المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : منبج للحب صفحة أخيرة



حسين علي البكار
18/07/2008, 07:43 PM
منبج 000 للحب صفحة أخيرة




إلى منبج التي أبدعتني سطوراً في أسفار الحياة


-1-
لويت عنقي في آخر التفاتة إليها , فبيوتها الطينية بدأت تنسل مني رويداً رويداً, أخذت رؤوس البيوت الطينية تغيب وراء التلة التي شدنا انحدارها , وعربة يجرها حصان تتجه بنا نحو مشرق الشمس تقاوم الإعياء , كومة من أغراض وبضع دجاجات مصفدة الأرجل في سلة من قش تثير أصواتها أشجان أمي , أما أبي فلم يكترث , كنا نستمع إلى صوت حوافر الحصان بصمت , وتمزقت بين آخر التفاتة إلى موضع شهد صرختي الأولى والقادم الذي سيطويني في صفحات الغد المجهول , الطريق يطول بنا في صعود الحصان ويقصر بنا حين النزول , من بعيد لاح خيال منبج , وبانت السيارات الذاهبة إلى حلب والآيبة منها , وغمام يلف منبج من المشارف الغربية لها 0
تسلل إحساس جديد إلى نفسي حين اقتربنا من المدينة , وحين تجلّت صورتها وانجلت معالمها , لفت كياني رائحة جديدة , وخاصة حين دخلت العربة بنا حدائق الجلنار الذي فيه مالم أره من قبل , فأتلق الجلنار المتخاصر مع الغصون الخضر الحاملة له بكبرياء وخيلاء , فأيقنت أن الورد قد استرد عطره , وقبضت الشمس على خيوطها المتناثرة بقع ضوء بين حدائق الجلنار وعناقيد السماق , عُدت أدراجي إلى ذاتي لأعيد التوازن إليها , وخاصة طفولتي المسبية , والموزعة بين سخال وجديان يتقافزن أمامي , ونهر القرية الذي كفكف ماءه ورحل , وبين ما هو مطوي في صحائف الغد , العربة مدخل المدينة مالت لليسار , وقبل السؤال عرفنا أن العجلة طلّقت هواءها , وازداد العبء على الحصان , و للتو حين ولجنا الشوارع والأزقة أدركت أن اليوم غير الأمس , وشمس هذا النهار ألحدت شقيقتها
غروب البارحة , وأن الليلة الأولى ستكون هنا , ولا أدري كيف وثبت من العربة وتركت فيها شيئاً يشبه الحذاء وما هو بحذاء , وحين لامست بقدمي أسفلت الطريق وخزتني حصيات ناعمات كن قد رحلن معي من قريتنا وتسربن إليها من تحت نعل الحذاء , وحين التفت إلى مواضع أقدامي رأيت بصمتها متواترة على سواد الإسفلت بقعاً ترابية 0
ولجنا المدينة من شمالها الغربي وبدأت حوافر الحصان ترسل صوتها المتناغم , وبان المشهد أكثر حين توقف بنا الركب أمام " حوش " ترابي ومن تراب القرية إلى تراب المدينة حطت بنا مركبة الحياة 0


-2-
في أول إصباح لنا في منبج , وفي ضياع الدجاجات السبع وضياعنا الجديد , خرجت أتفرج لأرى أين نحن , فعرفت أني عتيق بكل ما فيّ مما فيّ , فالناس في وسط المدينة جدد جددْ , وحتى النساء جديدات جداً جداً جداً , ملاحف سود يسرن بأقمار تطل من خلال تلك الملاحف , وعنقي يلفه الالتفات المندهش في كل الأماكن التي أراها , وتواثب أسئلة كثيرة وبقي سؤال وحيد محيّر :
" هل سيأتي اليوم الذي أصبح فيه جديداً مثل هؤلاء "
وذات صباح بعثر أيلول أوراقه , اقتادني أبي إلى المدرسة , وحين ولجنا الباب وبان البناء , ويدي ترقص خوفاً في كف أبي , تسلل الخوف إلى ما تحت جلبابي الذي نسيت أمي أن تخيط بنيقته بانت ساقي الراجفة وأنا أجتاز الدرج , رجل نظيف جداً يجلس وراء طاولة يضع حول عنقه خرقة مزركشة تتحرك على كيفها كلما تحرك وكيفما تحرك وحين وقف وصلت إلى حافة الحزام , وحين سألني عن اسمي نسيته أنا , فأجابه أبي لأنني رضعت الخوف مع حليب أمي 00 الخوف من الجان ومن الشرطي ومن الأستاذ 00
خرجنا من الغرفة , أبي غادر, حاولت اللحاق به , فأمسكني رجل وشدني من ياقة الجلابية وقال بحزم :" قف هنا وبعد الفرصة تدخل صفك " وما إن رن الجرس حتى تواثبت الأصوات في كل المكان واشتعل في الباحة فتيل الضجيج و فرحت أمعن النظر في هؤلاء ولا أدري من الخلف من شدني ثم هوت كف على أم وجهي , فدارت بيّ الأرض , وانطفأ النهار , وانحبس سائل من أنفي ليتحد مع آخر من فمي لأجدني مسحوباً من ذلك الرجل الذي يحمل الشاي إلى إحدى الغرف , ثم يأخذني إلى حيث ينزل الماء من حديدة لها أذن يفركها فينزل الماء , وبعد أن زرع القطن في أنفي تناثرت قطرات من دم على واجهة الجلابية يوم ظل يعيش معي مدى العمر , ولست أدري حتى اللحظة لم جرى هذا معي , ولا أقدر على محو تلك البصمة من داخلي 0

-3-
أنا ومنبج كبرنا معاً , وطفت الأزقة وعلى كتفي في كل صيف صندوقَ بوظة
وصوت الشيخ (( جمعة أبو زلام)) الذي كان يملأ أمداء المدينة كل يوم جمعة بخطبه الرائعة , حيث كنت إذاك اصغي إليه وإلى انفعالاته التي تهز الوجدان , وأما صوت الشيخ عبد الباسط والذي كنت انصت إليه عند الجامع العلائي حيث كان ينقلني وهو يتلو آيات من سورة (( "إبراهيم" 00مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة)) إلى معارج النور ليحط بي الرحال في منازل الضياء وأشجار الزيزفون كانت تبوح بعطرها في شارع الحديقة وكنت حين يحل التعب استظل بأشجار الزنزلخت, وفي كل مرحلة ترسلني مدرسة إلى أخرى ومنبج تعج بأقمار يسرن في الأزقة بتلك الملاحف السود وكان المشتل في منبج حديقة الأقمار , وذات ربيع أرسلتني أمي إلى بيت أحمل له كيساً من البابونج , وحين وصلت في زقاق في شارع جنوب التبة حيث خزان مياه منبج وقفت أمام بابين مطرزين بالمسامير , فحرت بينهما , أهذا الباب أطرق ؟ أم الذي يخاصره من الشرق , وحين دبت الحيرة فيّ طرقت لأول مرة " باب الحضر" كما كان يومذاك يقال , وحين انفرج الباب أمامي ذُهلت , وأعدت النظر فماتت في فمي حروف الكلام وحين انساب صوتها للمرة الثانية تسألني ماذا أريد لملمت صورة وجهها لأول مرة فداخ فيّ المكان ودخت به , وبسرعة وقبل أن ينغلق الباب سألتها عن بيت من هذا فقالت وهي تأخذ الكيس مني " أنا ابنة صاحبة هذا البيت هات ما عندك " وبعد انطباق الباب ضيعت الجهات وضعت معها وبعد جهد وصلت إلى درب البريد , ودرب البريد القديم يقابل بيتنا , وهو الذي أراني شاعر المدينة وحكيمها محمد منلا غزيل0
سكنت روحي وراء ذاك الباب المسمّر , وصارت " سألقاك غداً " وشماً في جدار القلب , ورحت أجوب الشوارع بين التبة ودرب البريد والحمام الصغير الذي كان وراء طاحونة " اللبني" وعند محل عبد الهادي شيخ ويس وكما كان يقول بعض الجيران عند "حور الحنيفي" , وفي كل مرة أراها كأني أراها
لأول مرة , عسل عينيها بدد مرارة عمري , وأحال حياتي إلى حالة عشق مستمر , فهي الصورة التي تغفو على وسادة روحي , وصوتها يشطرني بالتذكار حيناً , وحين التقابل العابر تشتعل بصوتها قناديل روحي , قمر أطاح بكل ما في المدينة من كواكب , لقد حلّت على منزل روحي عصفورة حلم ولن أخرجها من قفص الروح , وحين لبست عباءة الحب ولجت عامين في حلب وظلت بألحاظها التي صارت سيوفاً تغلغلت في مهجتي , وحين جدّ الجد , وراح الخاطبون يطرقون باب أهلها تمنيت أن تخرج الدسر من الباب وتنغرس في صدور كل القادمين , وحين ذهبت أمي
قيل لها " لا " ووجدتني أقود حطام روحي في الدروب , وقال لي من يحب الخير لي "إذهب إلى ضريح الشيخ عقيل المنبجي وأقرأ الفاتحة " ولم أفلح إلا بطمأنينة غادرتني حين أخذت أتعثر بأحجار المقبرة , حيث ضاعت على الشواهد أسماء الراحلين , وباتوا دارسين كالحياة التي تعصف بي 0
لم أكتب يوماً منبج , بل منبج كانت تكتبني حرفاً حرفاً , وجملة جملة , وصار الحزن ديوان الأماكن كلها , وحين عدت إلى ذات المدرسة معلماً رحلت زحوف الخوف مني وذات مساء وبينما كنت أريد استعادة ذاتي وجدت سيارات تتوقف في فم ذياك الزقاق وحينذاك عمي كل شيء فيّ لا بل شعرت بأني لا أساوي في هذه الدنيا شيئا بعد أن حملت السيارات نعش روحي ومضت , وقفت على الرصيف أنظر , ثم عدت أدراجي خالي الوفاض مني ومنا , وناخت منبج بليلها الثقيل على كاهلي وتوأمني قهراً مدقعاً صار كظلي بالنسبة لي كاسمي وأنا بالنسبة لها كاسمها فكيف يهرب المرء من اسمه ؟! صوت واحد ظل يطرق أبواب قلبي وعقلي وروحي وبعد سنين فررن مني كما يفر الماء من بين الأصابع ظل صوتاّ يطاردني حيث أكون , وبعد أن حاولت طيه من مسمع روحي كان يصر على العودة إليّ ليهمس في مسمعي " أحبك 00سألقاك غداً " 0

-4-
ذات صباح خرجت من حيث أنا إلى المدرسة, والحياة أيام تتناسل من أجداث بعضها البعض ولم استفق إلى عندما طرق المستخدم باب الصف, وبعد الدخول قال:
" هناك زائر يريد أن يراك "
خرجت من الصف ويممت ذاتي صوب الإدارة , ولا أذكر أني طلبت وليّ أحد ممن معي , وحين انفرجت دفة الباب , ووقع بصري على من جاء عاد إلى ذاتيّ الارتعاش , وعادت زحوف شوق تتسلل بي لتصل إلى نهايات الأصابع خدر ثم ذهول لفني وقفت 00بلعت ريقي 00 رأيت القمر المهاجر مني بعيداً يعود إليّ وقفت حاولت التواري عنيّ بنصف الخمار وابتلعت بدورها شهقتها التي فشل الدمع في لجم مهر حزنها لكن نصف القمر الدامع عاد بدراً خرجت يدي رغم أنفي وطارت صوب منابع دمعها وراحت تكفكف عن الوجه المطرز بالحزن ذاك الشحوب , فأنا ما شعرت يوماً بأني عنها غريب ولا هي شعرت معي أنها غريبة , فأنا هي وهي أنا "فأنا أشهد عند الله أني أحبها " وعلى الفور غادرني الخوف وكذا هي خلعت منّا كل ما باعد بيننا , ودون تردد عقدت كفي القران على كفها , وخرجنا بنا في منبج , وسرنا معاً ولم نكترث لمن هم في الشوارع عرفتُ في الطريق الموصل إلى بيتها أن الله قد أودع مالكها المقبرة وقبل أن نجتاز المسافة بين درب البريد وطريق التبة لم نرَ أحداً ولم يرنا أحد وكأن من في الشوارع ذلك اليوم على أعينهم غشاوة , أو ربما كان الخوف هو الذي يسربل خطانا كل الطرقات تعرف وقع خطونا انعطفنا شرقا في التواءات زقاقية عديدة وعند سقاطة باب بيتها استدارت بنا منبج كلها , وكأن هذا اليوم قد غسل سني القحط كلها خرجت يدها البيضاء من تحت الملحفة السوداء وهوت عليها عدة مرات , وصوت خطوات عجلى جاءت , وحين انفتح الباب شهقت أمها حين رأتنا , وارتسمت ألف علامة استفهام تصل في مداها حدود الفضيحة , ولكن ما يدور في الضياء خير ألف مرة مما قد يدور تحت عباءة الظلام تراجع الباب إلى الخلف بيد أمها الراعشة وبانت للمسامير المزروعة في واجهته ظلال صغيرة , وسرنا وأمها أمامنا يسوقها رعب أخذ يلعب في مشيتها , ثم جلسنا على أريكة وأمامنا كرسي من القش صغير , ونحن ندرك حين فعلنا ما فعلناه أن هذا السكون سيتمخض بعد قليل عن العاصفة , ثم غادرتني قليلاً وأحضرت دفتراً بغلاف بنفسجي خطت عليه " سألقاك غداً " , وقبل أن اتصفح ذلك الدفتر غادر الباب صمته ثم اندفع ساطور كان بطول حامله وعندما اقترب أكثر تعثر بكرسي القش الصغير , فهوى الساطور, وحين ارتطم بالأرض أرسل قدحاً لم يكن هذا القدح بأقل وميضاً من الشرر المتطاير من عينيه , وحين احمّرت الحدق على كل المكان خارت قوى أمها وحينذاك
تتمترست بي , ولحظتها أدركت أن المشهد لم يعد فيه سوى خيار واحد فاستجمعت شتات أفكاري , وقررت وأنا أرى أمها المتهالكة على الأريكة العتيقة , واندفعت إليه مهدئاً لكنها ظلت متشبثة بي , وقالت هذه أنا وهذا أنت وهذه أمي أنا أريده تحت سقف رضا الله وأظن أن ذلك لا يغضب أحداً لقد قُتلت في حياتي مرة ولا أريد أن أقتل من جديد , وكانت فناجين القهوة التي كانت بيد الأم قد تحطمت قرب أقدامنا 0
أدركت حينذاك أن اللبوة التي وُلدت الآن جديرة بأن أموت لأجلها بعد أن عادت لي 0
وافترشنا منبج والتحفتنا , فصارت رائحة التراب أعطر , وصار لكل شيء في منبج طعم جديد بطعم التي أهوى , وبعد بعد الذي جرى خرجت صباحاً إلى المدرسة وقبل أن اجتاز الدرجات الثلاث وجدت أمامي مشهداً لأول مرة أراه , فلقد رأيت شيخاً يشبه أبي وأجزم بأنه أبي وبجواره طفل يشبهني , وجلابيته تشبه جلابيتي حتى حذاءه الذي بانت منه بعض الأصابع التي تحمل ذات التراب يشبه حذاءي , هذا الطفل العتيق الجديد كله كان أنا , وحين دنوت منهما حاول الطفل التواري بين تلافيف جلابية أبيه , وبدأ يرتجف ثم ما لبث أن بكى فوجدتني أشفق علينا معاً وكأن عيني قبست ضياء من عينيه , وخلتني قد اختلست بعضاً من دمعه , ثم جلست
أمامه , فمددت يدي إلى شعره الأشعث الأغبر , فأجفل مني وتوغل في التواري وصار وراء أبيه , ولكنني وصلت إليه بيدي الراعشة وحين رآني لا أحمل بيدي عصا كالذي رأيته في أول يوم ولجت فيه هذا المكان فتراجع الخوف مني فيه , ثم امسكته من يده فحاول الرجوع إلى الخلف وحين رأى بسمتي أسلس
لذاته القياد , فاقتدته وصعدنا الدرج وفي آخر التفاتة لي وله إلى ذلك الشيخ
لم نره , وعند باب الصف لم أعد أعرف من منا المعلم ومن منا التلميذ وحينذاك وقف التلاميذ فرأيتني أجلس في ذات المقعد , وإلى جانبي طفلة تشبه من هي نصف عمري وأجزم أنها هي , ثم رأيتني اطل من النافذة , فرأيت منبج وهي تكتبني صفحة للحب أخيرة 0



منبج 21/2/2008

محمدذيب علي بكار
18/07/2008, 07:58 PM
منبج 000 للحب صفحة أخيرة





إلى منبج التي أبدعتني سطوراً في أسفار الحياة


-1-
لويت عنقي في آخر التفاتة إليها , فبيوتها الطينية بدأت تنسل مني رويداً رويداً, أخذت رؤوس البيوت الطينية تغيب وراء التلة التي شدنا انحدارها , وعربة يجرها حصان تتجه بنا نحو مشرق الشمس تقاوم الإعياء , كومة من أغراض وبضع دجاجات مصفدة الأرجل في سلة من قش تثير أصواتها أشجان أمي , أما أبي فلم يكترث , كنا نستمع إلى صوت حوافر الحصان بصمت , وتمزقت بين آخر التفاتة إلى موضع شهد صرختي الأولى والقادم الذي سيطويني في صفحات الغد المجهول , الطريق يطول بنا في صعود الحصان ويقصر بنا حين النزول , من بعيد لاح خيال منبج , وبانت السيارات الذاهبة إلى حلب والآيبة منها , وغمام يلف منبج من المشارف الغربية لها 0
تسلل إحساس جديد إلى نفسي حين اقتربنا من المدينة , وحين تجلّت صورتها وانجلت معالمها , لفت كياني رائحة جديدة , وخاصة حين دخلت العربة بنا حدائق الجلنار الذي فيه مالم أره من قبل , فأتلق الجلنار المتخاصر مع الغصون الخضر الحاملة له بكبرياء وخيلاء , فأيقنت أن الورد قد استرد عطره , وقبضت الشمس على خيوطها المتناثرة بقع ضوء بين حدائق الجلنار وعناقيد السماق , عُدت أدراجي إلى ذاتي لأعيد التوازن إليها , وخاصة طفولتي المسبية , والموزعة بين سخال وجديان يتقافزن أمامي , ونهر القرية الذي كفكف ماءه ورحل , وبين ما هو مطوي في صحائف الغد , العربة مدخل المدينة مالت لليسار , وقبل السؤال عرفنا أن العجلة طلّقت هواءها , وازداد العبء على الحصان , و للتو حين ولجنا الشوارع والأزقة أدركت أن اليوم غير الأمس , وشمس هذا النهار ألحدت شقيقتها
غروب البارحة , وأن الليلة الأولى ستكون هنا , ولا أدري كيف وثبت من العربة وتركت فيها شيئاً يشبه الحذاء وما هو بحذاء , وحين لامست بقدمي أسفلت الطريق وخزتني حصيات ناعمات كن قد رحلن معي من قريتنا وتسربن إليها من تحت نعل الحذاء , وحين التفت إلى مواضع أقدامي رأيت بصمتها متواترة على سواد الإسفلت بقعاً ترابية 0
ولجنا المدينة من شمالها الغربي وبدأت حوافر الحصان ترسل صوتها المتناغم , وبان المشهد أكثر حين توقف بنا الركب أمام " حوش " ترابي ومن تراب القرية إلى تراب المدينة حطت بنا مركبة الحياة 0


-2-
في أول إصباح لنا في منبج , وفي ضياع الدجاجات السبع وضياعنا الجديد , خرجت أتفرج لأرى أين نحن , فعرفت أني عتيق بكل ما فيّ مما فيّ , فالناس في وسط المدينة جدد جددْ , وحتى النساء جديدات جداً جداً جداً , ملاحف سود يسرن بأقمار تطل من خلال تلك الملاحف , وعنقي يلفه الالتفات المندهش في كل الأماكن التي أراها , وتواثب أسئلة كثيرة وبقي سؤال وحيد محيّر :
" هل سيأتي اليوم الذي أصبح فيه جديداً مثل هؤلاء "
وذات صباح بعثر أيلول أوراقه , اقتادني أبي إلى المدرسة , وحين ولجنا الباب وبان البناء , ويدي ترقص خوفاً في كف أبي , تسلل الخوف إلى ما تحت جلبابي الذي نسيت أمي أن تخيط بنيقته بانت ساقي الراجفة وأنا أجتاز الدرج , رجل نظيف جداً يجلس وراء طاولة يضع حول عنقه خرقة مزركشة تتحرك على كيفها كلما تحرك وكيفما تحرك وحين وقف وصلت إلى حافة الحزام , وحين سألني عن اسمي نسيته أنا , فأجابه أبي لأنني رضعت الخوف مع حليب أمي 00 الخوف من الجان ومن الشرطي ومن الأستاذ 00
خرجنا من الغرفة , أبي غادر, حاولت اللحاق به , فأمسكني رجل وشدني من ياقة الجلابية وقال بحزم :" قف هنا وبعد الفرصة تدخل صفك " وما إن رن الجرس حتى تواثبت الأصوات في كل المكان واشتعل في الباحة فتيل الضجيج و فرحت أمعن النظر في هؤلاء ولا أدري من الخلف من شدني ثم هوت كف على أم وجهي , فدارت بيّ الأرض , وانطفأ النهار , وانحبس سائل من أنفي ليتحد مع آخر من فمي لأجدني مسحوباً من ذلك الرجل الذي يحمل الشاي إلى إحدى الغرف , ثم يأخذني إلى حيث ينزل الماء من حديدة لها أذن يفركها فينزل الماء , وبعد أن زرع القطن في أنفي تناثرت قطرات من دم على واجهة الجلابية يوم ظل يعيش معي مدى العمر , ولست أدري حتى اللحظة لم جرى هذا معي , ولا أقدر على محو تلك البصمة من داخلي 0

-3-
أنا ومنبج كبرنا معاً , وطفت الأزقة وعلى كتفي في كل صيف صندوقَ بوظة
وصوت الشيخ (( جمعة أبو زلام)) الذي كان يملأ أمداء المدينة كل يوم جمعة بخطبه الرائعة , حيث كنت إذاك اصغي إليه وإلى انفعالاته التي تهز الوجدان , وأما صوت الشيخ عبد الباسط والذي كنت انصت إليه عند الجامع العلائي حيث كان ينقلني وهو يتلو آيات من سورة (( "إبراهيم" 00مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة)) إلى معارج النور ليحط بي الرحال في منازل الضياء وأشجار الزيزفون كانت تبوح بعطرها في شارع الحديقة وكنت حين يحل التعب استظل بأشجار الزنزلخت, وفي كل مرحلة ترسلني مدرسة إلى أخرى ومنبج تعج بأقمار يسرن في الأزقة بتلك الملاحف السود وكان المشتل في منبج حديقة الأقمار , وذات ربيع أرسلتني أمي إلى بيت أحمل له كيساً من البابونج , وحين وصلت في زقاق في شارع جنوب التبة حيث خزان مياه منبج وقفت أمام بابين مطرزين بالمسامير , فحرت بينهما , أهذا الباب أطرق ؟ أم الذي يخاصره من الشرق , وحين دبت الحيرة فيّ طرقت لأول مرة " باب الحضر" كما كان يومذاك يقال , وحين انفرج الباب أمامي ذُهلت , وأعدت النظر فماتت في فمي حروف الكلام وحين انساب صوتها للمرة الثانية تسألني ماذا أريد لملمت صورة وجهها لأول مرة فداخ فيّ المكان ودخت به , وبسرعة وقبل أن ينغلق الباب سألتها عن بيت من هذا فقالت وهي تأخذ الكيس مني " أنا ابنة صاحبة هذا البيت هات ما عندك " وبعد انطباق الباب ضيعت الجهات وضعت معها وبعد جهد وصلت إلى درب البريد , ودرب البريد القديم يقابل بيتنا , وهو الذي أراني شاعر المدينة وحكيمها محمد منلا غزيل0
سكنت روحي وراء ذاك الباب المسمّر , وصارت " سألقاك غداً " وشماً في جدار القلب , ورحت أجوب الشوارع بين التبة ودرب البريد والحمام الصغير الذي كان وراء طاحونة " اللبني" وعند محل عبد الهادي شيخ ويس وكما كان يقول بعض الجيران عند "حور الحنيفي" , وفي كل مرة أراها كأني أراها
لأول مرة , عسل عينيها بدد مرارة عمري , وأحال حياتي إلى حالة عشق مستمر , فهي الصورة التي تغفو على وسادة روحي , وصوتها يشطرني بالتذكار حيناً , وحين التقابل العابر تشتعل بصوتها قناديل روحي , قمر أطاح بكل ما في المدينة من كواكب , لقد حلّت على منزل روحي عصفورة حلم ولن أخرجها من قفص الروح , وحين لبست عباءة الحب ولجت عامين في حلب وظلت بألحاظها التي صارت سيوفاً تغلغلت في مهجتي , وحين جدّ الجد , وراح الخاطبون يطرقون باب أهلها تمنيت أن تخرج الدسر من الباب وتنغرس في صدور كل القادمين , وحين ذهبت أمي
قيل لها " لا " ووجدتني أقود حطام روحي في الدروب , وقال لي من يحب الخير لي "إذهب إلى ضريح الشيخ عقيل المنبجي وأقرأ الفاتحة " ولم أفلح إلا بطمأنينة غادرتني حين أخذت أتعثر بأحجار المقبرة , حيث ضاعت على الشواهد أسماء الراحلين , وباتوا دارسين كالحياة التي تعصف بي 0
لم أكتب يوماً منبج , بل منبج كانت تكتبني حرفاً حرفاً , وجملة جملة , وصار الحزن ديوان الأماكن كلها , وحين عدت إلى ذات المدرسة معلماً رحلت زحوف الخوف مني وذات مساء وبينما كنت أريد استعادة ذاتي وجدت سيارات تتوقف في فم ذياك الزقاق وحينذاك عمي كل شيء فيّ لا بل شعرت بأني لا أساوي في هذه الدنيا شيئا بعد أن حملت السيارات نعش روحي ومضت , وقفت على الرصيف أنظر , ثم عدت أدراجي خالي الوفاض مني ومنا , وناخت منبج بليلها الثقيل على كاهلي وتوأمني قهراً مدقعاً صار كظلي بالنسبة لي كاسمي وأنا بالنسبة لها كاسمها فكيف يهرب المرء من اسمه ؟! صوت واحد ظل يطرق أبواب قلبي وعقلي وروحي وبعد سنين فررن مني كما يفر الماء من بين الأصابع ظل صوتاّ يطاردني حيث أكون , وبعد أن حاولت طيه من مسمع روحي كان يصر على العودة إليّ ليهمس في مسمعي " أحبك 00سألقاك غداً " 0

-4-
ذات صباح خرجت من حيث أنا إلى المدرسة, والحياة أيام تتناسل من أجداث بعضها البعض ولم استفق إلى عندما طرق المستخدم باب الصف, وبعد الدخول قال:
" هناك زائر يريد أن يراك "
خرجت من الصف ويممت ذاتي صوب الإدارة , ولا أذكر أني طلبت وليّ أحد ممن معي , وحين انفرجت دفة الباب , ووقع بصري على من جاء عاد إلى ذاتيّ الارتعاش , وعادت زحوف شوق تتسلل بي لتصل إلى نهايات الأصابع خدر ثم ذهول لفني وقفت 00بلعت ريقي 00 رأيت القمر المهاجر مني بعيداً يعود إليّ وقفت حاولت التواري عنيّ بنصف الخمار وابتلعت بدورها شهقتها التي فشل الدمع في لجم مهر حزنها لكن نصف القمر الدامع عاد بدراً خرجت يدي رغم أنفي وطارت صوب منابع دمعها وراحت تكفكف عن الوجه المطرز بالحزن ذاك الشحوب , فأنا ما شعرت يوماً بأني عنها غريب ولا هي شعرت معي أنها غريبة , فأنا هي وهي أنا "فأنا أشهد عند الله أني أحبها " وعلى الفور غادرني الخوف وكذا هي خلعت منّا كل ما باعد بيننا , ودون تردد عقدت كفي القران على كفها , وخرجنا بنا في منبج , وسرنا معاً ولم نكترث لمن هم في الشوارع عرفتُ في الطريق الموصل إلى بيتها أن الله قد أودع مالكها المقبرة وقبل أن نجتاز المسافة بين درب البريد وطريق التبة لم نرَ أحداً ولم يرنا أحد وكأن من في الشوارع ذلك اليوم على أعينهم غشاوة , أو ربما كان الخوف هو الذي يسربل خطانا كل الطرقات تعرف وقع خطونا انعطفنا شرقا في التواءات زقاقية عديدة وعند سقاطة باب بيتها استدارت بنا منبج كلها , وكأن هذا اليوم قد غسل سني القحط كلها خرجت يدها البيضاء من تحت الملحفة السوداء وهوت عليها عدة مرات , وصوت خطوات عجلى جاءت , وحين انفتح الباب شهقت أمها حين رأتنا , وارتسمت ألف علامة استفهام تصل في مداها حدود الفضيحة , ولكن ما يدور في الضياء خير ألف مرة مما قد يدور تحت عباءة الظلام تراجع الباب إلى الخلف بيد أمها الراعشة وبانت للمسامير المزروعة في واجهته ظلال صغيرة , وسرنا وأمها أمامنا يسوقها رعب أخذ يلعب في مشيتها , ثم جلسنا على أريكة وأمامنا كرسي من القش صغير , ونحن ندرك حين فعلنا ما فعلناه أن هذا السكون سيتمخض بعد قليل عن العاصفة , ثم غادرتني قليلاً وأحضرت دفتراً بغلاف بنفسجي خطت عليه " سألقاك غداً " , وقبل أن اتصفح ذلك الدفتر غادر الباب صمته ثم اندفع ساطور كان بطول حامله وعندما اقترب أكثر تعثر بكرسي القش الصغير , فهوى الساطور, وحين ارتطم بالأرض أرسل قدحاً لم يكن هذا القدح بأقل وميضاً من الشرر المتطاير من عينيه , وحين احمّرت الحدق على كل المكان خارت قوى أمها وحينذاك
تتمترست بي , ولحظتها أدركت أن المشهد لم يعد فيه سوى خيار واحد فاستجمعت شتات أفكاري , وقررت وأنا أرى أمها المتهالكة على الأريكة العتيقة , واندفعت إليه مهدئاً لكنها ظلت متشبثة بي , وقالت هذه أنا وهذا أنت وهذه أمي أنا أريده تحت سقف رضا الله وأظن أن ذلك لا يغضب أحداً لقد قُتلت في حياتي مرة ولا أريد أن أقتل من جديد , وكانت فناجين القهوة التي كانت بيد الأم قد تحطمت قرب أقدامنا 0
أدركت حينذاك أن اللبوة التي وُلدت الآن جديرة بأن أموت لأجلها بعد أن عادت لي 0
وافترشنا منبج والتحفتنا , فصارت رائحة التراب أعطر , وصار لكل شيء في منبج طعم جديد بطعم التي أهوى , وبعد بعد الذي جرى خرجت صباحاً إلى المدرسة وقبل أن اجتاز الدرجات الثلاث وجدت أمامي مشهداً لأول مرة أراه , فلقد رأيت شيخاً يشبه أبي وأجزم بأنه أبي وبجواره طفل يشبهني , وجلابيته تشبه جلابيتي حتى حذاءه الذي بانت منه بعض الأصابع التي تحمل ذات التراب يشبه حذاءي , هذا الطفل العتيق الجديد كله كان أنا , وحين دنوت منهما حاول الطفل التواري بين تلافيف جلابية أبيه , وبدأ يرتجف ثم ما لبث أن بكى فوجدتني أشفق علينا معاً وكأن عيني قبست ضياء من عينيه , وخلتني قد اختلست بعضاً من دمعه , ثم جلست
أمامه , فمددت يدي إلى شعره الأشعث الأغبر , فأجفل مني وتوغل في التواري وصار وراء أبيه , ولكنني وصلت إليه بيدي الراعشة وحين رآني لا أحمل بيدي عصا كالذي رأيته في أول يوم ولجت فيه هذا المكان فتراجع الخوف مني فيه , ثم امسكته من يده فحاول الرجوع إلى الخلف وحين رأى بسمتي أسلس
لذاته القياد , فاقتدته وصعدنا الدرج وفي آخر التفاتة لي وله إلى ذلك الشيخ
لم نره , وعند باب الصف لم أعد أعرف من منا المعلم ومن منا التلميذ وحينذاك وقف التلاميذ فرأيتني أجلس في ذات المقعد , وإلى جانبي طفلة تشبه من هي نصف عمري وأجزم أنها هي , ثم رأيتني اطل من النافذة , فرأيت منبج وهي تكتبني صفحة للحب أخيرة 0




منبج 21/2/2008
اه منك ايها الكبير واه من منبج واه اه لا تدري ماذا فعلت بي :o

محمدذيب علي بكار
19/07/2008, 10:29 AM
وتبقى منبج كبيرة بكم باشجارها وشوارعها وتبقى كبيرة بالشعر والقصه والفن كان يقال منبج مدينة الشعراء وانا اقول الان:o منبج:o مدينة الادب :o

محمدذيب علي بكار
19/07/2008, 08:53 PM
زهره واحدة من بستانك لا تكفي نريد المزيد فيا حبذا لو ترسل لنا زهره اخرى :006:

حسين علي البكار
20/07/2008, 09:44 PM
شكراً للأخ محمد ذيب وأرجو أن نكون عند حسن ظنكم

محمدذيب علي بكار
23/07/2008, 05:34 PM
شكراً للأخ محمد ذيب وأرجو أن نكون عند حسن ظنكم
اقف مندهشا امام هذه الصور المكثفة ولو اردنا البحث في النص لوجدنا اكثر من قصة الجملة تكاد تكون اقرب الى الشعر او لااستطيع ان احدد ماهي الااننا في النهاية امام نص عظيم