله يرحمها.. كانت أختي..
كانت عائدة من مدرسة التجارة.. ترتدي بلوزتها البيضاء والجونلة الكحلي.
تبادلا كلمات قليلة. كادت تبكي من حاله. خيم الحزن على اللقاء المصادفة.
سارا في شارع الجامع قليلا ثم انحنت يسارا بمفردها، وأكمل هو إلى البيت.
أمه تتأمل أحواله وتبكي، فالهم تضاعف، والحزن ليس على الفقيدة وحدها، إنما على حال أخيها الكبير الذي أهمل عمله وانعزل عن الناس والصحاب..
زاره فتحي وقد بدا عليه التأثر لوفاة مَنْ رآها أجمل البنات. كاد يقع في هواها حين رآها أول مرة، وصدم بغرقها ضمن من غرقوا. في حلقه كلمات كثيرة حبيسة. التزم الصمت فلم يقل شيئا، بينا تمور بداخله أحاسيس شتى. كاد يقول إن سعاد ضحية أفعاله، وإن الله ابتلاه في أخته ليتعظ، لكنه وجد صاحبه شخصا آخر غير الذي يعرف، فخجل من الكلمات التي لم يقلها، ومن نفسه ومن كل شيء. خجل حتى من إعجابه بها !.. بعد أن رأى أثر الحادث بالغا في نفس صاحبه.. حاول أن يخرجه من عالمه ففشل.. ذلك أنه هو الآخر تغير وتألم..
تناول مصحفا وتلا سورة الرحمن، ثم شملهما هدوء نسبي، قطعته الأم لتضع صينية الشاي على المنضدة. اشتكت لفتحي من أحواله. يكاد لا يأكل أو يشرب، ورأى فتحي أما عطوفا على ابنها. أبدى ملاحظة، فقال بصوت هامس بعد أن خرجت أمه:
ـ رغم أنها زوجة أبي، إلا أنها غمرتني بحنانها..
ـ شيء نادر..
ـ ماتت أمي وأنا في السابعة، فتزوجها أبي لترعى البيت وترعاني. أنجبت سعاد وأنا في الثامنة. نشأت وكبرت وأنا أناديها "أمي".. أحببت أختي سعاد كثيرا.. ولما تعرفت على صديقتها نرجس، قال أبي حين رآها أول مرة : إنها تشبه أختك، فتعلقت بها أكثر.. نشأ بيننا حب غريب غذته الأحلام والأماني الجميلة..
أنصت فتحي باهتمام بالغ كأنه يستمع إلى قصة من قصص العجائب. وقع المفاجأة عليه كان سببا للاندهاش..
عاد إلى شكوى الأم أو زوجة الأب الطيبة، من أحواله بعد وفاة أخته. ألقى على سمعه سيلا من النصائح. قال له إن مصاب الأم في فلذة كبدها فادح، لكنها تبدو أكثر جلدا منه. حاول أن يغريه بالخروج فرفض. عاد إلى البيت متعجبا من أحوال الدنيا. لا تعطي للمرء كل ما يتمنى. عندما اقترب من البيت، لمح ليلى تقف عند عتبة الباب. حياها فردت التحية. لمرآها وقع آسر بدد سحب الحزن. إلا أن القلق ساوره فارتد إلى المنيرة الغربية، مرورا بالشرقية حيث يسكن مصطفى الحزين في أول الحي. قصد أمين الذي انقطع عنه أياما عديدة. يبدو أن الحادث جعل الصديقين يقللان من لقاءاتهما. حكى لأمين تفصيلا حكاية مصطفى، والسر الذي أطلعه عليه بأن التي يناديها أمه لم تكن إلا زوجة أب، لكنها في مرتبة الأم.. حكى له ـ ضمن ما حكى ـ حكايته مع سعاد التي صادفت هواه. كان يود أن يبادلها عاطفة الحب، إلا أن القدر لم يمهله. ابتسم أمين ابتسامة ذات معنى، وقال متهكما:
ـ هل نسيت ليلى ؟
وجم ولم يعقب. اكتفى بمجالسته في البيت، ولم يخرجا للتوجه إلى المقهى.
تحجج بأن الواجب المدرسي لم يكمله، لكنه في الحقيقة أراد أن يهرب من
نظرات الاستهجان التي قابله بها. وفي البيت أحس بضيق من تصرفاته غير
الطبيعية. أنب نفسه. هل يصح التحدث عن بنت توفاها الله ؟ هل يصح أن يفشي
سرا اؤتمن عليه ؟ ضاق من غرفته، قصد الشرفة. رأى في حركة المارة شيئا
يلهيه عما يشقيه. وفي الشرفة المقابلة، رأى عثمان الأسمر يقف وهو يدندن
بأغنية عبد الحليم حافظ : "كل كلمة حب حلوة قلتها لي".. تضايق منه. لا
سيما أنه من حين لآخر يلقي نظرات على الشرفة التي تطل منها ليلى. ظهرت
ليلى، لا شك أن الصوت نبهها فخرجت إلى الشرفة، خرجت ولم تدخل. يبدو أن
صوته أعجبها. دخل في ضيق. ارتمى على فراشه متوجعا من وقاحة هذا الرعديد.
هل يحب ليلى ؟ هل ينافسه في حبها ؟ دمعت عيناه. إنه لا يبوح. حبه من طرف
واحد. يا له من شقي ! هداه تفكيره إلى حيلة. كتب خطابا غراميا ملتهبا إلى ليلى، ومهره باسم عثمان، كتبه بيده اليسرى، حتى لا يفتضح أمره.. بذلك يقع عثمان في الفخ..
في اليوم الثالث من فعلته تكاسل ولم يذهب إلى المدرسة، قاصدا ترقب قدوم موزع البريد، وتلصص رد الفعل حين تتسلم الخطاب المكيدة. مر الوقت ولم يقصد الموزع بيت ليلى، فلم يذهب إلى المدرسة في اليوم الرابع. في تمام الثانية عشرة ظهرًا حضر الموزع، واستحى أن ينطق بصوت عال باسم ليلى، مكتفيا بالخبط على الباب. خرجت أمها فقال همسا:
ـ جواب باسم ليلى..
ـ غريبة.. أول مرة تحصل..
اختطفت الخطاب ودخلت سريعا.. بينا جارتها في البيت المواجه تسأل:
ـ خير يا أم أحمد ؟
ـ جواب للحاج..
وأغلقت الباب سريعا..
دخل واستلقى على السرير، وقد أحس أنه يجني ثمرة فعلته. لم ينتظر أكثر من ربع الساعة، بعدها سمع صوت جارته ينادي على الست أم عثمان، وقد احتدت بينهما الكلمات. حاول ابنها أحمد أن يهدئ ثورتها ويطلب منها الدخول. ما هي إلا دقائق حتى أفاقت لنفسها، وأدركت أنه من الأفضل إنهاء الموضوع حرصا على سمعة البنت!
رنت العبارة كما سمعها من أمه، حين حكت له فضيحة عثمان. استحثها كي تحكي كل ما سمعته من أم أحمد، وهي تتشكى من أفعال صبيانية تمس شرف ابنتها. أحس فتحي أنه ارتكب خطأ فادحا. ارتمى على الفراش وقد تحول إحساسه بالفرح إلى وخز الضمير. بات ليلته مؤرقا، بل استمر الندم يأكل من لحمه ودمه. عزف عن الطعام والشراب وعن لقاء الصحاب، بل عزف أيضا عن المذاكرة. لم يكن يدري أنه بهذا القبح. لكن ماذا يفعل مع عثمان، الذي كان يحلو له الغناء كلما أطلت ليلى من الشرفة ؟ إنه غزل معروف دوافعه. في الوقت الذي يكتم حبه وهواه..!

د. حسين علي محمد
27/07/2008, 06:40 AM
ـ 11 ـ

صباح الأحد، انتهز الأسطى سيد يوم العطلة وتوجه إلى بيته. رحب به حسين.
ساد الجلسة صمت طويل قطعه صاحب البيت قائلا:
ـ أعرف سبب مجيئك. تريد أن تسألني عن مصطفى..
ـ أنا قلبي عليه. مصطفى في منزلة ابني..
ـ ربنا يديم المعروف بيننا يا أسطى سيد..
ـ لم يحضر الدكان من عشرة أيام..
ـ الصدمة أقوى من احتماله..
ـ ربنا يصبّره..
ـ اصبر عليه شوية..
قدم مصطفى القهوة، وجلس بينهما. انقطع ما كانا فيه يتحدثان. اعتذر مصطفى عن عدم عودته للعمل، مفاجئا الاثنين بأنه قرر ترك عمله والبحث عن عمل آخر ! دهش الرجلان. لطّف الأسطى سيد من عبارته وهو يهم بالانصراف:
ـ أترك لك فترة لتفكر.. يمكن تشاور عقلك.. مكانك محفوظ إن شاء الله..
لم يقل لابنه شيئا. اختلى بنفسه مهموما من حاله. دخلت عليه، ووضعت يدها على خدها. بادرها:
ـ أفكر في أن أعلمه النجارة..
ـ المهم يوافق..
ـ صحتي على قدي.. من يقف في الورشة من بعدي ؟
ـ ربنا يعطيك العمر..
ـ الأعمار بيد الله. ما دام مصطفى لا يحب شغل الأحذية، يبقى خيرها في غيرها.
نادى على ابنه، الذي رضخ لطلبه دون مناقشة، وانفرجت أساريره. اقترح على أبيه:
ـ أرجو أن تعطيني فرصة، وتعلمني.
ـ النجارة مهنة فيها فن وإتقان..
تنهد قليلا، قبل أن يستطرد:
ـ على أي حال، إذا أحببت مهنتك أتقنتها ونجحت فيها..
لم يكن على خلاف مع الأسطى سيد، لكنه في حال سيئة، تتطلب تغيير حياته، لمجرد التغيير. لم يكن يكره إصلاح ورتق الأحذية وتلميعها، ولا يكره أي مهنة. إنما خالجه إحساس بتفاهة الدنيا التي نعيشها، لو وجد سبيلا للعيش دون عمل، لانقطع للعبادة. أخته زهرة البيت التي اقتطفها الموت من بستان حياته. كان يحكي لها عن حبه لنرجس ورغبته في الزواج منها. كانت كاتمة أسراره. لم تكن أختا فحسب، إنما كانت صديقة يأتمنها على أسرار حياته.
وكانت واسطة خير بينه وبينها. نصحته كثيرا بأن يسرع في التقدم لخطبتها، لكنه تردد في ذلك خشية أن يرفض أهلها. يخالجه إحساس طاغ بأنه أدنى مرتبة منها. هي في مدرسة التجارة الثانوية، وستتخرج هذا العام حاصلة على الدبلوم، أما هو فقد ترك التعليم في السنة الخامسة الابتدائية. هي في سن سعاد ـ رحمها الله ـ والفارق بينهما ثماني سنوات. عمره خمس وعشرون سنة وعمرها سبع عشرة. يذكر للمرحومة تشجيعها له وقولها إن فارق السن لا يقف عائقا بين قلبين متحابين. كانت تطمئنه إلى موافقة نرجس.
إنه اليوم في حاجة إلى سعاد تقف بجانبه، تؤازره وتؤنس وحدته. إنها المصباح يبدد ظلمة الطريق، إنها الأنيس يبدد وحشة الحياة. إنها الأخت والصديقة والحبيبة.. واغرورقت عيناه بالدموع. سمعت صوت نحيبه. هرعت إليه واحتضنته واحتوت رأسه في صدرها..
ـ يا حبيبي..
علا نشيجه، وطفقت يدها تربت على ظهره..
ـ كلنا سنموت.. ادعُ لها بالرحمة..
ـ يا ليتني متُّ وعاشت هي..
ـ لا تعترض على مشيئة الله.. اذكر الله..
ـ لا إله إلا الله
هدأ قليلا. تمدد على الكنبة البلدي. أسرعت تعدّ له قدح الشاي.. أحس أن عبئا ثقيلا انزاح عن صدره..
توضأ وهرع إلى مسجد زيدان لصلاة المغرب. اقترب منه شيخ وأعطاه كتيبا صغيرا لسورة يس. أوصاه بقراءتها عددا من المرات. هي مفرجة الكرب مخففة البلاء بإذن الله.
ربت على كتفه بحنان أبوي. تناول يد الشيخ يقبلها، فسحبها منه سريعا..
ـ العفو يا بني.. أراك تبكي كثيرا كلما رفعت يديك تدعو الله..
ـ فقدت أعز ما لديّ..
ـ فقدت مالا ؟
ـ يا ليت محنتي في فقد المال..
ـ ارتكبت معصية ؟
ـ حاشا لله يا شيخ..
ـ إذن تهون الأشياء الأخرى.. ماذا وراءك ؟
ـ فقدت أختي..
ـ ماتت ؟
أجابه بكاء وتأثر..
ـ المؤمن مصاب.. ثم.. ماذا أقول ؟ قد استرد الله وديعته.. ادعُ لها بالرحمة..
تهدج صوته بالدعاء..
ـ استمع يا ولدي إلى هذه الآيات التي سأتلوها عليك..
وطفق يتلو بصوت رخيم آيات من سورة البقرة: ﴿ وَلَنَبْلُوَنّكُم بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍٍ مِنَ الأَمْْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين * الذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ * ﴾ .
وأشار عليه أن يمكث بين صلاتيْ المغرب والعشاء ليشرح له تفسير الآيات الثلاث ويذكر المناسبة التي قيلت فيها. أنصت للشيخ الذي فاض وأسهب وتحلق معه بعض المصلين. فاستروح نسمات لطيفة شرحت صدره وخففت عنه كثيرا من الضيق الذي يعاني. وبعد العشاء، ذهب يشكر الشيخ على اهتمامه وسعة علمه، وركض إلى البيت متناولا المصحف، واسترسل يقرأ الجزء الثاني بأكمله. عازما على سؤال الشيخ فيما استعصى عليه فهمه.
انهال عليه بسيل من الأسئلة ومعظمها يدور حول المعنى وتفسيره. ولما لمس منه الفهم والاهتمام، قال له:
ـ إنك أوحيت لي موضوع خطبة الجمعة باكر. ستكون عن صبر المؤمنين عند الملمات والشدائد، فاحرص على أن تصلي الجمعة معنا..
ـ إن شاء الله..
وفي الخطبة أطال الشيخ ورفع عقيرته يحدث المصلين عن الصبر في القرآن والسنة. قال الشيخ ضمن ما قال:
ـ إن الله جل وعلا اختبر عباده المؤمنين في حالات عديدة.. مثل الخوف من الأعداء، والجوع، وقلة المال أو نقصه، أو صعوبة الحصول عليه. اختبرنا في أحبائنا وأصفيائنا، في ذوينا وأقاربنا.. اختبرنا بالموت أو الشهادة في سبيل الله، أو ضحية نازلة أو حادثة.. وما حدث بالأمس القريب ليس ببعيد.. هذه المأساة التي اغتالت أنفسا عزيزة علينا، إنما ابتلانا الله بها ليختبر درجة الإيمان في قلوبنا.. ليختبر قوة احتمالنا.. ليختبر صبرنا.. وإذا كنا نردد القول المأثور بأن المؤمن مصاب.. أفليس ما حدث منذ أيام هو اختبار لقوة احتمالنا وقبولنا بما قضى الله ؟ يا عباد الله اذكروا الله مخلصين طائعين.. يا عباد الله ترحموا على موتاكم.. وادعوا لهم بالرحمة والمغفرة.. وقد توجه الله بخطابه إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ليبشره بحسن جزاء الذين صبروا على البلاء من عباده المؤمنين. بشّر رسوله الكريم بأن لهؤلاء الصابرين ما يفرحهم ويسعدهم من حسن العاقبة في الدنيا والآخرة.. ومن هم الصابرون ؟ إنهم... ﴿ الذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ * ﴾ .
انشرح صدر مصطفى، ودعا لسعاد بالرحمة والمغفرة، دعا ربه أن يكون مثواها جنة النعيم.

د. حسين علي محمد
27/07/2008, 06:41 AM
ـ 12 ـ

لجأ إلى ملاذه الأمين حين تتعثر به السبل. مَن غيره يقدر على الاستماع إلى مزيد من الأخطاء والذنوب ؟ كان أمين لا يشكو من شيء، لكنه يندم على عدم تحصيله للدروس. ثمة مغاليق تستعصي على الفهم. أشار عَرَضا إلى بعض ما يعاني. تحول فتحي بالحديث إلى ما يقلقه، إلى ما أخطأ فيه. يسأله المشورة ! لا يملك أمين حلا لمشكلة صاحبه سوى أن يدع الأمور تمشي خبط عشواء. من العيب أن يفعل هذا، لكن ما حدث قد حدث.
ـ آه من وخز الضمير..
عبارة رددها فتحي كثيرا. قال أمين:
ـ لن تستطيع إعلان الحقيقة..
ـ إطلاقا..
غرق الصديقان في لجة الحيرة. انتهى اللقاء كمعظم لقاءاتهما دون حل. عاد فتحي إلى البيت مارا ببيت ليلى. لمحها وهي تدخل فنكس رأسه ناظرا إلى الأرض. أحس أنها كشفته. أحس أنه وغد، عديم الإحساس. كيف يتصرف إن هي واجهته بفعلته الدنيئة ؟ لكن ما الذي يجعلها تكتشف ؟ ربما خطه يفضحه.
لا.. إطلاقا.. إنه كتب الرسالة بيده اليسرى. كما أنها ليست خبيرة بخطه.
لم يسبق أن كتب أمامها شيئا، لا باليمنى ولا باليسرى. دخلت إلى البيت.
بدأ يرفع رأسه.. لحظات مريرة لم يواجه مثلها في حياته.
ساءت العلاقة بين أم أحمد وجارتها أم عثمان. بدأت الأولى تنعزل عن الجيران، بعد أن كانت تحب أن تسأل عن جاراتها..
بعد أسبوع من الخطاب المكيدة، أعلنت خطوبة ليلى على كويتي. اقتصر الحفل على الأسرة، ولم يدع أحد من الجيران. تلاحقت الأحداث. وعلم أن ليلى تزوجت بعد الخطوبة بأسبوع وسافرت مع زوجها إلى بلده.
احتضن الفراغ. من التفاهة أن يقدم المرء على فعلة حمقاء ثم يندم عليها. ماذا أفدت ؟ لم تظفر بها أنت أو جارك الأسمر. سافَرَتْ إلى بلد بعيد حيث لا يراها أحد. أم أحمد أراحتك من عواطفك المضطربة ونفسك القلقة. حسمت الموقف حتى تستر ابنتها من كل عين شامتة.
بدأ ينعزل عن العالم الخارجي.
يقبع بغرفته ويكتب أحاسيسه المضطربة. بدأ يكتب عن الملاك الذي طار بجناحين كسيرين إلى البعيد. لمن تغرد أيها الطائر المسكين ؟ من يسمع أناتك ؟ حكى لأمين فصول النهاية لمأساة حبه. تجرأ ـ هذا الكتوم ـ ليبوح بقصة حبه الصامتة لبنت الجيران عايدة. لأول مرة يتكلم. ماتت قصة حبه وهي جنين. ماتت لأنها لم تجد من يرعاها. هي قصة حب من طرف واحد. قال فتحي:
ـ لكنك لم تكتب مثل هذه الرسالة الحاقدة.
تنصت إلى حديث أمه مع جارتها عن الألم الذي لحق بها وابنتها من الرسالة الخبيثة التي حملها الموزع. مواجع لم تخطر على بالها، حتى إن أباها حرّم عليها الخروج من باب البيت أو أن تطل من الشرفة. حبسها في البيت وأتى لها بعريس الغفلة الذي طار بها إلى بلده فرحا بصيده الثمين ! كأنه شمشون الجبار هدم المعبد عليه وعلى أحبائه، لكنه لم يهدمه على أعدائه ! لم يواتِ أمها ذرة شك فيه، هكذا استنتج، وارتاح لاستنتاجه. لكن قوارص الندم عاجلته على فعلته التي لا تغتفر. ولا يملك تكفيرا لذنبه إلا كراسة اليومية يكتب سطور الندم على ما فعل، سطورا لا يقرؤها أحد غيره.
بل تعقدت الأمور أكثر، حين قالت له أمه إن جارتهم أشارت على زوجها ببيع البيت والانتقال إلى سكن آخر خارج إمبابة. كاد يعترف بأنه الجاني، دفعه إلى ذلك غيرته على ليلى.
أحس بضيق في صدره. حتى أمه لا يستطيع أن يقول لها شيئا.. كتم مواجعه، حتى ما باح به لأمين لم يفده بشيء.. اختلى بنفسه أشبه بالعائش في جزيرة معزولة عن البشر، ومن حوله تلاطمت أمواج عاتية. انشغل بقراءة المجلات القديمة التي يحتفظ بها. أدار المذياع وأنصت إلى برنامج الأغاني الخفيف "من كل فيلم أغنية". تسلى بأغنيات خفيفة ممتعة. ثم عاود الكتابة عن محنته في اليوميات التي خص بها نفسه لا يطلع عليها أحدا.
لن يريحه إلا كتابة اعتذار لليلى. لكن ليلى تعيش الآن في الكويت، ولا يمكن أن يسأل عن عنوانها، أو يكتب لزوجة غيره شيئا. هل يعتذر لأمها ؟ كيف يفضح سرا ستره الله؟ عثمان هذا الغريم بدا عليه أنه حرّم على نفسه الوقوف بالشرفة، ربما حذره أبوه أو أمه من دخولها..
كل الطرق للاعتذار مغلقة. كل الطرق الممكنة للبوح بما فعل لا يجرؤ على الاقتراب منها، سوى طريق واحدة هي كتابة أحاسيسه على الورق. مجرد يوميات يدونها ويشبع بها نفسه بالقراءة..



(يتبع)

د. حسين علي محمد
29/07/2008, 07:06 AM
ـ 13 ـ

في الليلة التالية للحلم الكابوس، حلم بزلزال يرج الأرض تحت قدميه، كأنه ساقط في غور كثبان رملية. تغوص قدماه إلى أسفل، والمباني فوقه تتهاوى على أم رأسه، يمد كفيه يدرأ عن نفسه سقوطها. يصرخ طالبا النجدة. صوته يمزق أجواء الفضاء. يتهاوى حجر ضخم، فيغطي رأسه بكفيه، متوهما أنه يدرأ خطرا محدقا. يسقط الحجر الضخم عند قدميه. يحمد الله على أن الحجر لم يسقط فوقه. يحمد الله كثيرا. تنظر عيناه إلى الحائط الماثل أمامه، فوجده سليما. كان قد صحا من نومه. أدرك أن الزلزال لم يكن إلا نسج حلم مخيف متشابكة خيوطه كالعنكبوت، أشبه بالكابوس.
تنهد في ارتياح حين صحا من نومه ونفض غطاءه وتلاشى كابوسه.
لكنه قلق من الأحلام المخيفة. قد تكون نبوءة لحادثة جسيمة، أشبه بمأساة التروللي، أو أنها من تداعيات المأساة ذاتها. جدار النفق يشكل إحدى الجدران الأربعة لغرزته وبيته الصغير. أتاه جابر بجلبابه الواسع. جلس يحدثه عن أحوال حميدة، وزهدها في الأكل. نفسها مصدودة. أغفل التعقيب، وحوّله إلى موضوع الحلم بالزلزال. قال جابر:
ـ لم نسمع طول عمرنا بزلزال يحدث في مصر.. فأل الله ولا فألك.. بلدنا بعيدة..
هجم عليهما سيد سبرتو بزعابيبه وهيجانه وتعليقاته الساخرة. في هذه المرة هجم على المجلس محذرا :
ـ إياك تقول كابوس..
ـ زلزال..
ـ أأنت موعود ؟.. المفروض تعمل زارا كالحريم..
وأطلق ضحكة هستيرية.
ـ أنا خائف من النفق..
سأل سيد:
ـ نفق ؟ ماله ؟
ـ يقع. يحصل له هدم..
طمأنه جابر:
ـ ليس بعد مرور القطار فوقه كلام آخر..
قال متوجسا:
ـ قلبي لا يطاوعني..
قال سيد:
ـ قل إنك خائف على " عشتك " يحصل لها حاجة..
وخبط جدار النفق من داخل الغرفة، وقال:
ـ جامد.. حديد..
أطرق لحظات ثم قال:
ـ ألم تسمع عما جرى للشيخ محمود ؟
قال في خوف:
ـ ماذا جرى ؟
ـ قبضوا عليه..
ـ ماذا فعل ؟
ـ اشتباه أنه من جماعة الإخوان..
وجم الثلاثة.. قطع جابر الصمت القاتل:
ـ شيخ جليل، متعمق في الدين..
ـ ألهذا قبضوا عليه ؟
ـ ربما هناك أمور تخفى علينا..
قال سيد، بلهجة العليم ببواطن الأمور:
ـ قبضوا عليه البارحة بعد أن أمّ الناس لصلاة العشاء. كان في طريقه للبيت..

د. حسين علي محمد
29/07/2008, 07:07 AM
ـ 14 ـ

لم يعد الشيخ يؤم المصلين. ظن مصطفى أن نزلة برد أصابته. سأل خادم مسجد زيدان، قال إنه لا يعرف..
قال مصطفى للإمام الجديد:
ـ كان يخطب الجمعة أول أمس، وصلى بنا العشاء وأوتر.
ـ أريد أن أطمئن عليه..
استغرب..
ـ أأنت أيضا لا تعرف شيئا ؟
تنهد الإمام وقال:
ـ قد نعرف أخباره غدا..
ـ ألم يعتذر ؟
أومأ بصمت حذر.
حواره مع الإمام الجديد شابه عدم الفهم وتقطع الكلمات. رأى أن يسأل عنه..
استغرب غموض الموقف. همس أحد الشيوخ في أذنه:
ـ لا تحاول الذهاب إليه..
ـ لا أحاول.. ما الخبر ؟
ـ سنغلق المسجد حالا..
همس في أذنه بعد أن تلفت حواليه واطمأن إلى عدم وجود أشخاص:
ـ لعلك تعلم أن سيد قطب مقبوض عليه منذ أربعة شهور.. يبدو أنهم يقبضون على رفاقه، وكل من له صلة بالجماعة. ربما قبض على شيخنا ضمن من يقبضون عليهم..
خرج وفي رأسه تتصارع الأفكار عن مصير الشيخ الغائب، الذي كانت كلماته بلسما وشفاء.
سأل عنه البقال المجاور للمسجد. أجاب باقتضاب:
ـ لا تسأل عنه هذه الأيام..
ـ لماذا ؟
ـ أصله مقبوض عليه..
ـ لم ؟
ـ لا أعرف..
قال صاحب البقالة وهو ينصرف:
ـ لا تقل لأحد إنني أعطيتك عنوانه.
ضحك من خوفه المتزايد وقال:
ـ لم أكن في حاجة إلى العنوان. أعرف بيته جيدا..
كيف لا يعرف عنوانه وهو يسكن في الطابق الثالث، ونرجس في الرابع. لم يدخل البيت قط. لكن نرجس دائمة الحديث معه عن جيرانهم، ومنهم هذا الشيخ المؤمن..
أسرع الخطى إلى بيت الشيخ. التقى بزوجته التي أكدت الخبر بأنه قبض عليه عقب صلاة العشاء، ولا تعرف مكانه، ولا تعرف سببا. قالت كلماتها بصوت هامس لا يسمعه أحد غيره.
عاد إلى البيت مبلبل الخاطر، لا يعرف إلى أين يلجأ. حكى لأبيه ما حدث فقال في أسى:
ـ البلد ليس فيها أمان..
ـ قبضوا على الرجل الطيب..
سرح به الخاطر في أحوال الدنيا. لقد أحب الشيخ برغم قصر المدة التي عرفه فيها. إنه النافذة التي أطل منها على أمور كان يجهلها. تمنى لو أكمل تعليمه ليستطيع التفقه في الدين. قال لأمه إنه يتمنى أن يكمل تعليمه مثل فتحي وأمين، ويتعمق في الدين أكثر فأكثر..
دعت له من قلبها أن ينير الله طريقه ويشرح صدره بالإيمان..
إن كان موت سعاد أدمى قلبه، فقد ابتلاه الله بجرح ثان، بمحنة شيخه الجليل.. "حماك الله وكشف عنا الغمة، وهدانا جميعا إلى الطريق القويم".. أكثر من الصلاة والدعاء. طفق يرتل الآيات الثلاث من سورة البقرة التي أسهب الشيخ في شرحها له عن ابتلاء المؤمن. حقا يا شيخنا المؤمن مصاب، ليختبر الله قوة إيمانه..

د. حسين علي محمد
29/07/2008, 07:07 AM
ـ 15 ـ

احتدم النقاش بين الصاحبيْن، حين أخبرهما حمزة باختفاء الشيخ محمود. لم يلتقياه، إنما سمعا عنه. لا يعرفانه حق المعرفة. لكنهما أثارا قضية زوار الفجر الذين يقبضون على أشخاص دون تهمة أو محاكمة, تعرض أمين إلى قضيته الأثيرة، فتحدث مع صاحبه عن الديكتاتورية التي تتحكم في أقدار الرجال. بلد بلا ديمقراطية، لا وزن لها ولا قيمة. لابد من الرأي الآخر.. لابد..
طفق يحدثه محتدا، وهو يهوي بقبضة يده، من حين لآخر، على السطح الصدئ للمنضدة، فترتج رجا، كأنما تتوجع من المناقشة الساخنة. دافع فتحي عن الزعيم الذي يحبه، عن جمال عبد الناصر. أيده حمزة. قال إنه بطل العروبة، والانتصارات. سكتا عن النقاش ليستمعا إلى خطبة حمزة الحماسية. حدثهما عن اشتراكه في المقاومة الشعبية الباسلة في بور سعيد. استنفرته خطب الزعيم، فقيّد اسمه ضمن المتطوعين. ذهب إلى هناك بإرادته واختياره. لم يجبره أحد. أعاد على مسامعهما ما سبق أن قاله لهما ولجميع الناس عن إصابته برصاصة. رفع جلبابه ليكشف فخذه، يريهما أثر الندبة التي أحدثها الجرح. وكيف استخرجوا الرصاصة من لحمه. تحدث مزهوا.. قال:
ـ لا أنسى خطبته في الجامع الأزهر، وصرخته المدوية : "سنقاتل.. سنقاتل.. سنقاتل.. ولن نستسلم أبدا..".
برغم كل شيء تمسك أمين بموقفه.. تشدد.. حتى يبدو لمن يرى الصاحبيْن، أنهما سيفترقان ولن يلتقيا بعد اليوم.. افترقا وكل متمسك بموقفه.. اكتسى وجهاهما بسحب قاتمة. حتى إنهما نسيا أن يحددا موعدا للقاء آخر، كما اعتادا في كل مرة..
التمس أمين طريق العودة إلى بيته، مكفهر الوجه. أحس أنه يعزف عزفا منفردا للحن لا يطرب أحدا. أما فتحي، فقد كره تعصب صاحبه ضد الزعيم الذي أحبه.. أحبه لمواقفه الصلبة، لمحاربته الاستعمار، لاعتزازه بالكرامة، لرغبته الأكيدة في تحرير شعبه من قوى البغي والعدوان. كما أن صاحبه انتقده لتصرفه غير اللائق مع ليلى. هو جامد الإحساس لا يدري لغة القلوب !
عاد فتحي إلى بيته متبرما من صاحبه. لكنه ـ أيضا ـ يلوم نفسه على تصرفه غير الأخلاقي، ومع مَنْ، مع أعز وأغلى البنات. إلا أن الندم لا يفيد بعد ما وقعت الفأس في الرأس.. كما أن ليلى ليست ملكه، إنها في أحضان رجل آخر، وفي بلد بعيد.. ما كان قد كان. عليه أن يتصالح مع واقعه ويدع أحلام اليقظة والانزواء والانطواء. عليه أن يواجه ذاته. هو يلوم نفسه لأنه أحب سعاد حين رآها أول مرة. صادفت هوى في نفسه، قبل أن تنطق بكلمة واحدة ! هل يتخاصم مع نفسه، أم يراجع تصرفاته ؟ التطهر مطلوب. مكاشفة النفس من الفضائل. أمين لا يستغني عنه. ما أكثر ما احتدما وتخاصما لكنهما يرجعان صاحبين، إلفين متلازمين. حدث نفسه عن خيوط الوهم التي ربطته بليلى، أو هذا الحب من طرف واحد ! إنه كتوم مع الآخرين، ثرثار مع أمين، كأن صاحبه مرآة يرى فيها نفسه، يراجع فيها هندامه، يهذب فيها مشاعره.. عيب أمين أنه لا يحب عبد الناصر.. لو أنه أحبه لأصبح خلا وفيا.. هذا عيبه. ليته يتخلص منه.. ليتك يا أمين تتخلص منه ! حدثه في هذا كثيرا فما ازداد إلا تشبثا واعتزازا بموقفه، واعتبرها قضيته التي لا يتنازل عنها، حتى لو انطبقت السماء على الأرض ! وفي المقابل يرى أن حبه لعبد الناصر لا يعادله حب، لنفرض أن هناك بعض الأخطاء لكنها تغتفر لوجه الزعيم الذي أحبه.. يعجب به لمبادئه ودعوته لوحدة الأمة العربية، وتصديه للعجرفة الاستعمارية، أليس هو صاحب المقولة : "على الاستعمار أن يحمل عصاه على كاهله ويرحل"..؟ أليس هو نصير الفقراء والبسطاء؟.. إنه من أسرة موظف بسيط، رفع جمال رأسه عاليا وجعل التميز بالعمل.. كان أجدى بأمين وأبوه معدم أن يؤيد الزعيم، وحاله الاجتماعي أصعب من حاله، أو كما يقول المثل " حاله يصعب على الكافر " !
تمضي الأيام، وفتحي يتعذب لما فعل. إنه لا ينسى. وتأتي الأيام بخبر ساءه، فقد ارتحلت أسرة ليلى من المنزل الذي يؤويهم، واستأجروا شقة في العجوزة. أجّرا المنزل بسبعة جنيهات كل شهر. أخيرا، أسدل الستار على الأسرة بكاملها. ودّعتها أمه خير ما يكون الوداع، وتبادلا الدعوات بالتزاور. أما أبوه فلم تسمح له ظروف عمله أن يشارك في مراسم التوديع. انطوى لائذا بغرفته، خجلا من نفسه. أحس أنه سيرتبك إذا صافح أم أحمد وأولادها، أو أنه سيتلعثم و تنكشف المكيدة..
لماذا لا ينوع في علاقاته بالأصدقاء ؟.. لماذا قدر عليه أن يلازم أمين ؟ لماذا لا يلتقي ثروت ومصطفى مثلما يلتقي أمين ؟ عرفت قدماه الطريق إلى مصطفى.. المكلوم في أخته..
أشياء كثيرة تغيرت في حياته. لم يعد هذا الشاب المستهتر الذي تسنح له الظروف بالتعرف على البنات، حتى نرجس حبه الأخير، حبه الصادق.. زهد في السؤال عنها.. ترى من يسأله بعد أخته، التي كانت حمامة السلام بينهما ؟ كانت تقول، تؤكد :
ـ اخترت لك نرجس أعز الصديقات لتكون زوجة، لا نزوة.
عاهدها بأن تكون محطته الأخيرة. لم تسترح لقوله "محطته الأخيرة".. فاعتذر لها وقال "حبي الأخير".. بدأ حبه لنرجس يغزو قلبه، ليس لأن أخته أملت عليه ذلك، إنما استشعر فيها البنت الطيبة الوفية.. لكن.. من يحمل رسائله إليها ؟ من غير سعاد يستأمنها على أسراره ؟
فوجئ بفتحي يأتيه من غير موعد. رحب به. قال وهو يهم بالجلوس:
ـ لماذا أطلقت لحيتك ؟
ـ أهملت حلاقتها لما ماتت أختي، وها أنا أهمل حلاقتها بعد ما فجعت في شيخنا.. الهم لما يكثر...
ـ لابد أن وراء الشيخ سرا خطيرا..
ـ لا خطير ولا حاجة.. كل ما هنالك أنه يفسر كلام الله، وهو خير الكلام.. فوجدوا فيما قال دعوة لعصيان الحاكم.. ونسوا أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.. سمعت...
وأكمل بصوت مهموس حتى لا تسمعه الحيطان..!
ـ والعهدة على الراوي.. سمعت أنه سب عبد الناصر..
قال مصطفى متضايقا:
ـ دسيسة من حاقد.. أو ربما تكون إشاعة.. كثرت الأقاويل المتضاربة عن الشيخ.. قد سمعت أنه حددت إقامته في داره، لا يخرج منها ولا يزوره أحد. وفهم أهل البيت هذا التوجه فالتزموا بالحيطة حتى لا يتعرضوا للانتقام من السلطة..
قال فتحي:
ـ لعل المقصود منعه من إلقاء خطبة الجمعة..
وافقه مصطفى:
ـ كثرت الشائعات، ولم نعد نعرف أين الحقيقة ؟
عقب فتحي:
ـ على رأيك.. كثرت الشائعات..
فرك يديه كأنه يغتسل بالماء وهو حائر حزين.. ودعا الله أن يقيل الشيخ من عثرته.

د. حسين علي محمد
29/07/2008, 07:08 AM
ـ 16 ـ

نهض من نومه فزعا، إثر حلمه المتكرر. انهار النفق. تهاوت أحجاره. لم ينبئه الحلم عن تشققات تنذر بكارثة محتملة، إنما أفزعه بالانهيار الكامل. التراب المنبعث دخانا حجب عنه رؤية المشهد. قام يرتجف. نطق بالشهادتين، ثم أوقد شمعة. جلس في ضوئها الشاحب، متدثرا ببطانية، ما بين اليقظة والمنام.. لم يكمل نومه.. أعمل الفكر في الكابوس الذي يأتيه بصورة متكررة. تنصت والليل ينتصف إلى كلمات هامسة بين اثنين. نهض مرتابا. هل يحلم من جديد ؟ ارتدى الطاقية والكوفية وخرج، فرأى عن بعد شبحين يسيران تحت النفق. تسمّر مكانه مستغربا، فما عهد رِجْلا تسير في مثل هذا الوقت إلا عسكري الدورية، كل ساعة أو ساعتين. نادرا ما كان يقطع النفق بخطواته الرتيبة. عند انتصاف الليل يلجأ إلى ركن يلوذ به اتقاء لسعات البرد. تتبعت عيناه الخطوات. غريب أمر الاثنين، يسيران في الليل الدامس، والشوارع خالية تماما من المارة. رجع إلى غرفته يحتمي فيها من برد الليل. لم يشأ إضاءة المصباح، حيث اعتاد أن ينام في الظلام، مكتفيا بشمعة يوقدها وهو راقد على السرير. نادرا ما كان يضئ المصباح الكهربائي. يستعمله أول الليل حتى ينام. وإذا قلق بعد ذلك يضئ الشمعة. ما هي إلا دقائق معدودات، ثم طاوعته قدماه ليخرج، كي يتحسس النفق. ربما حدث ما لا تحمد عقباه. لم يجد شيئا. النفق قائم في مكانه كالجبل الأشم. سار في اتجاه المنتصف. ما هي إلا خطوات قليلة حتى لمح الشبحين يقفان في منتصفه، وقد اتخذا الليل ستارا. احتضن الشاب فتاة متحسسا مفاتنها. كانا في وضع مشين.. لك الله يا نفق المنيرة. هل صرت موطئا لكل من هب ودب ؟ هل أصبحت مكانا للدعارة ؟ نكص على عقبيه مسرعا، دون أن يسمع له صوت، وأحضر العصا الطويلة. كتم أنفاسه وهو سائر عائدا إليهما، مفاجئا الاثنين بضربات متتالية موجعة، صارخا بقوة:
ـ هي البلد ناقصة ؟
صعقا من هول المفاجأة. أحسا بشبح يهبط من السماء. ظنت البنت أنه عفريت. صرخت وجرت هلعا. جرى الشاب في أثرها، هاربا من لسعات العصا. وقف الرجل وقفة صلبة خوفا من أن يرجعا لممارسة الرذيلة. وإذا بصوت الشرطي يقبل نحوه حين سمع الصراخ. سمع صوت حذائه الميري يدب على الأرض، وصوته ينادي:
ـ من هناك ؟
ـ أنا حمزة يا شاويش..
اقترب منه.. استطرد:
ـ قلة أدب.. بنت وولد يمارسان الرذيلة في نص الليل. ماذا لو أضاءت الحكومة لمبة أو فانوسا؟
رجع مع الشرطي الذي استأنس به فأكمل معه وردية الليل. دعاه لشرب الشاي، فلبى الدعوة. جلس في الغرزة يحتمي فيها من البرد، ويأنس برفقته. انتهز الفرصة وحكى له الحلم المزعج المتكرر، عن انهيار النفق. قال:
ـ يمكنك يا شاويش إبلاغ المسئولين للكشف على النفق.. يمكن الحلم نبوءة لمأساة جديدة محتملة..
ـ مجرد حلم.. مستحيل أن ينهار النفق.. لن يصدقني أحد..
قال حمزة:
ـ ومن كان يصدق أن التروللي سيقع في النيل ؟ قلبي لا يطاوعني يا شاويش..
ـ خليها على الله
ـ ونعم بالله
استمتع الشرطي بصحبته. امتد بينهما الحديث في أمور شتى، حتى سمعا صوت المؤذن يأتي من مسجد زيدان والمساجد القريبة. استأذن قائلا:
ـ ليتك تلقي نظرة إلى النفق، ربما رجع الملعونان..
ـ خلاص.. الفجر طلع والدنيا أمان..
ودع رفيق الليل، وتوضأ لصلاة الصبح، ثم خرج يتبين النفق، ويتحسس جداره. رآه ليلا في صورة ضبابية لا تكشف عن شيء. عندما يتنفس الصبح، ينحسر ضباب الليل، وتنقشع غيومه. الصورة الآن أوضح. تأكد له أن النفق نظيف، خال من الأرجل الفاسقة، وأنه سليم !.. تنهد في راحة من قلق مستبد !..

د. حسين علي محمد
29/07/2008, 07:08 AM
ـ 17 ـ

توجه إلى مسجد زيدان ليصلي الجمعة. لن يعتلي الشيخ محمود المنبر، لن يؤم المصلين. أنصت للخطيب الجديد، الموفد من وزارة الأوقاف. كان حذرا في كلامه الموجز. ركز في خطبته على طاعة ولاة أمورنا، فطاعتهم واجبة. وأنهى الخطبة القصيرة بالدعاء للمسلمين، ولزعيم البلاد أن يحفظه ويعينه في تحمل أعباء الحكم. كأن الشيخ الجديد يقرأ من ورقة مكتوبة، يتعجل النزول من على المنبر. لكَ الله يا شيخنا العزيز.. أين أنت الآن ؟ تُرى، هل تلزم دارك كما يقول البعض ؟
أمّ الشيخ أهل الدار، زوجته وأمه وأولاده الثلاثة لصلاة المغرب، بعد أن فرغوا من الصلاة، انصرفت الزوجة لإعداد العشاء، وانصرف الأولاد يستذكرون دروسهم، بينا جلست الأم على الكنبة البلدي تدعو الله أن يزيل الكربة ويكشف الغمة. انزعجت لصوت طَرْق على الباب. قلقت الزوجة. خرجت من المطبخ إلى الصالة. الشيخ يتجه ناحية الباب، إلا أن زوجته نبهته ألا يترك غرفته حتى تنجلي الأمور. لم تتردد الأم المسنة في الاتجاه إلى الباب، وإن سيطر الخوف عليها. سألت:
ـ من بالباب ؟
ـ أريد الشيخ..
ـ اترك اسمك في ورقة وسنبلغه حين يعود..
ـ أنا واثق أنه موجود.. لا داعي للإنكار يا حاجة.. أنا لست مخبرا.. أنا من مريدي الشيخ.. هل تحرمينني لقاءه ؟
ثم تناهى إليه صوته الحبيب:
ـ أدخليه.. إنه مصطفى..
قالت الأم الرؤوم همسا، وهي تفسح له الطريق:
ـ ألا تخشَى أن تكون مراقبا ؟
ـ لا يهمني..
قال الشيخ:
ـ أخاف عليك..
ـ وأنا قلق عليك..
ـ الحمد لله.. أستغل وقتي في الاستزادة من معاني القرآن، وإعادة قراءته المرة بعد المرة. كلما قرأت أحسست في الآيات عذوبة وحلاوة، كأني أقرؤها لأول مرة.. كما شغلتني السيرة النبوية العطرة، صلى الله على صاحبها وسلم.
ـ بودي أن أسألك، إذا سمحت لي..
ـ تفضل..
ـ مم تعيش ؟
ـ أولاد الخير كثيرون..
قال مصطفى مطيبا خاطره:
ـ شدة وتزول.. المؤمن مصاب سيدنا الشيخ..
ـ من أكون أنا ؟ هل نسيت ما فعلوه بالشيخ الباقوري ؟ فرضوا عليه عزلة نتيجة وشاية أو وشايات، وانصرف عنه الصحاب وأصحاب الحاجات. أشاعوا عنه أنه منحرف السلوك. أعوذ بالله مما يرجفون. ألزموه داره وجردوه من مناصبه. أبعدوه عن الوزارة وأتوا بآخر. كان ذلك منذ سنوات عديدة..
ـ يخيل إليّ يا شيخنا أن الأخيار ينكل بهم، وحفظة القرآن والدعاة ترصدهم العيون..
ـ إنهم يدّعون أن السياسة لا صلة لها بالدين، لكن.. تطرفوا في سوء ظنهم بالناس..
إلا أن الشيخ الباقوري لم يعدم الخل الوفي الذي لم يأبه بالحاكم، فزار صديقه مخففا عنه مصابه. وفي هذا قال لمعي المطيعي في الجزء الثاني من كتابه " هؤلاء الرجال من مصر " : " إن المهندس أحمد الشرباصي أصر في وفاء نادر على أن يزور صديقه وبصفة متصلة، وأبلغ ذلك للسلطان الذي تظاهر بالموافقة وأثنى على وفاء الشرباصي ".
حين همّ بالاستئذان، نصحه الشيخ قائلا:
ـ لا تحاول أن تكرر الزيارة، حتى لا يضعون اسمك في القائمة السوداء.
احتضن الشيخ والدموع تترقرق في عينيه.. سأله إن كان في حاجة إلى شيء.. ثم أعطاه أمانة، أرسلها له أحباؤه ومريدوه.. مبلغا من المال يكفي لإعاشته شهرا أو أكثر.. تردد في أخذه، لولا إلحاح مصطفى الذي قال:
ـ من خيرك وعطائك.. الكل يذكرك بالخير، ويحبك..

د. حسين علي محمد
29/07/2008, 07:09 AM
ـ 18 ـ

ما أكثر تردد الأسطى سيد على بيت حسين النجار، يطلب منه التدخل كي يواظب مصطفى على عمله. لم يكن لدي الأب حيلة. ما أكثر نصائحه بأن الحزن لن يعيد إلينا أحباءنا. قال مصطفى :
ـ بصراحة.. مللت العمل مع "الجزمجية".
ـ مضى عامان على شغلك مع الأسطى سيد. أنت الذي ارتضيت هذه المهنة ولم ترض العمل معي في النجارة. أنت الذي أحببت هذه المهنة..
ـ كنت أحبها...
تدخلت الأم قائلة لزوجها:
ـ عندي حل.. يتعلم النجارة في ورشتك وتبقى الورشة ـ بعد عمر طويل ـ ورشته..
بادر مصطفى بالموافقة.. تنهد الأب حاسما الأمر مع ابنه:
ـ على بركة الله.. من بكرة تنزل معي..
ـ لك عندي أكون في الورشة في الثامنة صباحا..
التفت الأب إلى زوجته:
ـ أما الأسطى سيد.. فهو "يشتري خاطري".. الأفضل أعتذر له، وأقول له الحقيقة..
زارهم سيد دون موعد، بعد يومين من زيارته الأولى. رحب به حسين. أجلسه بجانبه، ربت على ظهره، شاكرا تفضله بالزيارة..
ـ كنت على وشك زيارتك.. سبقتني بالفضل..
رتب كلمات اعتذار، لكن سيد لم يمهله..
ـ يهمني مصلحته..
فاجأهم مصطفى الذي عاد لتوه من الخارج محترق الأعصاب، ملتهب الأحاسيس. علا صراخه:
ـ ظلم.. ظلم.. ظلم..
وجم الاثنان. عملا على تهدئته كي يفهما الموضوع.. قال بصوت مخنوق:
ـ علمت أن الشيخ محمود اعتقل..
حين عاد إليه هدوءه، نقل ما سمعه من زوجته...
بعد أن صلى الفجر في بيته، سمع طرقا على الباب. فتحت الزوجة فدخل ضابط واثنان من العسكر. قال الضابط : "لديّ أمر بالقبض على محمود عبد الرازق ..". همت بالصراخ فنهرها الضابط برفق.. أشار بكفه على رقبته، أي أن جزاء الصوات هو القتل بلا رحمة. كتمت الزوجة صوتها وهي تنتفض..
خرج الشيخ بعباءته واقتادوه في عربة جيب إلى حيث لا يدري أحد مكانه، وخلّف زوجة تبكيه وأولادا صغارا يصرخون ويبكون..
نكس حسين وسيد رأسيهما. ران على مجلسهما صمت قاتل. طفقا يطيبان خاطر مصطفى، يخففان عنه همومه..

د. حسين علي محمد
02/08/2008, 06:38 AM
ـ 19 ـ

عند انصرافه من المدرسة، قرر العودة بمفرده، لتغيب أمين اليوم. لم تكن لديه رغبة في اصطحاب ثروت ـ كالمعتاد ـ حتى منتصف الطريق، إلا أنه فرض نفسه حين التقاه. لديه شحنة هائلة من الخواطر والأحاسيس لا يأتمن عليها أحدا سوى أمين، برغم خصومتهما الفكرية، التي ظهرت بوضوح عند لقائهما مع حمزة. بدأ ثروت حديثه بشكواه من أنه لم يفتح كتابا. قال فتحي متضاحكا:
ـ اطلع منها..
استرسل يحكي مغامراته العاطفية مع البنات، والكتب الصفراء التي أدمن قراءتها. ذكر فتحي ما قاله حمزة عن شاب وفتاة، والعلقة الساخنة التي تلقياها منه في منتصف الليل. صمت صاحبه للمفاجأة. ظن أنه يكشفه، فقال مندفعا:
ـ أنا المقصود..
ـ أنت ؟
قال مهونا:
ـ بعقله خلل. أنا غيّرت المكان.
ـ أين ؟
ـ الأماكن كثيرة.. تحت السلم، أو عند سور مستشفى الحميات، أو الأرض الخلاء المجاورة للنفق..
أوقفه عند ركن، ليريه صورا فاضحة.. علق فتحي:
ـ لو شافها عم حمزة، كان خنقك..
دس الصور في جيبه، مبديا استياءه:
ـ هل يرى نفسه مصلحا اجتماعيا ؟ حمزة شبع من الدنيا.. نحن شباب صغير، نريد أن نتمتع ونأخذ حظنا..
ـ هل تواجهه ؟
ـ لا يا عم.. أستأذن.. وأكمِلْ سكتك لوحدك..
مر على حمزة الجالس على كرسي فألقى عليه التحية، وعرج على المنيرة، قاصدا أمين يسأل عن سبب تغيبه. أفرغ ما في جعبته من حكايات تخصه. لم ينس أن يحكي حكاية ثروت الذي شبع ضربا هو وعشيقته ! مر أمين بفترة تراخ وتكاسل عن الذهاب إلى المدرسة. شكا لصاحبه من المذاكرة. كثيرا ما تتوه منه السطور ويشرد في الدنيا..
اتفقا على زيارة مصطفى الذي اختفى عنهما. رحب بهما وروى لهما عن اعتقال شيخه. تطرق الثلاثة إلى الظلم الذي حاق به. ولما استيقظ حسين من نوم الظهيرة، أحب أن يجالسهم، ناصحا إياهم بعدم الخوض فيما جرى للشيخ مع أحد.
رجع عصرا ونام وهو يمني نفسه بالمذاكرة في المساء، فالنصف الأول من العام قارب على الانتهاء. من المهم أن يذاكر، ويحصل على مجموع كبير، تعويضا عن السنة التي أعادها. صادف عثمان قرب عتبة البيت، فنكس رأسه متحاشيا النظر إليه.
أقلق نومه صوت حديث متبادل بين أبويه، يتأرجح بين الهمس غير المسموع، والحدة التي تقترب من الزعيق. تنصّت قدر جهده. أبوه يعرض بيع البيت ويستأجر شقة، حتى ينهي الضائقة المالية التي تنغص عليه حياته.. ويدفع أقساط البيت المتأخرة سنة كاملة، ويسدد الديون المتراكمة. الأم تحذره من بيعه، فالبيت " يؤوينا جميعا " ـ على حد قولها ـ والأولاد السبعة لن تسعهم شقة مؤجرة. عرضت الذهاب إلى أخيها تطلب منه مبلغا من المال. اكتفى بما سمع، وأجفل عينيه. شرد به الخاطر إلى ما يعانيه أبوه. فلماذا يهمل في دراسته ؟ لم يشعره أبوه بقسوة المعيشة بدخل متواضع. إنهما يعانيان في صمت مذهل ! لماذا يضيع الوقت ؟ أمه الحانية تحدب عليه، كلما رأته منكبا على دروسه تسأله إن كان يريد شايا، وتظل ساهرة ترعاه. هو الابن البكر الذي انعقدت عيه الآمال.
أمين مكافح مثله. لكن الحظ العاثر لازمه فرسب في الثانوية العامة. وثروت لاهٍ مستهتر. أما مصطفى فقد صدم مرتين.. الأولى في غرق أخته، والثانية في اعتقال مريده الشيخ.. أفاق لواقعه الجديد.. وبعد أن كان يعوض عدم استكمال تعليمه بالتعرف إلى البنات اللاتي يتقاطرن على محل إصلاح الأحذية والصنادل، اكتفى بنرجس أملا يراوده في الزواج منها. لكن فتحي غير متأكد من مشاعر مصطفى تجاه حبيبته. لم تأت مناسبة للحديث معه في هذا. حتى نرجس نفسها قدّرت أحزانه ولاذت بالصمت. هي الأخرى فجعت في صديقتها وزميلتها. المصاب مصابها أيضا.
أما أنت يا فتحي.. إنك تحب من طرف واحد. كأنك تجري وراء سراب. لم تشأ أن تصارح من تحب بمكنونات فؤادك. ليلى أحببتها من طرف واحد. يبدو أن الجيرة دافعك للتعلق بها. وإذا كانت جارتك ليلى أخرى، لهمت بها شوقا، وتبتلت بحبها. وسعاد، حين وقع بصرك عليها أول مرة، وقعت في حبها، ولم تبرأ بعد من حبك لليلى ! تعلقت بسعاد، ونسيت حبك لليلى ! إن ينسَ فلا ينسى تعليق أمين اللاذع على غرامياته:
ـ كلما رأيت بنتا أو عرفتها، أعجبت بها وأحببتها..
تعبير ساخر أفاقه من حالة الحب التي يعيشها في الخيال ! ليلى تزوجت وسافرت مع زوجها إلى بلده، فماذا جرى للدنيا ؟ لا شيء. الدنيا تسير في فلكها المرسوم. وماذا عن حياته ؟ هل مات من قسوة البعاد ؟ هل احتج لبعادها وأضرب عن الطعام ؟ هل سهرت عيونه لم تنم ؟ لم يحدث شئ من هذا، وسارت الحياة. دع عنك كل هذا. انظر إلى حال أبويك. ما سمعته عن ضائقتهما المالية يجعلك تفكر في تغيير المسار. هل تستطيع ؟

د. حسين علي محمد
02/08/2008, 06:39 AM
ـ 20 ـ

تشبث بالفرصة المواتية، حين قال أبوه كلمة عارضة:
ـ أتمنى أفرح بك..
وقالت أمه في لهفة:
ـ نفسي ومنى عيني..
بادرهما:
ـ أنا فعلا أفكر في الزواج.
نظر بطرف عينه إلى زوجته الثكلى، قائلا:
ـ اختاري له يا ست الكل..
ـ ربنا يجبر بخاطرك.. مصطفى يستأهل أحلى البنات..
سألها وهو يتحسس شاربه:
ـ من ؟
ـ ليس هناك سواها.. فاطمة بنت عمه..
ـ أتمنى..
وجم. اكفهر وجهه. قال في حسم:
ـ أنا اخترت واحدة ثانية..
ـ أهناك بنت أحلى من بنت عمك ؟
نكس رأسه، مثبتا عينيه في الأرض:
ساد صمت مشوب بالذهول، قطعه الأب قائلا:
ـ يعني بنت عمك وحشة..
ـ يا بخت من يتزوجها. لكن الموقف عندي مختلف. أنا...
بعد تردد طويل:
ـ أنا أعامل فاطمة كأختي..
بعد صمت محير، قال بلهجة قاطعة:
ـ أنا اخترت نرجس..
قبل أن يدافع عن اختياره، بادرت الأم:
ـ فكرتني بالمرحومة.. كانت صاحبتها الروح بالروح..
وانبجست دمعتان جائرتان، خيم بعدها صمت حزين !
رفع رأسه متشجعا وقال:
ـ لا تنسوا أن أختي اختارتها لي..
جلست بجانبه واحتضنته، متنازلة عن رغبتها. وجم الأب وقد أخرسه تبدل الحال. استسلم، وقد شاب تفكيره بعض التردد. قال:
ـ أنا لا أعرف أسرتها، ومستواها الاجتماعي بالنسبة لنا...
ـ هي تحبني وأنا أحبها..
أشرق وجه الأم بابتسامة الرضا. قال الأب:
ـ على بركة الله.. ويفعل الله ما يشاء..
أحس بسعادة غامرة. اختلى بنفسه، مستلقيا على السرير، يستدني طيف أخته، حين تمنت أن يتزوج نرجس، واثقة أنها ستغير من طباعه وتحوله إلى إنسان آخر. نعم، صدقت سعاد فيما قالت. إنه يتشبث بها، يراها عالمه الأثير. انصرف عن اللهو التافه، وارتضى بها حبيبة. أسعده أكثر فرح أبويه. اقتنعا بسهولة، وباركا الزواج. يكفي أنها كانت صديقة سعاد. يكفي أنها اختارتها له. هي وصية غالية يجدر به العمل بها. الله يرحمك يا سعاد. الفاتحة على روحك..
نهض عن الفراش رافعا يديه في اتجاه القبلة، وقرأ الفاتحة.. عمّ الارتياح الثلاثة. تملكتهم بهجة آسرة زغردت في قلوبهم، وإن كان الأب لم ير نرجس ! ود لو يطير بالفرحة إليها.
اختلى بابنه في المساء. انشغل أكثر منه.. كأن الأب هو الذي سيتزوج. سأله عن تفاصيل كثيرة. طمأنه بأنه سيساعده بالمال. بدأت الأم الثكلى تفرح وإن لم تخلع ثوبها الأسود، وما خلعت طرحتها السوداء. أقلقت زوجها في الصباح الباكر، في السادسة والنصف. نهض ونظر إلى المنبه، ثم أكمل نومه قائلا:
ـ أنا أصحو، كما تعلمين في السابعة..
هزت كتفه:
ـ أريد أن أتكلم معك يا حسين قبل ما تروح الورشة..
ـ فيم ؟
نهض وهو يفرك عينيه، منصتا لها:
ـ نطلب من مصطفى يحدد موعد الزيارة..
ـ متى ؟
ـ اليوم..
ـ بهذه السرعة ؟
ـ خير البر عاجله..
ـ البنت تلميذة..
ـ نشبكها لغاية ما تأخذ الشهادة..
همس في حيرة:
ـ في أي سنة ؟
ـ ثالثة ثانوي تجاري..
أطرق واجما.. تريثت لعله ينطق حرفا واحدا. سألت:
ـ فيم تفكر ؟
ـ ولا حاجة. لكن.. مصطفى لم يأخذ أي شهادة..
ـ وما له.. صنايعي.. والصنعة مستقبله..
تحاشى التعليق. قالت تحسم الأمر:
ـ سأطلب من مصطفى تحديد موعد مع أبيها..
استسلم دون ارتياح.. عاد يكمل نومه، لكن القلق ساوره وطيّر النوم من عينيه. نهض يتناول شايه وإفطاره، ثم ارتدى المعطف الأصفر، وذهب إلى الورشة، ولسان حاله يردد : "ليفعل الله ما يريد".
طار بجناحي الشوق إلى فتحي، الذي انزوى هذه الأيام، قاطعا عهدا بأن يعوض ما فاته من دروس بالسهر المتواصل، وهجر الأصحاب. إلا أن الزيارة المفاجئة فرضت نفسها. جلس واضعا ساقا على ساق، وقد اتسع صدره، بفعل إحساس جديد ساوره بأنه على أعتاب الزواج ! صارحه بعزمه التقدم لخطبة نرجس. زهرة العمر المتفتحة المشرقة.. منية النفس.. قال فتحي ناصحا:
ـ لم يمض الأربعون يوما على وفاة أختك..
كيف فاته هذا، وفات أمه وأباه ؟ أخذ يحسب كم مضى على الفاجعة.. ثلاثون يوما بالتمام والكمال.. إذن، ليس ثمة مشكلة.. لينتظر عشرة أيام أخرى.. لينتظر أسبوعين، ثم يتقدم لوالدها. سأل فتحي:
ـ كيف حال الشيخ محمود ؟
ـ انقطعت أخباره. اقتصرت الزيارة على زوجته وأولاده على فترات متباعدة.
ـ كان الله في عونه..
لحظات صمت انقطع فيها الكلام، يندفع بعدها قائلا:
ـ جئتك لأمر يقلقني..
ـ خيرا إن شاء الله..
ـ أنت تعلم أنني لم أكمل تعليمي…
ـ لكنك تشتغل.. كنت أتمنى أن أشتغل مثلك، لأخفف العبء عن والدي، وأتزوج ليلى.. فتقدم غيري وتزوجها..
شرد فتحي في بحر الحياة المتلاطمة أمواجه..
ـ أحدثك عن شيء آخر.. هل تقبلني زوجا...؟!
قاطعه قبل أن يكمل سؤاله:
ـ الحب يصنع المعجزات.. لا شيء يمنعك من الارتباط بها.. ما دمت تحبها وهي تحبك.. الحب يصنع المعجزات.. الحب يصنع المعجزات..
قال كلماته في حماس منقطع النظير، كأنه يهتف في مظاهرة حاشدة !

د. حسين علي محمد
02/08/2008, 06:40 AM
ـ 21 ـ

لا يدري كيف طاوع سيد سبرتو ووافقه. بدأت الحكاية بما يرويه حمزة لكل الناس عن الكابوس الذي يجثم على صدره، وأن نفق المنيرة ينهار، أو به تشققات تنذر بالخطر. رغم أن الكل يطمئنه بأن الخطر المحتمل مجرد مخاوف لا أساس لها من الصحة.
استمع سيد سبرتو لهذه الحكاية مرات كثيرة..
ـ هي تهيؤات..
ثم جال في الغرفة الضيقة بنظرة خبير متمعن لقوالب الطوب المبنية بها جدران الحجرة، والأسمنت غير المحكم الموضوع بينها. بدت الفراغات تجاويف غير منتظمة، وثمة نتوءات أسمنتية. وفي الحمام والطرقة رشح مياه بدا أثره على الجدران. قال في حسم:
ـ شقتك آيلة للسقوط، وليس النفق..
ـ كانت عشا بناه مزارع بالتبن والطين، دون أن يأخذ أجرا.. ثم أعدت بناءها على حسابي بالطوب..
تطلع إلى سقف تنتظم فيه قوالب خشبية تبدو فيها آثار شقوق متفاوتة الطول..
اقترح عليه أن يغطي الطوب بمحارة أسمنتية، ويكسو الأرضية بالبلاط.. استوقفه في الكلام:
ـ على مهلك..
بادره:
ـ لو عملت المحارة والبلاط، لن يزورك الكابوس. الخلل في الحجرة الفطيس التي حبست نفسك فيها.. وليس لها منفذ هواء..
أشار حمزة إلى الكوة الصغيرة المغلقة بشيش خشبي..
عارضه:
ـ وأنت الصادق، هي أشبه بزنزانة المساجين..!
صعد على كرسي خشبي، وفتح دلفة الشيش..
ـ يا سلام لو الحيطان بالمحارة.. لو توافقني.. الحجرة تنوّر، وتنزاح الكوابيس التي تخنقك كل يوم. أما البلاط...
قاطعه :
ـ لا.. تكفي المحارة..
بسط يده ليأخذ العربون، في إشارة إلى أنه سيقوم بدور المقاول.. نقده ثلاثة جنيهات، وادخر الجنيه الرابع يدبر به حاله. بدأ سبرتو في نقل الأثاث المتواضع في الشارع.. سرير وكنبة وكرسيين.. والمرتبة والمخدات.. في حركة سريعة.. عاونه حمزة.. وعده أن يحضر المونة والأنفار.. أوفى بوعده بعامل واحد، أحضر معه الأسمنت والرمل، وأدوات الصنعة المتواضعة. واعدا حمزة ببدء العمل صباحا..
يبدو أن حمزة تورط. لم يعجب حميدة وضع أبيها الذي أذعن لسيد سبرتو، وأعطاه فرصة التعامل معه. ليس وراءه إلا المشاكل والمصائب. طلبت منه أن يقيم في شقتها مؤقتا، فاعتذر وقال إنه لابد أن يباشر عمل الصنايعية. اختفى سيد سبرتو، تاركا عويس يعجن المونة ويطرطش الأسمنت قبل طبقة المحارة السميكة.
عويس يأكل ويشرب مع حمزة، ويطلب منه السجائر "عيني عينك".. وفي آخر النهار، ينصرف بعد أن يأخذ البقشيش.. يبدو أنه يدفع أجرة عويس بأسلوب آخر. ولما سأله إن كان سبرتو أعطاه أجرا، قال في مودة ووضوح :
ـ البركة فيك يا عم حمزة..
رضخ للوضع الجديد، محدثا نفسه : "أيام وتعدّي".. فليس هناك حل آخر، "يلمّ به الدور".. حتى يتسلم بيته بالمحارة. كما أنه يتحاشى مواجهة الفتوة. رأى أن الحل في مهادنة عويس والرضا بما قسمه الله. شرح لعويس الوضع المأساوي الذي هو فيه، في عز الشتاء.. إلا أنه بدا شخصا غريب الأطوار، فهو يعمل بتؤدة، وتطوع أن يبيت معه ليؤنسه، ويكمل شغله ! فهم حمزة أن رفيقه لا مأوى له، ولا عمل.. ولا مصدر دخل يعيش به. رق لحاله. أحس أنه أيسر حالا منه، بفضل مكسبه من الغرزة. معيشته مستورة بحمد الله، إذا قارن حاله بحال هذا العامل البائس. وأكبر في الفتوة شهامته في تدبير عمل لمثل هؤلاء المساكين ! إزاء هذا الإحساس لا يملك إلا استضافته والإكثار من الحفاوة به. ما إن يحل الغروب، حتى يتناوب أقداح الشاي معه.. ووجدها فرصة ليحكي تفصيلا حياته وخاصة اشتراكه في أعمال المقاومة الشعبية ببور سعيد. وأنه أطلق رصاص بندقيته على جندي مظلات هبط فجأة. أراه أثر الرصاصة التي صوبت نحوه وأصابت فخذه. وفي ليلة أخرى حدثه عن كوابيس الليل التي تؤرقه. أحضر عويس ملابسه في صرة صغيرة. بدأ حمزة يتعاون معه، فيناوله قصعة المونة، وهو واقف على السلم، واكتسب خبرة في خلط الأسمنت بالرمل، وكيف يخمّر المونة..
زارهما سبرتو، فأعجب بالتعاون المثمر بينهما، ولهف جنيهين آخرين، وتغدى معهما من حلة المسقّعة التي أعدتها حميدة، فأتى الثلاثة على الحلة عن آخرها، إلا من بقايا دمعة بدت آثارا تدل على الوجبة الشهية التي امتلأت بها بطونهم. أمسك عويس بآخر رغيف عيش، ليغمس به هذه البقايا. ثم نهض يعدّ الشاي..
أصبح من واجبات عمله التي لم يكلفه بها أحد، إعداد الشاي له ولحمزة، وتعدى ذلك إلى زبائن الغرزة أيضا. مساعدة منه، في الأوقات التي لا يعمل فيها.
اقترح عليه أن يأتي له بجهاز ترانزستور يسليه، جهاز مستعمل لن يكلفه أكثر من جنيهين. بادر بالرفض لضيق ذات اليد. أغراه بالدفع عندما يفرجها الله. إلا أنه تشبث بموقفه قائلا:
ـ لا أحب أن أكون مديونا لأحد..
ـ طيب.. تقسيط..
ـ ولا تقسيط..
ـ طيب أحضر ترانزستور من عند واحد صاحبي..
ـ وتأخذه بعد ذلك..
أومأ بالإيجاب، وإن كان لا يعرف متى سيترك عويس بيته، ويعفيه من هذه الضيافة الثقيلة المكلفة ؟ إنه أشبه بـ "اللصقة الأمريكاني"، أو أنه "احتلال مقنّع".. لكنه كتم في قلبه وصبر، إلى أن يحلها الذي لا يغفل ولا ينام.
قارب العمل على الانتهاء، وإن كان سيره بطيئا جدا، أبطأ من مشية السلحفاة. استنزف عويس نقوده جنيها فآخر. والوجبة التي كانت تكفيه وحده، بدأ يعدّها لاثنين. زادت المصاريف وأثقلت كاهله. شرد قليلا، وأخذ يحسب لو أحضر بنفسه أمهر صانع في البلد، فسوف ينجز عمله في يومين فقط، وينهي عمله بطريقة ممتازة، ويكلفه ربع ما يتكلفه الآن. راجع نفسه بأن عويس معدم ويعتبر العطف عليه ثوابا يجزيه الله عليه.
مضى أسبوعان حتى انتهى عويس من عمل المحارة. قال حمزة في أدب:
ـ ستكون لك وحشة..
ـ أبدا.. أنا ممكن أعاونك في الغرزة، ونبقى شركاء !
قال مصدوما:
ـ شركاء ؟
ـ أجل..
ـ لما أشوف المعلم سبرتو..
أول ما رآه مقبلا عليه قال متضايقا:
ـ هلل عويس عامل محارة، أم احتلال بريطاني ؟
حكى له الحكاية من طأطأ لسلام عليكم. بينما تشاغل عويس في سماع أغنية لأم كلثوم من الترانزستور، متظاهرا بأنه لا يسمع الحديث الجانبي، إلا أن آذانه منصتة لما يقولان..
قال سيد:
ـ أنا أخذت فيه مقلبا. على كل حال، سأراضيه بخمسة جنيهات..
ـ هذا كثير يا معلم.. أنا دفعت الكثير..
ـ طيب أعطني جنيهين وأكمل الباقي من جيبي، حتى أطرده بكرامة..
ـ كرامة ؟
رضخ حمزة، وأعطاه الجنيهين، آملا أن يكونا آخر ما يدفع دون وجه حق. همس في أذن حمزة وهو يجمع حاجياته في صرة من القماش:
ـ أترك الترانزستور أمانة عندك، يسليك في وحدتك، ويبقى في الحفظ والصون..

د. حسين علي محمد
02/08/2008, 06:40 AM
ـ 22 ـ

فارق حمزة هذا الشاب الذي دخل حياته منذ أيام قليلة، وقلب بيته رأسا على عقب.. فقد غطى الطوب الأحمر بمحارة أشاعت في نفسه الراحة النفسية، كما ترك عويس ترانزستور يؤنسه في وحدته. ثمة بهجة بعد وحشة، أو هي البهجة التي لم يعهدها. لم يتوقع أن تبتسم له الحياة يوما ما. ورغم ثقل الضيف وإقامته الجبرية دون رغبة من صاحب البيت، إلا أنه لا ينكر التغيير الذي طرأ على حياته. وفي الوقت نفسه، تنفس الصعداء عند مغادرته البيت. وشبه رحيله برحيل الاحتلال الإنجليزي عن البلد.. رحلوا مرتين، الأولى عام 1954، والثانية بعد انتهاء العدوان الثلاثي عام 1956.. ورنت من جديد عبارة الزعيم جمال عبد الناصر : سنقاتل.. سنقاتل.. سنقاتل.. وسنبني تاريخا ومستقبلا..
قد يكون لعويس عيوب، منها تدخله السافر في حياته، ورغبته في إقامة مستديمة معه، حيث لا بيت له، ولا مأوى، على حد قوله.. إلا أنه ترك بصماته بحلوها ومرها.
زارته حميدة بعد أن خلا بيت أبيها من " الرجْل الغريبة " كما قالت.. أعجبت بالمحارة والونس الذي أحدثه الترانزستور.. قال لها :
ـ لأول مرة لم يزرني الكابوس..
ـ فأل الله ولا فألك.. نشكر عويس الذي أرسله الله ليبدل حياتك..
ـ لكنه ترك الترانزستور، كمسمار جحا، عساه يحضر في أي وقت ليأخذه..
ـ كل وقت وله أذان..
بدأت حميدة ترتب فرش السرير والكنبة، وتكنس وتمسح البلاط، وتضيف لمسات المرأة فيما لم تفلح فيه لمسات عويس..
ـ البيت بقى جنة.. يشرح القلب..
ابتسم حمزة منشرح الصدر، سألها عن صحتها، ففهمت ما يعنيه :
ـ لم يأذن الله بعد..
ـ فرج الله قريب..
ـ ونعم بالله..
ـ وكيف حال جابر ؟
ـ إنه لا يشير من قريب أو بعيد، لكني أحس في عينيه وفي نبرات صوته رغبة في الإنجاب.. صبر طويلا..
لم تستطع أن تمنع دموعها من الهطول..
ـ اصبري يا حميدة..
ـ أنا صابرة يا أبي، وراضية بحكم الله.. إنما جابر..
بعد لحظات شرود، قالت والألم يعتصر قلبها :
ـ تعرف يا به إذا أحب جابر أن يتزوج بأخرى، لن أمانع.. لن أمانع في أن أعيش مع ضرة.. المهم ربنا يعطيه ولدا.. لست أمانع في شيء، حتى لو طلقني ليتزوج غيري..
أجهشت ببكاء حاد ونشيج متواصل..
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله
نكس رأسه متألما. أحست حميدة بالألم الدفين. أحبت تغيير الحديث. تركت أباها يتمدد على الكنبة، وتمددت هي على السرير..
ـ ماذا عن حلمك المفزع عن النفق المهدود ؟
ـ الولد عويس الله يجازيه، عمل لي غسيل مخ، لدرجة خلتني أنسى الكابوس إياه..
ـ أنا حاسة إن الحلم فسر. الحلم بشرى بأنك تجدد البيت.. لعل النفق المقصود منه البيت الذي جددته..
لم يشغل نفسه كثيرا، قال بلا اهتمام :
ـ ربما..
ـ ينقص البيت البلاط للأرضية، بدل ردم التراب..
ـ أنتِ تتكلمين على طريقة المعلم وعويس.. عويس أعلن استعداده أن يبلط الأرضية..
ـ أيفهم في هذا ؟
ـ إنه يقول عن نفسه إنه صاحب سبع صنائع، لكن البخت ضائع..!
فوجئ بقدوم مصطفى في زيارة غير متوقعة.. تململت حميدة مستأذنة..
ـ اِجلسي.. معنا.. مصطفى ليس غريبا..
ـ ما غريب إلا الشيطان.. كيف حالك يا مصطفى ؟
ـ الحمد لله..
عرض مصطفى ما يحيره ويشغله. ليس لديه موضوع سواه، أن يتقدم للزواج من نرجس، مهجة القلب.. وما في ذلك يا مصطفى ؟ أبدا، لا شيء.. إنه يخشى أن يرفض طلبه. ولماذا تتوقع الرفض ؟ قال فيما قال :
ـ الحمد لله إن الست حميدة معنا، فنستنير برأيها..
قالت تشد أزره :
ـ لا يعيب الرجل إلا جيبه..
ـ الحمد لله.. انتظمت في العمل بورشة أبي. بدأ يعتمد عليّ في شغل الورشة. وأعمل على اكتساب خبرة في شغل النجارة. أستطيع الاعتماد على نفسي.
قال حمزة :
ـ توكل على الله..
كرر ما قاله لفتحي، إنها في الثانوية التجارية، وهو بدون مؤهل. قال حمزة :
ـ بلغني أنك كنت تتماشى معها، وأنها تحبك..
ـ رأيت أن التقدم لخطبتها تصحيح لمسار حياتي..
ـ وفقك الله..
يمر مصطفى بأزمة نفسية حادة، ذلك أنه يعلق آمالا كبارا في أن يتزوجها. طلب من أبيه تأجيل الزيارة حتى يرتب الأمور. هو مبلبل الخاطر، يسأل كل من يلتقيه حلا للمشكلة التي تؤرقه. إنه يحبها ويتمنى أن يتزوجها. هذه وصية أخته، وما قاله الشيخ قبل اعتقاله..
ـ زواجك منها إعلاء لحبك لها وحبها لك..
رتب مع جارها رأفت صديقه، ليتفق على موعد للزيارة. جاءه الرد بأنهم يفكرون.. مضت عدة أيام كأنها الدهر، حتى جاءه رأفت باش الوجه :
ـ قالوا لي يتفضل هو وأسرته..
ـ متى ؟
ـ في الوقت الذي تريد..
ـ اليوم..
ضحك رأفت قائلا :
ـ اترك لهم فرصة اليوم..
ـ غدا..
ـ ليكن بعد غد.. الاثنين..
احتضنه في فرح، وطار بالخبر إلى أبويه. بدا راغبا في معانقة كل من يلتقيه..

د. حسين علي محمد
02/08/2008, 06:41 AM
ـ 23 ـ

سبقته الفرحة إلى بيتها. اصطحب والديه في مسيرة قصيرة عبر شوارع المنيرة الضيقة، مرورا بمسجد زيدان، حاملا معه " زيارة " من الحلوى والملبس والشيكولاتة والشربات. راجع أمه، ربما نسي نوعا آخر. استقبلهم أبوها وعمها. جلسوا في غرفة الاستقبال، يزينها صالون إبيسون فرنسي الطراز، مذهب الحواف والأرجل. تجمّل الأرضية سجادة حمراء منقوشة بزخارف ومنمنمات دقيقة. تبودلت التحايا وعبارات المجاملة. كان عمها أكثرهم حديثا، معرفا بنفسه، شارحا سكنه في بيت العائلة القديم بالقلعة. متحدثا عن عمله في المقاولات منذ شبابه.
قدم مصطفى نفسه ببساطة وتواضع :
ـ نجار في ورشة أبي..
قال أبوه :
ـ إنها ورشته..
قالت أم نرجس :
ـ ربنا يطيل عمرك..
أعرب عن استعداده لكل ما يطلب منه. سأل الأسطى حسين عن طلباتهم وشروطهم. أجاب الأستاذ فريد :
ـ لما تحضر بنتي وأمها..
بادره الأسطى حسين :
ـ نرجس بنتنا، نعرفها عز المعرفة..
تنهد للجرح الذي لم يندمل :
ـ كانت صاحبة سعاد..
ـ الله يرحمها يا أبو مصطفى..
دخلت نرجس الشقراء، تسبقها ابتسامتها ورقتها، مخلفة وراء ظهرها شلالا من أسلاك الذهب، مشطته وأسدلته على شكل ذيل حصان. سلمت على الوالدين يدا بيد، ثم مدت يدها إليه، ضغط عليها بحرارة، رانيا إلى عينيها الزرقاوين، كأنه يقول لها : " ها أنذا أفي بوعدي، وآتي خاطبا ".. اتسعت ابتسامتها دون أن تنبس بكلمة.
جلست إلى جواره. ثم تبعتها أمها التي أخذت تحييهم.. وساد صمت قطعه أبو مصطفى :
ـ أهلا عروستنا..
ـ أهلا يا عمي..
ضحك عمها قائلا :
ـ من اليوم، أصبح لك عَمّان..
توجه أبو مصطفى إلى والدها طالبا الموافقة على خطوبة نرجس لابنه. قال كلماته بلهجة رسمية، كأنه يخطب في حشد من الناس. رحب فريد، وعلت الابتسامات على الوجوه. بعدها ساد صمت قصير.، ثم قال حسين :
ـ طلباتكم واجبة..
قال فريد وهو يضبط النظارة في مكانها :
ـ ليست لنا طلبات..
قالت أمها :
ـ البنت بنتكم..
أضاف الأب :
ـ نوصل نرجس لغاية البيت بكل ما تحتاجه وزيادة.
حاولوا الخروج من حصار المجاملات للاتفاق على التفاصيل. انحصرت طلبات فريد في المهر ومؤخر الصداق وقائمة الأثاث..
حين طلب حسين تحديد موعد الخطوبة، قال فريد :
ـ جارنا الشيخ محمود، كما تعلمون، متغيب عن بيته منذ فترة.. لذا نحن مضطرون إلى إرجاء الفرح لحين رجوعه بالسلامة..
قال مصطفى بحماس :
ـ إن شاء الله يرجع، ويعم الفرح..
قال حسين :
ـ طيب نقرأ الفاتحة..
انطلقت بعدها زغاريد أم نرجس، وامتنعت أم مصطفى قائلة :
ـ لولا القلب مجروح، كنت...
انهمرت رغما عنها دمعة حزن، أخفتها سريعا، ثم تغلبت عليها بإطلاق زغرودة قصيرة، ثم قالت :
ـ العمر لكِ يا نرجس.. العمر لكَ يا مصطفى..
قالت أم نرجس :
ـ ربنا يصبّرك..
همست في أذن أمها بكلمة، فأخفت ضحكة مباغتة. قالت لها :
ـ قولي له ما تريدين..
نكست رأسها في الأرض، لائذة بالصمت. تحللت أمها من رفضها وقالت لمصطفى :
ـ نرجس تريد أن تكلمك في موضوع...
ـ تفضلي...
ـ لا.. تريدك على انفراد..
قال الأستاذ فريد :
ـ تفضل يا مصطفى معها في غرفتها.. ربما تريد أن تطلعك على غرفتها..
ـ طبعا...
نهض، ونهضت في أثره. شيعتها أمها بضحكة من القلب :
ـ بنات آخر زمن..
قال الأستاذ فريد :
ـ خليها براحتها..
دخلت سنية الشغالة بصينية الشربات تطوف بها على الجالسين، ثم قدمت طبق الفواكه، وآخر به بيتي فور وكعك وغريبة..
انخلع قلب مصطفى لهذا الاستدعاء غير المألوف. هل تتراجع نرجس وترفض الزيجة ؟ كان بإمكانها إلغاء الزيارة وتصارح أهلها بذلك.. أما وقد قرأ الجميع الفاتحة، فلا يحق لها أن... لكن... لابد أن يسمع ما لا تريد قوله أمام الآخرين، حتى لو آلمه. خفف وطأة الألم الذي يعانيه. طفق يجول في غرفتها النظيفة المرتبة، متفحصا محتوياتها. لم ير غرفة بهذا الجمال. الشقة كلها تشي بغنى الأسرة وبحبوحة العيش. أسرتها متوسطة ميسورة الحال. سرير نرجس مغطى بمفرش مطرز بورود ذات ألوان زاهية. في الحائط المقابل للسرير دولاب الملابس، ومكتب للمذاكرة. ثمة منضدة تتوسط الغرفة عليها زهرية، وحولها ثلاثة كراسي. تتدلى من السقف نجفة تتدلى منها حبات كريستال متلألئة. أصغر من نجفة الصالون قليلا، لكنها تشبهها في الأناقة والجمال. جلسا حول المنضدة، وتبادلا نظرات صامتة قبل أن يتكلما. لاحظ إطارا مذهبا يتصدر الكومودينو، وضعت داخله صورة لأعز الصديقات.. تناول الصورة واحتضنها، ثم قبلها. قال في ارتياح وحنان :
ـ نرجس.. أنا تحت أمرك..
ابتسمت قائلة :
ـ هل تحبني مثلما تحبها ؟
ـ كل الحب..
ـ والماضي ؟
ـ أي ماض ؟
ـ أعرف أن لكَ مغامرات عاطفية..
ـ طيش شباب وانتهى حين التقيتك..
ـ طيب إياك تنظر لواحدة غيري..
ـ حاضر يا أحلى البنات..
نظرت في عينيه تستكشف صدقه، ارتأتهما مرآتين صافيتين..
أضاف :
ـ تقدري تقولي إنه كان لعب عيال..
ـ نِفْسي أصدقك..
ـ وحياتك عندي..
تناولت مصحفا من على المكتب، وقالت :
ـ طيب احلف على المصحف..
ـ على أي شيء أحلف ؟
ـ احلف وخلاص..
تضاحكا.. ثم قال والضحكة تغمر وجهه كله :
ـ طيب وحياة كتاب الله...
تداركت فأكملت :
ـ احلف إن ما قلناه في هذه الغرفة لا يقال لأحد..
أقسم لها كما طلبت وعجز عن كتم الضحكات، أتت أمها على صوتها.. مستأذنة :
ـ أَدخل يا أولاد ؟
ـ ادخلي يا نينة..
ـ علام تضحكان ؟
ـ لا شيء..
ـ يعني.. سر ؟
أكملت نرجس، مصممة :
ـ والسر في بير..
دخلت أمه هي الأخرى تستطلع الخبر، فبادرتها أم نرجس :
ـ خير يا أم مصطفى.. شيء من الدلع، لا أكثر ولا أقل..
ـ ربنا يفرحكم العمر كله..
وكانت ليلة من أحلى ليالي العمر..

د. حسين علي محمد
02/08/2008, 06:42 AM
ـ 24 ـ

نقرات خفيفة على الباب. نادت الأم على ابنها القابع في غرفته بالطابق العلوي. لم يتوقع أن يزوره أحد. ارتضى العزلة عن الأهل والصحاب والتفرغ للمذاكرة. نزل مهرولا يستقبل مصطفى في زيارته المفاجئة. جلس قبالته مبتسما. قال:
ـ قارب العام على الانتصاف.. المفروض أن أعوض ما فاتني، وهو كثير..
ـ لن أعطلك. جئت أخبرك بأني قرأت الفاتحة أمس..
ـ نرجس ؟
فرح ونقل فرحته إلى أمه، فجاءت تبارك الخطوبة..
استأذن بعد دقائق، وقصد بيت أسرة الشيخ محمود. يسأل عن أحواله وظروفه. قالت زوجته :
ـ لا نعرف متى يخلون سبيله ؟
قدمت ابنته الشاي. تملكته الحيرة. ماذا يقول ليطمئنهم ؟ هو لا يعرف كيف يطمئن نفسه. كما قيل له : لا تسأل عن رجل غيبته زنازين الحكومة.
أردفت بعد صمت حائر :
ـ هناك أمل في الإفراج عن شخصية قيادية، مما يبشر بالإفراج عن مجموعة من المقبوض عليهم، كانوا يعتقدون أنهم تابعون له.
تنهدت وأكملت في حيرة :
ـ مجرد كلام نسمعه همسا، وقائلوه يوصون بعدم نقله لأحد.
قال مصطفى :
ـ فرج الله قريب.. قد أجلت الفرح لحين خروجه بالسلامة..
ـ كان الشيخ يقدرك ويحبك..
ـ إنه أستاذي، وأدين له بالفضل..
استأذن قاصدا حمزة. يريد أن يطير بخبر خطوبته في كل الأجواء، ويحدث عنه كل الناس. حبذا لو قام بإعلان الخطوبة في مكبر صوت، يسمع من يعرفهم ومن لا يعرفهم، بأنه خطب جميلة الجميلات، بأنه استجاب لخفقان قلبه..
ما إن حط قدمه عنده، وشرب الشاي معه، حتى قدم عويس.. فاتحا ذراعيه يحتضن حمزة، في عاصفة من السلامات والتحايا لم يفرغ منها بسهولة. فرح بقدومه وناوله الترانزستور الأمانة. قال عويس :
ـ يا رجل.. خليه معك..
ـ هذه أمانة..
ـ هل طارت الدنيا ؟
لم يسترح لتصرفه. أفاق على صوت مصطفى :
ـ أنا اتفقت على خطوبة نرجس.. قرأنا الفاتحة أمس..
ـ مبروك..
ما إن شرب شايه، حتى نهض مستأذنا، وقدماه تتنقلان من بيت لبيت، يشيع الخبر السعيد بين أهله وأصحابه، في فرح طفولي، وما أحس بتعب..
أتاه عويس كالقضاء المستعجل. لا بد أنه ينوي المبيت عدة ليال. وجريا على عادته، أعد بنفسه براد الشاي، وطفق يحدثه فيما جرت به المقادير. إذ لا مأوى له. بدا نخلة تطاول السماء وسط صحراء قاحلة...
قطع عليهما الحديث اثنان لم يرهما حمزة من قبل. نفى عويس معرفته بهما، أو أن يكونا من بلده. سأل أحدهما :
ـ من منكما صاحب الغرزة ؟
خبط حمزة على صدره. سأل الثاني :
ـ أين الرخصة ؟
سأله عويس :
ـ من أنتما ؟
ـ مباحث شرطة..
ولكمه لكمة قوية أطاحت به في ركن الحجرة. قال حمزة :
ـ لا توجد رخصة..
توجه إلى عويس :
ـ وأنت.. أين بطاقتك ؟
قال وهو ينكمش أكثر فأكثر :
ـ ليست معي بطاقة..
حملا أدوات الغرزة على عربة نصف نقل.. المنضدة والكراسي وأدوات إعداد الشاي والقهوة والأكواب، والسكر والشاي والبن.. لم يتركوا له شيئا.. حاول حمزة استمالتهما..
ـ ولا كلمة.. وإلا سأحمل الفرش الذي تنامان عليه. كيف تبني غرفة في ملك الحكومة ؟ من سمح لك بهذا ؟ مدخل النفق أرض ملك للحكومة..
اقشعر بدنه لسماع كلمة " النفق ".. قال بصوت جهير :
ـ النفق.. أنا حارس النفق. أنا مهموم به ليلا ونهارا..
قال الثاني متهكما :
ـ حارس ؟ من أذن لك بحراسته ؟
قال بصوت مرتعش :
ـ أنا خائف عليه.. من الأقدام التي تدنسه، من انهيار قد يحدث له في أي لحظة...
اقترب أحدهما من عويس، ممسكا بياقة جلبابه :
ـ ليست معك بطاقة ؟
قال حمزة مصححا :
ـ عويس ضيفي.. أقيم هنا من زمن..
وبكى...
ـ أنا على باب الله يا سعادة البيه.. ثم إني من أبطال المقاومة في بور سعيد..
قال عويس في مسكنة :
ـ سماح والنبي.. نحن على باب الله..
انهال الاثنان عليهما ضربا ولكما وشتما، فتكوما على الأرض مقطوعيْ الأنفاس.. لم يشفع لحمزة كبر سنه أو بطولاته أو مروءاته، ولا حراسته للنفق وقلقه عليه ليل نهار..
نظر حمزة إلى صاحبه نظرات شك. تفرس في وجهه وقال :
ـ منذ حللت، أتيت بالنكبات.. أشك أنهما من أتباعك..
ولكي يبرئ نفسه اقترح عليه أن يلجأ إلى الفتوة..
ـ لن يستطيع الفتوة الوقوف أمام الحكومة..
ـ سأحاول..
وعد الفتوة بشهامة يحسد عليها أن يحضر ما سلبوه قبل طلوع نهار يوم جديد.. ما هي إلا ساعات قليلة، إذا بالعربة نفسها تعود بما حملت، وردّ الرجلان ما كانا استوليا عليه. فحمد الله وشكر سيد سبرتو، الذي انتفخت أوداجه. كما شتم الرجلين، وطلب منهما الإسراع في إرجاع كل شيء إلى مكانه. قال أحدهما :
ـ أي خدمة يا معلم..
تسربت نظرات الشك في أن يكون الرجلان من رجال الشرطة.. المهم.. رجع كل شيء إلى مكانه، وإن شبع ضربا هو وصاحبه..
وفي شماتة، التقى ثروت فتحي في المدرسة. قال إن أخاه الكبير أوعز للفتوة بضرب حمزة نظير مبلغ سال له لعابه. انتقاما من لسع العصا التي انهال بها عليهما، هو والبنت التي ضبطها معه في وضع مشين !
هرع فتحي إليه يطمئن على حاله. رأى من واجبه أن يخبره بأنها فعلة ثروت، حتى يتقي شره. لكنه فوجئ به يحكي عن شهامة المعلم الذي أنقذه من رجال مجرمين.. احتدم جدل حول هوية الرجلين. أكد فتحي :
ـ أعتقد أنهما من أتباعه..
ثم نصح حمزة ألا يؤذي ثروت، حتى لا يتعرض لمثل هذه المواقف. ثار بشدة. أيترك النفق مكانا مستباحا لأعمال المسخرة والأفعال المشينة ؟ لم يجد مفرا من شرح ما حدث، طبقا لما قاله ثروت.. بدأ الاثنان يقتنعان بالدافع. لكنهما الآن أمام مشكلة أخلاقية، يتصدى لها الرجل مدافعا عن الفضيلة. قال حمزة :
ـ أأترك النفق مرتعا للسفلة عديمي الأخلاق ؟
استطرد بعد صمت قصير :
ـ أغرى المال الفتوة. لكني أشك في علمه سبب الانتقام. إنه مجرد أداة جندها ثروت وأخوه، لكنه لا يعرف أصل الحكاية. لم أعهده يتدخل في موضوع يمس العرض والشرف. لم يقل له أحد ما فعله ثروت. الأفضل أن نقول له، حتى لا يتورط في مثل هذه المسائل.
أطرق حمزة حزينا، ثم قال :
ـ أنا صعبان عليّ منه.. إنه دفع رجاله لإيذائي..
قال عويس :
ـ قد يكون رجاله قاموا بالضرب دون علمه..
وخيمت سحابة قاتمة من الصمت الثقيل..

د. حسين علي محمد
02/08/2008, 06:42 AM
ـ 25 ـ

تباعدت لقاءاتهما، رغم الحنين الجارف. فرض فتحي على نفسه قيودا صارمة. لا مضيعة للوقت. الوقت للجد والمذاكرة. أول المتضررين أمين، الذي لم يكن يعبأ بقيمة الوقت، أو أنه متكاسل. إلا أن فتحي فاجأه بزيارة، خارقا كل المواثيق التي قطعها على نفسه. للاستثناء دوافع. أوضح لصاحبه أن الفتوة أوعز لاثنين من البلطجية بضرب حمزة وإهانته، هو وصاحبه عويس. لم يرتكب ذنبا يستحق العقاب. أحب تلقين ثروت وفتاته درسا لا ينسونه، مما حدا بثروت أن يوعز لأخيه الأكبر بالتصرف. قال فتحي كلاما كثيرا، عن الفتوة الذي لا يهمه شيء سوى الحصول على المال بأي ثمن، من كل عملية بلطجة، سرقة كانت، أم ضربا.. جالا في شوارع إمبابة حتى منتصف الليل. أخذ فكرهما يصول ويجول في أمر البلطجي.. رأيا أن يقصدا المجني عليه، يؤنسان وحدته. جلسا يشربان الشاي. قال فتحي ملطفا :
ـ سأقاطع ثروت..
قال عويس :
ـ المعلم طرد البلطجية من إمبابة كلها. اتضح أنهما اشتغلا لحسابهما في عملية مشبوهة !
قال فتحي :
ـ هل سيد سبرتو من الضعف الذي يجعل أحد رجاله يخونه ؟
أجاب حمزة :
ـ على العموم، وعد المعلم ألا تتكرر المهزلة..
أكد عويس على ما قال :
ـ لك مكانة عند المعلم..
ضحك فتحي وهو يقول :
ـ لِمَ ضُربت يا عويس ؟
قال في مسكنة :
ـ أنا.. رحت في الرجِْلين..
بدأ يشرح ما حدث في منتصف الليل، من تطهير قام به للمنطقة من الأوباش الذين يأخذون من الليل ستارا لأفعالهم الدنيئة. اعتبر ما أداه واجبا أملاه عليه ضميره، كما أنه امتداد لبطولاته في المقاومة الشعبية ببور سعيد.
قال فتحي :
ـ لا تنس ما قمت به من عمليات إنقاذ ومساعدة المصابين، في كارثة التروللي..
ـ كلنا ندين لك بالفضل.
قال أمين في حماس :
ـ أنت تستحق وساما..
شمله الهدوء إزاء ما يسمع من مديح. همس لعويس بأريحية :
ـ جهز دور شاي، على حسابي..
وأدار الترانزستور يستمعان إلى أغنية أم كلثوم " أنت عمري ".. في الليل المتأخر، التف الثلاثة حوله، وهو يروي قصة بناء نفق المنيرة والسكة الحديدية تمتد قضبانها فوقه، كما رواها أبوه وجده. كيف شارك رمضان ـ كبير العائلة ـ في أعمال الحفر، وإن كان لا يذكر السنة التي تم فيها الحفر، مكتفيا بقوله إن هذا ما سمعه من أبيه محمد وجده صابر نقلا عن الجد الأكبر رمضان.. قال عويس :
ـ لم تذكر لنا قصة الرصاصة التي أصابت فخذك..
قال وهو يبتسم :
ـ تعرفونها جيدا..
ـ نريد أن نسمعها من جديد.. نحن لا نمل سماعها..
وطفق يتحدث إليهم، ولا يمل الحديث أبدا...
أما مصطفى، فما إن تناهى إليه ما حدث، باتفاق جبان بين صبري وسيد سبرتو. هرع إلى صبري، الذي يعرفه زبونا بورشة والده. استماله بالقول الحسن، ثم قصّ عليه ما حدث من أخيه، مما اضطر حمزة إلى ردعه.. أي أنه قاوم شرا لا نرضاه. أنكر صبري معرفة الدافع. يبدو أن أخاه لم يقل الحقيقة كاملة. خفّ لنجدة أخيه حين اعتدى عليه، دون معرفة التفاصيل. قال إنه مستعد للاعتذار. أجابه مصطفى :
ـ يحق لثروت أن يعتذر.. هو المخطئ..
أبى ثروت الاعتذار لأحد، وإن كان توبيخ أخيه منعه من التمادي في غيه. وعد أخاه ألا يقترب من نفق المنيرة، وألا يدوس لحمزة على طرف. لكنه لم يعده بعدم الاقتراب من الحرام. قال صبري إنه لن يدافع عن أخطاء أخيه. هرع مصطفى إلى المعلم سبرتو، يلومه فيما حدث لعم حمزة، فأنكر أنه شارك.. وأن اثنين من رجاله خرجا عن طاعته، ونفذا عملية قذرة لا يرضاها. أحس فايز أنه يكذب، كي يتجمل! يكفيه أنه لجأ إلى الإنكار. قال في حسم:
ـ أنا طردتهما من إمبابة كلها، وليسا من رجالي.. بل إني سأضربهما بيد من حديد، إن أقلقا راحة أهل بلدي وناسي..
توجه معه إلى حمزة، لكز عويس قائلا :
ـ قم اعمل لنا شاي. أما أعزم نفسي عندك يا حمزة..
ـ بيتك ومطرحك..
ـ إننا جميعا نعتذر لك. إمبابة كلها تقدم الاعتذار.
قال حمزة :
ـ مجيء المعلم شرف أعتز به..
الكل يعتذر، لكن لا أحد يتألم من الجرح الغائر في قلبه. هل يمكن للكلمات مداواة جراح القلب ؟
قال عويس وقد بدا عليه التأثر :
ـ الكل يعتذر لعم حمزة، ولا أحد يطيب خاطري بكلمة، مع أنني ضُربت أكثر، ولا كان لي في الدور ولا في الطحين..
شده الفتوة من ياقة جلبابه، ليتغدوا جميعا على حسابه..
الاعتذار كلف حمزة الكثير. فقد أصر سبرتو على أن يتغدوا جميعا عنده. كان لابد أن تمتد المائدة لتكفي الأربعة. أحضر لهم وجبة دسمة من الكفتة والطرْب والسلَطة. أعلن المعلم عن استعداده لتحمل مصاريف الغداء، إلا أنها عزومة مراكبية، كما يقول المثل الشائع. فقد أخرج المحفظة من جيب الصديري، قائلا في شهامة :
ـ عنك يا حمزة.. رقبتي سدادة..!
أمسك بيده كي يرد محفظته مكانها :
ـ عيب يا معلم..
لم يكذب خبرا، فأرجعها سريعا كما أخرجها.
عند الانصراف، انتحى بالمعلم جانبا، وحدثه في أمر عويس الذي لا يريد أن يرحل، رغم مضي نحو أسبوع على زيارته الأخيرة. قال له :
ـ ولد مسكين.. الظرروف تعانده. سوف تنال الثواب الكبير، لحين صلاح أحواله..
ولم يزد. قبل الضيف الذي فرض نفسه وأقلق باله. إنه كالاحتلال الذي كان جاثما على صدر الوطن. ما باليد حيلة.

د. حسين علي محمد
02/08/2008, 06:43 AM
ـ 26 ـ

احتد مع ضيفه الجاثم على صدره. أرجع إليه سبب الغارة الهمجية. دافع عن نفسه وأقسم بأنه مجني عليه مثله. لم يأخذ منه حقا. ترك له البيت وخرج مزمجرا، قاصدا حميدة. لقيته ابتسامتها الربيعية كأجمل ما تكون الوردة المتفتحة. حدث جابر عن الولد عويس الذي يتدخل في شئونه، وكلما كلم المعلم في أمره، يوصيه بالصبر، فالولد معدم ومقطوع من شجرة. قال جابر :
ـ الولد بائن عليه وش خير علينا كلنا...
ـ خير.. كيف يأتي الخير من ورائه ؟
ـ اصبر عليه لما حاله يتعدل.. منذ زارك والبركة حلت..
ـ كيف ؟
قال وهو يراجع زوجته بنظرة :
ـ لم نكن نريد إعلان الخبر..
ـ خبر ؟!
جال بعينيه بين وجهيهما، فما رأى إلا بشرا وابتساما. قفزت الفرحة تلقائيا إلى قلبه. قال :
ـ تبقى حميدة حاملا..
قالت :
ـ بعد خمس سنين صبر..
ـ ربنا كبير يا بنتي..
قالت حميدة بصوت ملؤه الإيمان :
ـ يمكن ربنا كرمنا، لما أكرمنا عويس..
ـ ربنا يهيئ الأسباب..
قال والفرحة تسبقه :
ـ لما يهلّ علينا وليّ العهد بمشيئة الله، سأقيم فرحا..
قامت لإعداد الشاي، فأمرها جابر بالجلوس والراحة، ونهض يعدّه بنفسه..
اختفى جابر فجأة. أجابت على تساؤل بدا في عينيْ أبيها :
ـ زمانه يجئ..
دخل منتفخ الأوداج حاملا أكياس الموز والبرتقال. قالت تداعب أباها:
ـ سوف تصبح جدا..
ـ هذا يوم المنى..
سنوات طويلة من الصبر والانتظار. لم يبدِ تبرما. لم يفكر في زوجة ثانية تنجب له الولد. ما أعظم صبرك النبيل. ها أنت يا زوجي العزيز تجني ثمرة الانتظار الطويل. فرحة جابر أكبر من فرحتهما معا. فرحة باتساع الأرض كلها. عمت الفرحة العائلة. بدأت أخته تتردد على البيت تساعد في أعمال كنس ومسح البلاط، وغسيل الأواني والملابس.. لا ضير من دخول المطبخ لإعداد الغداء. كما أنه لم يتحرج في المساعدة في أعمال الطبيخ، لتجهيز أكلات بسيطة كقلي البطاطس والبيض والباذنجان. إنه يساعد فيما يقدر عليه. أصر على الذهاب إلى سوق الجملة بمفرده، طالبا منها الخلود إلى الراحة التامة.
أطرق حمزة. لكنه حرره من صمته بتقشير إصبع موز له، واستحلفه بالغالي في بطن حميدة أن يتناول الموزة. سأل وهو يلوكها في فمه :
ـ تفتكر الولد عويس مسكين بصحيح ؟
ـ أجل..
ـ طيب.. أستأذن..
ـ إلى أين ؟
ـ أروح أطيب خاطره بكلمتين..
قالت حميدة :
ـ ونحن نجيء معك..
التقوا عويس بفرحة صبيانية لا توصف ! فجأة أصبح ابن حلال مصفّي. تغير مزاج صاحب الغرزة من كاره له، إلى صفيّه وخليله. وليس مدهشا قوله :
ـ نفسي آخذك في أحضاني.
رغم أنه لا يدرِي سرّ التحول المفاجئ. تُرى، هل ندم على كل ما بدر منه، فأحب أن يبدأ صفحة جديدة ؟ إذن، ما الداعي لهذه الزفة، فيأتي بربطة المعلم هو وابنته وزوجها اللذين يلتقيهما لأول مرة ؟ إزاء هذا التحول غير المبرر، بدأ ابن البارحة يعزز نفسه، ويقول لمضيفه إنه يبحث عن عمل، ومما سيكسبه يدبر به سكنا رخيصا في حجرة صغيرة، ويرجوه أن يتحمله أياما أخرى. أجابه في تطييب خاطر :
ـ أتحمل ؟ إذا لم تحفظك الأرض، حفظتك رموش عيني..
قال :
ـ أصيل يا عم حمزة.. وما تأمر به سأنفذه. أساعدك في كل شيء.
تبادل الأربعة أحاديث شتى في جو يسوده الود والصفاء. انتهزها فرصة ليدير مذياعه الذي بحجم راحة اليد، على محطة تذيع أغنية لأم كلثوم. ونهض يعدّ براد الشاي دون أن يأذن له صاحب الدار. تضاحكوا وتسامروا.. كان حمْل حميدة الموضوع الخفي، باعث السعادة لكل من في البيت، وإن لم يعرف عويس بهذا الحمل، وهو ما أعجزه عن تفسير مظاهرة الحب التي زفوه بها !.. هذا الحمْل جعلها ملكة متوجة. يزهو فرح داخلي في شعاب نفسها. تستعجل الأيام كي ترى وليدها بين ذراعيها تحضنه، تقبله، تربت على ظهره، تقفز به في الهواء. متى يجئ هذا اليوم ؟ الصبر يا رب..
وفي الصباح، أحبت أن تزور ضريح سيدي إسماعيل الإمبابي.. تقرأ الفاتحة، وتدعو الله أن تمر شهور الحمْل المتبقية بسلام.. أخرجت من صدرها كيس النقود، ووضعت ما تجود به في صندوق النذور، وأوقدت شمعة طافت بها حول الضريح، بينما صلى جابر ركعتيْ شكر لله تعالى، على عطاياه ونعمائه.. وطفق يدعو كثيرا حتى بللت الدموع خديه.

د. حسين علي محمد
02/08/2008, 06:44 AM
ـ 27 ـ

في غمرة الترحيب المفاجئ بإقامته، أحس بالسعادة التي لم ينعم بها يوما ما. هذه ليلة خالدة سرقها من عمره الشقي. تُرى، هل تدوم أم أنها سحابة عابرة سرعان ما تنقشع ويظهر واقع البؤس الملازم لظله ؟ حمزة متمسك به، على غير العادة. قال إنه وش السعد، هكذا دفعة واحدة !.. عرف منهم أنه مع قدومه ظهرت تباشير الحَمْل لسيدة لم يرها سوى الليلة. بقدومه انقشعت كوابيس الظلام. منذ قام بمحارة الجدران، طردت الكوابيس، واسترد النفق عافيته، شامخا دون تشققات، وبقدومه زاد زبائن الغرزة ! قال حمزة :
ـ كسبت بمجيئك أشياء كثيرة وثمينة.. أكثر مما كسبته لو أجرت لك المكان..
استنفرته الكلمات. ندم على انفلات اللسان الذي قال ما يكدر صفوه ويعكر مزاجه. قال عويس :
ـ أنا أدفع أجرة المبيت للمعلم سبرتو..
اندهش. كيف ؟
ـ كم تدفع ؟
ـ ريالا في الليلة..
ـ أيتاجر على حسابي ؟ يا له من مستغل بشع..
ـ ألم يتفق معك ؟
وجم. تريث قليلا. كيف يواجه الفتوة ؟
ـ أفهم من كلامك أنه لا يعطيك شيئا ؟
ـ ولا مليم...
ضحك عويس وهو يقول :
ـ وأنا أبيت عندك وفي بطني بطيخة صيفي, أعتبر المبيت عندك أرخص من أي مكان.
تباينت مشاعر الاثنين. لاذا بصمت محير، كل له مشكلة تخصه. الفتوة يرضيه بمعسول الكلام، ويطيب خاطره، في الوقت الذي يستغله أسوأ استغلال. إنه يتقاضى أجر مبيت عويس، وهو أحق به.. كما أن عويس يكلفه أكلا وشربا.. إن صدق الفتوة في شيء ففي قوله إن الولد عويس معدم مقطوع من شجرة. واستنجد بالمعلم ظهرا وسندا يحميه.. كما أنه وفر له إقامة رخيصة، بما فيها الأكل والشرب. كيف يواجه الفتوة ؟ عملية صعبة معقدة، قد يكون ضحيتها هذا الشاب الفقير الذي احتمى بداره، وليس ذنبه تلك اللعبة القذرة التي لعبها الطاغية. سأل نفسه في حيرة : هل يمكنك الوقوف في وجهه ؟ ضحك ساخرا من نفسه. إنه كالذبابة أمام بطش فيل ضخم. ما يقدر على القدرة إلا القادر يا عم حمزة. هاجس آخر يتردد في جنبات نفسه، بأن عويس حلّ له مشاكل عديدة. قدم له خدمات لا تنكر. إنه لو طلب منه أن يكنس ويمسح الأرض لفعل.. كما أنه وش سعد حقا وصدقا.. فحميدة قرة عينه بدت عليها أعراض حمل، والكابوس الذي كان يجثم على صدره ليلا انقشع وتبدد.. لا تنس يا حمزة أن قراءتك القرآن جلبت الفائدة. بكل المقاييس لا تنكر أن لعويس أيادي بيضاء بشهادة الجميع، ولديه قناعة تامة في هذا.
أما عويس فقد انزوى في ركن آخر من الحجرة يفكر في همّه. ترك قريته ميت نما، ونزح إلى القاهرة بحثا عن فرصة عمل ومأوى، هربا من زوجة أبيه الظالمة.. تلك الزوجة التي بثت في نفس أبيه كراهية عمياء، فآثر أن يهرب من البلد سرا، دون أن يعرف أحد طريقه. أرض الله واسعة. لم يتعلم. ولما تعدى عمره الخامسة عشر، بدأت زوجة أبيه تطلب منه البحث عن عمل. أي عمل ووافقها أبوه. من السهل أن يعمل في الغيط مع أبيه، أو مع غيره من المزارعين. لكن المعاملة القاسية نفرته من البيت كله. آثر أن يترك الجمل بما حمل، فأرض الله واسعة، وتحقق له ما تمنى. ففي المنيرة، التقى أحد أهلها، فدله على المعلم سيد سبرتو، الذي اتفق معه على المبيت في بيت صغير مع عجوز طيب القلب، نظير دفع ريال عن اليوم الواحد. لم يكن يعرف أن حمزة لا يتقاضى منه شيئا. إذن فهو مدين لهذا الرجل الطيب. كيف يعوضه عن الخسارة ؟ نكس رأسه متألما متأذيا. فبعد أن كان يعيش بكرامته، نظير أجر يدفعه. بات مشاركا للمعلم في ظلمه. دنيا عجيبة. ما يتكسبه من بيع الخضار في السوق أقل القليل، إذ يعطيه أحد معلمي السوق بعض أقفاص الخضار يبيعها لحسابه. قد ينقده أقل من ريال، أو ريالا، أو أكثر قليلا.. فيتوسل إليه ألا ينقص نصيبه عن الريال. فبدأ المعلم ينقده ريالا ثابتا، سواء زاد مكسبه أو قل.. فكيف يعوض حمزة عن الضرر المادي ؟ هل في إمكان المعلم أن يزيده خمسة قروش أخرى يعطيها لصاحب البيت تعويضا مؤقتا ؟ أم يشتغل عند أبو سلطان صاحب محل الجزارة المواجه لمسجد زيدان ؟ وماذا عن الأجر ؟ صارح حمزة بما ينتويه..
ـ لا أريد منك شيئا.. ولا تكلم المعلم في شيء.. استمر في اتفاقك معه.
صمت طويلا، ثم استطرد :
ـ يكفيني أنك قدم خير، وأنني ارتحت لك. أعتبرك ابنا لي. لي بنت وحيدة متزوجة، كما تعلم، على الأقل تساعدني في عملي هذا..
ـ والريال الذي يأخذه المعلم دون وجه حق..
ـ لا حيلة لنا في هذا.. إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
فترة صمت أخرى، تلبدت فيها سحب الحيرة في خاطر عويس. قال :
ـ في هذه الأيام، بدأ المعلم يأخذ الريال من المنبع، من معلم الخضار الذي أتعامل معه..
ـ لا تشغل بالك..
ـ سأبحث عن عمل أفضل، بعيدا عن أعين الفتوة..
ـ سيكيد لك..
هربا من جحيم التفكير في مشكلة بلا حل. حين تواجه بسلطة قوية، لا بد أن تكون قويا مثلها، أو أقوى منها. هذا ما لا يستطيعانه. هربا من الحيرة المطبقة على صدريهما، بأن امتدت يد حمزة إلى براد الشاي، بينما انشغل عويس في ضبط موجة المذياع على إذاعة أم كلثوم.. وطفقا يسمعان أغنية " غلبت أصالح في روحي ".

د. حسين علي محمد
02/08/2008, 06:46 AM
ـ 28 ـ

مضت إجازة نصف السنة، قضاها في المذاكرة، معتبرا إياها بياتا شتويا، أو انكماشا في البيت، شاحذا همته نحو تحقيق مجموع كبير في الثانوية، يؤهله إلى تحقيق أمنيته في دخول كلية الهندسة. انصرف عن تضييع الوقت. لا يخرج من البيت إلا للضرورة القصوى، واضعا نصب عينيه صورة أبيه المكافح، الذي لا يدخر وسعا في تلبية طلباته، حتى لو كانت على حساب راحته وصحته. شعر بتأنيب الضمير لهذا اللهو العشوائي، وهذا السراب الذي يجري وراءه دون تحقيق شيء نافع.
ذات مرة جمعه وأباه وأمه لقاء.. ما أندر اللقاءات بينهم.. كانوا ملتفين هو وأخواته حول الطبلية يتناولون الغداء. قالت فاطمة وهي في الإعدادية، إن فتحي يرى صعوبة في اللغة الفرنسية. نفى ذلك بشدة قائلا :
ـ أبدا.. هي مادة لطيفة.. لكن الصعوبة في أنني أحيانا أنطق الكلمة الفرنسية بالنطق الإنجليزي. هذا خطأ نبهني إليه مدرس الفصل.
لم يعلق أبوه.. مضى على تلك الملاحظة يومان، أخبره بعدها أنه اتفق مع زميل له في المصلحة لإعطائه دروسا في الفرنسية. تردد في البداية. طمأنه بأن أجرة الحصة زهيدة لن تكلفه كثيرا، فقد راعى شفيق زمالتهما.
لأول مرة يأخذ درسا خصوصيا، باستثناء مدرس اللغة العربية، وهو في الابتدائي، الذي أعطاه شهرا واحدا، ثم اعتذر لمرضه.. كان ذلك منذ تسع سنوات.. كان الدرس ثقيلا حيث يضطره المدرس إلى حفظ قصائد شعرية قصيرة، ومعاني الكلمات وشرح الأبيات.
أعطاه والده عنوان الأستاذ شفيق في حي شبرا. استقبله هاشا باشا، ذاكرا خلق أبيه وصفاء نفسه. أجلسه مع زوجته سناء، وابنتيه مارسيل ومريم. شده جمال الأختين. القامة المديدة، والشعر الأسود المسدل على الظهر، بعد إحكامه بشريط ملون أو " توكة ". العينان الواسعتان الذكيتان. البشرة البيضاء الناعمة. من ينظر إليهما يظنهما توءمين. كانا أميل إلى الصمت. جلسا معه حول المنضدة المستديرة. حين سمح شفيق بخمس دقائق راحة، تبادلوا كلمات ترحيب وتعارف. أسره الجمال القبطي. هام بالوجهين الجميلين، فأحب دروس الفرنسية وظل يترقب مواعيدها كل اثنين وخميس.
أعطى الفرنسية وقتا للمذاكرة، يجور على الوقت المخصص للمواد الأخرى، رغبة منه في الظهور أمام الجميلتين متفوقا. تغلب على مشكلة نطق الكلمات، وبرع في هذا، حتى صار أميل إلى التحدث بالفرنسية أكثر من الإنجليزية. نقل عن أستاذه شفيق أن الفرنسية لغة ثقافة وحضارة.
قال أمين لصاحبه متهكما :
ـ يموت الزمار وإصبعه يلعب !
بعد أن قص عليه حكايته مع مارسيل ومريم، وصف له جمالهما الأخاذ. إلا أنه صدم بتعليقه الساخر وفهم منه أنه هوائي النزعة، بكل بنت معجب. إنه أسير هوى مَنْ يقابل منهن، حتى قال أمين مواصلا تهكمه :
ـ لو كان لي أخت، لخشيت عليها من نظراتك..
اقترب من منطق صاحبه. قال مبررا :
ـ لكل بنت مسحة جمال تتميز بها. ومن طبعي البحث عن مسحة الجمال أو لمسته في كل بنت أصادفها. هكذا خلقني الله. ليس معنى هذا أنني أقع في غرامهن جميعا !
تضاحكا. رضخ لتبرير صاحبه، وسلم بطبعه. وفي نوبة مداعبة قال أمين :
ـ قلت إن الأختين كالتوءمين.. فكيف تفرق بينهما ؟
ـ نبرة صوت مارسيل أميل إلى قلبي.. ذلك أنها تتحدث معي أكثر، بينما تلوذ أختها بالصمت. مارسيل ترتدي عادة الجيب والبلوزة، ومريم ترتدي الفستان..
بعد صمت قليل، أكمل :
ـ ثم إن مارسيل تجلس عن يميني. لكل منا مقعد لا يغيره.
قال أمين في حسد :
ـ يا بختك.. كان نِفْسي أكون معك..
ـ وتعجب بمريم..
الحسد كلمة قالها دون أن يشرح لصاحبه أي حسد يقصد ؟ وفي داخله، يرى أنه يحسد فتحي لتعرفه على بنات كثيرات، ولأنه أكثر مذاكرة منه. هو غير راض عن نفسه، أميل إلى تضييع الوقت أكثر من صاحبه، فاقد الأمل في تحقيق تقدم. ورغم رسوبه في العام الماضي، إلا أنه لا شيء يحفزه للمذاكرة. بينما يرى فتحي قد نجح العام الماضي ويعيد السنة لتحسين مجموعه. شكواه أنه لا يجد الحافز الذي يدفعه للمذاكرة.. بدأ فتحي يحفزه، ويدعوه إلى تغيير عاداته، والالتفات إلى دروسه. إلا أنها صرخة في واد. فأمين محبط على الدوام، لديه إحساس بالدونية، بمعنى أنه أقل في الوضع الاجتماعي من قرنائه. وهو يجد لذة في قراءة جريدة أو كتاب غير مدرسي، كأنه يجد اللذة فيما هو غير ملزم أن يمتحن فيه ! وهو ـ أيضا ـ كثير الاستماع إلى أغاني نجاة الصغيرة بصوتها الدافئ، الذي يستشعر فيه أن المطربة تكاد تغني له وحده، وهذه متعة تجذبه إليها. وهو ـ علاوة على ذلك ـ كثير التحسر على حبه الضائع لعايدة. الفتاة الوحيدة التي دق لها قلبه، لكنه لم يتقدم خطوة واحدة نحوها. واكتفى بلقاءات المصادفة بحكم الجيرة، فتلتقط أذناه بعض كلمات مما تقول، ويرد عليها بكلمات مقتضبة ليس وراءها هدف ! ولا شيء غير هذا ! وهو بطبعه كتوم، لا يبوح لأحد عن مشاعره وأحاسيسه، وإن نطق بها مرة أو أكثر لصاحبه الوحيد !
طلب من صاحبه الخروج، تحررا من حبسة البيت. تجولا كعادتهما في شوارع المنيرة ومدينتيْ العمال والتحرير.. وعلى مقهى الربيع كانت جلستهما المفضلة، إلى منضدة في ركن داخلي، اتقاء لسعات البرد. لعبا النرد فتعادلا. ارتاحا للنتيجة فنهضا.. وجل حديث فتحي عن مارسيل ومريم، اكتشافه المذهل، وتهيؤه للقائهما غدا الخميس.. وأن عليه مذاكرة واجب الأستاذ شفيق الليلة.. إلا أن الثرثرة داؤه المزمن، يقابلها عند أمين صمت مطبق !
عرجا على نفق المنيرة، وتجالسا مع حمزة وصاحبه عويس، الذي أكمل لهما السهرة بأغنيات أم كلثوم من مذياعه الترانزستور، حتى انتصف الليل، ثم انصرف كل إلى بيته..


(يتبع)

د. حسين علي محمد
04/08/2008, 01:58 PM
ـ 29 ـ

الشهور الأولى من عام 1966 بطيئة مملة. لم تعطِ للفتية فتحي وأمين وثروت فرصة لإثبات وجودهم أو إشباع ميولهم. كل منهم له مزاج نفسي خاص به. علاقة ثروت بفتحي سطحية. نماها جرأته الوقحة في التعامل مع البنات، وترويجه لكل ما يهيج غرائز الفتى، عن طريق صور فاضحة وقصص ماجنة وأماكن الرقص التي يرتادها، ساعدته حالة أبيه المادية وغفلة عين الرقيب. يشرئب فتحي إلى هذا العالم وهو منبهر. يود أن يخوض تجربة واحدة مما يحكي عنها ثروت، بدافع الفضول، أو أن يعيش كما يعيش الآخرون ! هكذا يلتهب خياله وتستبد جموح المشاعر به. أما أمين فلم يختلط بثروت ولا يستريح له. قد يتبادل معه كلمات قليلة في أوقات متباعدة، تكشف عن بعد المسافة بينهما أكثر مما تكشف عن أي وجه للتقارب. كانا أشبه بقطبين متنافرين. في الوقت الذي توطدت فيه العلاقة بينه وبين فتحي بفعل الإطلالة على عالمه ومروياته التي تشبه من يصارع طواحين الهواء. فقد وقع في هوى بنات كثيرات، دون أن تكون هناك قصة حب متبادلة بينه وبين أي منهن ! كما أنهما يتناقشان في شتى أمور الفكر والدين والسياسة وغيرها، ويتجادلان كثيرا حولها. تشهد شوارع إمبابة الواسعة والضيقة مجلسا " متنقلا " للأمة يضم عضوين دائمين وحيدين يتناقشان في أدق الأمور ! ما أشد خلافاتهما وخصوماتهما الفكرية، لكنهما لا ينفصلان أبدا. يشتد أزرهما بارتباطهما بتلك الوشيجة التي لا يفكر أحدهما في حلها !
تلك الشهور من العام الجديد سماها فتحي شهورا حاسمة، ففيها يتقرر مصيره التعليمي. أدرك خطورة المرحلة، فابتعد عن صنو روحه مرغما، وإن جمعتهما لقاءات متباعدة.. أما مصطفى فقد غير اتفاق الزواج من شخصيته. حوله إلى إنسان آخر ينظر إلى الحياة بعين التفاؤل، ويحسب الأيام الثقيلة المريرة التي ابتعد فيها الشيخ محمود إلى جهة غير معلومة !..
الامتحانات على الأبواب. ووجد في دروس الفرنسية متنفسا ربيعيا، إذ يجالس فتاتين، يشجعانه على الاستذكار، ليس في الفرنسية فحسب، وإنما في كل المواد. مارسيل في الثانوية مثله، ومريم في الصف الثاني الثانوي، إلا أنها تصر على الجلوس معهما لتستفيد. شجعها أبوها على ذلك، لكي يشعر أن تلاميذه كثيرون، يشبع بذلك الرغبة القديمة في أن يكون مدرسا، وليس مجرد موظف في مصلحة حكومية لا يدري به أحد. مريم لديها الدافع. تلتقط قواعد الفرنسية وتعبيراتها. قالت لهما إنها تستفيد بطريقتها.. فحين تذاكر دروسها الأبسط، تبدو لها أسهل. مارسيل فتاة جذابة، ملكت على فتحي كيانه. بلوزتها ذات أزرار، تصر على أن يبقى الزرار العلوي مفتوحا فيتبدى النهر الفاصل بين نهديها المتمردين، يتدلى فوقه سلسلة ذهبية يزينها صليب صغير، يتمرد هو الآخر على صدرها.
ذات مرة، قال إن الكراسة التي كتب فيها الدروس نسيها في السيارة العامة. قالت مارسيل :
ـ أمهلني إلى الحصة القادمة، وأعطيك كراستي تنقل منها..
ـ أنقل عشرين درسا.. هذا صعب..
ـ يمكنك استعارتها عدة مرات..
ـ أشكرك..
في الحصة التالية، فاجأته بكراسة جديدة، نقلت فيها بخطها المنمنم الرقيق كل الدروس العشرين. انشرح صدره واتسعت ابتسامته. قال لها بصوت خفيض ممتن :
ـ أشكرك.. جدا..
ثم استدرك قائلا :
ـ كلمة الشكر لا تكفي.. عموما هي مفاجأة سارة..
قال شفيق منهيا حرجه :
ـ مارسيل أختك..
امتد بينهما فرح داخلي لم تكشف عنه الخلجات..
إلا أن الفتى المراهق سقط في أتون حمى الملاريا، أرقدته الفراش قبل بدء الامتحان بيومين. اضطر إلى حضور الامتحان وحرارته 39 درجة. وفي المساء توجه إلى الطبيب، الذي أدرك ظروفه وأعطاه جرعات دوائية مكثفة، كما أعطته الممرضة حقنة في الوريد، فأسلم لها ذراعه لتلف حول عضلة الذراع خرطوما، وشدته على آخره، حتى تتمكن من تحديد مكان الوريد. وانصرف هو عن وريده الخفي، متأملا تقاطيع الممرضة الحسناء، مكتشفا فيها ـ هي الأخرى ـ مسحة جمال تميزها عن غيرها. قالت له بعد انتهاء حقنه :
ـ بالشفاء..
عرف أن اسمها نادية. أضافها إلى قائمة البنات اللاتي صادفنه، وحفظها أمين عن ظهر قلب. في اليوم التالي، حضر الامتحان وحرارته مرتفعة. العرق يتفصد من وجهه. أحس المراقب باضطرابه. قرأ ما كتبه في موضوع التعبير، فأعجب بأسلوبه وصياغته الأدبية الرائعة واستشهاده بأبيات شعرية رقيقة.
انقضت أيام الامتحان بين السهر والحمى. يذاكر كيفما اتفق. يقرأ ملخصات ومراجعات ليلة الامتحان. تحرص أمه على إعطائه الجرعات في مواعيدها. تحثه على الاستعانة بالله الشافي. وبانتهاء الامتحان، شفي من المرض. ترى أمه أنها عين أصابته. أما أمين فلم يحضر امتحان الفرنسية. دهش صاحبه، الذي منعه المرض من السؤال عنه. زاره بعد الامتحان يسأل عن سبب تغيبه الثلاثة أيام الأخيرة. قال إنه فقد الأمل في النجاح.. وبذلك عرف النتيجة سلفا.. هي إعادة السنة للمرة الثالثة ! تعلق فتحي بمستقبله بين الرجاء والأمل. فوجئ بنجاحه بمجموع يؤهله لدخول كلية الهندسة. كانت فرحة أبيه لا توصف. ونجح ثروت بمجموع هزيل، إلا أنه فرح كما لو أنه حصل على المجموع النهائي، فما كان يأمل في شيء أكثر من النجاح.

د. حسين علي محمد
04/08/2008, 01:59 PM
ـ 30 ـ

ارتدى ثيابا جديدة، كأنه ذاهب إلى حفل عرس، كأنه هو الذي نجح. استقبلته ابتسامتها المتفائلة. ما أحلى كلمة " مبروك " حين يقولها حبيب لحبيب. ما أحلى القلب حين يرقص فرحا.
زادت فرحته حين زفت إليه بشرى الإفراج عن الشيخ محمود. كاد لا يصدق. طبع قبلة على جبينها، قائلا :
ـ حلاوة رجوع الشيخ بالسلامة..
زفت البشرى إليه بفرحة غامرة. أفرج عن الشيخ. أخيرا أفرجوا عنه، بعد انقضاء شهور عديدة وهو ملقى في زنزانة. قيل إنه عذب، وقيل إن اسمه دسّه حاقد، بينما هو لا يرتبط بأي تنظيم سري أو علني. قيل ـ أيضا ـ إن اسمه كان مكتوبا في مفكرة أحد المقبوض عليهم، فاعتبروه أحد رجالهم. العجيب أن الشيخ لم يتفوه بكلمة واحدة فيما جرى خلف القضبان. طوى الصفحة لا يريد فتحها. واصل قراءة كتاب الله العزيز وتدبر محكم آياته.. إلا أنه لم يعد يؤم المصلين في مسجد زيدان أو غيره من المساجد. اعتكف في داره، معتمدا على محل بقالة صغير، بدأ يزاول عمله فيه من آن لآخر. ابنه الكبير محمود ـ لا يتعدى عمره خمسة عشر عاما ـ بدأ يعلمه قواعد البيع وأسعار السلع.
احتضنه في شوق، وأنس بصحبته في داره. حكى له عن خطبته لنرجس فبارك الخِطبة، ثم استدرك :
ـ اكتفينا بقراءة الفاتحة، وأرجأنا كل شيء لحين الإفراج عنك. البراءة تعني الكثير يا أستاذنا..
قال الشيخ ممتنا :
ـ الحمد لله على كل حال. أخبروني أنك قمت بدور عظيم وأرهقت نفسك، وصرفت من جيبك الكثير..
ـ كله من خيرك. نحن ننتظر الوقت المناسب لك، حتى نحدد موعد عقد القران.
ضحك الشيخ :
ـ أأنت مستعجل ؟
ـ وبي شوق..
ـ إذن.. أنا جاهز في أي وقت من الآن..
طار بالخبر إلى أبويه، وإلى نرجس وأهلها. اتفق الجميع على موعد الحفل الخميس القادم، على أن يتم الزفاف بعد تأثيث بيت الزوجية.
دعا أصدقاءه فتحي وأمين وحمزة وعويس ورأفت ومحفوظ وغيرهم من الأهل والجيران والمعارف. كأن الفرح فرحان : عقد قرانه، والإفراج عن الشيخ دون إدانة.
اصطحب نرجس لأفخم محل لتختار أحلى الفساتين. اختارت له بدلة الفرح. اشترى أيضا الشراب والحلوى والملبس.. علقت الزينات في الطابقين الثالث والرابع، في سكن الشيخ وسكن العروس.. امتدت الزينات حتى ناصية الشارع..
أعجب الجميع بالرقص البلدي الذي أداه عويس مع إيقاع الطبلة ممسكا بالعصا، كأنه من أهل الصعيد رغم إنه وافد من بحري، ورغم حياته الحبْلى بالهموم. اعتلى المنصة مطرب الحفل، وأدى بعض المونولوجات الشائعة، والاسكتشات الفكاهية، ثم غنى أغنيتين للعروسين. عقد المأذون القران وسط زغاريد النسوة وتهليل الشباب. أصر الشيخ محمود أن يكون أحد شاهديْ عقد القران. تلازم الأستاذ فريد والأسطى حسين معا، كما تلازمت والدتيْ العروسين أيضا. عم البشر الجميع. أما حمزة فقد قام بنفسه بتوزيع أكواب الشربات، وأطباق الحلوى، كما قام بالترحيب بالمدعوين كأنه والد العريس أو العروس. هو لا يجد ضيرا في هذا، إذ يرى لزاما عليه أن يعتبر نفسه من أصحاب الفرح ويؤدي واجب الحفاوة بكل الذين شرفوا الحفل. ساعده عويس في التوزيع. اتجه حمزة إلى الركن الذي يجلس فيه أمين وفتحي وقال :
ـ عقبى لكم يا شباب.. إن شاء الله..
تقاطر إلى الحفل أصدقاء ومعارف وجيران الشيخ مجددين التهنئة بالإفراج عنه، مباركين العرس..
انطلقت الزغاريد حين بدأت أم العريس تفتح علبة الشبكة وعرضها عليهم، ثم بدأ في تطويق عنق أحلى البنات بسلسلة ذهبية تتدلى في وسطها تحفة ذهبية مربعة منقوشا عليها " ما شاء الله "، ثم طوّق ذراعها بالغوايش. أخيرا تناول الخاتم ووضعه في إصبع السبابة مع الدبلة.
كان الفرح فرصة للمعلم سيد سبرتو ليقف على ناصية الشارع مرحبا هو الآخر بالمعازيم، دون تفويض من أحد. جلس على مائدة العشاء حين ألفى مقعدا وحيدا خاليا فاعتبره مجهزا له ! قام بالواجب وأكثر. أما عويس، فقد استطاع معالجة هزال جسمه، بأن جلس على مائدة العشاء، بدعوة كريمة من مصطفى، له ولحمزة، ودعا معهما فتحي وأمين. كما نال عويس حظه مرة ثانية حين دعاه الأسطى حسين ظنا منه أنه من معارف ابنه، فلبى الدعوة سريعا واتجه إلى المائدة.. بعدها لم يجد مكانا يضع فيه الطعام، حتى قطع الحلوى اعتذر لمن يقدمها له. التقطت أذناه ما قاله الشيخ محمود الجالس بالقرب منه لأحد المدعوين، عن حديث للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأنه من الواجب على المرء ألا يملأ أكثر من ثلث معدته طعاما، ويترك الثلث الثاني لشرابه، والثالث لنفَسِه. انزعج عويس حين سمع الحديث الكريم، حيث بدا أنه أكل وملأ المعدة بالثلاثة أثلاث وزيادة !!
قصد عويس معالجة الأنيميا الحادة التي عانى منها منذ الصغر، ووفد بها من قريته " ميت نِمَا ". لاحظ حمزة هذا فقال له :
ـ كفى ما أكلت وشربت..
ـ أصل مصطفى غالي علينا..
ـ إن كان حبيبك عسل....
ـ يا عم حمزة، هذه ليلة العمر. الأكل والشراب كثير والحمد لله..
ـ عقبى لك يا عويس..

د. حسين علي محمد
04/08/2008, 02:00 PM
ـ 31 ـ

وصلت بطاقة ترشيحه لكلية الهندسة جامعة عين شمس. توجت البطاقة كفاحه وإصراره على تحقيق أمنية غالية، فقد أصر على إعادة السنة، ليحصل على مجموع يتناسب مع طموحه. تهللت الفرحة في وجه أبيه، الذي رأى في دخول ابنه الهندسة انتصارا له. زف الخبر إلى زملائه في العمل، ووزع عليهم المشروبات، حلاوة النجاح. كما زف الخبر إلى رؤسائه المهندسين، قائلا لهم إن ابنه التحق بالهندسة. هنأه الأستاذ شفيق، وقال له إن مارسيل التحقت بالكلية نفسها. توجه فتحي إلى أستاذه بشبرا، يهنئه ويهنئ مارسيل. سارع بالتهنئة حيث وجدها فرصة لرؤيتها. حمل معه علبة شيكولاتة. جلسا بشرفة البيت وحدهما. كانت مارسيل رقيقة كالنسيم الهادئ، جميلة كأفروديت.. رقبتها المديدة تشي بطابع الجمال الفرعوني، وشعرها المنسرح يشي بالشعر المغسول بماء النيل. قدمت مريم شربات المانجو. قالت مارسيل :
ـ سمعت من أبي أنك كنت مريضا أثناء الامتحان..
ـ لا شك أن أبي أخبر كل من في المصلحة..
ضحكت. أكمل :
ـ كانت أياما عصيبة..
واسترسل يحكي أيام الصراع مع المرض وكيف كان يذهب إلى لجنة الامتحان وحرارته 39 درجة، بما يوحي لها أنه بطل يصارع المرض ويحصل على النجاح بنحت الصخر ! روى لها إعجاب المراقب بموضوع التعبير، وشد أزره.
توجه من شبرا إلى عمته ببولاق أبي العلاء. زف إليها الخبر السعيد، فاحتفت به على طريقتها، بأن أعدت له عزومة عشاء فاخرة، ونقدته مبلغا محترما من المال، لم يحلم به في حياته، وأطلقت الشغالة الزغاريد.
لأول مرة يحتضنه أبوه هذا الحضن الدافئ الممزوج بفرحة غامرة. لقد عوض الله صبر رجب خيرا. التف الأخوات حوله، بينا يمسك بيد أمه يقبلها.
لم ينسَ في غمار البهجة صاحبه أمين. من الواجب زيارته. سارع إليه عابرا القنطرة المصنوعة من ساقيْ نخلتين، إلى المنيرة الغربية، مجتازا سكك حديد صوامع الغلال. أخبره أنه التحق بمدرسة معاوني الحركة التابعة لمصلحة سكك حديد مصر. هذا أقصر طريق للتخرج والعمل بعد ستة شهور من الدراسة والتدريب. ليس أمامه حل سوى هذا. إنه في حاجة إلى المال ليساعد نفسه أولا، ويساعد أباه المريض. شد من عزمه قائلا :
ـ يمكنك إعادة قيد بالثانوية العامة من المنازل. لن تخسر شيئا من المحاولة..
أومأ بالصمت. قال :
ـ من الصعب المذاكرة من جديد، لرابع مرة..
ـ حاول..
في البيت، انتظرته مفاجأة أخرى، إذ زارتهم أم ليلى وفي صحبتها ابنتها لمياء، التي كبرت وأصبحت في قوام ليلى. هنأته بالنجاح والتفوق. تذكر حبيبة القلب ليلى. أين هي الآن ؟
سأل في جرأة لا تواتيه كثيرا :
ـ كيف حال ليلى ؟
أجابت :
ـ بخير.. لم تزر مصر منذ سفرها للكويت..
صمتت قليلا، وتناولت من أمه عصير البرتقال.. فكررت التهنئة، مرتين، مرة بالنجاح والثانية بدخول الهندسة.. ثم التفتت لفتحي قائلة :
ـ أنجبتْ تامر..
كأنها تصدمه. كأنها تخبره أن ليلى لم تعد لك. ليلى زوجة رجل آخر. ليلى أم...!
كل النجاح الذي حققه، لا يساوي شيئا أمام نظرة حانية من ليلى. إنه قزم. يتردد بين جنباته صوت مناوئ بأن ليلى صفحة طويت. عليه أن يقر بذلك، ويلتفت إلى مستقبله. ها هي مارسيل لؤلؤة تتلألأ في عينيه.. لكن.. قصتك معها ليست لها نهاية مريحة. لن يوافق أهلها على ارتباطه بها. اختلاف العقيدة لا يعترف بهوى القلوب. شرد طويلا إلى أن تنبه إلى أم ليلى تضاحكه وتكرر التهنئة وتهم بالاستئذان، وتتركه يطوي في ألم صفحة الماضي القريب.
أهاجته الذكريات عن ليلى. فتح كراسة اليوميات. أخذ يقرأ التواريخ، والموضوعات التي كتبها عنها. إنها تحتل مساحة كبيرة من يومياته. فتح صفحة جديدة كتب فيها تاريخ اليوم، وتحدث عن زيارة أم ليلى وما خلفته في نفسه من أحاسيس الوجد والجوى. زاحمتها بنات كثيرات، لكنها الملكة المتوجة، المتربعة على عرش قلبه. شده الحنين إليها. كانت الكتابة متنفسا طبيعيا.. يطفئ مصباح الغرفة، ينام، فتراوده أحلام عن ليلى تناديه من الحديقة، فيطرب لسماع صوتها الحبيب !
أما حمزة، فقد أقام له حفلة متواضعة أحياها ترانزستور عويس، الذي شدت فيه كوكب الشرق بأحدث أغانيها. حضر الحفل المتواضع أمين ومصطفى وجابر ومحفوظ. حضر سيد سبرتو واقترح أن يشارك بزجاجات بيرة على حسابه. لكن الحاضرين تشككوا في أنه سيدفع مليما واحدا. ربما كان مقلبا من مقالبه، ويضطر حمزة المغلوب على أمره تسديد ثمنها لعم توفيق. علاوة على ما أفتى به مصطفى من أن شرب البيرة حرام. الذي يسكر كثيره فقليله حرام.
لذا، أعرض عنها الجميع، تنازلوا عن الكرم الحاتمي غير المسبوق، وارتضوا أكواب الشاي، إلا أن مصطفى فاجأهم بنوبة كرم حقيقية، إذ استأذنهم وعاد بلفافة كفتة وطرْب وسَلَطة وعيش، فأكلوا حتى شبعوا..
صاح عويس في الآكلين :
ـ على مهلكم.. أصل أنا يتيم الأم وأكلي بطيء..
بادره مصطفى بعمل سندويتش إضافي له قائلا :
ـ هذا تكملة لنصيبك..
أخذ السندويتش، ونهض يعدّ براد الشاي. ولما عاد المعلم سبرتو كانت الوليمة قد انفضت، فأصر مصطفى على أن يحضر لفافة خصيصا له، انتحى جانبا وأتى عليها، ثم قصد ثلاجة عم توفيق.

د. حسين علي محمد
04/08/2008, 02:00 PM
ـ 32 ـ

فجر الاثنين التاسع والعشرين من أغسطس 1966 ـ الثالث عشر من جمادى الأولى 1386 ـ أعدم سيد قطب إبراهيم، المولود في التاسع من أكتوبر 1906 في قرية " موشه " بأسيوط. خريج قسم الآداب بكلية دار العلوم بالقاهرة عام 1933. اتهم بتكفير المجتمع. قرأ الناس الخبر في الصحف، وتباينت الآراء. هل يجوز إعدام من نختلف معهم ؟ بعض رجال الدين قالوا إنه مخطئ، والبعض قال غير ذلك. قال نفر من العامة :
ـ أعدم لأنه من الإخوان المسلمين..
قال آخرون :
ـ انحرف بفكر الجماعة عن جادة الطريق..
قال واحد من الناس :
ـ لو لم يكن إخوانجيا، ما حوكم..
رد عليه صاحبه :
ـ الله أعلم..
اختلف الناس فيما بينهم..
ـ إنهم يحاربون التنظيم الذي يخطئ الحاكم..
قال شاب لصاحبه :
ـ يا أخي.. هل نحمل همّ شيخ أعدموه ؟ ليس الوحيد الذي نصبت له المشنقة..
مصطفى الذي اهتز لخبر الإعدام، هرع إلى الشيخ محمود، طالبا الرأي والمشورة إذ تبلبل فكره واحتار في أمره.. قال لشيخه :
ـ لو أعدمنا كل من يختلف معنا، لأعدم الآلاف، وصمتت آلاف أخرى عن الكلام..
ـ الإعدام لاختلاف الآراء ليس أسلوبا حضاريا..
اتكأ على مسند المقعد وأكمل :
ـ لكي أبسط الأمر.. سيد قطب دعا إلى تكفير المجتمع، مما رأت الحكومة أنه يشكل خطرا على نظام الحكم. الخلاف ظهر في أن سيد خطّأ رجال الحكم في بعض الأمور.. النقطة التي أعارضها أن يكون الموت جزاء المخالف.. في هذا أتفق معك. ذلك أن إعدام المفكر، قد يكون لترجيح آراء سائدة في عصره، يثبت بعد ذلك خطؤها. وبذلك لا نستطيع رد الظلم عنه.
قال الشيخ محمود لمصطفى :
ـ لا ندّعي له العصمة من الخطأ.. عنده من الأخطاء مثل ما عند غيره. لم تحُلْ أخطاء ابن حجر والنووي وابن الجوزي وابن حزم وغيرهم من أبناء الأمة من الاستفادة بفكرهم..
قال مصطفى :
ـ هم أئمة...
أكمل الشيخ :
ـ إلا فيما وقعوا فيه من أخطاء..
اقتنع بمنطقه، لكنه أبدى اعتراضا...
ذكره الشيخ بآلاف الشهداء في فلسطين والجزائر ومصر وغيرها، وهم يحاربون الاستعمار.. ذكره بالزعيم الليبي عمر المختار الذي أعدمه الجيش الإيطالي ولم يرحموا شيخوخته.
الاتجاه السائد عند بعض الناس أن سيد مارق. أخطأ في حق أمته، وهدد أمن بلده ! الاتجاه السائد ألا يتجادل الناس فيما قررته السلطة لمصلحة الوطن وأمنه. تحمس فتحي لما تحقق من مكاسب اشتراكية، أدت إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتذويب الفوارق بين الطبقات. يتردد داخله صوت عن حال أبيه الموظف البسيط، الكادح من أجل توفير لقمة عيش كريمة لهم. ترى.. هل تجاوزته التغييرات ؟ أم أن كثرة عياله سبب في سوء حاله ؟ عارض أمين الاشتراكية. دارت بينهما معارك كلامية لم يصلا فيها إلى حل يرضيهما. يرى أمين أن الإسلام خير داع للتكافل الاجتماعي، اشتراكية الإسلام أرقى من الاشتراكية القادمة مع الرياح الشيوعية. أما فتحي فقد دفعه حبه للزعيم إلى التمسك بالاشتراكية كحل حتمي يحمي الفقراء من بطش الأثرياء. أما حمزة فقد رفع صوته الأجش متحمسا :
ـ عبد الناصر زعيم وطني.. حرر البلد من الاستعمار، وأمم شركة قناة السويس، ودعا إلى الوحدة العربية..
انضم فتحي إلى حمزة في الدفاع عن الزعيم الذي قاد ثورة بيضاء.
قال عويس في انحياز كامل للرجل الذي آواه :
ـ يسلم فمك يا عم حمزة..
احتبست الكلمات التي يريد أمين قولها. إنه لا يقوى على مواجهة هذا الحماس الجارف.. قال في إيماءة غير حاسمة :
ـ ليس بالحماس وحده...
ثم سكت. قال فتحي :
ـ لابد أن تتوحد كلمتنا وتتحد إرادتنا..
قال أمين في نبرة عالية، بعد أن استمد شيئا من الشجاعة :
ـ لابد من حرية الرأي..
رجع فتحي إلى بيته مبلبل الخاطر، مشتت الفكر. يراجع نفسه. يرى فيما قاله صاحبه بعض الحق الذي ينبغي التمسك به. لكنه معجب ـ في الوقت ذاته ـ بحماس حمزة. فكرتان تتجاذبان خاطره. لكل منهما وجاهتها ومنطقها. فهل من طريقة تجمع الميزتين في ماعون واحد ؟!
توحيد الكلمة وحرية الرأي.. كيف يجتمعان ؟

د. حسين علي محمد
04/08/2008, 02:01 PM
ـ 33 ـ

بعد أن أطعم حماره من زكيبة التبن، واستسقاه، ربطه في ذراعيْ العربة الخشبية، وجهز نفسه لرحلة يوم جديد، بعد أن منع حميدة من مصاحبته، حتى لا يتسبب في إرهاقها..
ـ من اليوم، الزمي البيت.. صحتك أهم..
ـ طيب.. خذ بالك من نفسك..
أوصته :
ـ لا تنسَ قراءة الفاتحة وأنت تمر على سيدي إسماعيل الإمبابي..
ـ طبعا..
في الطريق، مر على حمزة يقرئه السلام. فوجئ بجابر يأتي بمفرده. قفز عويس جالسا على العربة قائلا :
ـ بالإذن يا عم حمزة..
ابتسم قائلا :
ـ بالمرة اشترِ لنا خضارا..
مشى من نفق المنيرة، مستديرا يسارا إلى شارع المحطة، مارا بالضريح.. فنزل ودعا الله أن يعين حميدة في حَمْلها، وقرأ الفاتحة. لم ينس أن يضع في صندوق النذور ما تجود به يده.
كان عويس رفيق طريق، ارتاح إليه كثيرا. شاغله بأحاديث مرحة. ولما سارا على كوبري إمبابة، سد أذنيه لدي سماعه صفارة القطار، وارتعب من هزات الكوبري أثناء سير القطار.. ضحك جابر :
ـ الله يجازي شيطانك.. أأنت تخاف من خيالك، أم قلبك خفيف ؟
ساعده في حمل أقفاص الخضر والفاكهة. كان خفيف الحركة سريع البديهة. وفي رحلة العودة لم ينسَ البلح الأبريمي الذي تحبه حميدة، واشترى لعويس قرطاس جميز. واصلا رحلة العودة، وقد بدأت أشعة الشمس تقوى وتلهب الجلد.
ـ انشرح قلبي لما شفتك. أحس أنك جئت بالخير كله..
ـ الله أعلم..
ـ يا ليت سمّوك مسعد..
ـ أنا ولد نحس.. كلما مشيت في طريق، ألقاه مسدودا قدامي...
استرسل يحكي عن قريته " ميت نِمَا " وحياة الجحيم مع زوجة أب لا تطيقه. تدبر له المكائد حتى يقسو عليه أبوه. لم يجد حلا سوى ترك القرية والنزوح إلى القاهرة. دون أن يعلم أحد عنه شيئا. افترش الأرصفة يبيت عليها مع المتشردين والخارجين عن القانون. حتى التقى المعلم سيد سبرتو، الذي عرض عليه أن يؤويه عند حمزة، نظير دفع إتاوة. رضي بشروط المعلم الذي أفهمه أن ما يدفعه له أجرة المبيت. ارتاح لعم حمزة.. دمعت عيناه وهو يقول:
ـ وجدت فيه أبا حانيا..
توقف جابر بعد عبوره الكوبري، واستظل بشجرة، بعد أن وضع جوال التبن للحمار. جلسا. استكمل حديثه عن استغلال المعلم سيد. ليس له من وسيلة إلا المبيت عند عم حمزة، حتى يدبر عملا وسكنا. قال جابر :
ـ حمزة مبسوط منك..
ـ أنا مستعد أخدمه بعينيّ مقابل مروءته..
قال جابر ضاحكا :
ـ وما حكاية الترانزستور ؟
ـ هو أمانة عنده.. لم أجد مكانا آمنا غير بيته..
شرد قليلا ثم قال :
ـ عند ما هربت من القرية، أخذت ملابسي وحاجياتي الشخصية، والترانزستور..
ـ وماذا عن أبيك ؟
ـ أشك أنه يبحث عني..
ـ لِمَ ؟
ـ ربما فرح برحيلي. فقد حلت المشكلة التي كانت تؤرقه، وخلا الجو له ولزوجته..
ـ أليس لها أولاد ؟
ـ اثنان.. طفل عمره ثلاث سنوات، وطفلة لا يزيد عمرها عن سنة واحدة..
نهضا ليواصلا رحلة العودة إلى حمزة ثم إلى سوق المنيرة، حيث يقف جابر لبيع الخضر والفاكهة، يساعده ـ في هذه المرة ـ عويس. وفي العصر، أعطاه أجره، فعاد إلى عم حمزة شاكرا ربه..

د. حسين علي محمد
04/08/2008, 02:02 PM
ـ 34 ـ

دخول الجامعة بالنسبة له بداية حياة جديدة، كما كتب في يومياته. رأى أن الحياة تبتسم له، تعطيه ما يتمنى. في اليوم الأول، حرص على لقائها وإعطائها جدول المحاضرات. عرّفها برقم الفصل الخاص بها، أو " السيكشن " كما يطلقون عليه بالإنجليزية. تجولا في أرجاء الكلية. تعرفا على شئون الطلبة والمكتبة وغرفة العميد وغرفة الوكيل، ومدرج فلسطين المخصص لطلبة إعدادي. ربما كانت الكلية في القديم قصرا أثريا. في المدرج، جلست مارسيل في الصف الأول، صف الطالبات. آثر فتحي الجلوس في المنتصف، حيث تعرف على زميله القادم من بني سويف. حسان ودود بطبعه صريح القول. تآلفا سريعا، وتصادقا..
تباعدت اللقاءات بين فتحي وأمين.. فقد انصرف الأخير في دروس مدرسة السكة الحديدية، ترقبا للوظيفة، لعله يرفع عن والده المريض مشقة مصاريفه الشخصية، ويعاونه في الأحوال المعيشية. انشغل فتحي بالدراسة الجامعية. لكن التباعد ليس مرغوبا فيه. ففي نية كل منهما تدبير لقاء قريب.
قنع ثروت بالالتحاق بمعهد زراعي. صلاته بفتحي شبه مقطوعة.. وانشغل مصطفى بنرجس، وتأثيث بيت الزوجية، على أمل تحديد أنسب موعد للزفاف..
كلما زارها، مر على شيخه وجلس إليه في لقاء سريع يستزيد فيه من علمه الواسع. بحكم ترتيب الأدوار، كان يمر على شيخه أولا ثم يثنّي بها. قالت تداعبه :
ـ أتمنى أن تبدأ من الدور الرابع..
ـ أمرّ على شيخي دقائق قليلة، وأجعل زيارتك مسك الختام.
ابتسمت وطلبت من الشغالة إعداد عصير الليمون.
تتحول حياتهما من حسن إلى أحسن. ساعدهما التفاهم المشترك بين الأسرتين، والنوايا الحسنة التي لم تشبها شائبة. الكل يرجع ذلك إلى بركة الشيخ التي حلت عليهم. نرجس زاد تألقها وأشرق وجهها أكثر فأكثر..
حين أرادا تحديد موعد الزفاف، اقترح أن يتم بعد ذكرى المرحومة. لم يبق عليها سوى ثلاثة أسابيع.. وجم الاثنان وجمدت ملامحهما. رجعا إلى اللحظة التي فارقتهما سعاد. هي الحبيبة والأخت والصديقة. هي الحياة الجميلة التي افتقداها. شرعا يقرآن الفاتحة على روحها الطاهرة. قال مصطفى :
ـ لا شك أنها في ضجعتها الأبدية راضية عن زواجنا. كانت أمنيتها أن أقترن بك..
أمسكت بيده، ضمتها في راحتيها. شفتاها المرتعشتان تؤكدان في صمتهما أن لا انفصال بينهما إلا بالموت. انهمرت دمعتان فمسحهما بالسبابة..
ـ الله يرحمها.. سنحيي الذكرى ليلة وفاتها، أول نوفمبر إن شاء الله.. أصر الشيخ محمود أن يتلو القرآن بنفسه.
خفضت رأسها ناظرة إلى أصابع قدميها :
ـ تعش وتفتكر..
أصاب حميدة بعض الآلام فهرع بها إلى المستشفى. قالوا إنها في حاجة إلى راحة تامة وأعطوه أدوية. رجع بها إلى البيت ورجاها ألا تتعب نفسها في شغل البيت. قالت وهي تتوجع :
ـ الشقة تحتاج إلى تنظيف..
ـ الراحة مطلوبة، لأجل صحتك والجنين في بطنك..
ـ حاضر يا جابر..
ـ لا داعي تقلقي أباكِ.. يكفيه همومه..
ـ حاضر..
تردد فتحي وهو يسير وسط الملاهي والألعاب وطاولات البخت التي نصبت في ذكرى إسماعيل الإمبابي. أحس أن وضعه الجديد كطالب جامعي يمنعه من ارتياد أماكن اللهو الرخيص. استرجع ما رآه في العام الماضي. تاق لرؤية الراقصة توحة، ومسرح حمام العطار، والعوّاد الذي قيل إنه كان يعمل في فرقة بديعة مصابني، وصاحب الاسكتشات الفكاهية والنوبي المتضايق دائما من حماته. ألعاب البمب والنشان، بائع الطراطير، كشك الحلاق الذي يجري عمليات الختان للأطفال. بائعو الحمصية والسمسمية والملبن. عربة سندوتشات الجبن والكبدة والبيض والبسطرمة. الفتاة التي ما إن تمسها لمبة الفلوسنت تضيء. عالم عجيب خليط من أشكال وألوان قد لا تتفق فيما بينها. شده العالم الغريب، جاس وسط زحمة المولد، يتفحص وجوه الفقراء البسطاء.. منهم من جاء من قرى بعيدة وافترش الرصيف الملاصق للمقام وعلى امتداده، حاملا معه أواني الأكل والشرب، وحصائر القش مبسوطة على الرصيف، فرشت عليها مخدات وأغطية. حلقة الذكر والمنشدين يلتف حولها النساء والرجال والأطفال. سرت في بدنه رجفة دفعته إلى مسرح حمام العطار. نفس الرجل يعرض بصوته الهادئ ما عرضه في العام الماضي قضى على تردده، وشق لنفسه طريقا مع الداخلين. اقتعد كرسيه وهو يعجب لدوران العام بسرعة، كأن العام انقضى شهرا في حساب الزمن ‍‍! تذكر ثروت وارتياده الملاهي. هو يتعرف على المكان بدافع الفضول. لا ينكر أن الراقصة شبه العارية تجذبه. تحير في أمره. إنه يتصرف بدوافع لا يرضى عنها. إنه ينتصر للفضيلة، لكنه ـ في الوقت نفسه ـ لا يمانع في رؤية ما يراه بعض الناس من صنوف اللهو، حتى يصدر الحكم بنفسه. لا ينكر أن الكبت يدفعه إلى التحرر من قيود المجتمع.. لذا، يذهب إلى الملاهي والسينما ـ يشاهد أفلاما معينة ـ ولا يذكر شيئا من هذا لأقرب الأقربين منه. أمين مثلا، أخلص أصدقائه، لا يقول له إنه دخل مسرحا أو ملهى أو سينما.. تعيش بداخله شخصية تتناقض في سلوكها مع طبيعته التي يحب أن يظهر بها. منتهى التناقض. دفعه الارتباك إلى الصمت. الرقصة التي يشاهدها تكرار للرقصة التي شاهدها منذ عام. بدلة الرقص هيَ هي لم تتغير. الفرقة الموسيقية التي تصاحب الراقصة، الوجوه والملابس والآلات نفسها.. لا جديد.. الجديد الذي لم يفعله، أن يخرج من الشرنقة التي حبس نفسه داخلها، أن يمزق الأقنعة ويبدو بمظهره وواقعه، لكنه لا يستطيع.

د. حسين علي محمد
04/08/2008, 02:02 PM
ـ 35 ـ

الشغالة التي أحضرها عويس لتخدم في بيت أسرة ثروت، هربت بعد اتهامها بسرقة المجوهرات. أشاع ثروت الخبر لفتحي وآخرين، وادّعى أنها من بلده " ميت نما "، وترضى بقليله. لم يمض أسبوع حتى تركت البيت وهربت غانمة بما سرقت. قال ثروت إن أخاه حرر محضرا ضد عويس والشغالة التي لا يُعرف لها مكان. هرع إلى بيت حمزة عند أول النفق. صارحه بالتهمة. أقسم بأغلظ الأيمان أنه لا يعرف لها عنوانا. وجدها تتسول في السوق فرأف بحالها، ورحب أهل ثروت بها.
قال فتحي :
ـ ألم تقل لثروت إنها من بلدك ؟
ـ قلت هذا حتى أطمئنه..
صرخ بأعلى صوته :
ـ فتحت صدرك لسارقة، وادعيت أنها من بلدك. ستقبض عليك الشرطة.
قال حمزة والضيق يشتعل في صدره :
ـ يا عويس.. أريد الابتعاد عن سكة ثروت وعائلته. أنت غاوي مشاكل ؟
تنهد مستطردا :
ـ القصد.. أنت تقب وتغطس وتعثر عليها.. ما اسمها ؟
ـ عزيزة..
ـ تحضر عزيزة من تحت الأرض، حتى تنفذ بجلدك من محضر الشرطة، وإلا تكون متواطئا معها..
ـ ما معنى متواطئ ؟
ـ يعني شريك في الجريمة يا فالح..
ـ يا نهار ما طلعت له شمس..
قال فتحي :
ـ ضروري تبحث عنها، وإلا ستقبض الشرطة عليك وعلى حمزة الرجل الطيب الذي يؤويك..
ذرع السوق جيئة وذهابا بحثا عنها. سأل البائعين والتجار والشحاذين الذين يفترشون الأرض الترابية باسطين أيديهم. المشكلة التي واجهته أن عزيزة لا يعرفها أحد. يبدو أنها حديثة عهد بالشحاذة. هو لم يرها إلا في هذا اليوم، فصعبت عليه. أحب أن يسدي لها معروفا، بعد أن قصده ثروت في شغالة، فوعده أن يحضر له فتاة أمينة على البيت الذي سوف تخدم فيه.
اتجه إلى فلاحات يفترشن الأرض وأمامهن المشنات الخوص مليئة بالبامية والملوخية والكوسة وغيرها من الخضر. سأل بائعي الكرشة والفشة والبمبار. سأل بائعي لحم الرأس والمخ والكبدة. سأل الفرارجية والعلافين والعطارين والجزارين. لم يدله أحد عليها. حدث نفسه : " ما الحل إذا لم تجدها ؟ ". أجاب لتوه : " سأرضى بنصيبي وأسلم نفسي للشرطة، وأبعد الشبهة عن الرجل الطيب الذي أدين له بالفضل". سينام في السجن المظلم مع اللصوص وأرباب السوابق المختلفة، ويفترش الأرض. ما عليه من كل هذا، إنه اعتاد البهدلة والهرجلة. اطمأن إلى أنه في السجن سيعطونه طعاما. ربنا لا ينسى عباده. في السجن، لن يسأل عنه أحد. هو مقطوع من شجرة. هاجس يؤكد له أن حمزة رجل شهم، سيأتي له بالطعام من حين لآخر، ويعوض له أكل المساجين. حمزة معجون بالمروءة والشهامة. التقى عددا من البنات، كل واحدة يجد نفسه غير متأكد من أنها عزيزة، جلابة المشاكل. قد تكون إحداهن، لكنه غير متأكد. حدث نفسه : أنت ناقص حيرة.. عيشتك كلها قلق وحيرة. كلما استقرت بك الأحوال، تفاجأ بمصائب تنزل عليك كالقضاء المستعجل. ذرع السوق ـ من جديد ـ ذهابا وجيئة، والشوارع الضيقة المتفرعة منه. التقى خمس بنات في مثل سنها، ولم تواته الشجاعة في التحدث إليهن. غاب عنه شكلها وملامحها. اضطر للرجوع إلى حمزة بخفيْ حنين، مسلما أمره لله، فالسجن داخله لا محالة..
عاد إلى حمزة مطمئنا إياه بأنه سيعترف أمام القاضي بأن عزيزة من طرفه، وأنه مسئول عن تصرفاتها. أنهى كلامه قائلا :
ـ أما أنت يا عم حمزة، فأنت لا لك في الدور ولا في الطحين..
قال وقد صعب عليه حاله :
ـ أنت ؟ مسئول عن تصرفات عزيزة ؟ أنت حالك يصعب على الكافر.. ليس لك في الدور ولا الطحين.. أنت تفتح صدرك دون ذنب جنيته..
ـ أنا الذي أتيت بعزيزة...
هلع الاثنان بطرق عنيف مفاجئ، تقافز عويس بحركة سريعة تنم عن الفزع، استند إلى حافة السرير، بحيث لا يراه الداخل إلا إذا نظر إلى أركان الغرفة كلها. فتح حمزة الباب فإذا بفتاة تصرخ في حدة :
ـ أين عويس ؟
ـ من أنتِ ؟
ـ أنا عزيزة..
ضرب حمزة كفا بكف من المفاجأة عير المتوقعة، قائلا لعويس :
ـ جاءت برجليها..
ـ أريد حقي من عويس، عديم الضمير والأخلاق..
اتهمت عويس في أخلاقه. ما الحكاية ؟ أهو لغز ؟
واجهها عويس بحدة :
ـ أين المجوهرات التي سرقتها ؟
انخرطت في بكاء متواصل مصحوب بنشيج، ثم قالت :
ـ سرقتها ؟.. عيب.. نعم أنا بنت فقيرة وعلى باب الله، لكني شريفة. اسأل صاحبك عديم الشرف والأخلاق ماذا فعل...
قال حمزة متلهفا :
ـ ماذا فعل ؟
حكت حكاية ثروت الدنيء الذي حاول الاختلاء بها، فلكمته في صدره، وتملصت منه. هربت من البيت مضحية بتعب وشقاء أسبوع خدمة دون أن تتقاضى مليما واحدا..
صمتت قليلا، ثم أكملت :
ـ أول ما التقيت عويس، جريت وراءه، كي آخذ حقي منه..
فرح حمزة ببراءة عزيزة. إنه يشك في سلوك ثروت منذ رآه يختلي بفتاة أسفل النفق، مما حدا به إلى ضربهما بالعصا الطويلة..
قال عويس :
ـ أتصدق ما تقوله عزيزة، بعد ما لهفت الذهب ؟
أطبقت على زمارة رقبته. كاد يلفظ أنفاسه. قطعت عليه سبل المقاومة، أو حتى أخذ النفَس. كل ما استطاعه أن يحوّل عينيه إلى حمزة يستنجد به. جاهد كي يخلصه من الخناق الملتف حول رقبته، لكن قبضتيها أمسكتا بشدة..
صرخ فيه :
ـ بطل هبَل.. البنت دمها حر. واضح أنها صادقة في كل كلمة قالتها..
استراحت لما قاله حمزة. أنهت الضغط المميت على رقبته. أكمل حمزة :
ـ لو حصل قضية ومحكمة، سأدافع عن عزيزة بما أعرف عن ثروت، وأدفع للمحامي ما يريد من أتعاب..
انتقلت حكاية عزيزة من لسان لآخر، ووصلت إلى مصطفى، الذي انتفض لما سمع، هرع إلى صبري ـ شقيق ثروت ـ يحذره من مجون أخيه..
نمى إلى علم الفتوة حكاية عزيزة. اشتكى له حمزة وعويس ومصطفى. عرفت بنفوذه فلجأت إليه تحكي ما حدث من طأطأ لسلام عليكم، فوعدها بإنهاء الموضوع. أحس الجميع بحاجتهم لسيد سبرتو يقف في صفهم في هذا الموقف، الذي تتهم فيه بنت بريئة. الكل يعرف أنه يجمع إتاوات ينفقها على نفسه وعلى رجاله.. لكنه ـ في نظرهم ـ يذود عن شرف أهل الحي ويدفع عنهم المكائد. بدأوا يتقربون إليه، ويرددون في أنفسهم : " إن جاءت على الفلوس، أمرها بسيط ".. المهم أننا نلجأ إليه حين نفتقد الأمان. يجمع الأموال، لكنه ضد السرقة وما يمس العرض والشرف. رأى حمزة في المعلم ملاذا آمنا، ورجلا يعتمد عليه في الشدائد والملمات.

د. حسين علي محمد
04/08/2008, 02:03 PM
ـ 36 ـ

بناء على رغبتها، خرج معها ليلة المولد، تزور المقام، تدعو الله أن ييسر الأمور، تكتمل فرحتها. انتفخت بطنها، أصبحت تشبه القربة التي يحملها بائع العرقسوس. بدأت تسير على مهل. تتحسس الانتفاخ. تأمل خيرا. تحلم به وهو يضحك. يتحرك داخل الرحم. يرفسها برجليه، تحلم به أيضا يخربش وجهها، يشد شعرها. تحلم به يحبو، يزحف، يقعد، يمشي.. يقول : أمي، أبي... تتحسس الانتفاخ وتأمل خيرا.. يحيط بها جابر وحمزة عن يمين وشمال، خشية الزحام.. يوسعان لها طريقا إلى المقام. لمحهما فتحي، توارى عن الأنظار سريعا. اندس وسط العشرات واتخذ طريقا منحنيا إلى مكان بعيد. فوجئ بمصطفى يصطحب نرجس. تعجبا للمصادفة التي جمعتهما. قال في تردد :
ـ أول مرة..
ـ هل معك أحد ؟
ـ وحدي..
كأن النظرات تلومه على المجيء بمفرده. تبادل مع مصطفى أحاديث مختلفة، ثم قال :
ـ نحن سنزور المقام، ونقرأ الفاتحة، ونصلي لله، ندعوه أن يحقق أمانينا..
حياهما. اختار أسرع طريق للعودة خشية أن يجد آخرين من المعارف والصحاب. لم يتوقع أن يصادف أحدا يعرفه. قصد أمين يكمل السهرة معه. بداخله مشاعر متضاربة عن الليلة الكبيرة. تريضا معا. دعاه إلى الفرجة على المولد، فرفض.. أكملا السهرة في مقهى الربيع. يلعبان النرد. ثم اتجها إلى الغرزة حيث يجلس عويس بمفرده، يستمع إلى أغاني أم كلثوم من جهازه الصغير. أعد لهما الشاي، قائلا :
ـ عم حمزة ذهب يزور سيدي إسماعيل الإمبابي هو وابنته وزوجها، اليوم الليلة الكبيرة..
ثم قال مبتهجا :
ـ المعلم الله يخليه أنهى الموضوع. اتضح أن السرقة افتراء وكذب. عزيزة بنت شريفة وبريئة.. منهم لله..
تعبت حميدة. أسنداها عند رجوعهم. الخطوات بطيئة. يبدو أن الزحمة أرهقتها..
رجع مصطفى ونرجس، وهما يتحدثان عن ترتيبات ليلة الزفاف، ليلة العمر. حددا موعدا الخميس القادم. اتفقت الأسرتان على الموعد. شقة الزوجية فرشت بأثاث بهيج. لم يتبق إلا الزفاف. ما أحلى هذا اليوم لقلبين عاشقين.
أنب فتحي ضميره. قطع عهدا على نفسه ألا يذهب إلى مسرح العطار مرة أخرى. هذا المكان لا يناسبه. لماذا يرتاده ؟ أمن أجل راقصة ترضي نزوة المشاهدة عنده، يضطر إلى الجلوس مع الحشاشين والعاطلين ؟ بدأ التأنيب يأخذ طابع الحدة. حدث نفسه أنه من الأجدى مقاطعة ثروت. إنه منحرف السلوك. يكفي ما حدث مع عزيزة. بدأ يكرهه. عليه الابتعاد عنه وإلا سيصبح منحرفا مثله. يود أن يتطهر من كل فعل دنيء ويسمو إلى الأرقى والأرفع. هذا ليس شعارا يهتف به، إنما إحساس صادق يتردد داخله، صورة نقية رسمها لنفسه. أبوه مكافح وأمه صابرة وأخواته مهذبات.. لماذا يكون سلوكه الخفي مشينا، بينا ما يجهر به ويظهره هو المبدأ والشرف والقيمة ؟ لا بد يا فتحي أن يكون مظهرك مثل مخبرك.. لا بد.. لا بد..
وأحس بقبضة يده تتكور ويدفع بها في الهواء، راغبا في فعل شيء ما..
مارسيل.. نقلته نقلة كبيرة من الانطواء على الذات، إلى الانفتاح على العالم. يكفيه أنه يلتقيها ويحدثها.. تبادله الحديث، تصادقه، تزامله.. مارسيل أصبحت عالمه الداخلي والخارجي. في كلماتها صدق. إنه يرسم لها صورة ملائكية. صارحها بأحواله المعيشية وطموحاته.. بدأت هي الأخرى تحدثه عن أسرتها، والصلوات التي تؤديها في الكنيسة. قال في حماس :
ـ كلنا ندعو الله.. نصلي له.. كلنا نعبد الله..
أردفت :
ـ الله محبة..
في جيدها تتلألأ السلسلة الذهبية، يتدلى منها صليب صغير..
تحير في نظرته. هل يمعن النظر في الصليب المتدلي إلى مفرق نهديها، أم إلى البريق المتلألئ في عينيها ؟
أتى النادل بعصير الليمون. انتقلت به إلى المحاضرات وحاورته في مسائل الهندسة الوصفية العويصة. حياهما أحد الزملاء. ذكرهما بمحاضرة الرياضيات قبل أن يغلق الدكتور باب المدرج، فأخبراه أنهما لا يرغبان في الحضور. استمرآ الجلوس في بوفيه الكلية، حيث يمتد الوقت بهما بامتداد وقت المحاضرة التي امتنعا عن حضورها!
اتفقا على الانصراف من البوفيه قبل انتهاء المحاضرة بربع الساعة. ستكون المواصلات أهدأ ويمكنهما الركوب بسهولة ويجد كل منهما مقعدا يجلس عليه. ثمة سبب آخر لم يعلناه، هو ألا يخرج الطلبة من المدرج، وهما ما زالا جالسيْن في البوفيه !
كالمعتاد، انتظر حتى استقلت السيارة العامة المتجهة إلى شبرا، ثم انتظر التروللي باس المتجه إلى إمبابة.
عندما انصرفت مارسيل، افتقد الحنان والرقة والمؤانسة. تشاغل في تأمل وجوه الواقفين بالمحطة. المحاضرة الثالثة لم تنته بعد. حضر التروللي باس. من الممتع والمريح أن تجد مقعدا خاليا تجلس عليه. تهادى التروللي بسرعته العادية. انشغل عمن حوله بليلة زفاف نرجس ومصطفى. أزف الموعد الذي حدده. احتار فيما يرتديه. ملابسه أصابها البلى. عند بدء الدراسة اشترى سروالا وقميصين. لديه بدلة متوسطة الحال، عمرها ثلاث سنوات. هي بدلته الوحيدة. بدأت تضيق على جسمه النامي. إنه في ورطة. يمكنه ارتداء معطف فوق القميص. تحير قليلا. قفز ذهنه إلى عمته الحبيبة. نزل عند محطة أبي العلاء. سار في شارع بولاق الجديد، قاصدا بيتها. رحبت به كعادتها. بدأ يراجع دروس أولادها في الابتدائي. أخبرها ـ في سياق الحديث ـ أن أحد أصدقائه سيتزوج الخميس القادم.. فهمت المطلوب. أوصته بارتداء بدلة جديدة. لكن الوقت لا يتسع للتفصيل عند الترزي، اقترحت عليه شراءها جاهزة. قالت تشجعه :
ـ الفلوس موجودة..
أعطته ما يكفي شراء بدلتين..
ـ هذا كثير..
استحثته على شرائها فورا من شارع فؤاد..
عاد إلى البيت محدثا أمه بلسان يلهج بالثناء على عمته. إنه لا يعرف كيف يسدد لها الدين. قال أبوه :
ـ عمتك صاحبة واجب، هي تقصد مساعدتك وتشجيعك..

د. حسين علي محمد
04/08/2008, 02:04 PM
ـ 37 ـ

اختفت عزيزة من السوق، كأنها فص ملح وذاب. بحث عنها في كل مكان فلم يعثر عليها. سأل عنها كل الشحاذين والشحاذات الذين قابلهم في منطقة المنيرة وما حولها. بحث عنها في سوق الجمعة، وسوق الجِمال يوم الثلاثاء، ومنطقة سيدي إسماعيل الإمبابي بعد انتهاء المولد. قالت له زميلتها إنها تركت إمبابة كلها، ولا تريد أن تطأ قدمها أرضها بعد ما حدث من محاولة انتهاك لعرضها، والطعن في شرفها. لم يدافع عنها أحد. أصر عويس على أن المعلم قام باللازم. وإن كان لا يعرف بالضبط ما فعل. قال له كبير الشحاذين، والكبير لقب أطلق عليه لكبر سنه :
ـ اسأل عنها في عزبة الصعايدة..
لم تطأ قدمه العزبة من قبل. دله الناس إلى الترعة الممتدة موازية لمصانع الشوربجي، المسماة " ترعة السواحل "، وقرب آخرها، يجد العزبة عن يمينه. سكن عشوائي. أقل في المستوى من مساكن المنيرة. لكن القاسم المشترك بينهما البناء دون تدخل المحافظة. برغم العشوائية التي يسير فيها، إلا أنها أحسن حالا من قريته " ميت نِمَا ".
تعد عزبة الصعايدة نموذجا صارخا للعشوائيات المنتشرة في بعض مناطق إمبابة. نشأت في البداية على يد أحد المهاجرين من قنا إلى القاهرة، الذي استوطن في بادئ الأمر جزيرة الزمالك، ثم تبعه أقاربه، وأقاموا مجموعة من العشش مما أدى إلى تشويه المنطقة. لم يتوقع أحد من الصعيدي المهاجر هذا التوسع الاستيطاني الأخطبوطي. تم نقله هو وأقاربه إلى إمبابة، وتعويضه بقطعة أرض كبيرة عام 1942. استولى هذا المهاجر على بعض الأراضي المحيطة وقام بتقسيمها إلى قطع صغيرة، أقام فوقها العديد من المباني بشكل عشوائي، واستدعى الكثير من أقاربه ومعارفه بالصعيد. قام بتأجير تلك المباني لهم ليضمن ملكية تلك الأراضي والعزوة والسند. وتكونت عائلات كبيرة في العزبة مثل " الصغير " و" الفراشطة "، نسبة إلى مدينة فرشوط بالصعيد، و " النصار " من قنا.. الذين عملوا جميعا بتجارة الجِمال والجزارة، ومنهم من أصبحوا ملاكا للمطاحن والمخابز والعمارات في المنطقة.
سأل أول فكهاني قابله فاستوضحه :
ـ عزيزة بنت مَن ؟
وجم. أردف مؤكدا :
ـ من أي عائلة ؟
هو لا يعرف اسم أبيها أو جدها أو أيا من أفراد عائلتها. انتابت الرجل سحب الريبة. لكنه تنفس دخان سيجارته، نافثا دخانها، قائلا :
ـ على أي حال، امشِ بحذاء الشارع الضيق، لحد ما يقابلك محل بقالة عم محمد، اسأله..
لم يكن عم محمد أحسن حالا من الفكهاني، وقع في الحيرة نفسها. أفهمه عويس أنها شحاذة في سوق المنيرة. قطع التردد قائلا :
ـ أحسن حل.. سرْ في العطفة المجاورة، ستجد شحاذا جالسا على الناصية. اسأله، يمكن يدلك..
بمجرد ما سأل الشحاذ عنها، نادى عليها. يبدو أنها تسكن بالقرب منه. تنهد في راحة. أخيرا استدل عليها. خرجت امرأة من بيت صغير، مدخله قبو مظلم. رنت إليه من تحت لفوق مستغربة. لكنه أكثر منها استغرابا. إنها امرأة في الأربعين. بشرتها لفحتها الشمس الساخنة، وسوّدها قهر السنين. ترتدي جلبابا أسود أميل إلى اللون الرمادي، تلف رأسها بمنديل أسود مغبر، حافية القدمين. قبل أن تبرطم بألفاظ مقذعة، أعطاها ظهره منصرفا، غير عابئ بالسباب الذي نثرته رذاذا في أذنيه !
صمم على أن يتجول بنفسه في دروب العزبة وأزقتها، ولا يسأل أحدا. قد يلتقيها أمامه.. وفي حارة ضيقة، لفت انتباه الناس من حوله. أوقفه أحد السكان مستغربا سلوكه، لا سيما أن عينيه تنظران في كل اتجاه :
ـ يلزم خدمة ؟
تشجع وسأل عنها. كان السؤال أكثر غرابة. تريث الرجل قبل أن يسأل :
ـ موضوع نسب يعني ؟
قال يريح نفسه منهيا تساؤله وفضوله :
ـ جائز.. كل شيء نصيب!..
حين سأل عن اسم أبيها، قال إنه لا يعرف. أدخلوه غرفة بالدور الأرضي، مرحبين به.. واثقين أنه جاء خاطبا عزيزة، لعله اقتفى أثرها حتى وصل إلى بيتها هنا!.. تورط في لقاء غير مقصود. لابد أن يجاري الأمور حتى يغادر المكان، وإلا ألصقت به تهم لا يتحملها..
سألوه كيف عرفها ؟ فأجاب بأنه رآها في سوق المنيرة. نظر كل إلى الآخر، أبواها وأخوها.. لكنهم عمدوا إلى تصديقه. ولما حلّ بهم صمت، سأل في جرأة يحسد عليها :
ـ أين عزيزة ؟
دخلت بنت السادسة عشر. نظر إليها أبوها شزرا قائلا :
ـ هذا الشاب رآكِ في سوق المنيرة..
أنكرت بشدة. عويس حائر. فعزيزة الصغيرة ليست هي الشحاذة المقصودة. وجد كثيرات باسم عزيزة. لكنها ليست واحدة منهن. غمز الرجل أباها مهدئا :
ـ كله يرجع للنصيب..
هدأ بالا..
استأذن عويس واعدا بزيارة ثانية بعد ما تعرف على البيت والأسرة..
ـ في الزيارة القادمة نتعرف على أهلك..
ـ إن شاء الله..
خرج غير مصدق أنه نفذ بجلده. اتجه إلى أقصر طريق يخرجه من العزبة عائدا إلى بيت حمزة، راويا له قصة أغرب من الخيال، عن عزيزة التي لم يجدها. وعن العزبة.. ضحك حمزة قائلا :
ـ ألم تخف أن يتتبعك أحدهم ويعرف سكتك ؟
هرب الدم من عروقه..
ـ كل شيء جائز.. المصائب تحلّ عليّ بالجملة..

د. حسين علي محمد
04/08/2008, 02:05 PM
ـ 38 ـ

أحيت الأسرة الذكرى السنوية لوفاة سعاد، حضرها عدد من الأقارب والجيران، وأصدقاء مصطفى، على رأسهم فتحي وأمين وحمزة وعويس.. استند حمزة إلى عكاز خشبي، صنعه مصطفى في الورشة خصيصا له. تلاوة القرآن من الشيخ محمود. حضر أيضا فريد وأخوه وزوجته ونرجس.
أرجأ مصطفى كل ما يتعلق بحفل الزفاف إلى ما بعد إحياء الذكرى بأسبوع. استأجر شقة بالقرب من سكن الأسرتين. وقام بطلائها، وتركيب اللوحات الفنية والستائر. لم يستغرق كل ذلك إلا أسبوعان..
اجتمع الوالدان لتحديد موعد الزفاف. اختار مصطفى أول خميس، ووافقه الجميع..
حفل الزفاف أمنية عمره. أتى بفرقة فنية، مطربا ومطربة وفرقة موسيقية، امتنع عن إحضار راقصة، بناء على توصية الشيخ..
في الحادية عشرة مساء، انتهى الحفل واستقل العروسان سيارة مزينة، إلى الأستوديو لالتقاط صور الزفاف، ثم قصدا شقتهما..
بعد أن انصرف فتحي وأمين، أكملا السهرة على مقهى الربيع. دار نقاش أثاره فتحي حول اقتراب امتحان الفصل الدراسي الأول.. أما أمين فقد تخرج في مدرسة السكك الحديدية وحصل على " الدبلوم ".. سيتسلم العمل معاونا لمحطة القنطرة شرق بعد أسبوع. شيء في نفس أمين تغير. أحس أن الوظيفة ترد له اعتباره. كان يحلم براتب شهري يعتمد به على نفسه، فقد ساءت صحة والده، الذي آلمه فشل ابنه في الدراسة.
" سوف يتفرقَ الشملُ ".. عبارة قالها فتحي، قاصدا أن أمين سيغيب عن ناظريه، منشغلا بعمله الجديد، ومصطفى سينشغل بطبيعة الحال بالحياة الزوجية وأعبائها، وهو منشغل بالمذاكرة والاستعداد للامتحان. قفزت مارسيل إلى خاطره. تحدث عنها حديث معجب، رأى فيها حلاوة الدنيا وعذوبتها..
كان اللقاء، قبيل سفر أمين.. أمضيا وقتا طويلا لا يريدان لليل أن يمضي، حتى اقتربت الساعة من الثالثة قرب الفجر، فاضطرا إلى الانصراف، كل إلى بيته..
بدأت الكوابيس تراود حمزة من جديد.. منذ الهجمة الغادرة، التي ناله فيها من اللكم والركل ما أثر على صحته. اعتلت الساق اليمنى، وذهب إلى المستشفى "الميري" فأعطاه الطبيب مرهما مسكنا للألم. استند إلى عكاز وهو يسير. أثر الهَرَمُ على مشيته وجلسته.
شرد في البعيد، يرنو إلى النفق الذي يمثل عنق زجاجة. النفق مدخل طبيعي للمنيرة ومدينتيْ العمال والتحرير. ثمة مدخل آخر من شارع النيل، لكن النفق، هذا الطريق الحيوي، أشبه بشريان حياة. استرجع العمر الذي ولى، والأحداث العادية والخطيرة.. رحلة عمر طويلة قضاها في هذا المكان..
صحا من نومه وصدره يعلو ويهبط. نهض يصرخ. هدأ صياحه وسكن ألمه، بعد أن استعاد وعيه وأفاق من نومه.. حمد الله أنه مجرد حلم.. أو كابوس.. لا يهم.. اعتاد على هذا القلق، وعاش به.. يختفي أحيانا، ثم يعود.. زائرا غير مرغوب فيه!..
رأى في المنام أنه سجين في زنزانة يطل من نافذتها الحديدية، صارخا وهو يرى عمالا يهدمون النفق. ينظرون إليه غير مبالين بصراخه وتحذيراته، كأنهم لا يسمعون، كأنهم يعذبونه بهذه المعاول. نهض من نومه فألفى نفسه ممسكا بعمود السرير..
استعاذ بالله من الشيطان الرجيم. توضأ وصلى ركعتين.. داعيا الله أن يشفي حميدة من محنتها. الحلم ليس له تفسير إلا حال ابنته، التي توعكت صحتها، واحتار زوجها في التردد على الأطباء. إنه قلق عليها، هذا القلق ينعكس في صورة حلم يفزعه. هكذا قال عويس، الذي لم يستيقظ على صراخه، إنما أفاق حين هزه حمزة من كتفيه مناديا عليه. قال :
ـ في الصباح، سأذهب لأطمئنك عليها..
قلق حمزة له ما يبرره. انقطع جابر عن المرور عليه يومين متتالين. الجنين في بطنها يمزق أحشاءها. أعد عويس مشروبا مهدئا من الأعشاب، فسكن الألم، فأعطاها كوبا ثانية. تحدثت إلى جابر، تطلب منه أن يدعو لها، ثم نامت بعد ليلة أرق وألم..

د. حسين علي محمد
04/08/2008, 02:05 PM
ـ 39 ـ

كلما التقى فتحي قال مرحبا :
ـ أهلا يا باشمهندس..
وإن لم يكشف عما في دخيلته، فهو يرى فيه المهندس الشاب المتحمس الذي يمكنه الحفاظ على النفق، ويتعهده بالصيانة والترميم. حين سأله :
ـ متى التخرج ؟
أجاب :
ـ بعد خمس سنوات.. ويمكن أن تمتد إلى أكثر من ذلك !
تنهد في قلق. هل يمد الله في عمره حتى يراه مهندسا ؟ الأمنية ذاتها تعتلج في صدر أبيه. أحس بالزهو لتعلق أبيه وحمزة بالغد البعيد، كذلك عمته.. إنهم ينادونه من الآن باللقب الذي لم يحصل عليه بعد. أما مارسيل، فهي أمله، والبسمة الحانية.. بدّلت قلقه طمأنينة. تغيب عن الكلية ثلاثة أيام، إثر نوبة برد حادة. في اليوم الرابع، لمحته في المدرج يجلس في الصفوف الخلفية، هرعت إليه وقلبها يخفق. جلست إلى جانبه محيية. حدثها عن مرضه، أعطته ملخصا سريعا للمحاضرات والواجبات التي فاتته. تطوعت لتنقل المحاضرات في كشكوله. جلست في البوفيه، تكتب بخطها المنمنم الجميل. حاول الجلوس معها فادّعت أنه سيعطلها عن الكتابة. وعدها ألا يفتح فمه بكلمة واحدة. تساءلت :
ـ ونظراتك.. كيف أهرب منها ؟
تضاحكا. واكتفيا بالجلوس معا يتحدثان في أمور عديدة، على أن تنقل المحاضرات في البيت. تركا البوفيه وتريضا في الحدائق الواسعة التي تحيط بمباني الكلية، ثم اختارا مقعدا رخاميا في أطراف الكلية، قرب السور الحديدي، واستظلا بشجرة ضخمة، بعيدا عن أعين الطلبة والطالبات. حكى لها ظروف معيشة أسرته، والده المكافح، أخواته البنات السبع. هو أكبرهن. حكت له عن أسرتها الصغيرة، عن أختها الوحيدة مريم، عن الخلافات المستحكمة بين أبويها. تصارحا طويلا. بدا كأنه يجلس على كرسي اعتراف، يبوح بأدق الأسرار. لكنه لم يبح بكل ما عنده. صارحها بحبه لبنت الجيران، التي تزوجت وسافرت مع زوجها. لكنه لم يبح لها بما كشفه أمين من أنه بكل بنت معجب. إلا أن مارسيل بذكائها فطنت إلى شيء من هذا، حين قالت:
ـ ألم تقع في غرام بنت أخرى ؟
نظر إليها صامتا. أراد أن يقول : " أنتِ ".. شيء أسكته فلم يبح. قالت :
ـ صمتك يدل على أنك عرفت أخريات..
ـ كيف عرفتِ ؟
ـ فراستي..
ـ أنتِ ذكية..
بدأ يكاشفها بنزعته الهوائية التي أحب التخلص منها. حكى لها عن أمين صديقه الملازم وتعليقاته الساخرة. ازدرد ريقه. قال :
ـ أحس معكِ أنني أعيش حالة حب صادقة..
ـ هكذا سريعا.. يا مجنون ليلى ؟
ـ حبي لليلى كان في سن المراهقة. كنت صغيرا. الآن تكشفت لي أمور عديدة. أنتِ الوحيدة التي أبوح لها بأسراري..
ساوت بأناملها خصلات شعرها التي بعثرها الهواء، فبدت له أجمل من ذي قبل..
ـ مارسيل.. لا تحرميني من لحظات السعادة التي أعيشها..
بادرته :
ـ لن أحرمك من شيء.. المهم الآن...
ناظرة إلى ساعتها :
ـ موعد المحاضرة الثالثة أزف.. هيا يا فتحي..
تجرأ فشبّك أصابع يده في يدها.. لم تمانع.. سارا صامتين، ثم سحبت يدها قائلة :
ـ اقتربنا من أنظار الطلبة..
دق قلبه بفرح جنوني. وصلا المدرج، فلم يجلسا منفصلين كما تعودا. جلس بجانبها. نادت زميلتها في الصف الأول :
ـ مارسيل.. مكانك محجوز..
ـ سأقعد هنا..
وفي البيت، جلس يكتب لها رسالة مطولة، عبر فيها عن أحاسيسه ومشاعره. صارحها بما لم يقو على البوح به.. إنه لا يعرف سر الميل الشديد إليها، حتى أنه يود أن يطير بها إلى مكان بعيد.. رسالة استغرقت خمس صفحات كاملة. تردد في تسليمها الرسالة باليد.. لا يدري لِمَ ؟ وضعها في ظرف، وكتب عليه : " إلى الأخت مارسيل شفيق ".. وأودعها صندوق البريد..
استغرقت الرسالة عدة أيام، حتى كتب عم ذكري اسمها في القائمة.. نبهها فتحي إلى الرسالة. لم تتعود أن تصلها رسائل بالبريد. هذه أول مرة..
ـ لكِ رسالة عند عم ذكري..
شهقت منزعجة :
ـ من ؟
ـ عم ذكري موزع البريد بالكلية، وهو فراش مدرج " ج ". وجدت اسمك مكتوبا في " الكشف " اليوم..
استأذن ليلتقي حسان، وإن كان يتذرع به ليهرب منها ! جلست، بعيدا عن الأنظار، على المقعد الرخامي نفسه الذي كانت تجلس عليه مع فتحي. فضت الرسالة واستغرقت تقرؤها، وقد خالجتها أحاسيس متباينة. فرح طفولي جعلها تعيد قراءتها ثلاث مرات، وهي تعجب لهذا الإحساس الصادق الذي أملى عليه هذه الكلمات.. التقته.. قالت :
ـ أشكرك على الرسالة..
أردفت :
ـ كان يمكنك أن تقول نفس الكلمات، من غير ورقة ولا قلم..
ـ أخشى أن يهرب مني الكلام..
ـ أم تخشى أن أهرب منك ؟
ـ لا أظن أنكِ قاسية إلى هذا الحد..
ابتسمت. سرت الابتسامة دفئا في قلبه..
ـ هل تريد ردا على رسالتك ؟
ـ طبعا.. ماذا ستكتبين في الرد ؟
ـ أكتب : شكرا يا فتحي..
ـ الرسالة وصلت..
ـ إذن لا داعي للرد عن طريق عم ذكري ؟
ـ ابعثي بها.. لكن.. أأكتب لكِ خمس صفحات، فتردين عليّ بكلمتين فقط..
ـ أصلها برقية !..
تضاحكا معا. جلجلت الضحكتان في الفضاء، فأحدثتا عبقا عطر الهواء من حولهما بالمرح..

د. حسين علي محمد
04/08/2008, 02:06 PM
ـ 40 ـ

بدأت امتحانات الفصل الدراسي الأول. انشغل فتحي ومارسيل بأدائها يومين كل أسبوع. رغم ذلك لم يشغلهما الامتحان عن اللقاء. قال لها :
ـ أتمنى نقعد في مكان بعيد..
ـ وهو كذلك..
من قبيل المصادفة الحلوة أن يتوافق اليوم الخامس من يناير عيد ميلاد الاثنين.. اليوم نفسه والشهر نفسه، وإن كان يكبرها بعام كامل. مدت يدها بهدية ملفوفة بورق السلوفان..
ـ كل سنة وأنتَ طيب..
مد يده هو الآخر وأعطاها هديته المغلفة :
ـ كل سنة وأنتِ طيبة..
فض غلاف هديته.. كانت مصحفا مذهبا.. صاح فرحا :
ـ الله..
وقبّله..
فضت غلاف هديتها.. كانت إنجيلا مذهبا.. صاحت فرحة :
ـ الله..
وقبّلته..
توارد خواطر، أم تطابق في المشاعر والطباع، أم أن اتفاق عيد ميلادهما في يوم واحد، قد وحد مشاعرهما ؟
قالت :
ـ ترى.. ما أهم شيء في القرآن الكريم ؟
ـ دعوته للسلام والرحمة.. ترى ما أهم شيء يدعو إليه الإنجيل ؟
ـ نفس الشيء..
ـ لماذا إذن تقسو قلوب وفي دينها كل الأسباب التي تجعلها تنبض بالحب والسلام ؟ أما أجدر بالإنسان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ؟
ـ غباء الإنسان في استيعاب رسالة الأديان.. نحن نقول الله محبة..
ـ ونقول الله أكبر..
ـ تقرع الأجراس في الكنائس للدرس والصلاة..
ـ ويرفع الأذان في المساجد في مواقيت الصلاة..
دعاها بهذه المناسبة لشرب عصير الليمون في البوفيه. راجعا أسئلة الامتحان واتفقا على صعوبته، من الممكن النجاح بتقدير مقبول..
انصرفا. انتظر حتى استقلت سيارة الركاب إلى شبرا، ثم استقل التروللي متجها إلى إمبابة.
راودته خواطر حول علاقته بمارسيل. قد تسرب حبها إلى قلبه. هل تحول الديانة دون الاقتران بها ؟ من الممكن أن يتزوجها وهي على دينها، أو تشهر إسلامها إذا أرادت.. في الحالتين سيقبلها زوجة. إن ما يجمعه الله لا يفرقه إنسان..
أين أنتَ يا أمين لأبوح لك بلواعج الفؤاد ؟ سافرتَ إلى القنطرة شرق وتركتَ صاحبك لا يجد الصديق الذي يرتاح إليه.
دخل والده فنهض عن فراشه يستقبله..
ـ ما أخبار الامتحان اليوم ؟
ـ الحمد لله..
قال :
ـ الأستاذ شفيق يبلغك السلام.. قال إنك ومارسيل أصبحتما صديقين.. لكن..
انتفض :
ـ لكن ماذا ؟
ـ هل هناك صداقة يمكن أن تجمع بين فتى وفتاة ؟
ـ هذا صحيح في الجامعة..
وازدرد ريقه..
ـ على العموم، ربنا يوفقكم..
قالها وانصرف، تاركا علامة استفهام في عقله. هل فهم الأبوان حقيقة العلاقة؟ إن أباه يعترض على الصداقة، فماذا يكون حاله حين يعلم أنه يحبها ؟
احتفالا بانتهاء نصف العام الدراسي، دعاها لزيارة عمته. لبت الدعوة. المنزل الذي تقيم فيه بشارع بولاق الجديد، يشي بأنه الأحدث بناء، بالمقارنة بما حوله من بيوت قديمة. رحبت عمته بها، واستقبلتها بحفاوة بالغة. قالت :
ـ أنتما ضيوفي على الغداء..
وأعدت مائدة عامرة بالمشويات وأطباق الخضر والمقبلات وسلطانيات حساء الدجاج أمام كل فرد. يتوسط المائدة الدجاج والبط. لم تشعر مارسيل بغربة. ساعدت في عمل سلطة الخضار، مما أتاح لها دخول المطبخ، فابتهجت العمة بها.. قامت معها بجولة في غرف الشقة الواسعة.. غرف النوم، والاستقبال، والمعيشة، وغرفتيْ الأولاد..
جلسا على صدر المائدة وتجلس عن يمينهما ويسارهما عمته وأولادها.. بعد الغداء، جلسا في الشرفة يشربان الشاي ويتطرقان لأحاديث شتى..
انصرفت وهي تشكر العمة، وتداعب الصغار..
حين مدت يدها تحييه قالت :
ـ هذا يوم من أسعد أيام حياتي..


(يتبع)

د. حسين علي محمد
06/08/2008, 04:21 AM
ـ 41 ـ

تفرقَ الشملُ، وعانى الوحدة. سافر أمين إلى بلدة بعيدة، وتزوج مصطفى، واعتلت صحة حمزة، وابيضت عيناه قلقا وأرقا. لم يكن يشكو من شيء محدد، إنما يقول لمن يسأل :
ـ كل حاجة في جسمي توجعني..
تفرق الشملُ من حوله، وإن عوضت مارسيل كل ذلك، أصبحت عالمه ودنياه. بدأت علاقته تتوطد بحسان، الذي استأجر غرفة بصالة ضيقة وحمام.. يقع سكنه في حي شبرا، بالقرب من سكن مارسيل. حدد حسان يوم الخميس ليزوره. وكان آخر خميس في عطلة منتصف العام. قال له :
ـ والدي مكافح كأبيك. نحن من أسرتين فقيرتين. هذا يقربنا أكثر..
يتميز حسان بسعة اطلاعه على الكتب الأدبية والسياسية، دائما يشارك بوجهة نظره في كل قضية. بل إنه يكثر من إثارة القضايا بمناسبة وبدون مناسبة. يتحدث طويلا فينصت له، حتى تخيل نفسه يقوم بدور أمين.. فوجئ وهو ينصت لضيفه بموزع البريد ينادي عليه :
ـ بوستة.. فتحي رجب..
هرع يتناول الخطاب، من خله الوفي أمين. استغرق يقرأ بصوت عال، كلمات سطرتها الغربة والحنين إلى الصحاب. اقترب حسان أكثر من الصديق الغائب. قال في مودة :
ـ قد أصبح صديقي.. أيضا..
يبدو أن حنين الأصدقاء بعضهم لبعض، قد استبد بالأفئدة الشابة في وقت واحد، فإذا بمصطفى يطرق باب صاحبه فيستقبله هاشا باشا..
ـ أهلا بالعريس. مضى أسبوعان على الزفاف لم نرك خلالهما..
قدم له زميله حسان. وكان حديث طويل عن مصطفى وزواجه ممن يحبها. حكى فتحي بإسهاب قصة حبه لنرجس.. أطلعه على خطاب أمين الذي وصل اليوم، وسلامه إليه. التفت إلى حسان قائلا :
ـ لم يبق إلا عم حمزة الذي لا تعرفه. إذا تعرفت عليه فقد عرفتنا جميعا.
قال مصطفى :
ـ والله يا جماعة، عم حمزة يحتاج لمن يسأل عنه في ظروفه الصعبة..
قال حسان :
ـ هيا بنا إليه..
قام ثلاثتهم قاصدين غرزة النفق.. وحسان المغترب في العاصمة، بعد تركه إهناسيا، أحس أنه يتأقلم مع مجتمع غير مجتمعه. الناس معظمهم قريب إلى قلبه. حين سلم على حمزة أحس أنه يحيي أباه الذي تركه هناك. تعارف الجميع كأنهم يعرفون بعضهم بعضا منذ سنين.
حمزة لا يستغني عن عكازه. قام عويس بالواجب بإعداد براد الشاي، وتشغيل جهاز الترانزستور.. ضاحكه مصطفى :
ـ ما بك يا رجل يا عجوز ؟ أنت أكثرنا شبابا..
ضحك ضحكة عريضة كشفت عن أسنان صفراء، غطاها من أعلى شارب كث مخلوط سواده ببياض :
ـ ربنا يجبر بخاطرك..
أسهم قليلا، ثم قال :
ـ أصل بنتي.. مريضة..
ـ ربنا يشفيها لك..
قالها حسان متأثرا. همس في أذن فتحي :
ـ عم حمزة يشبه والدي..
استغرق حسان في حديث شجي مع حمزة، تطرقا فيه إلى النفق.. هل تقادم النفق يؤدي إلى انهياره ؟ سؤال حائر يدور في ذهنه.. قال حسان بلغة العالِم :
ـ النفق ليس آيلا للسقوط.. هناك أمور نلاحظها قبل الانهيار، مثل التشققات والتصدعات، أو انهيار جزء بسيط من الجدار.. قال حمزة في حماس :
ـ كل هذا حدث..
عقب عويس :
ـ في الحلم يا عم حمزة..
التفت إليه :
ـ أنت دائما تلاحقني، مثل اللقمة في الزور..
استطرد بعد صمت قصير :
ـ الحلم نبوءة لما هو آت..
قال حسان في حماس :
ـ صدقت..
انفض السامر، وانصرف فتحي مع حسان، شارحا له معالم المكان.. بادئا بالمنيرة، وهو حي تحول من منطقة زراعية إلى منطقة سكنية رخيصة جاذبة للسكان. امتلأت بالمتزوجين حديثا. تتميز بارتفاع معدلات النمو السكاني بفعل الهجرة إليها من جميع المحافظات. قال حسان :
ـ أفكر في البحث عن سكن أوسع في المنيرة..
ـ هذا ممكن..
ولما اجتازا عرض النفق، مخلفين المنيرة خلفهما.. مشيا في شوارع مدينة العمال. أوضح له أن المدينة أنشئت في بداية الخمسينيات على الضفة البحرية من خط سكك حديد الوجه القبلي على مساحة من الأراضي الفضاء، لإقامة أسر عمال المطابع الأميرية التي تعد إحدى العلامات المميزة لحي إمبابة، حيث انتقلت إليها بعد قيام الثورة، عندما أصدر الرئيس جمال عبد الناصر عام 1956 قرارا بإنشاء الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، وأقام للهيئة مبنى جديدا في إمبابة على مساحة 35 ألف متر مربع، تم تزويده بأحدث ماكينات الطباعة.
اقتربا من مقهى الربيع، فأشار إليها، قائلا :
ـ هذا هو المكان المفضل لجلوسنا، أمين وأنا..
بادره حسان :
ـ إذن، فلنجلس..
طفق حسان يشرح التيار الماركسي السائد في مصر، الذي شاب الثقافة المصرية.. ورأيه في قصص نجيب محفوظ ومعاصريه. ظل فتحي مستمعا جيدا، يؤدي الدور الصامت غالبا الذي كان يؤديه أمين..

د. حسين علي محمد
06/08/2008, 04:22 AM
ـ 42 ـ

تفرقُ الشملِ أعطى لكل امرئ فرصة للتأمل واستشراف مستقبل يختلف من واحد لآخر. التفرقُ شيء طارئ تفرضه ظروف الحياة وملابساتها. خصوصية كل صاحب قد لا ينفع معها إلا البعد الاضطراري عن الجماعة والعزف المنفرد على أوتار حزينة.
حمزة مصابُه في ابنته المريضة، وحَمْلِها الصعب، وانعكاسات المرض على الحَمْل. مصابُه أيضا في وهن صحته وعجز ساقيه عن السير بصورة عادية، فاتكأ على عكاز، واعتمد على عويس يدبر له أمور معيشته. عويس الذي كان ضيفا ثقيلا أصبح في أشد الاحتياج إليه.. يقضي حوائجه، ويعد المشاريب لزبائن الغرزة. الترانزستور الصغير ـ أيضا ـ لا يستغني عنه حمزة. يستمع إلى الأخبار وخطب الزعيم. بدأت القلاقل مع إسرائيل، وازدادت حدة الخطب حماسا ووطنية.
يعيش مصطفى حياة ناعمة. أذن له والده بالغياب عن الورشة في شهر العسل، لكن الشهر أصبح اثنين، فتدخل الأب يعيده بالقوة الضاغطة للورشة مصدر رزقه.
تناثرت أقاويل بين الشباب عن استدعاء قوات الجيش الاحتياطية، لكنها لم تتأكد بعد. خمن مصطفى أنه سيكون ضمن المطلوبين. فاجأها قوله. لزمت الصمت لا تعقب. ولما صارح الشيخ محمود في هذا، أكد له أنه سمع مثل ما سمع. قال الأسطى حسين لابنه :
ـ إن صح ما نسمعه، سيكون الجيش درسا مفيدا لك.. يخرجك من حياة الكسل التي تعيشها الآن..
انشغل فتحي بأداء الامتحانات ولقاْْْءاته مع مارسيل.
لا حديث لعويس إلا عن عزيزة. كلما رأى بنتا اعتقد أنها تشبهها، حتى قال لنفسه : " أصبحتَ مشغولا بعزيزة مثل انشغال عم حمزة بالنفق ".. أكد له أنه سيلقاها ذات يوم، بينا نفى حمزة أن أوهاما تلعب برأسه، معتبرا النفق شريان الحياة لإمبابة، فلماذا لا نهتم بسلامته وصيانته ؟
جابر شقي بحميدة، التي ترتفع حرارة جسمها حينا فيجري بها إلى مستشفى الحميات المطلة على النيل، فيحجزونها بضعة أيام حتى تشفى، وتواتيها آلام الوضع حينا آخر.. لا يدري ما إذا كان الحَمْل سببا في مرضها، أم أن المرض شيء عارض.
يجلس أمين في استراحة الهيئة القريبة من المحطة التي يعمل بها. يحن لإمبابة وصديق العمر.. من وقت لآخر، يستبد به الحنين فيسطر صفحات الخطاب، وينتظر الرد من صديقه..
أزفت امتحانات آخر العام. انقطع فتحي للمذاكرة، في الوقت الذي التهبت الحدود الشرقية مع إسرائيل. ثمة أنباء عن حشود إسرائيلية في حدودها مع سوريا. حشدت مصر قواتها.. كثرت خطب الزعيم يواجه بها صلف العدو. الإشاعات حول استدعاء القوات الاحتياطية، أصبحت واقعا.. استدعي مصطفي الذي ترك نرجس، تعاني أعراض الحَمْل. رصد أمين تزايد حركة القطارات إلى غزة والعريش، وتدفق المركبات العسكرية في أنحاء مختلفة من شبه جزيرة سيناء. نذر الحرب تدق أجراس الخطر. يتذكر حمزة بطولات الجيش والشعب في حرب 1956. ارتفعت يداه إلى عنان السماء يدعو لمصر بالنصر، رافعا كفيه :
ـ ربنا ينصرنا على أعدائنا..
في إحدى المحاضرات، دخلت مارسيل المدرج متأخرة عشر دقائق. لم يكن التأخير بالوقت الهين لدى أستاذ الهندسة الوصفية، فمنعها من الدخول، ونادى على فراش المدرج عقب دخوله. استاء فتحي لما حدث. غلا الدم في عروقه. كيف يحرج مارسيل أمام زملائها بهذه الصورة المستفزة ؟ واحتجاجا على ما حدث، نهض من مكانه، وخرج في أثرها، تضامنا.. ضحك الطلبة لموقفه. حدث هرج ومرج وتعليقات من هنا وهناك، بينا جمد الدكتور في وقفته منتظرا استعادة الهدوء. قال طالب من الصفوف الأمامية، سليط اللسان :
ـ بينهما حكاية حب طويلة..
فازدادت الضحكات والهمهمات..
بعد انتهاء المحاضرة، بحث حسان عن صديقه وقد التهبت أعصابه.. بحث عنهما في كل شبر من أرض الكلية، حتى قادته قدماه إلى الأطراف، بالقرب من السور الحديدي الخارجي. رآهما يجلسان معا، فتحرج أن يعلن عن وجوده، عامدا إلى الاختفاء، لكنهما لمحاه، فنادى فتحي عليه، ونادت مارسيل، فتوقف عائدا إليهما..
ـ لا مؤاخذة.. لم أقصد شيئا..
بعد صمت حائر، تذرع بأمر لم يقتنعا به :
ـ لكَ خطاب عند عم ذكري..
تحرك الثلاثة معا، واستأذنت مارسيل في منتصف الطريق لتصحب زميلة لها.. صارح فتحي بما حدث بالمدرج. نصحه أن يقيد علاقته بها. الكل يتحدث عن قصة حب بينهما. بادره فتحي في ثورة :
ـ هل الحب عيب ؟
ـ أقاويل الطلبة حوّلت الموضوع إلى مادة للانتقاد. طبيعتنا الشرقية تغلب على تصرفاتنا، مهما تظاهرنا بالتمدن والتحضر.
أضاف مغيرا الموضوع :
ـ لم أقصد شيئا حين تحججت بخطاب لك عند عم ذكري. كان لابد من الحيلة.
توجها إلى البوفيه يشربان الشاي. لمحهما عم ذكري، فاتجه إلى فتحي مهللا :
ـ لكَ خطابان..
هرع إلى الركن الذي ينتحي فيه بالخطابات.. خطاب من أمين، وثان من مصطفى. ابتسم حسان وقال لصديقه :
ـ صدق حدسي..
رجع إلى حسان يقرأ الخطابين بصوت جهوري. حدثه أمين عن التحركات غير العادية للجيش، وحالة الطوارئ في عمله، بعد ما زاد عدد مرات التقاطر. عربات القطار إما للركاب محملة بالجنود، أو لنقل العتاد. زادت كثافة المناورات في السكك الحديدية.
حدثه مصطفى عن وحدته العسكرية في غزة، مقدمة صفوف الجبهة، طالبا منه أن يدعو لمصر بالنصر. قال إنه فخور بأنه سيدافع عن حدود مصر.. إلا أنهم طلبوا من القائد أن يزيد حجم التدريب وخاصة أنهم تركوا حياة الجندية منذ سنوات عديدة. وفعلا عمل القائد على إعادة تدريبهم على اللياقة والكمائن واستعمال السلاح، بقدر ما يسمح لهم الوقت..
أوصاه بالسؤال عن أسرة زوجته، الأستاذ فريد وحرمه.. وأن يطمئنه على نرجس.. الحامل في شهرها الثالث.. ويطمئنه ـ أيضا ـ على الشيخ محمود..
أعلن جمال عبد الناصر في خطبة له غلق مضايق تيران، فالتهبت الجبهة، وخيمت نذر الحرب على سماء المنطقة.
قام رجال الدفاع المدني بتجربة صفارات الإنذار. وطلا الأهالي زجاج النوافذ باللون الأزرق. وحفرت الخنادق للاحتماء داخلها. وبنى الأهالي أمام مداخل المنازل، سواتر من الطوب الآجر بارتفاع متر ونصف المتر.. قال حمزة لعويس :
ـ لم أعد أفرق بين صفارات الإنذار التي يجربونها وصفارة القطار، وهو يعبر فوق النفق. صفارة القطار تشبه النواح..
رقدت حميدة في المستشفى وقد أصابتها حمى النفاس. هرع حمزة يلازم ابنته، وإن عجز عن التحرك السريع. قام جابر وعويس بكل شيء بحيث جعلاه يجلس على كرسي بجانب ابنته طريحة الفراش. تتوجع حميدة بآه لا تنطق غيرها. عازفة عن الطعام والشراب. وضعوا كمادات الثلج فوق رأسها، إلى جانب تعاطيها الحبوب الخافضة للحرارة. طفقت تهذي وتغيب عن الوعي، نائمة، ثم تصحو على الآه الموجعة. انهمرت دموع حمزة. ربت عويس على ظهره، وقد هزه المشهد. قال بصوت خفيض :
ـ ربنا كبير.. ربنا يزيح عنها المرض.. قادر يا كريم..

د. حسين علي محمد
06/08/2008, 04:23 AM
ـ 43 ـ

يفخر الأستاذ شفيق بصداقته لرجب. نمت العلاقة بينهما في دروس الفرنسية التي جمعتهما على منضدة واحدة. نمت أكثر حين التحقا بكلية واحدة. ينتهز فرصة عيد ميلادها فيهديها إنجيلا. ما أرق مشاعر المحبين وأحاسيسهم المرهفة.
دلف إلى حجرتها. أعاد النظر إلى الهدية. مارسيل نائمة وهي تحتضن مريم. حرص على أن يلج الحجرة ويخرج منها دون أن يسمع له صوت يقلق الأختين. عاد يستلقي بجانب سنية، إلا أن مريم استوقفته، منادية. خرج معها إلى الصالة. همست :
ـ مارسيل عندها مشكلة..
ـ لما تصحو، نحلها..
ـ لا يا بابا. أريد أن أحدثك بعيدا عنها..
نظر إلى ساعته. الثانية عشرة. الوقت متأخر.. وإزاء إصرارها، جالسها في الصالة. روت له صداقتها لفتحي. عقب الأب :
ـ أعرف هذا..
صمتت برهة، استطردت بعدها :
ـ أقصد أنها أحبته وهو يحبها..
صمت..
ـ مارسيل تهيم في الخيال. تظن الصداقة حبا. لا بأس من مسايرتها..
ـ الموضوع خطير..
انزعج..
ـ خطير !.. ماذا تقصدين ؟
لعب الفأر في عبّه، خشية أن تكون زلت معه. حكت له الصغيرة كل كلمة قالتها أختها عن علاقتها به، وعن أستاذ الهندسة الوصفية الذي طردها من المدرج، وعن رد فعل فتحي، بخروجه طواعية، تضامنا معها..
ـ إنسان نبيل، آلمه ما تعرضت له زميلته.
ـ الموضوع خطير يا بابا.. ليس بالبساطة التي تتصورها..
ـ أنتن يا بنات تضخمن الأمور الصغيرة..
ـ ألا تعلم أن هذه العلاقة صارت حديث الطلبة ؟
ـ إذن الموضوع خطير..
شبّك أصابع يديه مطأطئ الرأس..
سألها :
ـ هل أمك تعلم شيئا ؟
ـ لم أحكِ لها..
ـ حسنا فعلتِ..
مارسيل لم تنم. أحست بحركة أبيها حين دخل الغرفة وخرج منها بصحبة مريم. أحست به وهو يتأمل الإنجيل الهدية. أرهفت السمع لهمسات مريم. نهضت وانضمت إليهما في الصالة. اختصر الأب الحديث :
ـ مريم حكت لي.. هذه علاقة عادية.. لكن الضجة بين الزملاء هي التي كبّرت الموضوع..
أطرق هنيهة ثم قال :
ـ خلي بالك.. علاقتي بالأستاذ رجب لا تمس.. هو زميل وصديق أعتز به وأحترمه..
تشجعت مارسيل لكلماته.. قالت مريم :
ـ يبقى.. كل واحد يروح لحاله..
ـ ما هذا يا مفعوصة ؟ أنا ورجب كل واحد يروح لحاله ؟
ـ أقصد.. مارسيل وفتحي..
قالت مارسيل بصوت متحشرج :
ـ هل ذنبنا أن لكل منا دينا يختلف عن الآخر ؟
ـ هذا ليس ذنبا..
ـ هل أجرمنا ؟
ـ إطلاقا..
فكر مليا في المأزق الحرج الذي يكاد يعصف بابنته. لابد من إجراء جراحة لإنقاذهما. التمادي في العلاقة لن يؤدي في النهاية إلى شيء.
ـ لابد يا بنات من الموافقة على ما قالته ماما..
انزعجت مارسيل..
ـ هل تريد مني الزواج من ناجي، وأنت أشد الرافضين له ؟
ـ هناك ضرورة..
ـ ألا يكفي الابتعاد عن فتحي ؟
ـ ارتباطك بناجي سوف يخرس الألسن..
بكت..
لم يكن فتحي بأحسن حالا منها، فقد آلمه ما سمعه من حسان، من ضرورة إنهاء العلاقة.. هذه أول قصة حب ينبض بها قلبه. عرف قبلها ليلى وسعاد وأخريات.. من بعيد لبعيد.. مارسيل اقترب منها وصادقها وأحبها. أرقه سهاد أطار النوم من عينيه. وفي الصباح، قرر أن يتحدى مَن حوله، ويفرض على الجميع تلك العلاقة المبرأة من النزوة..
مرت من أمامه. تحاشت الحديث معه. نادى عليها :
ـ مارسيل..
توقفت. تحاملت. كادت تضعف. تماسكت. قالت :
ـ فتحي.. كل شيء نصيب. تقدم لي طبيب ووافق أهلي..
ـ مارسيل.. أحبك..
ـ حب ضائع..
ـ كيف ؟ الحب يصنع المعجزات.. يمكنني إقناع أهلك.. أنتِ مسيحية وأنا مسلم. لكننا حبيبان..
ـ حبنا يسير في طريق مسدود..
طأطأ رأسه في الأرض. لم يستطع النطق بكلمة واحدة. تمالك نفسه. قال في ألم :
ـ حبنا قدر..
ـ لنحتفظ بصداقتنا الجميلة..
اغرورقت عيناها بالدموع..
تدخل حسان الذي ظهر فجأة. وقف بينهما قائلا :
ـ خطوبة مارسيل سترفع الحرج عنكما، وتبقى علاقتكما، علاقة زميلين عزيزين..
وجم الاثنان. تبادلا نظرات حائرة..

د. حسين علي محمد
06/08/2008, 04:24 AM
ـ 44 ـ

كتب الطبيب في قصاصة ورق اسم نوع من الحقن، يبتاعونه من صيدلية خارجية. هذه الحقن غير متوافرة بالمستشفى. ناول القصاصة لجابر فخطفها عويس، قائلا في شهامة :
ـ خلِّ عنك..
طار بالورقة، عازما أن يعود إلى سكنه ويبيع الترانزستور، أو يرهنه.. عم حمزة ليس في جيبه مليم واحد، وجابر مثله. مرض حميدة أتى على كل ما ادخراه من نقود هزيلة. سار بحذاء سور المستشفى وعرج على شارع طلعت حرب، وهو ينهب الشارع قفزا. كل دقيقة لها ثمن. حميدة بين الحياة والموت. أتاه صوت في جنح الظلام يستجدي المارة :
ـ لله يا محسنين..
ذهل. يا الله. عزيزة !..
ـ كيف حالك يا عزيزة ؟
رنت إلى وجهه. عرفته من صوته وشكله وقوامه النحيل. قالت :
ـ عويس !..
سأل عنها وعن أحوالها. أين تسكن ؟
ـ أسكن !.. سكني وعيشتي كلها على الرصيف. قد أغيره إلى رصيف آخر حسب حالة الجو والشمس. أجلس نهارا في الظل، وأختبئ ليلا من برودة الشتاء أسفل الكوبري..
حكى لها عن حال حميدة، وأنه في عجلة من أمره كي يبيع الترانزستور أو يرهنه ـ وهو غال عنده ـ كي يشتري لها الحقن. قالت :
ـ معي ما جاد به المحسنون. سأذهب معك.
ـ كلك مروءة يا عزيزة..
صادفا صيدلية قريبة، فقصداها واشتريا الحقن. فرح عويس بعثوره على عزيزة، كأنما عثر على كنز، وفرح أكثر بشرائه الحقن، دون أن يفرط في جهازه الأثير. انتحى بها في ركن من الصالة الطويلة، يقف على أخبارها وأحوالها.
ـ الحال لا يسر. ثروت الملعون عملها.. فوجئت باثنين من الفتوات يحملانني بالقوة إلى شقة غير شقته، وقضى وطره.. منه لله..
صاح مصدوما :
ـ عملها.. النذل..
بكت بحرقة. قاومته بكل ما أوتيت من قوة. طرحها أرضا ورقد فوقها، بعد أن شل ذراعيها عن الحركة. ضربته بقدمها. إزاء مقاومتها الشرسة، لانت عريكته. بدا حَمَلا وديعا، يعتذر عن فعلته. جرت إلى الباب تفتحه. نصحها بدخول الحمام تغتسل حتى لا يشك الجيران في شيء. صدقته. غسلت وجهها وذراعيها بالماء والصابون. أفاقت من هجمة الشيطان. مد يده بكوب عصير كنوع من الاعتذار. نصحها بألا تحكي شيئا مما حدث لأحد. وعدته. ثم شربت العصير.. فأحست بدوار، وغابت عن الوعي.. حين أفاقت، وجدته نائما بجوارها، وقد هتك عذريتها. لطمت وجهها وصرخت. كمم فاها، وحذرها من التمادي في الولولة. أجهشت بالبكاء من جديد.. طيب عويس خاطرها. قالت :
ـ لم أسرق، ولم أزن . كنت أبحث عن عمل شريف أعيش من رزقه، ولما لم أجد، لجأت لطلب المساعدة من أهل الخير..
جلس بجانب سرير ابنته، يدعو الله، يقرأ القرآن مما يحفظ وهو يسير. قال لجابر :
ـ الظاهر يا جابر أن الكابوس الذي جسّم لي انهيار النفق، قد فُسر الآن.. فَسره مرض حميدة.. أهناك ضرر أكبر من هذا ؟!
ـ ربنا يزيح عنها..
قامت عزيزة بخدمتها ومساعدتها في قضاء حاجتها، ووضع كمادات الثلج على رأسها. ما فتئ حمزة يدعو الله أن يلطف بها..
ـ اللهم إني لا أسألك رد القضاء، لكن أسألك اللطف فيه.
في الصباح، أتاهم الطبيب مهرولا، وأمر بإدخالها غرفة العمليات. الحالة حرجة لا تحتمل الانتظار. لابد من فعل شيء، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لم يجب الطبيب عن أسئلتهم الحائرة. قال جملة واحدة لم يكررها :
ـ الشفاء من عند الله.
أغلقت غرفة العمليات. بدأ فريق الأطباء في أداء مهمتهم السريعة بإجراء عملية قيصرية لإخراج الجنين حيا أو ميتا، حيث يشكل وجوده خطرا على الأم المريضة. هكذا توصلوا فيما بينهم، بعد مناقشات صعبة.
خارج الغرفة المغلقة، انتظر حمزة وجابر وعويس وعزيزة وعنايات ـ أخت جابرـ ومحفوظ.. وجوم خيم على الوجوه، وصمت أطبق على الشفاه. لحظات صعبة ارتفعت فيها أكف الضراعة إلى الله العلي القدير.
خرج طبيب، وأغلق الغرفة خلفه. سأله جابر، أجاب :
ـ مبروك.. رزقت بولد..
بادره حمزة جزعا :
ـ والأم يا دكتور، كيف حالها ؟
ـ ننتظر حتى تفيق من البنج..
وضعوها هي والرضيع على نقالة، ونقلوهما إلى الغرفة.
بدأت تحرك أهدابها. ولا تقوى على قول شيء، سوى الآه الموجعة تخرج من صدر ذبيح !..
أمسك جابر بيدها. السخونة ما زالت تسكن جلدها. طبع حمزة قبلة على جبينها. تنبهت إليه :
ـ خير يا بَه..
رنت إليه عيناها الكسيرتان. ثم التفتت إلى جابر توصيه :
ـ خلي بالك من ابني..
كلماتها أبكت الجميع..
أغفت قليلا، بينا الممرضة تتابع زجاجات الجلوكوز، ونبض قلبها، وتنفذ تعليمات الطبيب في جرعات العلاج..

د. حسين علي محمد
06/08/2008, 04:25 AM
ـ 45 ـ

أين أنتَ يا صديقي ؟
أين أراضيك ؟
هذا المساء، تكاثرت غيوم، واشتعل القلب حزنا. كم كان بودي أن أحدثك عن مارسيل البيضاء. نعم هي بيضاء. هكذا أحب أن أصفها. بيضاء البشرة، بيضاء الزي، بيضاء القلب. سوء الطالع هذه المرة ـ ككل مرة ـ لازمني.. فإذا حبيبة القلب الأخيرة، نجمة أخرى تنطفئ سريعا من سماء حياتي. وددت ألا أبوح بعلاقتي بها، حتى لا تقول لي عبارتك الأثيرة : " أنتَ بكل بنت معجب ". وددت أن أبرهن لك، في الوقت المناسب، أن حبي لها لا تقتلعه الرياح ولا تقوضه الأعاصير. وأنني لست هوائي النزعة، وأنني أعيش حالة حب حقيقية..
وضع القلم على المنضدة، واسترجع ما حدث. كيف يحكي حكاية حبه من أولها ؟ هل تفي الرسالة بالمطلوب ؟ هل يستطيع التعبير عن مشاعره وأحاسيسه ؟ فليحاول..
بدأ يسرد وقائع حبه لها. توقف عن الكتابة مرات عديدة، مترددا، حائرا، وفي آخر الرسالة طلب منه الرأي والمشورة.
كتب رسالة لمصطفى يحييه في هذه الظروف الدقيقة التي يمر بها الوطن.
تغيبت مارسيل عن المحاضرات. قلق عليها. استبدت به رغبة في السؤال عنها. قصد منزلها في جرأة غير معهودة. فتحت مريم الباب، ابتسمت وهي توسع له الطريق :
ـ تفضل..
جلس في الصالة، بجانب المنضدة التي تلقى عليها دروس الفرنسية. طال الانتظار. قدمت مريم عصير المانجو. سأل عنها، فأتاه صوت الأم مقبلة نحوه :
ـ مارسيل عند خالتها..
ـ تغيبت عن المحاضرات، فأتيت أسأل...
صمت مطبق أحاط بالثلاثة..
قال بصوت خفيض :
ـ قالت لي مارسيل إن طبيبا خطبها..
ـ لم يتقدم بعد..
ـ أعتذر عن أي خطأ بدر مني..
ـ عبرت عن مشاعرك.. ليس في هذا خطأ.. نحن بشر..
فرحت مريم بالهدوء الذي شمل الأم، بعد العاصفة التي هبت أمس بينها وبين أبيها. ابتسمت وقالت لفتحي :
ـ أعمل شايا ؟
لم يتوقع هذه المقابلة الودية، فشجعته على القول :
ـ هل يحق لي اعتبار مارسيل أختا لي ؟
ـ أختك وزميلتك..
هدأت زوابعه بعض الشيء. انصرف وشيء من السكون يطمئنه. كان حسان قد أوجعه بكلماته. طلب منه الابتعاد عنها حرصا علي سمعتها أمام زملائها. راجع حسان فيما قال. طمأنه إلى أنه استقبل بحفاوة، إلا أن حسان لم يغير موقفه..
التقاها في ميدان عبده باشا. مرت ثلاثة أيام لم يرها خلالها. قال في عتاب :
ـ لماذا كذبت عليّ ؟
ـ فيم الكذب ؟
ـ قلت إن طبيبا تقدم لخطبتك..
ـ سيتقدم..
ثم قالت بنبرة حادة :
ـ فتحي.. علاقتنا مآلها الفشل. نحن نسير في طريق مسدود.
تردد لا يعرف كيف يحسم الأمور. قال في أسى :
ـ فرحت بك. كدت أعلن للعالم حبي.. كدت.. أتحدى بكِ العالم..
ـ دعك من أحلام الشعراء..
ـ لست بشاعر.. إنها لغة القلب..
ـ أردت أن أعفيك من حرج لا تستطيع أن تواجهه مع أهلك..
ـ ما الحل إذن ؟
ـ لنكن أصدقاء.. وكفي..
ـ كيف ؟
ـ كالصداقة التي تربط والدي بوالدك.. كالزمالة التي جمعتهما معا..
وافترقا. كل سار بمفرده.. متجهين إلي الكلية !

د. حسين علي محمد
06/08/2008, 04:26 AM
ـ 46 ـ

من يضمد الجراح ؟
لفظت حميدة أنفاسها في المساء. لم يشعر بموتها أحد. تيقظت من نومها وقد ذهبت عنها آلام المرض. هكذا في لحظة من الزمان يرحم الله فيها عبده. زوجها نائم علي الكنبة المواجهة للسرير, وهي ترقد علي السرير وفي حضنها الوليد. أغفى حين وجدها تغط في سبات عميق. تفصد جبينها بحبات العرق. استيقظت, رنت إلي الوليد بركن عينيها. تحسست وجهه ورأسه, نهضت لتضعه في حجرها, تضمه إلي صدرها, تقبل جبينه, وخده الأيمن فالأيسر. تقبل فمه, شعر رأسه.. ضمته أكثر.. كم سنة مرت وهي تحلم به ؟.. أرقدته في مكانه.. نادت علي عنايات كي ترضعه.. حضرت مسرعة.. حرصت أن تناولها الوليد بنفسها..
ـ خذي بالك منه..
ـ إنه في عينيّ..
عادت تستلقي علي الفراش.. أحست براحة.. أغفت عيناها.. حلقت ملائكة من حولها.. رأتهن يمسكن بحمزة الصغير يطوفن به في أرجاء الغرفة, وفي أيديهن شموع.. كأنه السبوع.. ما شاء الله.. يحرسك الله يا ولدي.. فتحت عينيها.. شهقت شهقة مفاجئة من صدرها.. ثم غابت عن الدنيا، واستراحت في ضجعتها..
عادت عنايات تضع الطفل مكانه.. تتحسس رأسه ووجنتيه.. نادت علي حميدة.. قبل أن تخرج.. لكن حميدة لا تتحرك.. لا ترد.. علا صوتها بالنداء, لم يلب النداء سوي الفراغ.. احتد الصوت.. فأيقظ جابر.. تنبه.. قال لها :
ـ دعيها نائمة..
كأنها لم تسمع.. هزت كتفها وهي تنادي بصوت متحشرج, بدأت تقلق..صرخت :
ـ جابر يا أخويا.. تعال شوف حميدة..
انطلق صراخها صواتا أيقظ كل من في البيت والبيوت المجاورة..
لم يتملك حمزة نفسه من البكاء، حين جاءه الخبر.. تلعثم لسان عويس حين شاء أن يواسيه, سبقت الفتي دموعه.. احتضنه.. وقد غرق الاثنان في نهر الدموع !
انكب علي المذكرات والكتب والمحاضرات، استعدادا لامتحان آخر العام بعد غد السبت الثالث من يونيو.. عليه أن يئد جراح القلب. دخلت أمه تحمل صينية الشاي, تقول :
ـ لا تتعلق بالمستحيل..
فهم مقصدها. وضعت الصينية بجانبه وخرجت وهي تدعو له بالنجاح. استبد به الشوق لرؤية أمين ومصطفي، اللذين ذهبا إلى سيناء في مهمتين مختلفتين. عم حمزة أتعبه وهن الصحة, وعويس حكي له ما فعله ثروت بعزيزة.. وحميدة بين يدي الله.. وهو.. عليه أن يئد جراح القلب.. إذا زهت وردة في بستان قلبك, اقطفها واستمتع برحيقها.. لكنها لن تدوم لك.. أأنت بكل بنت معجب حقا ؟ أم هو سوء الحظ يلازمك منذ كنت طفلا, تميل إلي الانطواء, وتحب من طرف واحد. لا تغنم بفرحة ينبض بها قلبك.
فوجئ بابن الشيخ محمود يطرق الباب، وينعي إليه وفاة حميدة. نهض واقفا وارتدى ملابس الخروج على عجل. هرع إلى عم حمزة يواسيه ويشد أزره. التقى الشيخ محمود وجابر وعويس ومحفوظ وآخرين لا يعرفهم. جلسوا على كراسٍ اصطفت بمدخل النفق، يلتفون حول حمزة، يستمعون إلى آي الذكر الحكيم. كان النفق مظلما، وحركة السيارات بطيئة. حضر الفتوة ورجاله فزاحموا المكان..
عاد يواصل ما قطعه من مذاكرة. إلا أنه من حين لآخر يفكر في مارسيل التي هجرها أو هجرته. لا يدري بالضبط مَن ترك الآخر, ويفكر في حمزة وجابر ومصابهما. ويستبد به الشوق إلى صديقيه البعيدين..
بعد أداء الامتحان، التقى مارسيل عرضا، فحياها وحيته. سألته عن الامتحان وسألها.. وانصرفا.. اتخذ من حسان رفيقا. تحدثا عن الوضع المضطرب على جبهة القتال. هل سنحارب أم هي أزمة سياسية ؟
يوم الاثنين موعد امتحان الفيزياء. وزع المراقب ورق الإجابة والأسئلة في التاسعة تماما. لم تمض دقائق حتى سمع دوي المدافع. اضطرب قليلا. سأل أحد الطلبة المراقب :
ـ بدأت الحرب..
طمأنه المراقب. وجه الكلام لكل الطلبة بأن يواصلوا الامتحان..
مر الوقت عصيبا. بعض الطلبة فقد أعصابه، وسلم الورقة دون أن يخط حرفا واحدا..
التقى حسان خارج اللجنة. وازدحم الطلبة وهم يقولون بعضهم إلى بعض : هي الحرب كتبت علينا..
وفي الشارع، تعطلت المواصلات.. حيث وجهت سيارات هيئة النقل العام لخدمة جبهة القتال وأمور الدفاع المدني. سيارات محملة بأفراد الاتحاد الاشتراكي يهتفون بحياة مصر والنصر. ساد الشارع اضطراب. ثمة تفاؤل بأن النصر آت. اضطر فتحي وحسان ومارسيل إلى السير على الأقدام إلى شبرا. ملأت مكبرات الصوت الشوارع والميادين، تذيع البيانات العسكرية، بحسب ما ترد إلى الإذاعة. كم طائرة أسقطناها للعدو ؟.. خمسا.. أصبحت ثمان.. عشرا.. خمس عشرة.. عشرين.. أربعين.. كلما زاد العدد اشتعل الحماس وزاد التفاؤل بالنصر. مشى بمفرده من شبرا إلى إمبابة. لم يحس بتعب وهو ينصت للبيانات العسكرية المبشرة بالنصر. أحمد سعيد مذيع صوت العرب ينادي بصوته الحماسي :
ـ أبشروا يا عرب.. تم تحرير جبل المكبر...

د. حسين علي محمد
06/08/2008, 04:27 AM
ـ 47 ـ

أثاره ما سمعه من عزيزة. الشاب الوقح استباح عرضها. استلقى على ظهره عند مدخل الغرزة، ناظرا إلى اتساع السماء وقد غيبت الغيوم القمر. أنّب نفسه. هو الذي عرض عليها الخدمة في منزل ثروت. لو لم يطعه في البحث عن شغالة، ما حدث شيء مما حدث. ألقى باللائمة على نفسه. كيف يصلح الخطأ ؟ كيف يرأب الصدع ؟ أعز ما تفخر به البنت عفافها. ما من موضوع تتدخل فيه إلا ويفشل. أنت وش نحس. دعك مما قاله الرجل الطيب عم حمزة من أنك وش خير. من أين يأتي هذا الخير ؟ حميدة توفيت وهي تضع الجنين. لحظة مريرة واجهت حمزة وجابر. كل الأمور تسير إلى نهاية مأساوية. من الأفضل ألا تعرض غيرك للتهلكة. صحيح أن كل شيء بيد الله. لكن هل تستطيع أن تعفي نفسك من هذا النحس المصاحب لك ؟
لاحظ محفوظ من الشرفة المقابلة قلق عويس، يفترش الأرض على غير عادته، ممددا جسمه الهزيل على حصيرة، واضعا رأسه على وسادة صغيرة، محلقا في ملكوت الله، ونجوم السماء تتناثر نقطا مضيئة. نهض يرحب بجاره، الذي قال :
ـ فيم انشغالك ؟ وأين حمزة ؟
ـ كان الله في عونه. نائم على السرير..
أطلقت صفارات الإنذار فدلفا إلى الحجرة، يجلسان على الكنبة، ويهمسان بالحديث، حتى لا يقلق حمزة. إلا أن قلقه دون سبب معروف. انتفض وهو نائم، وصرخ.. زعق :
ـ الحقوني.. النفق سيقع على رأسي..
هرع عويس. دلّك جبهته وهو يقول :
ـ اللهم اجعله خيرا..
تنبه إلى من حوله. نهض يرحب بمحفوظ. تحدث عن مواجعه، وضميره الذي يؤنبه. حكى لهما قصة الوغد المدعو ثروت. وما فعله في المسكينة عزيزة. قال جزعا :
ـ أنا السبب..
قال محفوظ ملطفا :
ـ أنت قصدت خيرا..
سأله عما يمكن عمله من أجلها. قال محفوظ :
ـ ادع لها..
أردف حمزة :
ـ وادع لمصر بالنصر..
قال عويس وهو قلق :
ـ ماذا لو أصلحت الخطأ وتزوجتها ؟
سأله محفوظ مستغربا :
ـ أأنت الذي زنيت بها ؟
أجاب حمزة :
ـ المفروض أن ثروت يبادر بإصلاح خطئه..
بادره عويس :
ـ كيف ؟
قال حمزة :
ـ يتزوجها..
قال عويس :
ـ لن يفعل.. إنه وغد..
بادر بإعداد الشاي، والدنيا ظلام دامس. رجال الدفاع المدني يجوبون الشوارع، طالبين من الأهالي إطفاء الأنوار !.. دويّ المدافع يسمع في كل اتجاه.. تعيش البلاد في مأساة مع عدو شرس يحارب في كل الجبهات. مأساة الوطن في كل عين تنظر إليها، ومأساة عزيزة تعيش في قلبه الجريح. ناولهم الشاي وقال في مفاجأة لا يتوقعها أحد :
ـ ما رأيكم في أن أتزوجها..
قال محفوظ مستغربا :
ـ تتزوج من ؟
ـ عزيزة..
ـ كيف ؟
ـ لن أستطيع الوقوف ضد ثروت. لكن المسكينة ما ذنبها ؟ لابد أن نرد لها كرامتها..
يئن حمزة متوجعا :
ـ خلي بالك.. لقد حملت سِفاحا.. فكيف الزواج ؟
ـ إذن.. أرفع قضية رد شرف ضده..
ـ لا تكن أهوج..
ـ لابد من حل يا جماعة..
ذات مساء.. توجه إلى شحاذة زميلة لها، وسأل عنها، أجابت :
ـ لم أرها البارحة. لا أعرف أين ذهبت ؟
بدأ يبحث عنها، مرة ثانية.. وهو مصمم على عقد قرانه عليها.. كرد اعتبار للبنت المسكينة ! ولكن أين هي ؟
نشط الكل في البحث عنها.. عويس وجابر وحمزة ومحفوظ.. لكن.. ما من حس، ولا خبر..

د. حسين علي محمد
06/08/2008, 04:28 AM
ـ 48 ـ

ترك الغرزة وهام على وجهه، دون تحديد هدف. لعبت به الأفكار، واختلطت الأمور. غير مصدق ما حدث لعزيزة. يهجس داخله باضطراب شديد. ماذا يفعل ؟ اتجه إلى منزل ثروت. بوده أن يقتله. حتى لو ضحى بنفسه، لا يهم. لو قتله، سيستريح الناس من شروره. هو أول ضحاياه حين أوعز لمأجورين أن يضربوه. حتى عم حمزة المسن لم ينجُ من ضربهم، بل هو المستهدف الأول. من الخطأ تركه يلهو ويهتك أعراض البنات المسكينات. أحس عويس بأنه السبب فيما حدث. لو لم يدلها على منزل أسرته، لتعمل شغالة، لنجت من شروره. لكن.. ماذا تفيد " لو " بعد أن وقعت الفأس في الرأس ؟!
اقترب من المنزل. جمد مكانه. لو قتله، هل يستطيع أن ينقذها من العار الذي لحق بها ؟ بالعكس، ستنتشر دوافع الجريمة، وأسبابها، وينكشف المستور، من حَمْل عزيزة سفاحا.
حدث نفسه : هل تجرؤ على قتله ؟ أنت لم تقتل نملة. مسالم لأقصى حد. تركت أسرتك في " ميت نما "، حتى تريح نفسك من مشاكل أنت في غنى عنها. كيف تقتل نفسا ؟ المهم عزيزة.. أين هي ؟ كيف حالها ؟ إذن، ليبحث عنها.. ربما يرق قلب ثروت ويتزوجها. أين أنت يا مصطفى ؟ في استطاعتك التأثير على أخيه صبري. يمكنك الضغط على ثروت ليتزوجها. لكن مصطفى في الجبهة يدافع عن الوطن بروحه، بينما ابتلي الوطن بثروت ومن على شاكلته. شتان الفرق بينهما، بين المحب والحاقد، بين الملتزم والمستهتر..
صح عزمه على أن يتزوجها، يستر العرض المهان. الجنين في أحشائها، يمكن أن يربيه إكراما لها. هذا حل ممكن، فليس في إمكانه قتل ثروت، كما أن الجريمة أثرها باق، وليس في إمكانه إقناع ثروت بالزواج منها.
ليبحث عن عزيزة ويعقد عليها عند أقرب مأذون. هذا حل ممكن.
عاد في المساء إلى الغرزة، معلنا تصميمه على أن يتزوجها. رضخ حمزة وجابر وجاره محفوظ، مشفقين عليه من تحمل خطأ الغير. نصحه حمزة أن ينتظر حتى الصباح..
قصد المكان الذي تجلس عنده مع زميلتها، فلم يجدها. ضربت كفا بكف من قلة الحيلة. أغلقت صرتها ومشت معه يترددان على أماكن اعتادت الذهاب إليها.
ليلة أمس، حين توجه عويس إلى منزل ثروت، ثم نكص عائدا. فعلت عزيزة الشيء نفسه. لكنهما لم يتلاقيا. قصدت منزله تخاطب الجانب الإنساني في قلبه. بيتت النية على قتله إن لم يستجب لتوسلاتها. سوف تقتله بسكين حادة خبأتها في جلبابها.. إلا أنها ترددت. لن يوافق على الزواج منها.. فهل تقتله ؟ هل تسجن، وتلد جنين الخطيئة ؟ سوف تبقى مشكلتها في هذا الجنين. تبقى المشكلة بصورة أفدح. ترددت. جمدت في منتصف الطريق، ونكصت على عقبيها، متجهة إلى نهر النيل. وقفت عند كوبري إمبابة، في الدور العلوي المخصص للمارة. تأملت أمواجه الهادئة. ماذا يخفي النهر من أسرار ؟ وجمت لحظات لا تلوي على شيء. نظرت إلى السماء داعية الله أن يرحمها ويغفر لها. دمعت عيناها.. يا نيل.. كم من ضحايا آثروا الموت على الفضيحة ! هل تعدني بأن تكتم أسراري ؟ أراك يا نهر رحيما بي.. لن تخذلني.. إذا ارتميت في أحضانك، لن تكشف للناس فضيحتي. هذا عهد أعاهدك عليه. قصف المدافع دوّى في عرض السماء، أضاء ظلمة النهر. أحست بالدويّ يغريها بفعل ما انتوته. لا حل لمشكلتها إلا بالانتحار. قفزت من على السور، فزغردت مياه النهر الغاضب، محتضنة أعز الناس إلى قلب عويس. ما زالت طلقات المدافع تدوّي كأنها في هذه المرة تشيعها إلى مثواها، وهي تنعي حال البلد وحال الضحية.
لم يعرف أحد شيئا عن انتحارها. ظل عويس يبحث عنها، يذرع الأرض طولا وعرضا. لم يترك شبرا واحدا في شوارع إمبابة إلا وطئته قدماه. ينادي أولاد الحلال كي يدلوه على مكانها. وفي اليوم الثالث طفت جثتها المنتفخة على سطح المياه !

د. حسين علي محمد
06/08/2008, 04:29 AM
ـ 49 ـ

التقي مع حسان وتناقشا في مصير الحرب. توجه إلى منزل مصطفى، يسأل زوجته عما إذا كانت هناك أخبار عنه. لم يصلها شيء. طمأنها خيرا. حمزة وعويس يجلسان بجوار المذياع الصغير، يتابعان منه الأخبار. قلق حمزة يدفعه للذهاب إلى جابر. تناوله عنايات حفيده الصغير، يقبل وجنتيه ويدعو له. قال جابر :
ـ من ريحة المرحومة..
ـ هو الأمل..
تقعد نرجس في بيتها قلقة. أين أنت يا مصطفى ؟ في أي موقع تحارب ؟ متى تكتحل عيناي بمرآك ؟ تأتي إليّ منتصرا.. مزهوا.. تذهب إلى والدتها، تتابع أنباء القتال من التليفزيون. بدأت البيانات العسكرية تقل، يخيم صمت محيّر. الأناشيد الحماسية تدوي في الإذاعة والتليفزيون. صفارات الإنذار تدوي من حين لآخر، ليل نهار.. تهرع جماعات إلى الخنادق أو الطوابق الأرضية، وتصر جماعات أخرى على ممارسة حياتها العادية. العمر واحد والرب واحد. طلقات المدافع تدوي في سماء العاصمة.
صعد إلى سطح الاستراحة، باعتبارها أعلى نقطة يمكن أن يرتفع إليها، لينظر إلى الأفق، وفي عينيه قلق. طابور آليات للعدو يتقدم نحو القنطرة شرق، توقع أن يصل المدينة خلال ربع الساعة. المحطة هدف حيوي. من الخطر البقاء في المكان تحت رحمة رصاص طائش وموت محقق. لا يوجد جندي مصري واحد. دمعت عيناه. شاهد الجنود المصريين في رحلة العودة المحفوفة بالمخاطر إلى القاهرة، راكبين أو راجلين. يتساقط منهم قتلى، والمصابون لا يجدون من يسعفهم أو ينقلهم إلى مكان آمن. الصورة مأساوية لا يتخيلها أحد. فوضى تضرب أطنابها في كل تصرف، وخراب عشّش في كل الأرجاء. لم تعد القطارات تتقاطر إلى العريش. خط السكك الحديدية ضربه العدو في عدة أماكن. لا حماية ولا إمدادات ! هي الهزيمة الكبرى. جمع أدواته الشخصية وقال لزميله :
ـ ليس للبقاء هنا معنى أو فائدة..
سايره زميله. مشيا خطوات في اتجاه العبّارة. توقف زميله مترددا. قال إنه نسي أشياء مهمة تخصه..
ـ اسبقني إلى العبّارة. سألحق بك سريعا..
ـ بسرعة..
صعد العبّارة بمفرده إلى الضفة الغربية لقناة السويس، في آخر رحلة لها. تخلف زميله، وبقي في المدينة كأنما هو حارس لمبنى المحطة والاستراحة، حارس مدني مصري، يطاح برأسه حين يريدون.
لمح زميله وهو يلوح له من الضفة الشرقية، واقفا فوق كثبان الرمال، وفي يده حقيبة صغيرة وعود. لم يبد عليه الندم. لوح بيديه مبتسما، سعيدا ببقائه هنا ! لعله أراد أن يتغنى بأغنيات عشق للوطن الذبيح !
بيده حقيبة سفر صغيرة، وفي قلبه مرارة. على الطريق المتجه إلى القاهرة، شاهد الجنود المصريين في رحلة العودة إلى أي مكان !.. يستقلون أي مركبة تقابلهم. لا هدف للجنود المنسحبين سوى العودة إلى الأهل. هم في قلق مستبد على أحوالهم. سرى خوف بينهم على أسرهم في مصر. ساورهم قلق من دخول إسرائيل القاهرة. ربنا يستر..
ألقى الحقيبة على الأرض، واحتضن أمه وأباه. ثم طار إلى صاحبه. تعانقا بحرارة، ثم جلس يحكي مأساة جيش يتقهقر ! لم يصدقه. سأل في مرارة :
ـ أين روسيا ؟
ـ لنا الله..
زار نرجس جندي قدم نفسه بأنه زميل زوجها. وهو عائد لتوه من جبهة القتال. قصدها قبل أن يعود إلى داره. يحمل أمانة من مصطفى. كانا في خط المواجهة بغزة، و...
مد يده بلفافة تخص زوجها، ثم.. خانه التجلد الذي أكره نفسه عليه، فبكى.. صرخت نرجس. التف الجيران حولها. انهارت مرتمية على الأرض. هرع إليها أبواها.. رفع الأسطى حسين يديه إلى السماء، طالبا لابنه الشهيد الرحمة والمغفرة. خانته دموعه، وهو يتذكر فجيعته الأولى.. حين رأى زوجته يكاد يتقطع قلبها من شدة البكاء، واساها بكلمات خنقتها دموع سخية.. إلى جنة الخلد يا شهيد..
كان زميل مصطفى قد عاد ممزق الوجدان، ضائع الخطى. مشى في الصحراء التي لا حدود لها. لا يعرف كم كيلومترا قطع وفي أي اتجاه ؟! استقل أول مركبة قابلته. نزل منها وأكمل السير. التمس الراحة في ظل شجرة. زملاء مثله كثيرون، التقاهم أو افترق عنهم.. منهم من سقط إعياء، ومات مكانه عطشا أو جوعا أو تعبا..
فض الأستاذ فريد اللفافة، فوجد فيها دبلة الزواج ومصحفا ومحفظة بها جنيهات قليلة، وبطاقة هوية وأوراقا أخرى.. و.. رسالة كتبها قبل استشهاده بسويعات قليلة أو ربما لحظات، عبر فيها عن أمله في العودة منتصرا، أو الاستشهاد !
ألقى جمال عبد الناصر بيانه إلى الأمة عبر قنوات الإذاعة والتليفزيون. صارح الشعب بالحقيقة التي لم يقلها أحد. لقد هزمنا. لكنها ليست آخر المعارك. إنها نكسة في تاريخ كفاح الشعب. أعلن مسئوليته عما حدث وعرض التنحي عن السلطة..
اندلعت مظاهرات تأييد له من كافة طوائف الشعب المنكسر. كانت المظاهرات أشبه ببركان اندلع فجأة..
حين عاد سعد زغلول من أوربا في سنة 1921م، كانت الأمة في استقباله كأنها طائر مد جناحيه. يقول مصطفى صادق الرافعي في هذه المناسبة : " نعم، لم ينتصر البطل، ولكن الأمة احتفت به لأنه يمثل فيها كمالا من نوع آخر هو سر الانتصار؛ فكانت حماسة الشعب في ذلك اليوم حماسة المبدأ المتمكن، يظهر شجاعة الحياة، وفورة العزائم، وفضيلة الإخلاص، وشدة الصوْلة، وعناد التصميم، ويثبت بقوة ظاهرة قوة باطنة. وكان فرح الأمة عنادا سياسيا يفرح بأنه لا يزال قويا لم يضعف. وكان ابتهاجا مجدا يشعر بأنه لا يزال وافرا لم ينتقص. وكان الإجماع ردا على اليأس. وكانت الحماسة ردا على الضعف ".
احتشدت الجماهير بعد نحو ستة وأربعين عاما تثني الزعيم عن التنحي، وتطالبه بتحمل مسئوليات الحكم. معدن الشعب المصري أصيل، يستشرف المستقبل، يتجاوز المحنة. في الظروف العصيبة يسمو على الخلاقات ويتجاوزها في سبيل المصلحة العليا للوطن.
ذابت نرجس في الجموع المحتشدة تدعو بالثأر. نسي حمزة صحته العليلة، وشارك في المظاهرات، التي امتدت من الميادين والشوارع الرئيسية إلى الحارات والأزقة والدروب. بكى شاب بحرقة، وألقى بنفسه من فوق كوبري إمبابة. مرارة الفجيعة لم تترك شيخا مسنا ولا امرأة ولا طفلا. الكل خرج عن بكرة أبيه في مشهد لا مثيل له. هتف حمزة من سويداء قلبه :
ـ حماكِ الله يا مصر..
دخل الشيخ محمود مسجد زيدان لأول مرة، يؤم المصلين، يخطب فيهم قائلا :
ـ إننا هزمنا لأننا بعدنا عن كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه..
اختلت نرجس بعيدا عن الأهل. فضت رسالة الشهيد. قرأتها بعين دامية. قال ضمن ما قال :
" لا أعلم كيف أبعث بهذه الرسالة إليك. يداعب خيالي وليدنا المنتظر. أرجو أن تسميه " أمل " سواء كان ولدا أم بنتا، فكل عطايا الله حلوة. إنه الأمل يطوف بخيالي بتحقيق النصر لمصر. لا أدري متى يتحقق النصر، لكنه آتٍ لا ريب فيه ".
اختلى حمزة بنفسه وهو يعجب من أحوال الدنيا. حدث نفسه : " خفت على نفق صغير، ولكني لم أتوقع هذا الزلزال الذي أصاب مصر كلها ".
قال حمزة لعويس :
ـ حضر شاب من البلد وسأل عنك. قال إن أباك يريد أن يراك !..
تجاهل ما قال. انتحى به وهمس في أذنه ـ رغم أنه لا يوجد أحد معهما ـ بأنه ينوي الزواج من عزيزة..
زجره قائلا :
ـ يا أخي البلد في كرب، وأنت تفكر في الزواج.. هل هذا وقته ؟
ـ قصدي.. عزيزة مكسورة الخاطر..
ـ يعني أنت تجبر بخاطرها..
هز رأسه بالإيجاب..
أطرق حمزة هنيهة، ثم قال في مرارة :
ـ البلد كلها مكسورة الخاطر..
بعد فترة صمت، همس حمزة في أذن عويس :
ـ ولد يا عويس.. خذ بالك من الغرزة.. هي لكَ من بعدي. الواحد لا يضمن عمره.
ـ ربنا يطيل عمرك يا عم حمزة..
سمع عويس بأن جثة امرأة وجدت طافية على النيل. هرع إلى المكان، شق طريقه بصعوبة. أخرجوا الجثة ووضعوها على الشاطئ. غطوها بأوراق الجرائد حتى تأتي عربة الإسعاف. ارتعد وهو يقترب منها. بيد مرتعشة، أزاح طرف الورقة عن وجهها. صرخ غير مصدق أنها تقدم على الانتحار. بكى كما لم يبكِ من قبل. التف الأهالي حوله يطيبون خاطره. لكن حالة هستيرية انتابته، فطفق يردد اسمها. قعد القرفصاء وأخفى وجهه بين ذراعيه. وقال في حرقة :
ـ الله يخرب بيتك يا ثروت.. الكلب...
أمسك به شيخ طاعن في السن، يستنهضه :
ـ قم يا ولدي.. لملم جراحك.. البلد كلها منكوبة.. لست وحدك..
تعلق بعينيه الغائرتين. احتوى كفه بكلتا يديه، بللها بدموعه، كأنما الدموع تطهر الصدر مما علق به من أدران.
سار في الطريق على غير هدى، والشيخ المسن يسير معه. تودد إلى الشيخ، وهو يحكي ما فعلته زوجة أبيه، وكرهه لها.. قال للشيخ إن أباه بعث بشاب يبحث عنه، حتى اهتدى إلى مكانه. طلب منه أن يعود..
ـ بماذا تنصح يا شيخنا ؟
ـ عد إلى أبيك يا ولدي..
عاد إلى حمزة وعرض عليه الأمر. قال حمزة :
ـ لن أحرمك من أبيك، ولو أنك في منزلة ابني الذي لم تنجبه زوجتي !..
احتضنه وقد غرق وجهه بالدموع.. قال مطيبا خاطره :
ـ عفا الله عما سلف..
عكف فتحي يكتب في مذكراته مأساة أمة نكبت في أعز أمانيها.. بللت الدموع الصفحة التي يكتب فيها.. تطلع إلى السماء، عساه يهتدي إلى نجم ما، لعل أملا جديدا يلوح في الأفق !

( النهـايــة )
إمبابة في : 3 أكتوبر 2003

د. حسين علي محمد
06/08/2008, 04:31 AM
مؤلفات الكاتب حسني سيد لبيب
1-باقة حب للشاعر خليل جرجس خليل : دراسة أدبية " بالاشتراك " ـ القاهرة 1977
2-حياة جديدة : قصص ـ أصوات معاصرة ـ الشرقية 1981
3-أحدثكم عن نفسي : قصص ـ اتحاد الكتّاب العرب ـ دمشق 1985
4-طائرات ورقية : قصص ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة 1992
5-كلمات حب في الدفتر : قصص ـ ط 1 ـ اتحاد الكتّاب العرب ـ دمشق 1993، ط 2 بتقديم د. خليل أبو ذياب ـ أصوات معاصرة ـ الشرقية 1997
6-سبعون ألف آشوري : قصص مترجمة ـ وليم سارويان ـ دار الصداقة للترجمة والنشر والتوزيع ـ حلب 1994
7-ابن عمي ديكران : قصص مترجمة ـ وليم سارويان ـ دار الصداقة للترجمة والنشر والتوزيع ـ حلب 1994
8-الخفاجي.. شاعرا : دراسة أدبية ـ تقديم البشير بن سلامة ـ رابطة الأدب الحديث ـ القاهرة 1997
9-دموع إيزيس : رواية ـ مركز الحضارة العربية ـ إمبابة بالقاهرة 1998
10-نفس حائرة : قصص ـ تقديم محمد جبريل ـ دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ـ الإسكندرية 1999
11-مصادر المعلومات عن العالم الإسلامي بين الإنصاف والمغالطة : بحث ـ مكتبة الملك عبد العزيز العامة ـ الرياض ـ 1999
12-روائي من بحري : دراسة نقدية ـ كتابات نقدية العدد 113 ـ هيئة قصور الثقافة ـ القاهرة 2001
13-اتجاهات القصة التونسية القصيرة: دراسة أدبية نقدية ـ بالاشتراك مع رشيد الذوادي ـ دار الإتحاف للنشر ـ تونس
14-الكرة تختفي في الأعالي: قصص ـ سلسلة أصوات مُعاصرة ـ الشرقية 2005.
15-نفق المنيرة: رواية ـ اتحاد الكتاب مع الهيئة المصرية العامة للكتاب 2007م.