المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ( خارج المفكرة ) من مجموعتي



مريم خليل الضاني
15/07/2008, 09:26 PM
(خارج المفكرة)

تلفّت حوله متأملا المقبرة الشاسعة الموحشة : لوحة ترابية صامتة شاحبة تبرز على سطحها مئات الأحجار المتوسطة الحجم . الهواء يصفّر بين جدران المقبرة وينشر في المكان رائحة غريبة . شمّرعن ساعديه وانضم إلى الرجال الواقفين حول القبر الذي حفر توا . التحمت أذرعهم القوية لحمل الجثمان وإنزاله في الحفرة المعتمة . همهمتهم امتزجت بوجيب قلوبهم حين دنوا من حافة القبر ، يسبرون بأعينهم ذاك الظلام الرهيب. كان حفّار القبور يرفع معوله عاليا ثم يهوي به إلى الأرض ويغترف ترابا ثم يهيله على القبر . صوت احتكاك المعول بالتراب يهيمن على الموقف . تبادل الرجال نظرات وجلة وكلمات وآيات بدوا وكأنهم يسمعونها لأول مرة :) إنّا لله وإنّا إليه راجعون(، ( رحِمه الله ) )كل من عليها فان( . أطبق الوجوم عليهم عندما انتهوا من دفن الميت ،أما هو فقد صافحهم بيد مرتعشة متعرقة ثم توجّه صوب سيارته وهو ينفض عن ثوبه الغبار العالق به . ارتمى على مقعد السيارة ،أخرج من جيبه مفكرة و أنشأ يقرأ صفحتها الأخيرة : ـ
ثلاث مهام عليّ إنجازها اليوم :
صلاة الفجر ثم دفن جاري فؤاد .
شطب بقلمه الموعدين الأولين ثم قرأ بشغف: ـ
أذهب إلى السوق لشراء الأثاث .
أدار مفتاح سيارته وانطلق بها كالسهم يشق طرقات البلدة التي بدأت تستيقظ على أولى خيوط شعاع الشمس ، وإذ نجح في تبديد الظلال القاتمة لأحداث الساعة الماضية ندت عنه صرخة طفولية ، وهو يتخيل منزله الجديد الذي فرغ من بنائه مؤخرا . غمرته نشوة عارمة فقال بنبرة مترعة بالفرح : ـ
رباه ! ، بعد عشر سنوات من الانتظار والعناء والديون ، اكتمل بناء منزلي ! .
أخذ يترنم بكلمتين ( بيتنا الجديد) ويمد صوته بالكلمة الثانية .
ـ كيف مضى الوقت بسرعة ؟ ! . تساءل وهو يغادر السوق وينظر في ساعته .
ركب سيارته وطفق يقلب فواتير المشتريات قائلا : الحمد لله لقد انتهيت من شراء الأثاث وجميع الأجهزة الكهربائية خلال ساعات قليلة . شرد هنيهة ثم قال بارتياح عميق : ـ
سيكون البيت مهيئا لاستقبال ناهد والأولاد حين يعودون غدا من السفر .
قاد سيارته باتجاه بيته الجديد يحدوه الشوق إليه . بدا له البيت كنجم بعيد في السماء أو قصر أسطوري ، كلما اقترب منه تتسارع نبضات قلبه . وضع قدمه على عتبته فغمرته موجة قوية من الدهشة ، أشعل المصابيح فتلألأت الثريات المتدلية من الأسقف وعكس البلاط الصقيل ضوءها . استنشق بعمق رائحة طلاء الجدران ثم ردّد : ما أجمل أن يمتلك المرء بيتا ! .

ضحك وهو يتخيل ملامح الإعجاب والحبور على وجه زوجته وأبنائه ، وهم يصيحون و يتراكضون بين الحجرات والسلالم .
غمغم متثائبا : ـ
كل شيء أُنجز كما أريد . أمر رائع ! .

الهواء الفاتر المتسرب من النوافذ ، والهدوء المخيم على البيت أغرياه بالنوم بعد يومين لم تذق فيهما أجفانه طعم الكرى ، فاستلقى على الأرض مداعبا المفكرة بفتور . أغمض عينيه واسترجع المهام التي أنجزها خلال اليوم . بغتة استيقظ من نومه مذعورا . نظر إلى ساعته التي تشير إلى العاشرة مساءا ،نهض متثاقلا وخرج من البيت . في الطريق إلى شقته بدأ إحساس قاتم ثقيل يكتنفه. طفق يتحسس المفكرة بإلحاح ، يقلّب صفحاتها ثم يضغط عليها بشدة فيزداد إحساسه بالضيق ، تكلم بصوت خافت : ـ
لقد نسيت شيئا ما .
استدعى المهام التي أنجزها من ذاكرته ورتّبها ثم تساءل بحنق : ـ
أف ، ما الذي نسيته ؟ .
دلف إلى شقته ، تهالك على السرير وأغمض عينيه . تراءى أمامه شريط أحداث اليوم المنصرم بكل تفاصيله : القبر ، محلات الأثاث ، وجوه الباعة ، الفواتير والمنزل الجديد . تقلب على فراشه محاولا الاسترخاء . أخذته سنة وما لبث أن استيقظ فزعا ، جلس على حافة السرير ، التحمت الهواجس في ذهنه كذرات تيار كهربائي يسري في جسمه المتعب مخلفا وراءه ألما ممضا ووهنا شديدا . امتدت يده إلى مفكرته واسترجع في مخيلته المواعيد السابقة المنجزة قائلا : ـ
أقسم أنني نسيت موعداما .
ومضت فكرة في ذهنه وسرعان ما انطفأت وتركته غارقا في ظلام دامس. استلقى على السرير فتراءى له مكان هلامي ، يقترب منه ببطء. عبثا يستجلي تفاصيل المكان ، يوشك أن يهتدي إلى ذلك الشيء ، ذلك الموعد الذي يحسه وشيكا جدا . نهض من السرير واعتصر رأسه بكفيه بقوة كأنه يستخرج شيئا مختبئا في تلا فيف ذاكرته . أحس بغصة قوية في حلقه فخرج من المنزل.
أنشأ يسير على الرصيف . تهدهده نسمات الليل و حفيف أوراق الأشجار .
يباغته صداع حاد وخدر ثلجي.، تتراءى له مصابيح الشارع كدخان رمادي بعيد ، يترنح في سيره ، يسقط على الرصيف ، يحاول سدى أن يستغيث . كأن أطنانا من الأحجار تسحق صدره وتخمد أنفاسه . يهبط في خواء سحيق موحش حيث ثمة رائحة غريبة تنداح في الهواء ، و رجال يحملون جسده الساكن وينزلونه في حفرة معتمة .

يوسف أبوسالم
17/07/2008, 01:20 PM
الكاتبة الكبيرة
مريم
مساء الخيرات

قصتك هذه هي قصتنا جميعا
فنحن نعتبر أن الموت دائما شأن الآخرين
ولا علاقة لنا به
كل يمضي في طريقه ..وتحدوه الآمال الكبار
وينسى في لحظات الفرح وتحقيق الحلم أنه يقترب من حتفه
أو أن الأقدار تخطط له بغير ما خطط
لا نعتبر من الموت ولا يؤثر فينا
مباشرة نغادر مراسيم الدفن أو العزاء
ونستمر فيما نحن عليه دونما لحظة تأمل واحدة
وفي عصرنا ومشاكلنا الكثرة
صار الموت تلقزيونيا ..بحيث أننا نشاهده كمسلسل يومي
ولم يعد يثير فينا التساؤلات والمراجعة والإعتبار
ففي العدوان الآثم على العراق كنا نرى أضواء الصواريخ وأسلحة الدمار تهوي
ونتفرج عليها في القنوات الفضائية
غير مدركين أن هذه الأضواء
ستجلب الدمار والموت والتشرد
وكذلك الدم والدموع معا
وفي العدوان المستمر على الشعب الصامد في فلسطين وغزة يحدث نفس الشسء
موت تلفزيوني نراه على شاشات الفضائيات دون أن يثير فينا
يا أخت مريم
هل تبلدنا وتبلدت أحاسيسنا إلى هذا الحد

مريم خليل الضاني
17/07/2008, 02:30 PM
كثرة مشاهدتنا لمشاهد القتل والحروب والجنائز في وسائل الإعلام أطفأت في نفوسنا جذوة التأهب للقاء الموت والاستعداد له بالعمل الصالح .إن الغفلة الشديدة عن الموت سمة عامة للبشر ،لكن لعل الذكرى تنفع المؤمنين . وقد ورد في الحديث النبوي الشريف ( أكثروا من ذكر هادم اللذات ) .
شكرا جزيلا لك يا أستاذ يوسف على تعليقك الذي لامس لب القصة فنحن نعتبر أن الموت دائما شأن الآخرين
ولا علاقة لنا به