حسين علي البكار
21/07/2008, 08:36 PM
"زفرة الغضب"
إلى الذين ارتفوا إلى العلا شهداء في أرض لبنان
-1-
حل مساء اليوم الثاني مسرعاً, وبقي في جعبة الورقة مثل الذي راح من زمن متوالد من حصان أفلت لجامه,مازالت الورقة ذات اللون الأخضر في جيبي تحدد مبتدأ الرحلة وخبرها ,زقزقة الصغير الوحيدة تملأ أمداء الغرفة الوحيدة الكلية الأغراض ...زغاليل من حروف خضر تزرعها على جدران قلبي ..وبين الهديل المنقطع بغتة وبين صراخ الجوع خيط من هلام سرعان ما يجد له الوقت الآني المتسارع ..إنها الأولى التي تموسق الحياة وتحولها إلى أيكة وارفة ..قالت الأم وهي تناولني الأوراق التي كانت في الجيب العلوية للسترة :
- كدت أضع الثياب في الغسالة ولكن وجدت في جيبك هذه الأوراق!!
-اغسلي البدلة جيداً فهي متسخة جداً هذه المرة .....
- هل كنت تزحف بها ؟!
-لا يخلو الأمر من هذا وذاك ..فالتصاقنا بالأرض أبجدية أزلية...
وحل المساء الذي أرخى سدوله هادئاً ..تصفحت وجه الصغيرة المدور والذي انسكبت في استدارته دوارق الألق فبدا مشرقاً كمطلع الفجر المغتسل بالغمام الضوئي , ولمحت في أهدابها للكرى أسراباً من عصافير الفرات الباحثة عن أيكها بعد عناء الغدو والرواح..
عقارب الساعة تسابق رغبتي في البطء والإبطاء, فهي تسرع خطاها في رتابة أخالها انفلاتاً من بين أصابعي.. يفر الزمن مني , وتنهار متاريس قبضتي عليه ..الصيف الحزيراني يمتد .. وعبير رحلت نوارس صحوها , وشارة الأخبار دقت ..العشاء وصل ..هناك طلاق بين هذا العشاء وبين الترف ..استعار من العشاء اسمه ومع وقع الجملة التالية على جدار الذات تغير كل شيء " قصف العدو" مساء هذا اليوم مواقع قواتنا المسلحة في منطقة برالياس في سهل البقاع اللبناني لم يعد في خزان مفرداتي كلمات..ونظرت في وجه عبيرا الحالم..وفي أرغفة الخبز المعبأة في إهاب كاشف كتب عليه " أفران البقاع " ومرت الدقيقة راعدة ..هبت ذاتي ..تبعتها جررت البدلة النازفة ماء ..لملمت ما يلزمني ..ذهلت أمي وهي تراني أنفض البنطال من الماء وأدخل فيه ..
- ماذا جرى يا ولدي ؟!
- أغاروا على من أنا واحد منهم ..
- لك أيام أخر ..أنت معذور ..إنك في إجازة !!
- ما أحسه يا أمي هذه اللحظة لا يحسه الورق ..يجب أن أغادر فوراً ..
أدرك والدي ما أحس به فأمر بوضع أرغفة من خبز الحنطة في ذات الكيس القادم من شتورة ..أودعت الكيس جيب الحقيبة ..وقفت قبالة عبير ..انحنى فوق جبينها رأسي ..ولحظة التلاحم بين الأصل والفرع أحسست لماذا أنا أغادر الآن .
-2-
تباشير الصباح تلقي بعباءة الضوء الخجول على المكان المتراجع نحو الخلف ..وبانت قمة الباروك الدامية, ومع تنفس الصبح في ذياك المكان بدأت الحركة تدب في أوصال المدن والقرى بين المصنع وظهر البيدر..صور كثيرة أنشأها الخيال لمْ تصمد في التصور طويلاً , فبانت المنطقة كلها, وما بان لي في المكان سوى الفراغ , وحقول الشوندر التي تعرفني وأعرفها بانت ميدان معركة الأمس فالحفر وأشلاء الحديد المتناثرة وغصة امتزجت بالسخط نظرت إلى الجنوب الذي فيه امتداد الباروك والقرعون , فوجدت الشمس تهتك أستار الظلام ...هدوء أصعب على النفس من كل القذائف , وفي لحظة مباغتة أدركت أني أبحث عنّي في هذا المكان ,فأنا قبل أول البارحة غيري هذا الصباح وحين رأيت المتقاطرين مثلي أدركت أن قاموس التراب أرضع الكل حليب الأرض .
الكل عاد تاركاً ما في الإجازة أو الباقي منها طي الأوراق , وحين لاحت لنا راجمات الصواريخ رافعة الجباه والمعبئة بمفردات النار التي يفهمها العدو ورغم كل ما قيل لنا من مفردات مطرزة بالصبر والتأني لكن جيوش الغضب تزحف بين الأضلع نيراناً بدون دخان وعصر ذلك اليوم عادت غربان السوء حاملة الموت الذي توزعه في أي مكان تريد فلا فرق إن هدمت منازل فوق رؤوس ساكنيها , فصهلت خيولنا واشرأبت أعناق المدافع وشق الزرقة دخان أبيض قادم من الشرق كان يختصر مداه وكأنه بشوق ٍ عارم للإتحاد والتشظي في تلك الطائرة الحائمة فوق قب الياس في هذا اليوم الحزيراني الغاضب ,وتتابع المشهد بشوق الشوق لمعرفة النهاية السعيدة التي كانت كرة برتقالية بدأت تجر ذيول السقوط .. بان هابطان يجران نحو الأسفل مظلتيهما فتأهب في الكل التأهب فزمجرت المحركات اختلطت بحداء وزغاريد وبدأ شواظ من نار ينطلق في موجات من لهب يتبع الصواريخ التي تتلوها أمواج فأمواج وبدأ الدوي يزف الدوي امتلأ الجنوب بالنار والدخان في لحظة أدركت أن لا فرق بين خبز شتورة وخبز حلب وأن أصابع طفلة من شتورة اسمها هدى وعبير التي تنام في سريرها شرقي حلب هما معاً تضغطان على زناد الرد زفرة غضب 0
لبنان بر الياس 28/6/1982
إلى الذين ارتفوا إلى العلا شهداء في أرض لبنان
-1-
حل مساء اليوم الثاني مسرعاً, وبقي في جعبة الورقة مثل الذي راح من زمن متوالد من حصان أفلت لجامه,مازالت الورقة ذات اللون الأخضر في جيبي تحدد مبتدأ الرحلة وخبرها ,زقزقة الصغير الوحيدة تملأ أمداء الغرفة الوحيدة الكلية الأغراض ...زغاليل من حروف خضر تزرعها على جدران قلبي ..وبين الهديل المنقطع بغتة وبين صراخ الجوع خيط من هلام سرعان ما يجد له الوقت الآني المتسارع ..إنها الأولى التي تموسق الحياة وتحولها إلى أيكة وارفة ..قالت الأم وهي تناولني الأوراق التي كانت في الجيب العلوية للسترة :
- كدت أضع الثياب في الغسالة ولكن وجدت في جيبك هذه الأوراق!!
-اغسلي البدلة جيداً فهي متسخة جداً هذه المرة .....
- هل كنت تزحف بها ؟!
-لا يخلو الأمر من هذا وذاك ..فالتصاقنا بالأرض أبجدية أزلية...
وحل المساء الذي أرخى سدوله هادئاً ..تصفحت وجه الصغيرة المدور والذي انسكبت في استدارته دوارق الألق فبدا مشرقاً كمطلع الفجر المغتسل بالغمام الضوئي , ولمحت في أهدابها للكرى أسراباً من عصافير الفرات الباحثة عن أيكها بعد عناء الغدو والرواح..
عقارب الساعة تسابق رغبتي في البطء والإبطاء, فهي تسرع خطاها في رتابة أخالها انفلاتاً من بين أصابعي.. يفر الزمن مني , وتنهار متاريس قبضتي عليه ..الصيف الحزيراني يمتد .. وعبير رحلت نوارس صحوها , وشارة الأخبار دقت ..العشاء وصل ..هناك طلاق بين هذا العشاء وبين الترف ..استعار من العشاء اسمه ومع وقع الجملة التالية على جدار الذات تغير كل شيء " قصف العدو" مساء هذا اليوم مواقع قواتنا المسلحة في منطقة برالياس في سهل البقاع اللبناني لم يعد في خزان مفرداتي كلمات..ونظرت في وجه عبيرا الحالم..وفي أرغفة الخبز المعبأة في إهاب كاشف كتب عليه " أفران البقاع " ومرت الدقيقة راعدة ..هبت ذاتي ..تبعتها جررت البدلة النازفة ماء ..لملمت ما يلزمني ..ذهلت أمي وهي تراني أنفض البنطال من الماء وأدخل فيه ..
- ماذا جرى يا ولدي ؟!
- أغاروا على من أنا واحد منهم ..
- لك أيام أخر ..أنت معذور ..إنك في إجازة !!
- ما أحسه يا أمي هذه اللحظة لا يحسه الورق ..يجب أن أغادر فوراً ..
أدرك والدي ما أحس به فأمر بوضع أرغفة من خبز الحنطة في ذات الكيس القادم من شتورة ..أودعت الكيس جيب الحقيبة ..وقفت قبالة عبير ..انحنى فوق جبينها رأسي ..ولحظة التلاحم بين الأصل والفرع أحسست لماذا أنا أغادر الآن .
-2-
تباشير الصباح تلقي بعباءة الضوء الخجول على المكان المتراجع نحو الخلف ..وبانت قمة الباروك الدامية, ومع تنفس الصبح في ذياك المكان بدأت الحركة تدب في أوصال المدن والقرى بين المصنع وظهر البيدر..صور كثيرة أنشأها الخيال لمْ تصمد في التصور طويلاً , فبانت المنطقة كلها, وما بان لي في المكان سوى الفراغ , وحقول الشوندر التي تعرفني وأعرفها بانت ميدان معركة الأمس فالحفر وأشلاء الحديد المتناثرة وغصة امتزجت بالسخط نظرت إلى الجنوب الذي فيه امتداد الباروك والقرعون , فوجدت الشمس تهتك أستار الظلام ...هدوء أصعب على النفس من كل القذائف , وفي لحظة مباغتة أدركت أني أبحث عنّي في هذا المكان ,فأنا قبل أول البارحة غيري هذا الصباح وحين رأيت المتقاطرين مثلي أدركت أن قاموس التراب أرضع الكل حليب الأرض .
الكل عاد تاركاً ما في الإجازة أو الباقي منها طي الأوراق , وحين لاحت لنا راجمات الصواريخ رافعة الجباه والمعبئة بمفردات النار التي يفهمها العدو ورغم كل ما قيل لنا من مفردات مطرزة بالصبر والتأني لكن جيوش الغضب تزحف بين الأضلع نيراناً بدون دخان وعصر ذلك اليوم عادت غربان السوء حاملة الموت الذي توزعه في أي مكان تريد فلا فرق إن هدمت منازل فوق رؤوس ساكنيها , فصهلت خيولنا واشرأبت أعناق المدافع وشق الزرقة دخان أبيض قادم من الشرق كان يختصر مداه وكأنه بشوق ٍ عارم للإتحاد والتشظي في تلك الطائرة الحائمة فوق قب الياس في هذا اليوم الحزيراني الغاضب ,وتتابع المشهد بشوق الشوق لمعرفة النهاية السعيدة التي كانت كرة برتقالية بدأت تجر ذيول السقوط .. بان هابطان يجران نحو الأسفل مظلتيهما فتأهب في الكل التأهب فزمجرت المحركات اختلطت بحداء وزغاريد وبدأ شواظ من نار ينطلق في موجات من لهب يتبع الصواريخ التي تتلوها أمواج فأمواج وبدأ الدوي يزف الدوي امتلأ الجنوب بالنار والدخان في لحظة أدركت أن لا فرق بين خبز شتورة وخبز حلب وأن أصابع طفلة من شتورة اسمها هدى وعبير التي تنام في سريرها شرقي حلب هما معاً تضغطان على زناد الرد زفرة غضب 0
لبنان بر الياس 28/6/1982