المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : النص الكامل لرواية «ذاكرة الأشجار» للروائي الكبير محمد جبريل



د. حسين علي محمد
13/07/2008, 06:56 AM
(1)
خمن أن نهاية الصداقة الطارئة، حين يهبط أحدهما ـ قبل الآخر ـ في المحطة التي يريدها. لكنهما نزلا في المحطة نفسها. سارا، وتكلما، ودعته لزيارتها.
اعتاد النزول من الأتوبيس في شارع سليم الأول. يخلف وراءه سوق الخضر والبنايات المتوسطة الارتفاع، ومحال بيع الأدوات الكهربائية والأقمشة والخردوات، ومبني كنيسة اللاتين. يميل إلي شارع نصوح الهندي. يخترق تقاطعه مع طومانباي. يستعيد ملاحظته عن الغبار الذي يضيع حرصه علي لمعة الحذاء. تبطئ خطواته أمام بناية حديثة البناء، أمامها بقايا حديد التسليح، وشقفات الطوب الأحمر، وخلطة الأسمنت والرمال والزلط.
علي اليسار، بالقرب من نهاية الشارع، تطالعه الحديقة الصغيرة، تحيط بالفيللا البيضاء ذات الطابق الواحد. تشابكت، وغطت معظم الواجهة، أشجار الجوافة والجهنمية والفل والياسمين والبانسيانا بزهورها الحمراء. يجلس الأب في الشرفة الحجرية المستطيلة، يعلو صوته بالأغنيات التي لا يعرف ماهر لغتها. يصعد الدرجات الرخامية إلي الشرفة. يكتفي الأب بابتسامة مجاملة، ثم يعاود الغناء، أو يتجه إلي الباب المتصل بالحديقة. يضغط علي الجرس. يتوقع ـ كما حدث في المرات السابقة ـ أن تفتح شقيقتها الباب. تفسح له الطريق وهي تنادي: سيلفي..
***
لم يقدر أن لقاء المصادفة سيكون انفراجة الباب لكل ما حدث.
زاحم المندفعين في أتوبيس 153 من ميدان التحرير.
اندفع نحو كرسي ناحية اليمين. طالعته استغاثتها الصامتة تحت النافذة، القامة المتناسقة، الشعر الحنطي المسدل إلي الكتفين، العينان الزرقاوان الباسمتان، الأنف الدقيق، الشفتان النديتان، الغمازتان اللتان تضفيان عذوبة علي وجهها.
بدت غريبة في وقفتها داخل محطة الأتوبيس. ليست غربة المكان، وإنما غربة الملامح والزي الذي ترتديه. فستان فوق الركبة، أزرق، قصير الكمين، وحذاء مكشوف، وبيدها مظروف ورقي.
أومأ لها برأسه، فصعدت لتجلس مكانه. السيدة البدينة ارتمت علي الكرسي بمجرد تخليه عنه، فأفسدت كل شيء. علا صوتها بنبرة توبيخ:
ـ حجز الكراسي في السينما..
اكتفيا بتبادل نظرات الارتباك.
خلا الأتوبيس من معظم ركابه قبل محطة كوبري القبة. وجدت مكاناً، وجلس إلي جانبها. فاجأته بالشكر، وبمؤاخذتها للسيدة البدينة. ودعته في محطة نصوح. تجدد ـ بعد أيام ـ لقاء المصادفة. ابتسما بما يعني تعرف كل منهما إلي الآخر. تشبثت بساعديه، وسبقها في اندفاعهما وسط الزحام حتي جلسا متجاورين.
قدم نفسه:
ـ ماهر فرغلي.. موظف بدار المعارف..
همست باسمها:
ـ صوفيا جوتييه.
لاحظت أنه لم يلتقط اسمها، وإن تظاهر بأنه عرفه.
قالت في نبرة متباطئة:
ـ صوفيا ميكيل جوتييه.. لكنهم في البيت ينادونني سيلفي.
ـ مصرية؟
أدرك ـ في اللحظة التالية ـ سخف السؤال..
قالت في همسها:
ـ طبعاً..
ورفت علي شفتيها ابتسامة:
ـ هل أبدو أجنبية؟
حدس أنها أجنبية. لم يتصور ـ في حدسه ـ البلد الذي تنتمي إليه، وإن بدت غريبة عن المكان، كأنها تنتمي إلي عالم آخر..
أزاحت خصلة متهدلة من شعرها جانباً، وهي ترفع رأسها:
ـ ربما لأن أبوي من أصل أجنبي..
تناثرت الكلمات، فعرف كل منهما عن الآخر ما لم يكن يعرفه. اجتذبه غياب التكلف عن كلماتها وهي تتحدث عن أسرتها المقيمة في الزيتون.
اكتفت بالتلميح في حديثها عن إخوتها. لم تذكر أسماءهم ولا إن كانوا أكبر أو أصغر منها.
قالت: إخوتي، وواصلت الكلام.
حدثته عن أبيها النمساوي الأصل، وعن أمها الإيطالية. كان أبوها رئىساً لبنك باركليز، فرع بورسعيد. قتله المصريون في أحداث 1956. الأم أميرة إيطالية سابقة، لا تعي سيلفي أنها رأتها تغادر البيت إلا لزيارات متباعدة إلي شقيقة لها في بولاق. لا تدري كيف التقيا في مصر، ولا ظروف زواجهما، لكنهما أنجبا أربعة أبناء: ولدين وابنتين.
قال:
ـ ترفضون تحديد النسل.. مثل المصريين.
كان يستنكر في نفسه سرعة الانفعال بما يدفعه إلي إبداء رأي قد لا يتدبره، كلمات تسبق تفكيره. يؤلمه الاستياء الذي تتقلص به الملامح، وربما العبارات الرافضة.
قالت دون أن تجاوز هدوءها:
ـ نحن مصريون..
حدثها عن عمله في قسم المراجعة بدار المعارف. يشغله منذ تخرجه في دار العلوم:
ـ ميزة عملي أن مكتبي يطل علي النيل.
وهي تئد ابتسامة رفت علي شفتيها:
ـ هل تجلس للفرجة؟
ـ لا بأس أن أطل ـ وأنا أعمل ـ علي منظر جميل..
أشارت إلي مبني هائل علي تقاطع سليم الأول وسنان:
ـ هذه مدرستي.. النوتردام دي زابوتر..
قال:
ـ هل هي قريبة من البيت؟
ـ مجرد أن أعبر الشارع..
ـ كانت دار العلوم قريبة من بيتي.
كلمها عن أعوام دراسته في دار العلوم، عن أساتذته: علي الجندي ومهدي علام وأحمد الحوفي وعمر الدسوقي وتمام حسن. قلد كلاً منهم في محاضراته: المفردات، طريقة الكلام، ردوده علي أسئلة الطلاب.
أصاخ سمعه لحديثها عن أيام الدراسة: الدخول إلي الكنيسة قبل الحصة الأولي، البنات المسلمات يقضين فترة ما قبل اليوم الدراسي في حوش المدرسة، الصلوات التي تستغرق وقتاً أطول من وقت تلقي الدروس، الملابس البيضاء ترتديها الطالبات في المناسبات الدينية، وفي الأعياء، يترنمن بالقداس، وبالألحان الدينية، زيارات الآباء من معهد الدومينيكان، والمطران من كنيسة البازيليك، استغناء مدرب الكرة الطائرة عن عضويتها لأنها أقصر مما يجب، ادعاؤها ضرورة العودة إلي البيت ـ في أوقات الدروس الصعبة ـ لرعاية أمها المريضة.
تهمس ضاحكة:
ـ أمي مريضة بالفعل منذ أشهر!
لم تشغله ـ في البداية ـ طبيعة العلاقة، ما إذا كانت الصداقة الطارئة ستثبت في علاقة دائمة. اطمأن إلي أن الصداقة ستشهد نهايتها حين يسبق أحدهما الآخر في النزول إلي المحطة التي يريدها، لكنهما تأهبا للنزول في المحطة نفسها.
سارا متجاورين، تكلما..
تعددت لقاءاتهما علي باب كنيسة اللاتين، في التقاء ناصيتي طومانباي ونصوح، أمام سراي البرنسيسة الملاصقة لمدرسة النوتردام.
يهبط من الأتوبيس علي ناصية السور الخلفي لسراي الطاهرة، يمضي بقية الطريق علي قدميه.
استمهلته ـ ذات عصر ـ قبل أن تميل إلي نصوح الهندي، ويواصل السير في شارع السلطان سليم ـ:
ـ قلت إنك خريج دار العلوم.
أومأ برأسه مؤمناً.
قالت:
ـ أحتاج إلي دروس في اللغة العربية، ستزورنا لهذه الدروس.
استطردت لارتباكه الصامت:
ـ مجرد حيلة لاستضافتك.

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 06:57 AM
(2)

عاني ـ لرؤية الرجل الجالس في الشرفة يغني ـ ارتباكاً لم يفلح، حتي أمام سيلفي ـ في مداراته. تأمل اللحن، اجتذبه، وإن لم يفهم الكلمات. ـ أبي. ما عدا الأرض الخلاء في ناصية تقاطع شارع نصوح، والشارع المتفرع منه ـ لم يعن بأن يسأل عن اسمه ـ فإن البنايات تلاصقت في الشارع الصغير.
الفيللا من طابق واحد، تحيط به حديقة، الدرجات الرخامية الخمس، تصعد إلي الشرفة العريضة، الممتدة بطول الواجهة، من خلال الباب الحديدي الخارجي، والعمودين بمساحة المتر، يعلو كل منهما مصباح زجاجي مكور.
الشرفة تطل ـ من الواجهة ـ علي الشارع الصغير، ومن الجانبين علي الحديقة المتكاثفة الأشجار، الأرضية علي هيئة مربعات الشطرنج. تتناثر فوقها كراسي من الخيرزان، تتوسطها منضدة ذات سطح زجاجي. السلم الجانبي، متآكل، يهبط إلي البدروم. الصالة في مواجهة باب المدخل المتداخل الحديد والزجاج. الأسبق عالية، والجدران يغطيها الورق ذو النقوش الملونة. في مساحة الجدار المواجه بوفيه من خشب الماهوجني الأسود، فوقه ثلاثة شمعدانات متجاورة من زجاج من زجاج المورانو، وتماثيل صغيرة من الزجاج الملون. يتوسط الصالة أنتريه مطعم بالصدف من أربعة كراسي وكنبة، تتوسطه طاولة من الخشب المنقوش. علق أعلي الجدار صليب فضي، إلي جانبه صور فوتوغرافية، ولوحات تآكلت حوافها. تتقابل الحجرات الأربع المغلقة، عدا واحدة مواربة. الطرقة ـ علي اليسار ـ تفضي إلي حجرة خامسة، خمن أنها حجرة المائدة، وإلي الحمام والمطبخ.
يتنبه لترامي سقوط الثمار من أشجار الحديقة وارتطامها بالأرض. تعيده إلي نفسه، وإلي حيث هو.
علا صوت بالسؤال من داخل الحجرة الأولي علي اليمين:
ـ أمنا مريضة وتصرين علي البقاء خارج البيت؟!
حدّس ـ من الصورة التي رسمتها في ذاكرته ـ أن الصوت لأنطوان، شقيقها الأكبر. اختلج صوتها بنبرة سخط:
ـ ابحث عن عمل.
ـ تستطيعين الانتظار.
ـ استدرك بنبرة متأثرة:
ـ أمنا تحتاج إلي رعايتك.
وهي تضغط براحتيها علي عنقها:
ـ أحاول إنقاذ نفسي قبل أن أختنق!
سبقت ماهر إلي الحجرة الثانية علي اليسار. الستارة القطيفة، الغامقة الزرقة، المسدلة علي النافذة، تعيق دخول أشعة الشمس، لكنها تهب من الضوء ما يعين علي الرؤية.
في الوسط منضدة صغيرة، عليها مجلات ومنفضة سجاير، وإلي الجانب مكتب صغير من خشب الأبنوس. وفي الزاوية دولاب بضلفة من الزجاج، تكسدت فيه كتب مجلدة.
بدت السيدة الراقدة علي السرير ـ أدرك أنها أمها ـ مريضة، فلا تقوي علي الحركة. العينان ساجيتان، والعروق خضراء تبين من وراء البشرة الأقرب إلي الصفرة، وهالة الشعر الفضي أضفت علي وجهها سكينة. حدس أنها كانت ـ في شبابها ـ ذات جمال رائق.
لم يستطع أن يخمن عمرها، وإن بدت متعبة للغاية.
مالت سيلفي عليها. مسدت شعرها الأبيض المهوش. همست:
ـ هذا ماهر.
قالت ـ بلغة لعلها الإيطالية ـ كلاماً كثيراً، قدمته به لأمها. فطن إلي أن الأم لا تعي كلماتها، ولا تعي شيئاً.
تبين الانفراجات بين الأشجار المتشابكة عن أجزاء من البيت المقابل. خلت واجهته إلا من الطوب الأحمر، وإن وشت بحداثة البناء، وخلت مما اتسمت به فيللا جوتييه، والفيلات والبيوت القديمة، المنجاورة من ميل إلي الارتفاع والنقوش والمقرنصات. امتلأت نوافذ الطوابق الثلاثة العلوية بخزين الطعام وبقايا الأثاث، وتدلت قطع الغسيل من المناشر الممتدة أمامها. نوافذ الطابق الأول مغلقة، وإن ترامي اختلاط ندادات وشتائم وأغنيات وصراخ أطفال.
عرف أن الأب خرج إلي المعاش بعد أن بدلت قوانين التأميم اسم البنك إلي بنك الإسكندرية. قدم من النمسا قبل الحرب العالمية الأولي. التحق ـ بالشهادة المتوسطة ـ موظفاً من بنك باركليز. تزوج ابنة رئيسه الإيطالي. ترقي في وظائف البنك حتي حصل علي حق التوقيع. ظل في فرع الموسكي منذ بداية تعيينه، حتي أحيل إلي المعاش.
ـ لو أن بنك باركليز لم يؤمم، ربما ظل أبي في عمله..
ـ وسن والمعاش؟
فكرت قليلاً:
ـ خبرته تعطيه الحق في تجاوزها.
هل نسيت ـ أو تناست ـ كلامها عن موته بأيدي المصريين في معارك 1956؟ ما حكاية قتل المصريين للرجل في أثناء عمله مديراً لفرع بنك باركليز ببورسعيد؟ ولماذا نسجت هذه الحكاية التي تبدو ـ من فتاة في سنها ـ حقيقية وصادقة؟ لماذا اخترعت ما لا يوجد سبب لاختراعه؟ هل كانت تتصور ابتعاده عن حياة أسرتها، فأرادت استمالته بالحكاية الغريبة؟
كان يستطيع أن يسألها، أو يسأل نفسه: كيف يعمل الأب في بورسعيد، ويقيم في القاهرة؟
خشي أن مجرد التلميح طريق النهاية التي لا يرجوها. بدت سيلفي تكويناً في صورة المستقبل. ربما تقوضت الصورة تماماً لو أنه جذب خيط السين والجيم. ربما قالت ما روته لاختبار مشاعره، أو لعلها أرادت ـ في البداية ـ أن تبعده عنها، ربما أي شيء سيتعرف عليه بتوالي الأيام.
وهو يمسد شعره بأصابعه:
ـ أظن أن تأميم الصحف أفادني.
شجعته ـ بإيماءة ـ تكملة كلامه.
قال:
ـ ضُمّت دار المعارف إلي الأهرام. وسط أبي رؤساءه في إدارة توزيع الأهرام. عينت بدار المعارف فور حصولي علي ليسانس دار العلوم.
تكررت زياراته للفيللا حتي اعتادوا رؤيته، لا يعرف إن سألوا سيلفي عنه، أم أن هذا هو أسلوب حياتهم؟
كلمته عن مشوارها اليومي إلي وسط البلد. تبحث عن عمل بالثانوية العامة. لم تجد في نفسها ميلاً لدخول الجامعة. اقتصر بحثها علي الفنادق وشركات الطيران والسياحة. لو لم أجد سوي العمل في الحكومة، فسأظل في البيت، ما أتقاضاه من أبي يوفر لي الحياة التي أريدها، وإن كنت لا أتصور أني سأظل مع أنطوان في بيت واحد (غالب الحرج في أن يسألها إذا كانت قد صدقت فيما قالته هذه المرة؟!).
وسمت العفوية كلماتها وهي تحكي مغامرتها الأولي في تدخين سيجارة. أطالت الوقوف داخل دورة مياه المدرسة، وتأكدت من زوال رائحة الدخان ـ تخشي أنطوان ـ في النعناع الذي مضغت أقراصاً منه.
لاحظ اهتمامها بما يرويه عن المواردي. تسأل وتجيب، تستوضح، تظهر التأثر والحزن والألم والإشفاق. تبتسم، وتضحك، يعلو صوتها بالتعليقات، المواردي لا يعرف الهدوء، اختلاط الصيحات والنداءات والضحكات، وضربات حجارة الطاولة علي طاولات المقهي، أول الشارع. نصوح يختلف، هو هادئ دائماً.
روي لها عن صحوه علي أذان الفجر في جامع السيدة زينب، عبارات أخته زينب المحتجة حول من يملأ القلة الموضوعية علي نافذة المنور، حرص أبيه علي أن يكشف أغطية الأواني، يتذوق ما فيها من طعام، صرخة أمه للمساحيق التي غطت بها شقيقته الصغري هناء وجهها. ضحكة هناء لتهديد الأم: إذا فعلت ذلك ثانية فسأضربك!.. كلمات أبيه عن تحسن صحته، بعد أن اختار الذهاب ـ سيراً علي القدمين ـ إلي عمله بإدارة التوزيع في »الأهرام«، بدلاً من ركوب المواصلات. مشوار لا بأس به من المنيرة إلي شارع مظلوم.
تحولت الابتسامة إلي ضحكة ـ لم يقو علي إسكاتها ـ حين استعاد ما قالته أمه: لن نستطع استضافة فتاتك، هي خواجاية من الزيتون، ونحن أولاد عرب من المواردي!
استيقظ ذات صباح. وجدها ترنو إليه من سقف الحجرة.
عرف أنه أحبها..
هل تحبه؟
***
يجيش في نفسه الشوق لرؤيتها: وهو في مكتبه المطل علي النيل، وهو يراجع بروفات الكتب، وهو يركب الأتوبيس في تنقله بين دار المعارف وبيوت المؤلفين، وهو يجلس إلي أسرته في حجرة القعاد.
مثلت في حياته ما لا تمثله زميلات دار المعارف، ولا بنات الجيران، ولا البنات القريبات، ولا حتي أخته زينب التي يعدها صديقة حقيقية.
لم تعد صورتها تفارق عينيه، ولا يفكر في غير الأوقات التي يقضيها إلي جنبها، في البيت، أو في الشارع، أو في »أسترا« علي ناصية ميدان التحرير وشارع محمود بسيوني، هو أنسب الأماكن للجلوس بعيداً عن الأعين، وإن حرصا علي الابتعاد عن حركة الطريق. يغيبان عن بعضهما يومين، أو ثلاثة، فلا يشعر أنهما قد افترقا لحظة.
اجتذبته بما يصعب عليه تحديده، آفاق لا حدود لها، ربطته بقيود خفية، لا يراها. لا بد أن هذا هو ما تشعر به.
هو يحبها، ويعرف أنها تحبه.
روت عن مشاهداتها المتباعدة لعروض الأوبرا الأجنبية. تنزل من الأتوبيس في ميدان العتبة. تخترق زحام شارع الموسكي، إلي مبني بنك باركليز، بالقرب من بداية الشارع. تنتظر أباها حتي موعد انصرافه، ساعة أو أقل. يصحبها في الطريق نفسه. يعبران الميدان: قسم شرطة الموسكي، ومبني المطافي، والبريد المركزي، إلي ميدان الأوبرا. تعرف أن تمثال إبراهيم باشا قبالة باب الأوبرا. شاهدت عروضاً إيطالية وفرنسية. رددت مع أبيها ـ في طريق العودة ـ ألحاناً مما استمعا إليه.
حدثته عن سيمفونيات سترافنسكي وبيتهوفن وموزار وباخ وواجنر. استعاد الأسماء، أو تظاهر بأنه يعرفها.
قال:
ـ أحب الغناء من أبيك، لكنني لا أحب عروض الأوبرا، لا أفهم الكلمات، وأجد في الألحان مجرد زعيق!
ورفع راحتيه كالمعتذر:
ـ أفضل أن أكون صادقاً فيما أتذوقه، ولا أنساق إلي ما لا أفهمه!
اتجهت بنظرها إلي الأرض تداري ابتسامة:
ـ ليس الأمر صعباً إلي هذا الحد!
وعدت بأصابعها:
ـ إنها ـ عادة ـ مجرد أربع حركات موسيقية، لو أنك أعطيتها اهتمامك فستجد فيها ما يستحق السماع.
وضغطت علي الكلمات:
ـ لو أنك أعطيت انتباهك، ربما تبدل رأيك.
ـ الموسيقي الشرقية هي التي تجتذبني، تطربني، لا تعادلها عند موسيقي أخري.
تمني لو أن فمه ظل مغلقاً. يؤلمه أنه ـ إذا تحدث ـ قال كلاماً سخيفاً، وبلا معني. لم يكن يحسن التعبير عما في نفسه، أو يخفيه.
روت حلماً استقرت به نفسها: وقفت ـ متحيرة ـ أمام طريقين تظللهما أشجار مشابهة لأشجار حديقة الفيللا.
عادت من أحد الطريقين، بعد أن تساقطت ـ بمجرد الخطو ـ أمطار طينية. اصطبغ بالسواد جسدها، وما عليها من ثياب. وضعت قدمها ـ بالخطوة الأولي ـ في الطريق الثانية. تشجعت ـ بالأوراق الخضراء المتساقطة ـ علي مواصلة السير.
رأت ـ في نهاية الطريق ـ شخصاً يشبهه. تأملته. هو نفسه من كان يقف تحت شجرة هائلة تماثل أشجار الحديقة.
مدت ذراعيها، تحاول التأكد مما رأته.
صحت علي لكزة دومينيك المترفقة في كتفيها:
ـ من تكلمين؟
شيء ما في نبرة صوتها دفعه ـ بينه وبين نفسه ـ إلي استعادة ما قالته: هل رأت حلماً، أو أنها تومئ بما تصورت أنه لا يشغله؟
***
ناوشه السؤال، وإن خنقه في داخله: هل عرفت شباناً قبله؟
فطن إلي أنه ليس أول من عرفته. وشت تصرفاتها بما حاولت إخفاءه. بدت الآفاق ـ بمجرد التلميح ـ غير واضحة، وقد تطالعه بما يبعدها عنه.
يضايقه الكثير من تصرفاتها، وما ترويه، لكن شيئاً غامضاً يربط بينه وبينها، ليس الحب وحده، لكنه شعور بالألفة والطمأنينة.
كان يمني نفسه ـ قبل أن يلتقي سيلفي ـ بعلاقة حب. لم يرسم للفتاة ملامح في ذهنه، ولا تصور كيف تبدأ العلاقة، ولا كيف تنتهي.

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 06:58 AM
(3)

أهمل السؤال: كيف دخل عياد حياتهم؟
وجده يجلس - فترة بعد الظهر - الي دومينيك، يكلم سيلفي وجان، تتسم عباراته بالألفة، وما قد يبدو جرأة، أنطوان - وحده - بدا أنه لايطيقه.
في حوالي الثلاثين، قمحي البشرة، اوضح ما يميزه شعر أكرت، وعيناه بنيتان، لامعتان، وأنف متضخم، وشفتان ممتلئتان، اميل الي الهدوء، لايبين عن حقيق مشاعره، ولا يبدو عليه التأثر ولا الانفعال بما يوجهه اليه انطوان من اسئلة وملاحظات، ولا ما يتشابك امامه - أحيانا - من مناقشات بين انطوان وجان، عدا احاديثه الهامسة مع دومينيك، فانه يظل صامتاً، لايتكلم الا ليلقي سؤالا، او ليجيب عن سؤال.
العربية لغة الاسرة مع ماهر وعياد، وان لجأوا - فيما بينهم - الي لغتين، عرف ماهر من سيلفي انهما الفرنسية والايطالية.
لم يكن عياد يغير كرسيه في زاوية الشرفة التي تقف علي أعمدة حجرية، تطل واجهتها علي الشارع، ومن الجانبين علي الحديقة، معظم وقت الزيارة تبادله دومينيك مناقشات هامسة، كأنهما يتكلمان عن اسرار لايريدان لاحد ان يعرفها، تومئ دومينيك لعياد مستأذنة، تتنقل داخل الفيلا، ما بين الصالة، والحجرات الخمس، والمطبخ، والحمام، لتجديد هواء حجرة الام، تحرص - في اوقات متقاربة - الي فتح النافذة، بينما تظل الستارة مسدلة، تنهي ما تنشغل به، تعود الي الاحاديث الهامسة.
ربما اختار ماهر الجلوس في طرف الشرفة يتشاغل بالتطلع الي حركة الطريق الهادئة - ساكنة تماما في معظم الاوقات - من خلال الفروع والاغصان والاوراق.
كان عياد يتجه باسئلة متباعدة الي المسيو ميكيل، طلب نصيحة انطوان في نقود يريد ايداعها البنك، واجهه بعينين تطلبان النصيحة، بداية مناقشة قد تخرج انطوان عن صمته.
قال انطوان وهو يشير الي الحجرة اليمني:
- جان.
عرف عياد انه يريد ان ينقل له شعوراً بعدم رغبته في الكلام.
قد يفاجئه انطوان بملاحظة، يهملها، او يحاول - في كلمات قليلة - توضيح موقفه.
لم تنشأ بينه وبين ماهر علاقة من اي نوع، لا صداقة ولا عداوة، كان يعبر ماهر بنظراته، اذا التقت النظرات، اكتفي بايماءة، وان تحدثا - في اوقات قليلة - متباعدة، عن ظروف عمله في دار المعارف، ومخاوف عياد من قوانين التأميم - عرف انه يشرف علي مصنع صغير للنسيج بالوايلي، وان تردده علي البيت بدأ لمراجعات حسابية اجراها له المسيو ميكيل - واحوال الجو، ومباريات الكرة.
ضايق انطوان ان دومينيك لم تبتعد عن عياد حين اظهر معارضته لزواجهما، اظهر ضيقه - ذات عصر - وهو يخترق الردهة الي داخل البيت، لم ينظر ناحية دومينيك وعياد في جلستهما داخل السور المطل علي الحديقة.
اشار لها من حجرة الصالون.
واجهته بعينين زرقاوين، واسعتين، قلقتين، ووجه صبغته الحمرة، وشفتين مرتعشتين، وعروق نافرة في عنق شبيه بعنق الغزال.
عدلت - بعفوية - الايشارب الحرير الذي احاطت به رأسها، والفستان الشيت المزين بزهور ملونة، والشبشب المنزلي الذي اخطأت فيه موضع قدميها.
قال في صوت تعمد ان يكون مرتفعاً:
- هل تجدين ان هذا الرجل يناسبك؟
- ما يعيبه؟
- هل هو من بيئتنا؟
- لا اجد في إصبعا ناقصا، ولا اجد فيه اصبعا زائدا.
وهو يحرك قبضته امام وجهها:
- أمرتك الا تصادقي شابا من غير ديننا!
- هو صديق ابي وصديقي.. وخطيبي أيضا..
وزفرت في ضيق:
- وهو مسيحي، اختلافه في المذهب
وشت لهجته بالحسم:
- نحن كاثوليك..
وزاد ارتفاع صوته كأنه يصرخ:
- هل ضاقت بك الدنيا؟!
ثم من بين اسنانه:
- أنا لست روفيانو!
ارتجفت شفتاها، همت ان تقول شيئا، يعبر عن الرفض، او الغضب.
غالبت حشرجة:
- كف عن هذا الكلام!
شعرت انه ليس لديها ما تضيفه، فظلت صامتة.
عرف ماهر من سيلفي ان الكلمة تعني القواد.
ظلت دومينيك تستقبل عياد، يجلسان في الشرفة الدائرية، الواسعة، المطلة علي الشارع، او في الصالة، يتحدثان، ويتهامسان، حتي يتقدم الليل، فينصرف.
تعرف دومينيك ان الجرأة لاتنقصه، باح لها بخشيته ان يفقدها، يمنعه انطوان من دخول البيت فلا يلتقيان، لن تتاح له فرصة اللقاء في الكنيسة، او سوق الخضر، او الطريق، هذا هو عالمها، يصعب ان تجد فيه لحظات تنصت اليه، ترد علي اسئلته تأخذ منه وتعطي.
لم يكن يأخذ مع سيلفي او يعطي، مجرد كلمات مجاملة، يتجه كل منهما بكلامه الي دومينيك.
مرة وحيدة، ابدي ملاحظة حول الحرية التي تنطلق فيها سيلفي دون افق، ردد كلمات من صلاة الشكر: »من اجل هذا نسأل، ونطلب من صلاحك - يا محب البشر، امنحنا ان نكمل هذا اليوم المقدس، وكل ايام حياتنا، بكل سلام، مع خوفك، كل حسد، وكل تجربة، وكل فعل الشيطان، ومؤامرة الناس الاشرار، وقيام الاعداء الخفيين والظاهرين«.
ومضي الغضب في بريق عينيها، ورفعت كتفيها، ومضت الي الداخل.
***
قال انطوان لأمه في لحظات إفاقة:
- نحن نحرص علي زيارة الكنيسة، ونهمل اقامة الشيطان في بيتنا.
اضاف للحيرة في عيني الام:
- انا اري التصرفات، لكن الشيطان يختفي حيث لانراه!
اكتفت السيدة كاترين بنظرة ساهمة، بعد ان اوقفت دومينيك عن الدراسة، صار زواج الابنة - وحده - شاغلها، تملكها القلق لتأخر زواج دومينيك، خشيت ان يقعدها المرض، لايتقدم لخطبتها احد، تظل العمر عانسا.

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 06:58 AM
(4)

تدخل الكنيسة في طريقها إلي شارع نصوح. تصر السيدة كاترين أن يترددوا علي الأب يوحنا، في عودتهم إلي الفيلا. تعبر الحديقة الصغيرة ذات السور الحديدي، وأشجار البانسيانا، العالية، إلي صحن الكنيسة، والأبواب الخشبية الثلاثة، باب كبير، يتوسط بابين صغيرين، تصعد إليها ثلاث درجات رخامية.
الخادم مشغول في نفض الغبار عن الأيقونات والصلبان المعلقة علي الجدران..
تشعل شمعة، وترسم الصليب علي صدرها، وتؤدي ـ بتمتمات ـ بعض الصلوات والأدعية، تجثو علي سجادة الركوع، تستغرق ملامحها في الترتيل.
قال الأب لدومينيك:
ـ لك صوت جميل..
وواجهها بنظرة متسائلة:
ـ لماذا تتكاسلين عن الترنم في الكنيسة؟
أقعدتها أمها في البيت. أعدتها لبيت الزوجية. علمتها الجلوس علي ماكينة الخياطة، وتطريز الستائر، والغسيل، والكي، والطبخ، وصنع الحلوي. تشغل نهارها، ووقتاً من الليل، في العمل، تكنس، وتمسح، وتغسل، وترتب، وتنفض.
تواظب علي القداس اليومي. تحرص أن تجلس في الصفوف الأولي، تتابع القداس بخشوع، تكثر من الجلوس أمام كشك الاعتراف، ربما حضرت صلوات المساء.
قبل أن يتردد عياد علي البيت، وتطمئن إليه، كانت تحرّم علي نفسها مجرد النظر إلي أي شاب، ولو بجانب عينها، ولو باللمحة.
لم تكن تسامح نفسها إذا تحركت مشاعرها لرؤية شاب. تلتقيه في الطريق، أو سوق الخضر، قد يطل من نافذة، أو يقف داخل دكان. تظل الملامح في بالها. تعرف أنها أخطأت بما يستدعي الاعتراف. ترسم علامة الصليب، وتسرع خطواتها إلي الكنيسة. تزور الأب يوحنا في حجرته، أو تضغط علي جرس الاعتراف، لتروي.
تكون ـ في داخلها ـ إحساس بأنها تمتلك من الحصانة ضد الإثم ما يعينها علي مواجهة أية مغريات..
أقسي أيامها حين يداهمها صداع، أو وجع في جنبها. يداخلها معه حزن لا تدري مصدره. تطيل النظر إلي السماء، كمن تناجي الظلمة والقمر والنجوم والسحب. تضيق بالأسئلة والملاحظات. تلزم حجرتها، لا تفارقها إلا لدورة المياه. يدفع من يتصادف وجوده الباب الموارب حين يعلو صراخها. ألفوا سيطرة نوبات التشنج عليها. تعاودها علي فترات متباعدة. تتطوح ذراعاها وقدماها، وتتسع عيناها، وتتصلب، ويسيل الزبد الأبيض من جانبي فمها. تظل في تشنجها وهي بين ذراعي أنطوان أو جان، لا يتركها إلا بعد أن تهدأ.
لم تعد الأدوية تعيدها إلي حالتها وصفائها النفسي..
رفض أنطوان نصيحة الشيخ جميل غازي إمام جامع العزيز بالله، بأن يقام لها زار. لم يفهم المعني في البداية، ثم رفضه تماماً..
ـ هذه طقوس إسلامية!
ـ ما يهمنا أن تخرج الجان من جسدها..
ـ الجان؟!
ثم وهو ينفض رأسه:
ـ لا أؤمن بهذه الخرافات!.
اعتادت التردد علي الكنيسة، والصلاة فيها، صباح كل أحد. تظل إلي ما بعد انصراف الجميع. يستقبلها الأب بابتسامة مرحبة. يسألها عن الأسرة. يعرف أفرادها بالاسم.
عرفت من الأب سر القربان المقدس، وسر الزيت المقدس، وسر التعميد، وسر المناولة.. أسرار كثيرة حدثها عنها الرجل..
لا تكتفي بالأحد يوماً واحداً تزور فيه الكنيسة. ربما ترددت عليها مرة أو مرتين في اليوم الواحد. تشعر بالضيق، أو بالوحشة. ترتدي ما تصل إليه يدها، وتمضي إلي الكنيسة. تنتظر فراغ الأب مما يشغله. يهبها إنصاته، ثم يشير عليها بما ينبغي أن تفعله.
أودعت الأب كل أسرارها. لم تعد تخفي شيئاً. حتي العلاقة بين إخوتها بعد رحيل الأبوين، روتها له، وطلبت نصيحته. أظهرت تخوفها من سعي أنطوان لبيع الفيلا، قبل أن يهاجر إلي أمريكا. هي الآن ـ وحدها ـ تعيش في الفيلا. ساعدها عياد في منعه من تحقيق غرضه.
تلقت ماء التعميد علي يد الأب يوحنا.
عندما طلب الأب أن تسمي ـ عند التعميد ـ كريستينا، رفضت الأم، وأصرت علي تسمية دومينيك.
ألفت قداس الأحد: المجامر والتراتيل والصنوج والترانيم والبخور ذا الرائحة المميزة والدكك الخشبية والصلاة وتناول الخبز السماوي ولذعة النبيذ وطبق العطاء..
كان الأب يوحنا علي ثقة من أن الخالق يساعد العباد علي أمور حياتهم، وما يطرأ من مشكلات. وكان يرفض النذور والقرابين. يري أن أفعال المرء هي طريقه إلي الجنة، أو النار..
يعرف بيوت الأسر الكاثوليكية في الزيتون، ويعرف أحوالهم، والمشكلات التي يواجهونها. لا تقتصر معرفته علي ما يفض به المترددون علي الكنيسة عن أنفسهم وراء الستارة المسدلة، إنما هو يزور البيوت، ويكلم من يلتقي بهم في الطريق، ويلحظ الغائبين، ويدعو الجميع، فيزورونه في الكنيسة. يسأل، ويجيب، ويناقش، ويبذل النصيحة. إذا تأخر أحد المترددين علي الكنيسة عن قداس الأحد، قرع الأب باب بيته في يوم تال، يسأل عن السبب. يعيب علي الكاثوليك من أبناء الزيتون أنهم يهملون تعميد أبنائهم، ولا يعنون بالتردد علي الكنيسة ـ دومينيك استثناء جميل ـ وأداء طقوس الدين، أو يترددون علي الكنيسة لمجرد أداء الواجب. ربما ترك الكنيسة إلي بيت ينتظره فيه من يعوزه القربان المقدس، أو سماع الاعتراف، أو تلقي المسحة الأخيرة.
يقبل الهدايا للكنيسة، ويرفض الهدايا لنفسه:
ـ لا أحب أن أقف في موضع الحرج!
***
ظل الأب صامتاً، يحمل في يده المرشة المضمخة بالماء المقدس. يحرص أن يلزم الجميع الصمت أوقات القداس. حتي السعلة، أو العطسة، يتجه ناحيتها بنظرة غاضبة. يغيظه الكلام داخل الكنيسة، وعدم الإنصات إلي عظاته، أو إلي طقوس الصلاة.
الصولجان المذهب يحيط برأس الأب. يستعيد إكليل الشوك علي رأس تمثال المسيح في مدخل الكنيسة، وإن خلا من إيحاء وجود الدم.
استقر الحضور علي الدكك الخشبية. الشمامسة الصغار يرتلون الترانيم، ويهزون مجامر البخور. أصداء الترانيم تتردد في الأسقف العالية، المتداخلة، والجدران. كورال الكنيسة يشدو قداساً بموسيقي باخ وموزارت وبوتشيني.
خفض الحضور الرءوس، وشبكوا الأيدي علي الصدور.
هذا هو العالم الذي تحبه: المذبح، وتضوع البخور، صليل الأجراس الصغيرة، أردية الكهنة الفضفاضة يختلط فيها الأبيض بالبني، وتحيط بها ـ في المناسبات ـ الخيوط المذهبة، العصا العاجية ذات القبضة المذهبة، الشموع المضاءة، عزف الأورغن، وتراتيل الجوقة، وأصوات المصلين المتناغمة، والعيون المسبلة، وعلامة الصليب، والتمتمات، والألحان السماوية، وترتيل الآباء والشمامسة، والقربان المقدس، والزيت المقدس، والمعمودية،والمناولة المباركة، وصلاة السبحة، وصلوات الغروب، والتاسوعات، وطقوس التبخير، والرنو إلي المغفرة.
مالت إلي حجرة الأب في يسار الواجهة. اعتادت الرائحة العتيقة، لا تدري مصدرها، ولا تستطيع تحديدها.
الصليب يعلو الجدار، وتمثال العذراء تحمل المسيح، وعلي الأرفف تماثيل صغيرة لقديسين وشموع ومباخر. تقبل يده، وتنصت إلي دعواته ونصائحه: عندما نتقبل صوت الله فإن الله يجتذبنا نحو المسيح.. تناول القربان المقدس والصوم والإخلاص في التوبة يوصلنا إلي اكتشاف يسوع المسيح.. علينا أن نكون شاهدين للمسيح، نعطيه كل شيء.. حتي حياتنا.. علينا أن نتأسف عن قبائح تصرفاتنا وكلماتنا وندينها.. عندما تتقبل صوت الله فإن الله يجتذبنا نحو المسيح. الأب والابن والروح القدس، الخالق الأزلي الأبدي، المالئ كل مكان، العالم بالأسرار قبل كونها.. كيف نخشي التوبة وقد أنقذنا الله من سلطان الظلمة ونقلنا إلي ملكوت ابن محبته؟.. احتمي بالمسيح، وتشبثي بنعمته، وقوة دمه الغفورة.
قالت دومينيك للأب يوحنا:
ـ ارتكبت خطيئة..
قال الأب:
ـ افتحي باب قلبك لأن المسيح واقف علي الباب يطرق..
واحتضنها بنظرة مشفقة:
ـ أن نعترف بخطيئتا، فهذه بداية صحيحة..
واتجه إليها بنظرة متأملة:
ـ هل هي خطيئة جسدية؟
وهي تغالب شعوراً بالأسي:
ـ ربما..
ـ كيف؟
تعمدت أن يعلو صوتها لتقضي علي التردد في داخلها:
ـ تركت يدي للشاب الذي أعرفه.. ظل يضغط عليها، ثم تركها..
أردفت وهي تعاني الانفعال:
ـ شعرت أني موافقة.
ـ لعله كان خائفاً..
ثم في نبرة مهونة:
ـ هل هو خطيبك؟
ـ ينوي خطبتي.
وتهدج صوتها بالانفعال:
ـ قال إنه يحبني.
ـ ما فعله ليس حباً..
وظل علي نبرته المهونة:
ـ إحساسنا بالذنب والخطيئة يقرّبنا من هاوية العقاب إلي حياة النعمة..
همست لتخفي التوتر في صوتها:
ـ أرجو ألا تبوح لأمي بما رويته لك..
قال:
ـ هل رويت لي شيئاً؟
وهي تشير إلي الكشك الخشبي في مدخل الكنيسة:
ـ ما رويته لك الآن..
اعتادت التردد علي القسيس في الكنيسة. يجلس في الكشك الخشبي ذي الستارة من القماش السميك. ينصت إلي اعترافها، إلي ما ترويه عما تري أنه خطايا ينبغي أن تستغفر عنها. تثق أنه يعرف أنها تعرف صوته..
هز رأسه دلالة الفهم:
ـ أنت لم تقولي.. وأنا لم أستمع..
أشاح بهيئة من لا يعنيه الأمر:
ـ للكنيسة قوانين.. وهي تحظر علي الكاهن أن ينقل ما استمع إليه من أصدقائه..
وفاضت ملامحه بالإشفاق:
ـ الكنيسة ليست للخاطئين ولا للمؤمنين. إنها لكل رعاياها..

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 06:59 AM
(5)

مال من شارع نصوح الهندي الي شارع السلطان سليم..
كانت الكنيسة تلقي ظلها علي الشارع، يمتد الي الناحية المقابلة، حتي بداية الطريق الي محطة الزيتون.
تجاوز باب الكنيسة الحديدي المفتوح، وواصل السير في السلطان سليم، الف قداس الاحد: المجامر والتراتيل والصنوج والارغن والترانيم والشموع وتضوع البخور ذي الرائحة المميزة والماء المصلي عليه وصلصلة الجرس والايقونات وتراتيل الشمامسة والدكك الخشبية والصلاة وتناول النبيذ وقضم الخبز السماوي.
الاب يرتدي لباسه الكهنوتي، وثمة صليب خشبي يهزه في يده، يعظ، وينصح، ويتحدث عن المسيح والعذراء مريم، وعن فعل الخير والخطيئة والحياة الآخرة والثواب والعقاب والجنة والنار، يتأمل الوجوه من حوله، يعرف بعضها وتغيب عن معرفة الآخرين.
كان يجد في قداس الاحد مناسبة للالتقاء بالاصدقاء، وبالذات من يقطنون بعيداً عن الزيتون، يطيلون الوقفة - بعد انتهاء القداس - في الساحة الصغيرة امام الكنيسة، وعلي الرصيف، تلتقي الخيوط في اسئلة واجوبة ومناقشات ويتناقصون حتي يعود الهدوء الي الكنيسة، وما حولها.
كره عظات الاب ونصائحه وتحذيراته، احاديثه عن الله والتوبة والجنة وعذاب الآخرة، مشكلة الاب ام يقدم علي مائدة كلماته طعاما وحيدا لايبدله، مهمابدا الطعام لذيذا، ومستساغا، فان توالي تقديمه قد يصيب النفس بالصدود: لا تفعل.. لا تفعل.. لا تفعل، الناس - خارج الكنيسة - يتصرفون بعكس ذلك، لن تبني الاخلاق الطيبة حياته.
تأملت دومينيك جسده النحيل، ووجهه الابيض، المسحوب، الملئ بالنمس، وحاجبيه الملتصقين في منتصف الجبهة، وعينيه البنيتين سريعتي الحركة، وابتسامته الدائمة كأنها جزء من ملامحه، وحرصه ان يرتدي ثيابا زاهية الالوان:
- جان.. هل تؤمن بالله؟
واجه نظرتها المتوجسة بابتسامة متوددة:
- هل تشكين؟
ضربت الارض بقدميها:
- لاترد علي سؤالي بسؤال، هل أنت مؤمن بالله؟
- طبعاً، وان كان لي ملاحظاتي حول تصرفات القسيس..
ووشي صوته بعصبية واضحة:
- انه يفرض الوصاية علي حياتنا.
رمقه انطوان بنظرة مرتابة..
قال:
- أنا أؤمن بالله، ولست في حاجة الي قسيس لتأكيد هذا الايمان..
وعبر الصمت الذي حل فجأة:
- في رأيي ان الكنيسة مجرد وسيلة لجباية الاموال!
حين رشم علامة الصليب علي وجهه وصدره، قال لنظرة انطوان المتسائلة:
- أنا ادعو ابانا الذي في السموات..
ورحلت نظراته الي بعيد:
- ثم اتبع دعائي بدعاء آخر.. ان يظل فيها.
داري انطوان قلقه بابتسامة فاترة:
- من هو؟ ومن هي؟
وهو يطرح قبضته:
- اله السموات.. أدعوه ان يظل فيها..
قال انطوان:
- أنت قليل الادب.
اعتادت الفيلا مشاجراتهما الصغيرة، تعلو الاصوات، تتكور قبضات الايدي، تتقلص الملامح، لكن الهدوء ما يلبث ان يحيط باللحظة المتوترة، فيودعها الصمت.
قال جان:
- انا اقول رأيي.
ورسم علي شفتيه ابتسامة باردة:
- للمسيح عالمه.. ونحن لنا عالمنا.
وشوح بظهره يده:
-ليأخذ الله شموعنا وصلواتنا، وليترك لنا حياتنا نعيشها.
ثم وهو ينهي المناقشة:
- هل اذكرك بقول المسيح: مملكتي ليست من هذا العالم!
اعتاد التردد علي الكنيسة، يحضر القداس، يتلقي القربان المقدس، يؤدي الصلوات، ويرسم علامة الصليب، يشارك في حفلات عقد القران، ربما شارك في اداء الترانيم، او قرع الجرس، او جال بالمبخرة في زوايا الكنيسة، يسيطر عليه شعور بأنه يفتعل ما يؤديه، لا يمارس شيئا حقيقيا، هو يردد اقوالا، ويقلد حركات لا يفهمها، او لا يثق بجدواها، وان انسجمت مشاعره مع الحان الارغن.
عاب علي معظم المترددين علي الكنيسة ان عباءتهم تقتصر علي التمتة بالالفاظ:
- أنا اذهب الي الكنيسة، اصلي، واردد الادعية والاناشيد، دون ان اعرف لماذا افعل ذلك؟!
وقلب شفته السفلي:
- الله يعرف ما اريده، فهو لا يحتاج الي صلواتي وادعيتي!
قال لأبيه وهو صغير:
- هل نحن اقباط؟
- لا.. نحن كاثوليك..
- ما الفارق؟
- الاقباط مسيحيون مثلنا.. لكننا نختلف في المذهب..
- ماذا يعني المذهب؟
- طريقة تدينهم تختلف عن طريقة تديننا..
كان يشارك في اداء القداس دون اعتقاد، ولا ايمان حقيقي، لم تكن الصلوات تعني له شيئا، اي شيء، انما هي مجرد كلمات مكررة، وادعية، ترددها الالسنة - بآلية - وراء الاب يوحنا، يسلم نفسه الي الشرود، يبدو عليه الضيق والتململ، يكثر من التلفت وتأمل سقف الكنيسة، وزواياها والنوافذ الزجاجية الملونة، الضوء الشفيف يفترش مساحات امام المذبح، وثمة تمثال ليسوع شبه العاري، مصلوبا، علي رأسه اكليل الشوك، وفي جنبه الطعنة الدامية، المرتلون يؤدون الصلوات، ويتلون المزامير والادعية.
يستعيد - وهو يصلي - عبارات كان يرددها وراء الاب في الكنيسة، او استمع الي امه وهي تقولها تحت صورة العذراء.
يري ان الكنيسة تبسط ظلها علي البيت.
جعلت امه في البيت فرعاً لكنيسة اللاتين، تحولت الي قس يرعي، وينصح، ويوجه، ويحذر من العقاب، تحاول ان تؤدي الدور نفسه الذي يؤديه قس الكنيسة.
لا يعبأ بالتحذيرات التي تواجهها له الام، في سلوكياته داخل الكنيسة، يبدي الملاحظات، ويتحدث، ويعلو صوته، ربما رنت نظراته الي فتاة بين المصلين.
هو يتردد علي الكنيسة، يعترف، يحضر الصلوات، لكن الصديق يغيب عن مشاعره، تصرفاته لا تصدر عنه، يصلي دون ان يعطي الكلمات انتباهه، مجرد كلمات يرددها دون ان يعي معانيها.
يميل - بالعادة - الي حجرة الاب في يسار الواجهة، الصليب يعلو الجدار، وتمثال العذراء تحمل المسيح، يقبل يده، ويستمع الي كلماته المتكررة عن مهمة الكنيسة، واللاهوت، وحثه له علي حضور اجتماعت الصلاة وحفلات القداس..
قالت السيدة كاترين:
- اذا كنت تنكر الله، فاحتفظ بعدم ايمانك في نفسك!
يؤمن بالمسيحية، بالأب والابن والروح القدس، لكنه لايؤمن بالكنيسة، تعاليم الكنيسة التي لا تنتهي تجعل قبولها صعباً، حتي من يرضخون، يدفعهم الي القبول تدين يهمل الوصايا والتنبيهات والمحاذير.
ماذا يريد الله منا؟ هل نعبده؟ وما حاجته الي عبادتنا؟ أليس هو الذي خلق الكون، ويتصرف بالحياة والموت؟ واذا كنا - كما يقول الاب يوحنا - أبناء الله، فهل يؤذي الاب ابناءه الخاطئين؟ وما الخير؟ وما الشر؟ ولماذا لاتقضي ارادة الله بمحو الشر؟
ألقي نظرة علي الكرسي الذي يجلس وراءه الاب لسماع اعترافات المترددين علي الكنيسة، استعاد امنية قديمة ان يجلس موضع الاب، ينصت الي عشرات الحكايات التي تلهب خياله.
قال الاب يوحنا:
- ذكر في الكتاب المقدس: من لطمك علي خدك الايمن، فحول له الايسر.
قال جان:
- هذا ما يقوله الانجيل..
أردف من بين اسنانه:
- اما أنا.. من يخدشني اسيح دمه!

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 07:00 AM
( 6 )

أدركت ـ حين مالت على أمها لتقبلها ـ أنها لم تتعرف إليها . ومضت عيناها ببريق خاطف ، ثم أسبلت جفنيها ، وظلت صامتة ..
قالت :
ـ أنا سيلفى ..
قال أنطوان :
ـ اتركيها الآن .. إنها لا تعى شيئاً ..
تمتمت دومينيك :
ـ باسم الصليب حولك .. باسم الصليب ..
تضايقها عبارات المواساة التى يتحدث بها الطبيب عن أمها . لا كلام عن أمل الشفاء ، والعودة إلى مألوف حياتها ، مألوف حياتهم . تجلس فى الصالة ، أو فى حجرتها . تلاحق دومينيك بمطالبها . لم تعد تجد فى الأمر ما يؤلمها ، أو يثير ضيقها . تدعو أن تترك السرير ، تقف على قدميها ، تجلس ، تمشى ، تتكلم ، تتمنى حتى الأوامر التى طالما ضاقت بها .
فطن الطبيب إلى أن الأم تعيش لحظاتها الأخيرة ، وأن الحشرجة تصدر أنفاساً واهنة تغالب الصمت . رفع الطبيب عينين تشيان باليأس . عرفوا أن الأم تحتضر . لم يحدد الطبيب المرض ، وإن همس وهو يغلق حقيبة أدوات الكشف :
ـ الحالة متقدمة !
ومال على أذن أنطوان :
ـ ادعوا لها ألا تتعذب أكثر مما عانت .
أضمر أنطوان مصارحة الطبيب له ، بأن ما تعانيه الأم هو مرض الموت :
ـ الأدوية لتخفيف الألم ، لكنها لن تمنع النهاية .
أدرك أنها لن تترك سريرها حتى يمنحها الأب يوحنا مسحة الموت .
كان يعد لها الفطور ، يرتب الوسادة الطبية تحت ظهرها ، يحيطها بوسائد من القطن ، وعجلات من المطاط ، كى لا تصاب بقرح الفراش ، يساعدها فى الجلوس على القصرية ، يضع الملاءات المتسخة فى الغسالة . يتحمل غضبها وشراستها . تظهر التأثر لأقل سبب . تطلب رفع الوسادة ، تشكو الحر ، ترفض الماء البارد والساخن . تصرخ من تآكل ظهرها بالهرش . يثيرها الصمت والأصوات العالية .
نال منها الضعف . تجد صعوبة فى الانتقال من السرير إلى الكرسى المقابل . تمضى دقائق تسند ظهرها على الكرسى ، تريحه من عناء النوم ساعات متصلة .
تتحدث عن شخصيات تلتقى بها ، وأصوات تخاطبها . فاجأتهم بالإيطالية ، خاطبت بها أشخاصاً تراهم وحدها . ذكرت أسماء لا يعرفون أصحابها . يعرفون المفردات ، يصلونها بحيث تؤدى المعنى الذى تقصده ، أو تقترب منه . ما أقلقهم أنها لم تعد تتحدث بالإيطالية منذ سنين بعيدة . أصرت أن تكون اللغة بما يتكلمون به خارج البيت .
صارت عيناها حفرتين أحاطت بهما هالتا سواد . لم تعد قادرة على الابتلاع . تعلم من الممرضة كيف يغذيها بالمحلول عبر الأنبوب المطاطى .
إذا طال الصمت والسكون ، مال أنطوان بأذنه ، يتسمع صوت أنفاسها . يرفع رأسه ـ فى اطمئنان ـ ويتنهد .
فتحت عينيها : طالعتها الوجوه المتسائلة ، والمشفقة ، والحزينة ..
همست بوصيتها أن تدفن فى ثوب الزفاف .
تحشرج صوت دومينيك باللهفة :
ـ اعطها حقنة كورامين .
كور الطبيب سماعته فى يده :
ـ أملنا فى رحمة الله !
بدا على أنطوان اقتناع أنها ستجد فى الموت خلاصاً وراحة ، وأنها تفرح به ، وإن لمح فى نظرتها الثابتة ، الشاحبة ، ما يشى بالخوف أو الفزع ..
رشم الأب الصليب على رأسها ووجهها وجسدها . كرر كلمات لم يفهمها . ثم كرر الرشم بالصليب ..
لاحظ ماهر أن زيارات الأب للبيت تلقى حفاوة . ما عدا جان ، فإن أفراد الأسرة يوقرونه ، ويرحبون له ، ويهمسون له بما يعانون .
تحدثت سيلفى عن الأوقات التى كانت أمها فيها صاحبة الأمر والنهى . قبل أن يقعدها المرض ، لم تكن تأذن لأفراد الأسرة أن يخالفوا رأيها ، ولا أن يبدوا اعتراضاً ، أبوكم يكتفى بالغناء ، ومهمتى أن أقود السفينة .
تصحب أبناءها إلى الكنيسة ، أو تسبقهم ، أو تلحق بهم ، لا أحد ـ إلا للمرض ـ يتخلف عن قداس الأحد . إذا استغرق الأب فى شروده ، وعلا صوته بالأغنيات ، أدت الصلوات قبل تناول الطعام .
قرب المسافة بين الكنيسة والبيت ، يدفعها للتردد على الكنيسة مرة ، أو مرتين ، فى اليوم الواحد . تزور الأب فى مكتبه ، تكلمه فى أحوالها الشخصية ، تطلب رأيه فى ظروف الأسرة ، تجد فى كلماته النصيحة والعزاء ، وما يعينها على التصرف . تدعوه ـ فى زياراته للبيت ـ كى يرش الماء المقدس فى الأركان والزوايا ، وعلى الأثاث .
تبدى حرصها على ما فى الفيلا ، الجدران والحديقة والأثاث والتحف الصغيرة . هى كل ما تبقى من البيت القديم . لن تستطيع الأسرة استعادة ما يتحطم ، أو يتشوه ، أو يضيع .
منذ فاجأتها الأزمة القلبية ، أسلمت نفسها لرعاية أبنائها ، وعلاج الأطباء . توافق على تأكيداتهم بأن الأزمة عابرة ، تستجيب للملاحظات والأوامر ، تتعاطى الدواء ، تؤمّن ـ ولو بهزة الرأس ـ على الدعوات ، لكن الهاجس فى داخلها أنها تعيش أيامها الأخيرة .
تنبه ماهر ـ فى لحظات إفاقة الأم ـ إلى أن سيلفى تقلدها فى طريقة كلامها , والمفردات التى تستخدمها ، والضحكة التى لا تعلو عن الهمس .
قال لسيلفى :
ـ أخذت من أمك الكثير .
ـ يقال إنى أقرب فى الشبه إلى أبى .
أدرك أنها لم تعرف ما يقصده .
جاء إلى الفيلا فى آخر أيام الأسرة . الأم تموت ، والأب ذاهل عما حوله ، والأبناء يكثرون من الأسئلة ، ويختلفون ..

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 07:00 AM
( 7 )

دخل الأب يوحنا بردائه الكهنوتى ، وابتسامته المحايدة . كانت سيلفى قد أخبرت ماهر أن الأب سيأتى ـ فى لحظة ما ـ لتقديم المسحة الأخيرة .
نترت دومينيك من كتفه ورقة شجر يابسة تقاذفها الهواء .
حاول أنطوان أن يضفى على الحجرة طقس الموت . أسدل ستائر النافذة العريضة المطلة على الحديقة . جلل زواياها بجدائل من القماش الأسود ، ووضع على البوفيه ـ لصق الحائط ـ ست شموع فى شمعدانات فضية ، ووضع فى مواجهة السرير إكليل زهور .
حرص على أن يعدها بنفسه . ألبسها أحدث فساتينها ، وجرى بالبودرة على وجنتيها ، وعلى فمها بأحمر الشفاه . حتى الحذاء الذى دس فيه قدميها لم تكن قد ارتدته سوى مرة واحدة ، وضمخ جسدها بعطر الورد الذى كانت تفضله . نزع خاتم الزواج من إصبعها . أعطاه للمسيو ميكيل ..
وضع أنطوان على سقاطة باب الفيلا شريطاً أسود . استبدل بمفرش المائدة ذى الزهور الملونة مفرشاً من البلاستيك . أدار إلى الجدار صورة الأم ..
رنا ماهر إليها بنظرة متأملة ، فى سكونها الهادئ داخل التابوت . من الخشب الماهوجنى . مبطن بالساتان الأزرق . المقبض من المعدن المذهب .
لم تفلح المساحيق فى إزالة شحوب الوجه ، وأحاطت الزهور بالرأس ، وتَغَطّى الجسد المسجى بالمخمل .
تأمل الحانوتى ومعاونه وسائق السيارة . بدت نظراتهم حيادية ، ساكنة ، يؤدون عملاً .
سارت العربة ذات الأشرطة السوداء على حوافها ، والملائكة الصغيرة ، المجنحة ، المطلية بلون الذهب ، على جانبيها . أبطأ السائق لتتواءم العربة مع خطوات المشيعين . مضت الجنازة فى شارع نصوح الهندى إلى الكنيسة ، بالقرب من تقاطع الشارع مع شارع السلطان سليم . سار وراء النعش عشرة أشخاص : الأخوة الأربعة وعياد وماهر ، ورجال من الجيران .
بدت سيلفى متغيرة بفستانها الأسود ذى الكمين الطويلين ، ونظارتها الشمسية ، هى أقرب إلى النحافة ، وكومت شعرها أعلى رأسها ، وخلت يدها حتى من ساعة اليد .
لم يتصور ـ بعد أن أخلى حمل النعش لأنطوان ـ أنه حمل النعش الذى كانت السيدة كاترين راقدة فيه . غمره شعور صعب عليه فهمه .
ترامى قرع جرس الكنيسة ، ببطء ، وعلى تباعد . خيل إليه أن صوت الجرس يختلف ـ هذه المرة ـ عن المرات الكثيرة ، السابقة ، التى ترامى فيها صوته إلى الفيلا . ما يشبه الأسى يسرى فى الدقات المتباطئة ، تخلّف نهاياتها أنيناً خافتاً ، ممطوطاً ، كأنه البكاء .
هل هو ما تسمعه أذناه بالفعل ، أم أنه لا يجاوز التوهم ؟
جلس فى الصف الأول المواجه للمذبح .
الشمعات الحمراء الثلاث فوق التابوت المغلق ، وأريج البخور يضوع المكان .
مثل الحضور ثلاثة صفوف قصيرة فى الوسط . ظلت بقية دكك الصالة خالية . وفى المواجهة صف بمساحة المكان من شمامسة صغار ، أولاد وبنات ، يقرءون من الكتاب المقدس ، وتعلو أصواتهم ـ بإشارات من الأب ذى الجسد الممتلئ ، والبشرة البيضاء المشربة بحمرة ـ بالصلوات والتراتيل . يعمق من تأثيرها عزف الأورغن ، وأضواء الشموع ، وتضوع البخور .
أنصت إلى كلمات الأب التى تتحدث عن انفصال الراحلة عن غربة هذه الحياة إلى فردوس النعيم ، لتبلغ المساكن السعيدة ، وتنسى أحزانها وشقاءها ، ودعوة الأب أن يبلغ الله الراحلة مساكن القديسين ، ويغفر لها جميع خطاياها فى الملكوت السرمدى . وترديده قول بولس الرسول : إذا كان الله معنا ، فمن يكون علينا .
أنهى الأب كلماته بالقول : آمين .
ردد ماهر الكلمة مع الحضور .
قلد الحضور فى ما فعلوه . حرك شفتيه مترنماً بالأنغام التى رددوا كلماتها . وضع علامة الصليب على صدره . ركع مثلهم ، حتى فردوا قاماتهم ، ففرد قامته .
منذ سنوات بعيدة ، زار الكنيسة ـ مع أمه ـ لحفل زفاف . اجتذبه الجو الكنسى : الملابس الكهنوتية ، أنغام الأورج ، الصلوات المنغمة ، رائحة البخور . التماثيل والأيقونات والتيجان والزجاج الملون . ثمة سحر يتسلل إلى نفسه ، مشاعر غامضة لم يستطع تحديدها .
عندما علت الأصوات بالتراتيل ، حاول مجاراتها . حرك شفتيه دون أن يتأكد من أنه ينطق الكلمات نفسها .
قال لأمه :
ـ أحببت صلوات الكنيسة للطقوس التى تقدم فيها !
وتهدج صوته بصدق مشاعره :
ـ وأنا أستمع إلى الأورغن .. تمنيت أن أكون مسيحياً ..
رمقته أمه بنظرة غاضبة :
ـ تهذر ؟
كانت تعيب عليه طبيعته الانفعالية ، ما يخطر فى باله يقوله ، أو يفعله . ربما وجه أقسى الملاحظات فى سهولة وجرأة ، لا يتدبر وقعها فى نفوس الآخرين . تشفق عليه من أنه يعرض نفسه لمشكلات ، يواجه مآزق صعبة .
قال يحاول استرضاءها :
ـ مجرد ومضة تلاشت .. نسيت نفسى فى عزف الأورغن والتراتيل ..
قال القسيس بلهجة مهونة :
ـ قدرنا أن نموت ، وطبيعى أن يسبق الآباء أبناءهم فى الرحيل ..
تأمل المعنى . قال :
ـ أطال الله أعماركم !
أدى القسيس ـ خمن أنه يقيم فى المقابر ـ بعض الصلوات .
عمق من الصمت الذى لف الجميع ، صوت احتكاك التابوت بحواف القبر الطينية والحجرية ، وهو يهبط ليستقر فى القاع ..
بعد أن بلغ النعش قاع التراب ، رش عليه الأب الماء المقدس وهو يردد الأدعية . ألقت دومينيك باقة الورد التى أمسكت بها فوق النعش . ثم بدأ التربى فى إهالة التراب بالجاروف .
همست الأفواه بالصلوات ، وتحركت الأيدى بعلامة الصليب .
شعر بالارتباك ، وأنه يجب أن يبدى تأثره بطريقة ما. رسم الحزن على ملامحه ، وجرى على عينيه بظهر يده .
تبين أنهما مندتان بالدمع .
استداروا عائدين .
وهو يغادر المكان ، تطلع ماهر إلى ما كانت الجنازة قد اجتذبته عن رؤيته : مستطيل الرخام حفر فى أعلاه بحروف إيطالية اسم كاترين فرنسيس ، مدى المقابر إلى البنايات البعيدة ، الشواهد الرخامية ، الصلبان ، صور العذراء ، ووليدها ، الملائكة بأجنحتها المحلقة ، أشجار الجازورينا ، مساحات النجيل الأخضر ، أحواض الزهور والصبار على جانبى الممرات المرصوفة بالبلاط . ما لم يكن يعرفه ولا رآه من قبل .

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 07:01 AM
( 8 )

عرف من ارتجاف رموشه وشفتيه ، وتقلص ملامحه ـ أنه يريد أن يقول شيئاً ، نطقت عيناه بما يحاول مداراته . كانت العصافير فى أشجار الحديقة قد زادت من صياحها ، يشى أن الليل اقترب .
قال جان :
ـ صحيح أن أمنا تبرعت بجزء من أموالها للكنيسة ؟
قال أنطوان :
ـ هل كانت أمنا تملك شيئاً لتتبرع بجزء منه ؟
ـ أعرف أنها تملك سندات فى البنك ..
اكتفى ـ دلالة الموافقة ـ بإيماءة خفيفة من رأسه :
ـ أنفق منها أبى على علاجها ..
ـ تعنى أن أبى حصل على رصيد السندات ..
وهو يومئ ناحية حجرة الأبوين:
ـ اسأله إن كنت لا تصدق ..
ـ هل الرجل هنا ؟!.. إنه حى كالميت ..
ـ لا تخطئ فى أبينا ..
ـ أنا لا أخطئ فى أحد .. إنما أتهمك أنت .
ـ حتى الفيلا سأشتريها من أبى بعقد مسجل ..
بحلق فى دهشة :
ـ كأنه لا يوجد فى حياتك شيء لم تعمل حسابه .
وعلا صوته فبدا كالصراخ :
ـ سيكون عقداً باطلاً ..
دون أن يجاوز هدوءه :
ـ من حقك أن تثبت العكس ..
ـ سافل !
هز سبابته فى وجهه :
ـ لا تنس أنى أخوك الأكبر !
كان المسيو ميكيل ينادى على الأم . يدركون أنه نسى وفاتها . نسى أنها ماتت . يتصور أنها داخل إحدى الغرف .
لوجهه ملامح مسترخية ، وعينان زرقاوان ساجيتان ، وخدان متهدلان مشربان بحمرة ، ونمش يمتد إلى العنق والكتفين . ينزع ـ بين فترة وأخرى ـ شعرة من شاربه . يتأملها بعفوية ، ثم ينترها بإصبعيه . خمن من اتساع بيجامته ، أن جسده كان ممتلئاً .
بدا سريع التأثر ، والتشويح بيده دلالة الاستياء ، أو الغضب .
فسرت دومينيك شرود نظراته بتذكره لمواقف من حياة أمها داخل البيت ، صداها الغرف والجدران وقطع الأثاث واستعادة اللحظات .
قلت أغنياته ، وخفت صوته ، ربما قطع اللحن ، وعاد إلى الصمت والشرود . يشك ماهر أنه يلحظ وجوده .
فى لحظات تنبه وعيه يتحدث إلى ماهر . يستعيد ماضى الزيتون عندما كانت ضاحية تقتصر بناياتها على الفيلات والبيوت التى لا تعلو عن طابقين ..
سأله ماهر :
ـ هل رأيت سراى البرنسيسة ؟
حرك رأسه بالنفى ..
قالت سيلفى :
ـ تحولت إلى مدرسة للبريد ..
قال المسيو ميكيل :
ـ كان أهلها من الطبقة العليا .. سوبر ستارز .. خصصت البرنسيسة لخيلهم سبيلاً فى سور قصرها ..
عرف أن المسيو ميكيل ـ منذ خرج إلى المعاش ـ لم يعد يترك البيت إلا لتسلم المعاش الشهرى . يصحبه أنطوان فى تاكسى إلى الموسكى . ينتظر تقاضيه مبلغ المعاش ، ويعيده إلى البيت ، لا حياة اجتماعية على أى نحو . معظم وقته يمضيه فى الشرفة ، يعبر من حوله بنظراته ، كأنه لا يرى أحداً ، أو أنه مشدود إلى ما لا يراه أحد . يرتفع صوته بالأغنيات الأوبرالية . قد يتجه ـ بخطوات متباطئة ـ إلى المطبخ ، يشرب ، أو يأكل مما يجده فى الثلاجة .
تصور ـ أيام معرفته الأولى بالأسرة ـ أن أمور البيت كانت فى يد الأم ، هى التى تفصل ، وتقرر ، وتسيطر ، وتفرض روحاً استبدادية .
لم يكن المسيو ميكيل ضعيف الشخصية أمام آراء السيدة كاترين وتصرفاتها . كان أميل إلى التسامح ، وإلى ملاحظة الحياة أكثر من أن يعنى بالمشاركة فيها . جزيرته الخاصة يحيطها ، ويملأها ، بالأغنيات الأوبرالية . يراجع واجبات سيلفى المدرسية . يناقشها فى أجوبتها . ويعيب عليها رداءة خطها بالفرنسية . يجلس إلى مائدة الطعام فى المواعيد التى تحددها الأم ، لا يشارك فى المناقشات ، يكتفى بإيماءة ، أو بكلمات مقتضبة ، فى الرد على الأسئلة . أحيل إلى المعاش ، فهو يعيش رحلة ما قبل النهاية ، مرحلة انتظار ما يغيب بحياته .
أصر على رفض اعتزام الأم وضع سلك شائك حول سور الفيلا : هل قفز الجيران على بيتنا من قبل ؟ لماذا يقفزون الآن ؟
قال ماهر لسيلفى :
ـ أنطوان وجان هما سليم الأول وطومانباى فى التاريخ . شنق الأول الثانى ، لأنه رفض التنازل !
ثم وهو يظهر الحيرة :
ـ أخشى أن ذلك ما سيحدث بين الأخوين .
تأملته عيناها بارتياب :
ـ ماذا تقول ؟.. أنطوان يقتل جان ؟!
رسم ابتسامة مهونة :
ـ لا أقصد القتل بهذا المعنى . أقصد أنه ربما أخذ منه كل شئ ..
لم يشعر تجاه أنطوان ـ منذ زيارته الأولى إلى البيت ـ بمشاعر طيبة .
تسرب إلى صوتها نبرة حزن :
ـ أنطوان أخذ كل شئ بالفعل .. الفيلا ومجوهرات أمى وودائع أبى فى البنك .. كل شيئ !
ـ هل تكتفون بالفرجة ؟
قالت فى حزنها :
ـ أمى ماتت .. وأبى فى دنياه يغنى .
وجد فى تصرفات أنطوان ما يفسر إصرار سيلفى على التمرد ، ما يرد على إلحاح السؤال : لماذا ترفض ؟!
تعددت زياراته إلى البيت .
يهبط من الأوتوبيس على ناصية شارع السلطان سليم الأول . يميل من جانب سراى الطاهرة إلى الشارع . يخلّف وراءه المسلة الفرعونية وسط الحديقة الواسعة . يسير فى الشارع إلى تقاطعه مع شارع نصوح الهندى . يرفع رأسه ـ بعفوية ـ إلى برج الكنيسة الذى يمتد ظله ، وظل الأشجار الكثيفة داخل الحديقة ، على الطريق ، ويتقلص ، بارتفاع أوقات النهار . يميل فى شارع نصوح الهندى ، حتى الفيلا ـ فى نهاية الشارع ـ محاطة بالسور الحديدى والأغصان والأشجار العالية .
يخوض ـ مع المسيو ميكيل ـ حوارات لا تنتهى عن معنى الحياة والموت : إذا كان قدرنا أن نموت ، فلابد أن نموت .. الموت يعنى أننا لم نعد أحياء ، هذا كل ما فى الأمر .. إذا جاء الموت فإن كلمة كان تجعل كل الأسماء والأحداث ذكرى ، تصبح ماضياً .. نحن نعيش تحت الضوء أعواماً محدودة ، ونعيش فى الظلام إلى الأبد ..
يهمل نظرة يثبتها الأب فى عينيه ، يظل يتابعه بها .
اختفى عمره الحقيقى خلف ملامحه الهادئة ، وعينيه الصافيتين ، وغزارة شعر رأسه ، وذقنه التى يحرص ـ كل صباح ـ على حلاقتها . قالت سيلفى إنه فى المعاش منذ سنتين ، وكان قد جاوز الخامسة والسبعين .
لم يسأله المسيو ميكيل : من أنت ؟ ولا لماذا أنت هنا ؟ وما صلتك بسيلفى ؟
يتحدث إليه كأنهما متجاوران فى القطار ، أو فى المقهى ، العلاقة العابرة التى لا صلة لها بما قبل ، ولا بعد ، تستغرق اللحظات فى ذاتها ، وتنتهى .
لاحظ فى نفسه ميلاً للحديث عن لقاءاته بكبار المؤلفين ، راتبه المرتفع ، ظروفه الأسرية الطيبة . أرجع إلحاحه على الحكى إلى شخصية أنطوان المتعالية ، لا يشغله أن الفجوة تتسع بينه وبين الباقين .
حين سأل أنطوان سيلفى عن تعرفها إلى ماهر : أين بدأ ؟ وكيف ؟ ظلت ساهمة .
قال أنطوان فى لهجة ساخرة :
ـ قد أكون رأيته يبيع الكتب القديمة على رصيف جامع العزيز بالله !
واجهته سيلفى بملامح غاضبة :
ـ ماهر يحمل شهادة جامعية لم يحصل عليها أحد فى بيتنا !
اطمأن إلى إحساسه بأن أهل الفيلا ـ حتى عياد ـ لن يكونوا أصدقاءه ، لن يجلس إليهم ، ولا يناقشهم فى أمر ما . بدوا منشغلين عنه بما لا يتبينه . حتى علاقاتهم الشخصية تحوطها الظلال بغلبة العزلة والصمت . كل منهم مشغول عن الباقين .
قال المسيو ميكيل لدومينيك وهى تتهيأ للذهاب إلى الكنيسة :
ـ الله يريد منا أن نتذكره كل الأيام ، وليس يوم الأحد وحده !
قال ماهر :
ـ تتكلم عن الحياة الآخرة ، ولا تتحدث عن الدين ؟
قال المسيو ميكيل :
ـ ينبغى أن يكون تدينى عن إرادتى الحرة !
وشاعت فى صوته نبرة تسليم :
ـ أنا لا أحب الدين ولا أكرهه . إنه حالة علينا أن نتقبلها كما هى .
ثم رفع رأسه كأنه توصل إلى قرار :
ـ أحب الله ، وأومن به ، دون طقوس لا معنى لها ..
وعلا صوته ـ فى اللحظة التالية ـ بغنائه الأوبرالى . لا تشغله النظرات الملتفتة ، أو المتسائلة ، أو الرافضة .
أدرك أنطوان أن الأب لم يعد من هذا العالم ، يحيا فى عالم خاص صنعه لنفسه .
لما اشتد المرض على السيدة كاترين ، تداخلت أوقات صحوها بأوقات الغيبوبة ، الألم والأنين والهذيان والهمسات المتحشرجة .
تكلم المسيو ميكيل بلغة غير مفهومة ، حدس أنطوان أنها الألمانية ، هى لغة الأب التى طالما خاطبه بها فى طفولته ، بقى منها حروف وكلمات وأصداء . رفع الأب يديه فى هيئة المستغيث . تمتم باللغة نفسها . تكررت دعواته المستغيثة ، هى مؤمنة بك ، وأنا أيضاً ، أوقاتنا فى الكنيسة أطول من أوقاتنا فى البيت ، لماذا لا تنقذها ؟
زاد المرض من قسوته حتى الموت . تبدلت تصرفات المسيو ميكيل وتعبيراته . مال إلى العزلة ، لا يأذن لأحد باختراقها . لم يعد يردد الدعوات ، ولا يعنى باستقبال الأب يوحنا ، ولا يدخل فى حوارات مع ماهر فرغلى ، وإن ظل على ترديده للأغنيات الأوبرالية .
يقضى فى الشرفة معظم النهار ، ومساحة من الليل ، يعلو صوته بالغناء ، يتأمل ـ بنظرة غير محدقة ـ تكاثف الأشجار أمامه ، وحركة المرور القليلة فى الشارع الصغير الموصل بين نصوح الهندى وسنان ، وما بداخل النوافذ المفتوحة فى البيت المواجه .
دفع المسيو ميكيل أنطوان وجان للحصول على دبلوم التجارة الثانوية ، ثم ألحقهما بالبنك . أهمل احتجاج الأم وصراخها . إذا كانت الوظيفة هى الهدف ، فقد حصلا على وظيفة يفوق راتبها ما يحصل عليه أصحاب المؤهلات العليا . أهملت الأم حزنها على اكتفاء الأب بقصر تعليم الولدين على المرحلة الثانوية . تمنت أن يواصلا تعليمهما الجامعى .
أضاف إلى حزنها قعود دومينيك فى البيت ، بعد حصولها على الابتدائية . خافت السيدة كاترين من تأثيرات المرض . ماذا لو أن الغيبوبة أصابتها فى المدرسة ، أو فى الطريق ؟.
وضعت أملها فى سيلفى ، حرصت أن تستكمل دراستها فى " النوتر دام دى زابوتر " ، وتلتحق بالجامعة ، اسم الكلية لا يهم ، المهم أن تحصل سيلفى على الشهادة العليا . اكتفت بالقول : لن تترك سيلفى التعليم حتى النهاية . لم تحدد طبيعة النهاية ، ما إذا كانت ستكتفى بشهادة الثانوية العامة ، أم تدخل الجامعة ؟
أظهرت الانزعاج لما أخبرتها الراهبة فى " النوتر دام " عن الأجوبة التى كتبتها سيلفى على فخذها فى امتحان اللغة العربية :
ـ هل هذا ما تعلمته من جارنا المزور ؟ هل تريدين دخول السجن مثله ؟
حدثته سيلفى عن جار الطابق الأرضى فى البيت المقابل ، أخ غير شقيق لمطربة وممثلة معروفتين ، خطاط ، يجيد تقليد اللوحات الأصلية ، وإن دخل السجن مرة .
همس ماهر بالسؤال الذى شغله :
ـ لما دعوتنى إلى زيارتكم ، هل كنت تعرفين أنى سألتقى بأبيك ؟
ـ طبعاً .
ـ ماذا عن قتله بأيدى المصريين ؟!
شوحت بيدها :
ـ انس !
عرف أن الكثير مما روته له سيلفى ـ قبل أن تدعوه لزيارة البيت ـ لم يكن حقيقياً ، وأنها ـ دون أن يدرك السبب ـ كذبت عليه .
هل أرادت أن تحسن تقديم أسرتها ؟ هل خشيت من فقده ؟ هل كذبت لأن هذه هى شخصيتها ؟ . ليست دميمة فتحاول التعويض بالاختلاق ، واختراع ما ليس صحيحاً .
لماذا تكذب إذن ؟!

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 07:02 AM
(9)

نزلا من الأوتوبيس في محطة الإسعاف. عبرا الطريق في اتجاه مبني الشهر العقاري.
اخترقا زحام العرضحالجية والنداءات والشتائم والشهود وباعة الاستمارات والطوابع وكتب القانون.
صعدا الدرجات الرخامية في المبني ذي الطوابق الثلاثة، يعلوه ـ متآكل الأطراف ـ العلم المصري ذو الألوان الثلاثة. في دائرة تحته نقش للعلم المصري القديم ذي الهلال. الأعمدة العالية، والبواكي في واجهة الطابق الأول، تفصل بينها وبين البناية طرقة طويلة بامتداد الواجهة، أرضيتها من البلاط الرمادي المربع، تطل عليها نوافذ من الحديد والضلف الخشبية.
تبعته إلي الصالة الواسعة، في المواجهة. اصطفت في داخلها مكاتب، انشغل الموظفون وراءها بأوراق ودوسيهات ومناقشات مع المترددين علي المكاتب.
مال علي الموظف الجالس وراء المكتب، علي يسار المدخل:
ـ نريد أن نتزوج..
لم يكن قد أعد نفسه لعلاقة زواج، الصداقة علاقتهما المعلنة، حتي نظرات أنطوان المتوجسة أهملتها، وصمتت عن التوضيح.
نبهه شيء ما في نظراتها، وارتباك تصرفاتها، وملاحظة النظرات المتسللة، وميل صوتها إلي الهمس.
واربت الباب، فدفعه مقتحماً:
ـ هل تتزوجينني؟
قال الرجل:
ـ ما يمنعكما؟
ـ هي مسيحية وأنا مسلم..
ـ تزوجا بعقد مدني..
ـ لا أفهم..
ـ عقد لا شأن للمأذون به..
ـ هل هو عقد صحيح؟
هتف الرجل:
ـ أنت في إدارة حكومية..
استطرد وهو يرنو إلي سيلفي بنظرة متسائلة:
ـ كم عمرك؟
ـ الحادية والعشرون.. وأشهر..
لحقه صوت الرجل:
ـ يحسن أن تحصل علي موافقة الكنيسة.
***
التقي بها الأب يوحنا في شارع سليم الأول. ابتسم لارتباكها الواضح:
ـ لماذا لا تزورين الكنيسة؟
ـ أتردد عليها أحيانا.
وأغمضت عينيها كالمتنبهة:
ـ زرتها قبل شهر..
قال الأب:
ـ كنت تترددين عليها دائماً..
ورنا إليها بنظرة متوددة:
ـ إنها مساوية للبيت في حياتنا.
وربت ظهر كفها بطرف إصبعه:
ـ احرصي علي صلاة الأحد..
لم تعد تتردد علي مكتبه داخل الكنيسة، أو تجلس للاعتراف. حدّست أن أنطونيو روي له ما يدفعه إلي مجاوزة الإنصات.
لو أنه أرهقها بالأسئلة، ربما اخترعت من خيالها، وبدّلت ما حدث. هو الأب يوحنا، وليس أباها ولا أمها ولا إخوتها، ولا حتي ماهر. خافت أن يؤذيها بما لا تتوقعه.
منحتها عيناه إيماءة مشجعة:
ـ أنتظرك لتؤدي طقوس الاعتراف..
تغيرت ملامحها:
ـ لم أفعل ما يدفعني إلي الاعتراف!
قال أنطوان للأب يوحنا:
ـ لا أحد يملك إقناعها..
رسم الأب علامة الصليب علي صدره:
ـ إن كل ما يحدث هو بمشيئة الرب!
قال الأب لسيلفي في لهجة محرضة:
ـ الكنيسة ترحب بك، ولو لمجرد الزيارة!..
وضغط علي الكلمات:
ـ لا يكون المسيحي كذلك إلا من خلال عضويته في الكنيسة..
في دهشة:
ـ أصبح راهبة؟
ـ بل تكثرين من التردد عليها
ران علي صوتها انكسار:
ـ أحاول.
وهو يهز رأسه في عدم اقتناع:
ـ إذا لم يستخدم الإنسان عضلة ما فلابد أنها ستضعف.
وواجه عينيها:
ـ أذكرك بالزائدة الدودية!
وتقلصت ملامحه بالتأثر:
ـ أخشي أنك فقدت روح الصلاة..

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 07:02 AM
(10)

الوقت أصيل. الشمس علت الجدران، فاكتست المرئيات بالشحوب.
الشارع الطويل المترب، الفاصل بين مبني الكنيسة والبيوت المقابلة، يشغي بتلاغط الأصوات والصيحات من الأبواب والنوافذ المفتوحة، ومن الدكاكين، ونداءات المقهي ـ أول الشارع ـ وعربات اليد، والباعة، والأطفال المشغولين باللعب، والكلاب، والقطط.
ينتهي إلي باب الكنيسة الخشبي الضخم، علي ضلفتيه، تكوينات سوداء من الحديد في هيئة صلبان.
غالب التردد قبل أن يضغط الجرس جانب الباب. داخلته رهبة من البناية ذات الأسوار العالية. حاول أن يتصور ما بالداخل..
فتح له شاب يرتدي جلباباً بنياً، خمن أنه من الرتب الأقل في داخل الدير..
طالعه مبني الكنيسة المبني بالحجارة البيضاء، في المسافة بين السور العالي، الخارجي، والممر الأسفلتي الذي يحيط بالمبني.
دخل الراهب تسبقه ابتسامته، ويداه المرحبتان.
ـ أنا أبوكم لوقا..
التفت ماهر ـ بتلقائية ـ ناحية سيلفي.
شجعته بإيماءة من رأسها..
طمأنه عرضها بأن تظل معه إن أصر أنطوان علي رفض السماح لهما بالزواج.
أدرك أن عليه ـ عليهما ـ تحدي كل الظروف والتوقعات، حتي يتزوج سيلفي. تصور أن خطبته لها ـ في توالي زياراته ـ أقرب إلي البديهية التي جاوزت الأسئلة والأجوبة والمناقشات.
فاجأه أنطوان ـ ذات مساء ـ برفضه له، ولفكرة الزواج (أبوها مشغول بالغناء!). رفض مجرد المناقشة، لا مناقشة!
ـ إذا أردت أن تتزوجي هذا المسلم فلا تنتظري منا مليماً.
أضاف في لهجة متحدية:
ـ كل ما ستأخذينه حقيبة ثيابك.
وربت صدره بأصابع مرتعشة:
ـ أبونا مريض.. أنا الآن مكانه..
ملأ الغضب صوتها:
ـ مادام أبي حياً، فلا شأن لك بي!
قال الأب لوقا:
ـ الزواج الوحيد الذي توافق عليه الكنيسة هو ما يقوم علي العقيدة الكاثوليكية..
عرف ما لم يكن يعرفه، ولا تصور أنه يشغله: الطوائف الكاثوليكية في مصر سبع: الأقباط، الروم، الموارنة، اللاتين، الأرمن، السريان، الكلدان. تتفق جميعها في الاعتراف بالرئاسة العليا للبابا في روما. وحدة الاعتقاد الديني في جميع العقائد. وحدة قانون الزواج والإجراءات. وحدة نظام المحاكم الكنسية التي تبت في مواد الزواج. عدم إجازة الطلاق والاستعاضة عنه بالتفريق الجسماني.
قال الأب لوقا:
ـ ثقا من تعاطفي، لكنني لا أعد بمساعدة، لا أستطيع أن أفعل ما يوفق مسعاكم.
لم تشده إليه ملامح مميزة، وإن ذكره بالأب يوحنا، يصغره بأعوام كثيرة، لكن الرداء المتداخل اللونين، والجو الكنسي، والكلمات المتضمنة عبارات دينية، تستعيد صورة الراهب الذي ميزه في زياراته إلي بيت المسيو ميكيل، وإن لم يتبادلا الحوار. حركته دائبة بين مكتبه المطل علي الباحة الداخلية للكنيسة، والمكتبة المتعددة الضلف الزجاجية. ربما فضل الجلوس علي مقعد منفرد بالقرب من المكتب والكرسيين المتقابلين أمامه.
واتجه إليهما بابتسامة تطلب تصديقهما:
ـ ذلك يعتمد علي المطران.
لاحظ تبادلهما نظرات الحيرة. قال:
ـ مقره في كنيسة البازيليك بمصر الجديدة، قد يجد حلاً لمشكلتكما.
عرفت أن أنطوان كان يقف في الرصيف المواجه للكنيسة، هو أنطوان بقامته الطويلة، النحيلة، وشعره المنسحب إلي منتصف رأسه، وصدغيه الغائرين، وأسنانه المفلوجة، وعينيه الدائمتي التلفت.
هل يراقبها؟
أدارت وجهها إلي الناحية المقابلة. تهبه التصور بأنها لم تره، أو أنها تتجاهله. لم تشغلها اللحظة التالية، وما إذا كان سيختار المواجهة، أم يدفعه فهمه إلي تناسي المشكلة.
كان دائم الانتقاد لمظهرها، وغيابها ـ معظم الأوقات ـ عن البيت، وتحريض أبيه، فلا تحصل إلا علي مصروف محدد.
ضاقت بأن تكون طريقها الوحيدة هي المؤدية إلي المدرسة، أو إلي حيث يحدد أبوها وسيلة المواصلات إلي مبني البنك، تصحبه في مشاويره وسط البلد.
تملكتها الرغبة في المغامرة، لا تدري إلي أين تذهب، تمضي من نصوح، تخلف طومانباي وسليم وكنيسة اللاتين، تركب القطار من محطة الزيتون، تهبط في محطته النهائية بكوبري الليمون، تخترق تقاطعات ميدان رمسيس، تسير في الشوارع التي لم تشاهدها من قبل، تتعرف علي الزحام والبنايات العالية والحدائق ودور السينما والمسارح والمطاعم والكافيتريات والمحال والبوتيكات وباعة الصحف، وما تقرأ عنه في » البروجريه «.
قاموسه لا تنفد مفرداته من المحاذير والممنوعات. تملأ سمعها، فتسقطها. تهمل الالتفات إليها، تصم أذنيها عن السماع، وتبين ما يفيدها، وما ترفضه. يثيرها السؤال: أين تذهبين؟ أو: أين كنت؟
واجهته بعينين غاضبتين:
ـ هل أسألك؟!
ـ من حقي أن أعرف.
ـ لماذا ليس من حقي؟
ـ ماذا تريدين؟
وهي تدفع خصلة شعر متهدلة علي جبهتها:
ـ ماذا تريد أنت؟
أزمعت ـ لتسكته ـ أن تعيد إليه ما يوجهه من أسئلة. تضع أمامه حائطاً مسدوداً يصعب عليه اختراقه.
لا تخشاه، ليس ثمة ما تخشاه. كان يهددها بأبيها، لا أحد يهددها به، منذ رحل أبوها.
***
قالت أمه وهي تضع أطباق الطعام علي المائدة:
ـ لا نراك إلا عند مجيئك للنوم.
وعلا صوتها بالاستنكار:
ـ هل ضاقت بك الدنيا فلم تجد بنتاً من دينك؟!
أعادت ملاحظتها بإقدامه علي الفعل، دون أن يتدبر رد الفعل في التصرفات المقابلة.
قال أبوه:
ـ لو أن الحب يجمعكما بالفعل.. اقنعها بدخول الإسلام.
وعلا صوته بنبرة مشفقة:
ـ لا توجد قيود تحول دون تبديل غير المسلمين لدينهم..
ونظر إليه بمعني أنه يقرأ مخاوفه:
ـ المسلمون وحدهم يواجهون حكم الردة!
انتزعت أمه بسمة فاترة:
ـ أنت تضيع عمرك علي زواج، لن يحدث!

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 07:03 AM
(11)

كنيسة البازيليك ذات القباب الهائلة، المتداخلة، تتوسط الميدان، والأبراج المتقابلة، ومستطيلات الدوائر المصمتة، ونقوش الصلبان، والأفاريز المحيطة بالأسطح المتعددة، والنوافذ الزجاجية الملونة.
خمن أنها بنيت في الخلاء، ثم أخذت الشوارع والحدائق ـ من حولها ـ شكل الدائرة، تهب ميدان الأهرام اتساعاً، بامتدادها ـ من الواجهة ـ إلي سينما الحرية، وسينما نورماندي، والكوربة، وبالميرا، والأمفتريون، وملاهي أدهم، وشركة مصر الجديدة، وجروبي بشرفته الواسعة المطلة علي مبني الوزارة المركزية، وشركة مصر الجديدة، وسينما بالاس، ونادي سبورتنج، ومن اليمين، صف من البنايات ذات النسق الموحد، تشي الطوابق العالية والأعمدة المنقوشة والأقواس الحجرية والمقرنصات والزخارف والبواكي ببدايات الحي، وتقاطعات الطريق إلي شارعي دمشق وبيروت، وشارع السباق، والميرلاند. فطن إلي مئذنة ـ علي ناصية الميدان ـ تلاصقت الأشجار حولها، أشبه بغابة تفضي إلي شارع بيروت. أدرك أنها لمسجد مما اعتاد وجوده بالقرب من أية كنيسة. من اليسار طريق مترو النزهة، وكنيسة الموارنة، والشوارع المتجهة إلي شارعي الثورة والعروبة، وقصر البارون إمبان بقبابه، وأبراجه المخروطية، وامتزاج عمارته والتماثيل الصغيرة ـ في الواجهة، وعلي الجانبين ـ بين النسقين الهندي والمغولي. من الخلف مستوصف الدليفراند، علي ناصية شارع هارون الرشيد، يستعيد فيه زحام شارع السد ، الدكاكين والأسواق والمقاهي والسيارات وعربات الكارو والحنطور واليد والباعة الجائلين والتندات واللافتات وامتداد المفارق، حتي المدرسة الإنجليزية.
وهو يشير إلي الأبراج والقباب المتلاصقة:
ـ بناية كبيرة.
ومضت شفتاها ببسمة اعتزاز:
ـ أنا كاثوليكية، تابعة للفاتيكان، في هذه الكنيسة يقيم مندوب البابا..
الدرجات الرخامية تصعد إلي الباب الخشبي الضخم، يفضي إلي قاعة رخامية، علي جانبيها أعمدة تعلو إلي السقف العالي، وحجرات مواربة، أو مغلقة. تمازج الهدوء والسكينة والرائحة الذكية الغائبة المصدر.
وقع أقدامهما علي الأرضية الرخام يعمقه الصمت السادر. تشاغلا ـ ربما للتخلص من الارتباك ـ بالنظر إلي الصور والأيقونات والتماثيل والأثاث القليل المتناثر في الحجرة الواسعة.
تبادلا النظرات في جلستهما ـ متقاربين ـ علي الكرسي المواجه للباب المفتوح. خمن أن الحجرة لاستقبال الزوار. تناثر في أركانها مقاعد خشبية أشبه بما صف في قاعة الصلاة بكنيسة الزيتون. الزجاج الملون الشفاف يعكس ضوء النهار. الجدران خالية، إلا من رسم كبير ملون ـ وسط المكان ـ للسيد المسيح في وقفة دعاء. وثمة نجفة لا تتسق بساطتها مع فخامة المكان.
النحنحة المترامية من خارج الحجرة، دفعتهما إلي الوقوف بتلقائية. القامة الطويلة، والنظرة المتجهمة، والملامح الساكنة، حركت في داخله إحساساً بعدم الارتياح، ولعله شعور بالكراهية. أعرف أنك لن توافق، لكن الظروف أجبرتني علي الوقوف أمامك، ولابد أن أنتزع موافقتك.
تكلم ماهر فيما قدما لأجله.
استنكر ـ في داخله ـ ما لجأ إليه من عبارات قد لا ترضي المطران، أو تضايقه، أفضّل السير في الطريق المضيئة، ليتك تعاملنا كما يعامل الأب أبناءه، تعاهدنا علي أن يحترم كل منا ديانة الآخر، وعبارات أخري كثيرة أملاها الارتباك، لم يعدّها، ولا تدبر وقعها في نفس الرجل الذي واجهه بعينين ملتمعتين، ساكنتين.
اتجه المطران بنظرته إلي سيلفي:
ـ أنت مسيحية.. وضع الله هذا الشاب في طريقك لاختبار مدي إيمانك..
وجد في انكسار عينيها ما شجعه، فاستطرد:
ـ عليك أن تثبتي قوة هذا الإيمان..
كانت لهجة المطران هادئة، لكن النبرات بدت متوعدة، كأنها تتعمد بث الخوف في نفسها. آلمته الجرأة التي تصرفت بها الفتاة. خالفت دينها وأسرتها، وفرت مع شاب لا تعرف أصله، لتتزوج منه.
قال إن ما حدث هو غواية من الشيطان، كي تتحدي سيلفي إرادة الله. هددها بأنه لن يكون لها مكان في الكنيسة الكاثوليكية.
واكتست نبراته صرامة:
ـ قد تواجهين بهذا القرار متاعب لا نهاية لها.
ثم وهو يلوح بسبابته أمام وجهها:
ـ لابد أن تراجعي قرارك.
هذا هو الزوج الذي تريده. لا تتصور باباً يغلق عليها مع شخص آخر.
قال المطران:
ـ إذا تزوجت خارج الكنيسة، ستواجهين مصيرك بلا أهل ولا كنيسة..
ثم وهو يهز إصبعه في وجهها:
ـ ستواجهين مصيرك بمفردك.
لاحظ زمّها شفتيها كمن تهم بالبكاء:
ـ ما تنوين فعله يهبط بك إلي مرتبة المومسات..
ضغط ماهر علي يدها لتتماسك أمام كلمات المطران القاسية..
أصر علي الموافقة، وتصر علي الرفض، الموافقة حقي، أما الرفض فلابد أن تبتلعه في النهاية، لا شأن للدين ولا الكنيسة، ولا شأن لك، بقرار زواجنا.
قالت، وهما يتجهان إلي محطة الأتوبيس في الكربة:
ـ لماذا لا تتحول إلي المسيحية؟
أشار إلي صدره بعصبية:
ـ أنا ؟
قالت:
ـ لماذا أتحول إلي الإسلام؟
ـ لأنه يوافق علي زواج الرجل بالكتابية، بغير المسلمة.
وهي تعبر بيديها:
ـ المسيحية لا توافق. المشكلة واضحة!
***
واتاه السؤال. ألقاه دون تدبر:
لم يكن محسن عبد العاطي ـ زميله في إدارة النشر ـ يخفي اعتزازه بأنه من حملة كتاب الله، وكان ماهر يطمئن إلي إلمامه بقضايا الزواج والطلاق والمواريث، وإن شدد علي عدم تفقهه في المذاهب السنية الأربعة، ولا مذاهب الإسلام الأخري.
مط محسن عبد العاطي شفته السفلي:
ـ اسأل الكنيسة!
ـ حصل. قال الأب: كفر!
بحلقت عينا محسن في استغراب:
ـ هل كنت تتوقع موافقته ؟!

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 07:04 AM
(12)

نزل من المترو فى محطة الأسعاف ..
مضى ـ للمرة الأولى ـ ناحية شارع بولاق . مبنى مصلحة الكهرباء والبنايات القديمة والدكاكين المتلاصقة والزحام . مال ـ كما حددت له العنوان ـ من الشارع الجانبى ، قبالة سينما على بابا . مقهى ـ على الناصية ـ تشغل مساحة الطابق الأرضى . امتلأت بالطاولات والدخان والصيحات والنداءات والشتائم . الحارة الضيقة تفصل بينه وبين البيت الذى يقصده ..
تحسس طريقه ـ فى ظلمة السلالم الحجرية ـ يلتفت ـ بعفوية ـ إلى الظلمة المتكاثفة . توقفت خطواتها فى الطابق الأول ، وضغطت الجرس ..
الخالة إيفون . هى الشقيقة الكبرى لأمها . رآها يوم جنازة السيدة كاترين ، واليومين التاليين .
تقترب من الستين ، وإن بدت ـ على امتلائها ـ نشطة ، وخفيفة الحركة ، وتكثر من الكلمات المرحبة ، وتعبيرات الوجه واليدين . الوجه مستدير ، ممتلئ ، والجبهة عالية ، والصدغان متهدلان ، والعينان طيبتان ، لا تخلوان من مكر . لها شارب خفيف فوق شفتيها ، ترتدى فستاناً من الكستور المشجر ، بطول قامتها ، تحيط معصمها بسوار من الخرز الزجاجى ، وتدس قدميها فى شبشب من البلاستيك المتشابك .
ما رسمه خياله لم يتفق مع ما شاهده .
طرح التساؤل نفسه فى الأختين الأميرتين ، تقيم الصغرى فى فيلا بالزيتون ، والثانية فى بيت قديم ببولاق ؟
الردهة الضيقة تفضى ـ على اليسار ـ إلى حجرة صغيرة ، بها كنبة فرشت بسجادة من مزق الأقمشة الملونة ، وكرسيان من خشب الزان ، ومنضدة مستطيلة ، فوقها بوتاجاز مسطح وأوعية . على الجدار المطلى ـ بالجير ـ بلون سماوى ، صورة نصفية كبيرة للعجوز الجالس قرب الشرفة ، ونتيجة انتهى عامها ، فلم تنزع من موضعها . الشرفة الخشبية ، المتشققة ، تطل ـ من الجانب الأيمن ـ على شارع بولاق ، تطأها قدما الخالة إيفون ، فتحدث صريراً .
استعادت أيام ما قبل 1956 :
ـ لم يعد إلا القلة من الجاليات الأجنبية . لا بأس من أن يعودوا إلى أوطانهم . أنا وعمك لويجى .
أشارت إلى زوجها ..
استعاد ماهر ملامحه فى الجنازة ، بجسده الممتلئ ، ووجهه المكور ، وأذنيه العريضتين ، وعينيه الخاليتين من الرموش ، والذقن العريضة ، والندبة البنية الداكنة بحجم الترمسة فى خده الأيمن . تتباين التجاعيد فى وجهه مع شعره المصبوغ بالسواد . يرتدى بلوفر من التريكو ، فى هيئة مربعات لونية ، يغلب عليها اللون الأسود .
افتر فمه عن أسنان مهشمة ، مصفرة .
ووشى صوتها بالتأثر :
ـ ولدنا فى القاهرة ، لا نعرف مدينة سواها ، ولا نتصور أننا نبتعد عنها .
لاحظ فى صوتها غنة واضحة . إن ابتسمت ضاقت عيناها ، بدتا خطين يعلوهما حاجباها المقوسان .
وتطلعت إلى الصورة المعلقة على الجدار :
ـ الشجرة الصغيرة يسهل نقلها . إذا كبرت فإن محاولة النقل تميتها .
ورف على شفتيها ظل ابتسامة :
ـ خمس سنوات بعد الحرب أثبتت صواب ما فعلناه .
كانت سيلفى قد حدثته عن الخالة إيفون :
ـ روت لى من الحكايات ما يكفى لأن أستعيدها على امتداد العمر . أتصور أنى نسيت ، لكننى ألتقط طرف الخيط ، فلا أصل لنهايته .
وهو يغتصب ابتسامة :
ـ إيطاليا بلد جمهورى . حدثتنى سيلفى عن أمها الأميرة .
قالت الخالة إيفون :
ـ نحن إيطاليون بالفعل ..
واتته جرأة :
ـ لكنها ليست أميرة ..
دون أن تجاوز بساطتها :
ـ قيام الجمهورية بدل أوضاع العائلات ..
وأشاحت بيدها :
ـ ذلك زمن قديم ، نحن الآن مواطنتان من مصر .. هى من الزيتون ، وأنا من بولاق ..
وربتت صدرها :
ـ أنا من بولاق .
ثم فى نبرة متأثرة :
ـ لا أحد من أبناء أختى يزورنى ، عدا سيلفى !
وخنق التأثر صوتها :
ـ حتى كاترين ـ أدعو لها بالرحمة ـ كانت سيلفى تنقل عنها السلام .
خمن أن سيلفى تعانى ـ فطن إلى تأثرها بما كان لدى الأم ـ ربما ـ من ميول استعراضية ، تستخدم مفردات الأم ، وتحاكى ما كانت تحرص عليه من تصرفات .
حدثته عن الاعتزاز الذى كانت تنظر به السيدة كاترين إلى نفسها . هى أعلى فى المكانة الاجتماعية من زوجها . من حقها ، وواجبها ، أن تفرض سيطرتها على البيت ومن فيه ، تتحكم ، وتصدر الأوامر والتحذيرات ، تحدد أوقات الطعام والفراغ والسهر وسماع الأسطوانات . وكانت ترتدى ثياباً أنيقة كما يليق بحفيدة أميرة إيطالية ، وتحرص على ثياب الخروج داخل البيت .
يدفعها الشعور بالتفوق إلى إبداء ملاحظات قاسية . يتظاهر المسيو ميكيل بالموافقة ، وإن حرص ألا يترك لها فرصة حقيقية للسيطرة عليه .
عرف ـ من تناثر كلمات أنطوان الملمزة ـ أن المسيو ميكيل تعرف ـ بعد إحالته للمعاش ـ إلى بائعة أربعينية ، لحيمة الجسد ، مكحولة العينين ، فى سوق الخضر القريب من الكنيسة . تحدث عن السأم الذى يدفعه للتردد على فرشتها داخل السوق . يضيفان إلى البيع والشراء حكايات تشرق وتغرب ، تتراوح ردود أفعالها بين البسمة والضحكة العالية . يضيفها إلى الكفين والقدمين المخضبة بالحناء ، واهتزاز الثديين إذا تحركت ، أو تكلمت ، وأساور الذهب الملتمعة فى ساعديها ، ومنديل الرأس الأسود الذى عصبت به رأسها ، زينت أطرافه بحواش مطرزة ،
فطن أنطوان إلى أن العلاقة جاوزت الحكى لما رأى أباه يغادر ـ ذات مساء ـ بيت البائعة فى عطفة خزام .
لزم المسيو ميكيل البيت دون أن يشير إلى ما كان ، ولا إلى بواعث انقطاعه عن البيت . هل رأى أنطوان ، الذى تظاهر بأنه لم يره ؟
صادق أبونا امرأة من الشارع ، وها نحن نحاكيه .. صداقة أبينا والمعلمة فتحت الطريق للعلاقات الكاثوليكية الأرثوذكسية الإسلامية .. لو لم تمرض أمنا ، وانشغل أبونا بأمورنا ، بدلاً من الغناء الغبى والصرمحة وراء النسوان ، ما كنت [ ينظر إلى سيلفى ] تركت الدراسة ، وأمضيت وقتك خارج البيت .. هذا الرجل القبطى ، هل كان يتردد على الفيلا لو أن أبى عرف واجباته ؟.. أثق أن سكوت أمنا عن تصرفات زوجها هو الذى سيدخلها الجنة .
قال أنطوان :
ـ نحن ندفع ثمن الإقامة فى الزيتون .
قالت الأم :
ـ عندما أقمنا بالفيلا ، كان الحى كله فيلات وقصوراً وحدائق وزراعات ..
وأشارت بيدها إلى ما حولها :
ـ لم نكن نتصور هذه الأيام !
وقالت فى نبرة متصعبة :
ـ راح زيتون الحلم الجميل ، وجاء الكابوس الذى لا يرحل !
كان الزيتون ـ فى ذاكرة السيدة كاترين ـ حياً للأجانب والأثرياء ، القصور والفيلات والحدائق والشوارع النظيفة . لا تذكر ـ بالتحديد ـ متى تبدل الحال . ربما فى أعوام الحرب العالمية الثانية . انتقلت ـ بعدها ـ إلى الحى أسر من الأحياء المجاورة والبعيدة . علت البنايات ، وافتتحت دكاكين الحرفيين ، وأقيمت أسواق الخضر والفاكهة .
لم تكن تخفى استياءها من تغير صورة الحياة فى الزيتون . غاب ما كان يتسم به الحى من هدوء وتجاور للقصور والفيلات والحقول والحدائق . اختفت السواقى فى أطراف الحقول ، وأشجار الموالح والجوافة والموز والبانسيانا والكافور . تحولت الخضرة إلى أراض بور ، ثم بنيت فوقها العمارات والورش والمخازن والأسواق ، تخللتها الشوارع الضيقة والحوارى ، وقدم السكان الجدد بالزحام والضجيج والتلوث ، أعداد بلا حصر ، جاءوا من الأحياء البعيدة والقريبة .
ترامت إلى الفيلا ـ فيما يشبه الصدى أو الهمس ـ تلك الصفة المقتضبة : الخواجات . حتى الحرفيون ورواد المقاهى فى شارع سنان كانوا يتهامسون بالصفة ، عند قدوم أفراد الأسرة من ـ وإلى ـ طريق جسر السويس .
قالت :
ـ سادة الزيتون الآن من لم يكونوا يجرءون على السير فى شوارعه !
وأغمض التأثر عينيها :
ـ كنت أكره الأشجار لأنها تحجب الرؤية .. الآن أحبها للسبب نفسه !
ورافق إغماض العينين تحريك الرأس :
ـ لم يعد حولنا ما يغرى بالرؤية !
قال جان :
ـ أهذا رأيك بعد أن ازدحم ما حولنا بالبنايات ؟
ـ إنها ما لا يغرى بالرؤية !
لاحظ ماهر غضب الخواجة لويجى لغياب المكرونة عن المائدة . نحن طلاينة ، المكرونة لا تخلو من مائدة الإيطالى !
غالب ماهر ارتباكه :
ـ ما على المائدة يكفى .
ورسم على شفتيه ابتسامة :
ـ بصلة المحب خروف .
قالت الخالة إيفون :
ـ تتركين ديانتك من أجل الزواج ؟
قالت سيلفى :
ـ ماهر وافق أن أظل على المسيحية .
قال ماهر وهما يهبطان درجات الشهر العقارى :
ـ الشهر العقارى يصر على موافقة الكنيسة ..
قالت :
ـ كما ترى .. لن توافق الكنيسة ..
ـ والحل ؟
ـ ما تريده سأفعله ..
غالب تردده :
ـ هل تعلنين إسلامك ؟
أضاف للذهول فى عينيها :
ـ ستظلين مسيحية . إعلان الإسلام للفرار من ضغط أهلك ورفض الكنيسة ..
ـ دعنى أفكر ..
ـ لسنا متعجلين !
حركت رأسها فى ما يشبه اليأس :
ـ كل الطرق مسدودة ..
قالت الخالة إيفون :
ـ هذه الطريق أيضاً ليست صحيحة . نعتنق ديناً لأننا نؤمن به وليس لأنه يجمعنا بمن نحب !
ـ ماذا أفعل ؟
شعر فى صوت سيلفى بتماوج الحيرة والقلق .
قالت الخالة :
ـ كما اتفقتما ، فليظل كل منكما على دينه .
زفرت فى ضيق :
ـ الكنيسة ترفض .
ـ لكن القانون يوافق .
واتجهت إلي ماهر بنظرة متسائلة :
ـ لو أن سيلفى أرادت أن تذهب إلى الكنيسة .. هل توافق ؟
وهو يومئ برأسه :
ـ هذا شأنها .
ـ مسايرة للظروف ؟
ـ أظن أنى لست شديد التدين !
قالت الخالة إيفون لسيلفى كالمتنبهة :
ـ الدراسة .. ألا تنوين استكمالها ؟
قالت :
ـ لن أكون الوحيدة التى تدرس فى أثناء زواجها ..

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 07:04 AM
(13)


أخذت منه الورقة ، وأعادت قراءتها :
" مكتب الإمام الأكبر شيخ الأزهر .
بعد حمد الله والصلاة والسلام على خير رسله ، وأفضل خلقه ، محمد صلى الله عليه وسلم . تشهد مشيخة الأزهر أن السيد ............... والذى كان يعتنق قبل اليوم ، الديانة المسيحية ، ومذهبه فيها ........... قد حضر إلينا راغباً فى اعتناق الدين الإسلامى .. "
قالت :
ـ هل أملأ هذه الورقة ؟
ـ قبلها تقرأين الفاتحة وآيات من القرآن ، وتنطقين بالشهادتين .
ـ فقط ؟
ـ هل تتصورين شيئاً آخر ؟
نفضت رأسها بمعنى أنها لا تعرف .
عدل الشيخ عباءته على كتفيه ، ورنا إلى سيلفى بنظرة متسائلة :
ـ تريدين اعتناق الإسلام ؟
أومأت بعينيها ..
فاجأها الشيخ ، فاجأهما ، بمؤاخذة بعض طالبى التحول من المسيحية إلى الإسلام . يطلبونه لتيسير الزواج من مسلمين ، أو الطلاق من مسيحيين ..
حدجها بنظرة متوجسة :
ـ هل تحفظين القرآن ؟
هزت رأسها ..
ـ هل تحفظين القرآن ؟
عاودت هزت رأسها ..
ـ كله أو بعضه ؟
رنت إلى ماهر بنظرة استغاثة .
علمها الفاتحة ، وسوراً قصيرة من جزء عم ، وقلدته فى الوضوء وحركات الصلاة .
قال الشيخ ليحرك صمتها :
ـ هل أنت جادة فى اعتناق الإسلام ؟
ثم وهو يتفرس فى وجهها :
ـ هل تعتنقين الإسلام عن رضا ؟
ونقل نظرته إلى ماهر :
ـ المسلم الحق لا يكره أعزاءه على الإسلام .
ونقر على المكتب بطرف القلم فى يده :
ـ إذا كان قد اشترط لزواجكما أن تعتنقى الإسلام ، فهذا إكراه .
قال ماهر :
ـ لم يدفعها أحد .
ودون أن يتدبر كلماته :
ـ أنا لم أناقشها فى الدين أصلاً ..
استطرد موضحاً :
ـ لا تشغلنى ديانتها ، وما إذا كانت مسلمة أم مسيحية ..
وغالب انفعاله :
ـ يشغلنى أن أتزوجها بلا عقبات .
نحى الشيخ الأوراق جانباً :
ـ إذا اعتنقت الإسلام فلأنها تريد اعتناقه !
وهما يغادران دار الإفتاء ، تصاعدت الأسئلة فى نفسها ، وإن ظلت صامتة : هل يكفى الحب للتحول عن الدين الذى نشأنا عليه ونعرفه ، إلى دين آخر لا نعرف عنه ما يدعونا إلى اعتناقه ؟ وهل أحبته بالفعل ، أو أنه الشاب المصادفة فى طريق أزمتها ؟
قال :
ـ سنعود ، لتعلنى إسلامك .
ثم وهو يدارى ارتباكه بابتسامة فاترة :
ـ سيصبح من حقنا أن نتزوج على يد مأذون !
فاجأته بالقول :
ـ هل أتخلى عن الكاثوليكية بالفعل ؟ ..
حدق فيها ، كأنه يحاول قراءة عينيها :
ـ ماذا تقصدين ؟
ـ هل أسلم لأتزوجك !
يعجز عن التقاط حقيقة مشاعرها . ابتسامتها الدائمة ، المحايدة ، تخفى المعنى حين تتكلم معه ، أو تظل صامتة .
ـ أعرف أنه سيكون مثل إسلام نابليون وهتلر ..
أرجع ما قال إلى الانفعال الذى لا ينكره فى نفسه .
رفعت عينين متسائلتين :
ـ وما شأنى بهما ؟
ـ كان إسلامهما لهدف ..
وشحب صوته فبدا كالهمس :
ـ وإن لم يتحقق !

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 07:05 AM
(14)

حين مات الأب ، بدا كل شىء كأنه إعادة لما عاشوه عند رحيل الأم . كل الخطوات منذ لحظات الوفاة حتى العودة من مدافن مار جرجس . رحل الأب دون معاناة ، شهق بالألم ، وظلت عيناه الزرقاوان المفتوحتان ساكنتين .
مد أنطوان يده ، فأغمضهما .
عانت الأم حتى بدا موتها متوقعاً ، ربما تمنوا ـ كل واحد بينه وبين نفسه ـ أن تأتى النهاية التى طال توقعها . أجهدهم الإشفاق ، والترقب ، وأوقات الأزمة ، واستدعاء الطبيب ، والأدوية فى مواعيدها ، وعودة الأب يوحنا إلى الكنيسة دون أن يعطيها المسحة الأخيرة .
ما كاد ظل الحزن الثابت ـ بعد رحيل الأم ـ يتحرك ، يستعيدون أيامها كمادة للتذكر ، وليس للحزن ، ربما ابتسموا ، أو علت ضحكاتهم ، لتصرف أو لقول .. ما كاد الحزن يشحب ، حتى رحل الأب .
عاد الحزن ظلاً ثابتاً ، كما كان .
قالت سيلفى :
ـ بعد وفاة أمى ، توقعت أن يلحق بها أبى .
أردفت فى تأثر واضح :
ـ من المستحيل أن يعيش بدونها !
تملك الأب فى يوم رحيلها ما يشبه الشرود ، أو الذهول . غنى ، ونادى باسم كاترين ، ورفض طلب أنطوان أن يستبدل ملابسه ، وتابع خروج التابوت من البيت بعينين ساهمتين ، ولم يشارك فى الجنازة . ظل فى البيت بمفرده ، حتى عادوا من المقابر . لم يظهر الاهتمام ، ولا وجه أسئلة من أى نوع .
بدا التغير واضحاً فى تصرفات العجوز . ظل على ميله إلى الغناء . يعلو صوته بألحان أوبرالية ، لكنه أطال الصمت ، والانطواء على نفسه . يكتفى بساندوتشات تعدها له دومينيك أو سيلفى ، لا يجلس إلى المائدة . ينتقل بين الشرفة وحجرة النوم . غلب عليه الحزن وبطء الحركة .
لم تتصور سيلفى أن البيت يخلو ـ فى بضعة أشهر ـ من أمها وأبيها . بدا المستقبل محملاً بالتوقعات القاسية .
قالت سيلفى :
ـ يجب أن نؤجل خطبتنا مرة ثانية ..
رمقها بارتياب ، خمن أنها تخفى ما لا تبوح به .
قالت :
ـ قد يكون التأجيل حتى أجد عملاً ، ويتاح لنا العثور على شقة مناسبة .
اتجه إليها بالسؤال :
ـ كل بحثنا فى الزيتون .. لماذا لا نبحث بالقرب من بيتنا فى المواردى ؟
ثم وهو يغالب توتره :
ـ متى تزورين أسرتى ؟
ـ لن أحتاج إلى دعوة ..
ورفعت إصبعها فى وجهه :
ـ لأزور أسرتك وليس للبحث عن شقة . يصعب أن أبتعد عن الزيتون .

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 07:05 AM
( 15 )

تغيرت الجلسة.
جلس أنطوان علي رأس المائدة، واخوته علي الجانبين. أعاد أنطوان كلمات الصلاة التي كان يرددها أبوه قبل تناول الطعام »تباركت يا رب، يا من تعولنا منذ حداثتنا، وتهبنا خيراتك، وتهيئ الغذاء للجميع، لأن أعين الكل تترجاك، فأنت تعطيهم طعامهم في حينه، تفتح يدك فتشبع كل حي رضي، لك المجد والتسبيح والبركة والشكر علي كل ما أعددت لنا من الطعام الموضوع علي هذه المائدة المعدة لغذاء أجسادنا، اجعله شفاء وقوة لحياتنا الجسدية، امنح خلاصاً ونعمة وبركة وطهراً لكل المتناولين منه، ارفع عقولنا إليك كل حين، لطلب طعامنا الروحي غير البائد، اعطنا أن نعمل للطعام الباقي للحياة الابدية، وهب لنا نصيبنا في الاشتراك في وليمتك السماوية، امنحنا خبز البركة وكأس الخلاص، واملأ قلوبنا من البهجة والفرح، انعم علينا بحياة مطمئنة هادئة، وسعادة في النفس، وصحة في الجسد، وقداسة في الروح، علمنا أن نطلب رضاك في كل شيء، حتي اذا أكلنا او شربنا او عملنا اي شيء، نعمله لمجد اسمك القدوس، لأن لك المجد الي الابد، آمين«.
دعا الله ان يبارك افراد الاسرة، ويبارك البيت، ويحفظ علي الجميع نعمة الحياة..
فعلوا ما كانوا يفعلونه عندما يصلي أبوهم، أحنوا رءوسهم، واخفضوا أعينهم، ورسموا علامة الصليب، وحاولوا التأمل.
***
قال جان:
ـ أنطوان أخذ كل شيء لنفسه.. لم يترك لنا شيئاً..
ثم في نبرة مفعمة بالأسي:
ـ مشكلة أنطوان تصوره أن كل ما في البيت ملكه الشخصي، هو الوريث الوحيد حتي من قبل أن يرحل أبي!
بدا أن أنطوان لم يعد يعطي حساباً لأي شيء، لا علاقات أسرية، ولا أخوة، ولا حتي قوانين تمنعه من التصرفات الخاطئة، ما يريده يأخذه، لا يسأل ولا يناقش، دائم التوجس، يرمق ما حوله بعينين متلفتتين.
ورفع عينين متحيرتين:
ـ كيف نواجه الظروف في الأيام المقبلة؟
رسم الأب علي صدره إشارة الصليب:
ـ تذكر قول إنجيل متي: »فلا تهتموا للغد، لأن الغد يهتم بما لنفسه. يكفي اليوم شره«..
***
امتلأت نفسه بالشكوك والمخاوف وعدم الاطمئنان. تحددت ملامح الصورة بما لا تتحدث عنه، ولا كان يعرفه. الأم إيطالية من نابولي، والأب نمساوي الأصل، مصري الجنسية، وظل إلي المعاش موظفاً في فرع بنك باركليز بالموسكي. لم تكن الأم قد ماتت، وإن كانت تعاني مرض الموت، ولا قتل المصريون الأب في بورسعيد. غناؤه الأوبرالي أعلن تقدم صحته، ورواياتها التالية تحدثت عن عمله في فرع بنك باركليز بالموسكي حتي أحيل إلي المعاش.
لم يعد يدرك أين الصدق وأين الكذب في كلامها.
قال:
ـ هل مازلت تذكرين آيات القرآن؟
أدركت ما يعنيه:
ـ لا أذكر أي شيء إلا يتمي المفاجئ!
تناوشته الأفكار، واختلطت. لم يعد يشغله شيء محدد، لا شيء إطلاقاً. تحولت المواقف والرؤي والتصورات إلي ما يشبه التكوينات الشاحبة، يصعب تبينها.
بدت تصرفاتها لغزاً يصعب حله، اختلطت الحقيقة والخيال، لا يدري ـ وهو ينصت لها ـ إن كان ما ترويه قد حدث بالفعل، أم أنها تخترع حكايات لا أصل لها.
لم يتصور أن الملامح البريئة تخفي كل هذه القدرة علي الكذب. الكذب يتساقط من شفتيها، يتناثر مع رذاذ لعابها، بما يفرض الأسئلة، أو أنه بصقات تقذف بها دون أن تعي تأثيراتها.
يأخذه الذهول من جرأتها علي الاختلاق بالكذب، وما صوره خيالها. الكذب حبل، غاب طرف بدايته، ولا تبدو له نهاية. كيف لم يفطن إلي كذبها، وأنها تروي ما لم تعشه. هي تكذب، وتكذب، وتكذب. تروي الكذبة، توشيها بالأضواء والظلال، تحورها، ربما تلغي حكايتها الجديدة حكاياتها السابقة. ترسم البراءة علي ملامحها، ترفع عيناً تطلب تصديقه.
لماذا كذبت عليه؟
كتم السؤال في نفسه.

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 07:06 AM
(16)

ألقي نظرة سريعة علي الناحية المواجهة، امتداد نصوح إلي محطة القطار مزدحم بعربات اليد والباعة والمارة، والغروب القريب يدفع محل كريشة والمحال المجاورة إلي الإضاءة.
رأي عبدالرحيم بائع الأقمشة في الدكان المقابل للكنيسة. شتمه المسيو ميكيل حين عرض الزواج من دومينيك. يقف خلف البنك بقامته القصيرة، وشعره المفلفل، وبشرته السمراء، ووجهه المستدير، والشفتين الممتلئتين، يعلوهما أنف أفطس. الأرفف من خلفه، رصت فوقها أثواب القماش، يقيس ما يعد لبيعه بالمتر الخشبي. كان الرجل -في رواية سيلفي قد كون ثروته من تجارة السوق السوداء، ومن بيع أكفان الموتي. أضاف إلي بيع الأقمشة بالبطاقات - في أعوام الحرب العالمية الثانية - مواد التموين التي تباع بالبطاقات: السكر والزيت والصابون والشاي. خصص لبيعها دكاناً صغيراً ملاصقاً.
مال إلي شارع نصوح الهندي، الكناس العجوز يكوم أوراق الشجر المتساقطة في جابني الشارع.
قبل أن يميل في اتجاه الفيللا، لامست أنفه رائحة الياسمين، ذابت في أريجها روائح القمامة في الخرابة المهجورة أول الشارع، والبرك الصغيرة المتناثرة.
طالعته - بمفردها - تستند بكوعها علي سور الشرفة. أحكمت الروب المشجر حول نفسها، وتطلعت إلي الطريق الخالية، من خلال أغصان الشجر التي تساقط معظم أوراقها.
قالت لنظرته المتلفتة:
- دومينيك مريضة.
ونترت قطرات مطر حملتها الريح إلي داخل الشقة:
- صحبها عياد إلي الطبيب.
فطن إلي أنه لا يوجد في البيت سواهما، سيلفي وهو، ارتباكه وكلماتها المتوترة.
عرف من كلماتها أن دومينيك تقوم بأعمال البيت، لا تشاركها خادمة مقيمة في البيت، أو تتردد عليه.
ناوشه السؤال، إذا كانت هذه حياة أسرة، كانت أمها أميرة، وكان أبوها - قبل رحيله - موظفاً في بنك أجنبي؟
الفيللا تشي بعز قديم، لا يجد امتداداً في حياة أهلها.
أهمل ما هب عليه من الريح الساخنة، تعمق الاختلاف وما يباعد بينهما، حتي الحياة في فيللا الزيتون، وفي شقة المواردي، تجعل لكل منهما عالمه الخاص، لا صلة له بالآخر.
قال ليبدد الصمت المنفعل:
- هل لايزال أنطوان يرفض زواجنا؟
قالت:
- أدرك أنه لا فائدة، وإن فرض مقاطعة صامتة!
- هل أكلمه؟
- سيتصور كلامك ضعفاً.
وأشاحت بذقنها:
- من كنت أخشي غضبهما ماتا.
ووشي صوتها بالاستياء:
- أنطوان تهمه أخلاقنا، لكنه بلا أخلاق، ما يفعله لمجرد السيطرة علينا!
زادت من إحكام الروب حول صدرها:
- برد؟
كانت الريح تعصف بأشجار الحديقة. يصدر عنها ما يشبه الحفيف أو الوسوسة، يتوالي سقوط الثمار علي الأرض في ارتطام مكتوم، رؤوس الأشجار تهتز، وهبات الهواء الباردة تنفذ من بين الفروع. تنفض قطرات الماء العالقة بها، تتناثر القطرات في المساحة وراء إفريز الشرفة وداخل الفيللا.
ثم وهي تتهيأ للقيام:
- لندخل..
وعلا صوتها بلهجة مرحبة:
- خروج دومينيك فرصة لتشاهد حجرتنا.
الحجرة تطل علي منور يفصلها عن البيت المجاور من الخلف. جدرانها من عروق الخشب المطلية باللون الأبيض، في الوسط سجادة صغيرة ذات ألوان وكومودينو فوقه فازة من الكريستال، فيها زهور صناعية بهتت ألوانها. علي الجانبين سريران منفصلان، أحدهما - الذي اختارت سيلفي الجلوس عليه، منكوش الأغطية.
لا يدري من همس بالنداء، ومن اقترب بالاستجابة.
نزعت الروب، كومته، وألقت علي السرير جوارها:
قالت:
- هنا أدفأ.
التقطت نظرته المحدقة في بطن ساقها.
وهي تفرد راحة يدها في وجهه:
- عينك!
قال:
- تتكلمين كالمصريين!
- أنا كذلك بالفعل..
ومالت برأسها ناحيته:
- من تظنني؟
فطن إلي النهدين المتحررين من السوتيان، تحت قميص النوم الأسود، المطرز بالدانتيل. يشي المنبت باستدارتهما المتماسكة، وطزاجتهما. شعر - للمرة الأولي منذ تعرف إليها - بتوتر في ذكورته.
مدفوعاً بجرأة لم يعهدها في نفسه:
- ممكن؟
اتسعت عيناها بالتساؤل..
همس:
- ألمس صدرك؟
وضعت في عينيها ليناً محرضاً:
- ما يمنعك؟
وشي ارتجاف أصابعه بارتباكه. حاول الملامسة بالجرأة المواتية، ترك لأصابعه الإبانة عن ألق التعري، لامس الجسد الباذخ بيدين تائهتين. جاست اليدان في الأحراش الناعمة الباذخة، وما كانت العينان تخالسه النظر. باحت الأسرار بطلاسمها. اختلطت، وتشابكت، وجوه وملامح وكلمات: شارع المواردي، وفيللا الزيتون، وغناء المسيو ميكيل، والانتظار، والشوق، واللهفة، وتهويمات الأحلام، والشوق، والرهبة، والتوتر، والاكتشاف، والفقد المستعاد، واندفاع الطوفان، وإهالة التراب علي جسد الأم، واجتذاب الدوامة للقرار الذي لا يدركه، وميدان ابن سندر، وتعالت أجراس الكنيسة، وعظات الأب يوحنا، وقول الخالة إيفون: هل توافق علي أن تحتفظ سيلفي بدينها؟ والنافذة المطلة علي النيل، وزفرة السيدة كاترين: لم تعد الزيتون كما كانت، وزحام شارع السلطان سليم، واستطالة الظلال، والإيماءات، وتوسط قوس قزح وسط السماء، وتطوح الذاكرون - علي أنغام الأورغن - في خيمة الصوفية، وأبحار القارب في أمواج متلاطمة، وعلو أجراس النشوة، وترامي صوت أم كلثوم من راديو قريب: »شمس الأصيل نورت فوق النخيل يا نيل. وثمة القرب والبعد والانثناء والتقلب والتمدد والعناق والتصلب، وهمس الغمغمات والتمتمات والدمدمات، والأنين الخافت، والعينين المغمضتين، والشفتين السخيتين بما لم يتوقعه، تشابكت الأيدي والأقدام بدا الجسدان قطعة واحدة، متكورة.

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 07:06 AM
(17)

تنقل - بألفة المكان - بين الصالة - لم يعد يقصر جلوسه فيها - والحجرات المحيطة بها، البوفيه الأسود المغلق ضخم بمساحة الجدار، خلف الأنتريه ذي الكنبة والكرسيين والمنضدة الرخامية، علق في أوسط الجدار جسد المسيح العاري علي الصليب، وإكليل الشوك علي رأسه، والطعنة في جنبه الدامي، إلى جواره صليب من العاج الأسود، أهداه للمسيو ميكيل تاجر قبطي من المتعاملين مع البنك.
حجرة المائدة في زاوية بين المدخل وجانب الحديقة، تلاصقها حجرة نوم أنطوان وجان، الجدران مكسوة بالورق الملون، الترابيزة المربعة الصغيرة، المغطاة بمفرش كروشيه أبيض، تفصل مابين السريرين، بينهما - أعلي الجدار - لوحة - بدا أنها منقولة عن كارت بوستال - لامرأة عارية، ممددة علي شيزلنج، إلى جوار النافذة المطلة علي الحديقة والشارع، دولاب ملابس من ضلفتين، ومكتبة صغيرة علقت علي جوار النافذة، في المنتصف طاولة خشبية مستطيلة، يتقابل في طرفيها كرسيان، خمن أنها لتناول الطعام والكتابة، في يمين الصالة حجرة نوم دومينيك وسيلفي، تتوسط الجدار لوحة فيها خضرة منبسطة وأشجار وأبقار ترعي، قرأ علي العلبة الصغيرة كالحق عبارة «المناولة الأولى»، دقق في الصورة، لم يتأكد ما إذا كانت صورة الطفلة الصغيرة لدومينيك أو سيلفي، يشي بذلك الذبول الذي يشحب الصورة.
تقابل الحجرة حجرة نوم الأبوين، تركها الأب منذ أقعده المرض في السرير، يتمدد علي كنبة الصالة، أو يجلس في الردهة الخالية، يغني أو يقرأ الصحف، أو يسلم عينيه لإغفاءة.
في نهاية الصالة، إلى اليسار - طرقة ضيقة، مفروشة بسجادة طويلة، تفضي إلى حجرة الصالون والي الحمام والمطبخ.
لم تعد الحجرة مغلقة، كان تصوره أنهم يحتفظون بأثاثها المطعم بالذهب، والكراسي ذات الكساء الحريري الدمشقي، المتداخل الألوان، والنجفة المورانو، والسجادة العجمية الفاخرة.
تفتح دومينيك النوافذ علي الجانبين، ومن الخلف بينما تظل نوافذ الواجهة مغلقة، لا تفتح إلا حين تنشغل دومينيك بتنظيف الشيش والزجاج، أو لتأذن للهواء - وقت الصباح - بالدخول، إذا حل الشتاء، يغلق زجاج النوافذ، ويظل الشيش مفتوحا للنور.
الأشجار - خلف الحديقة - لم يقلمها الجنايني، فتكاثفت، ألقت ظلالا دائمة علي النوافذ الخلفية، اكتفي أنطوان بنفض رأسه لشكوى دومينيك من أن فروع الأشجار لامست النوافذ بما قد يجعل فتحها صعباً.
زقزقة العصافير في الصباح الباكر، وفي وقت الغروب تعلو بما يغيب بقية النهار، تتشابك، تبدو كالصراخ المستغيث.
هبط الدرجات الخمس المفضية إلى الحديقة، والباب الحديدي الخارجي، مال إلى اليسار، نزل البدروم - أسفل الفيلا - في نهاية ممر الحديقة، اشتد المرض علي الأم، طلب أنطوان معاونته في نقل قطع أثاث من حجرة الأبوين إلى البدروم، لم يعد في الحجرة سوي السرير الذي ترقد عليه الأم، وبوفيه مغلق وضعت حاجياتها فيه، وفوقه.
أضاء أنطوان لمبة تدلت من سقف البدروم، تكومت قطع الأثاث علي الأرضية البلاط، ولصق الجدران، وفي الأركان: كراسي محطمة، مرتبة صغيرة سودها التراب، علبة صفيح مغلقة، أجزاء من أجهزة كهربائية، ملفات قديمة بيانو منزوع الأسلاك، صندوق بيرة زجاجاته ناقصة، فازة فخارية مكسورة العنق، سلال متداخلة، لوحة مرور علاها الصدأ، فاختفت أرقامها.
قالت:
- يهمك الأمر؟
غالب ارتكابه:
- ألا يهمك؟
وهي تشيح بيدها:
- إنها حادثة قديمة..
- من؟
- كنت صغيرة..
- لابد أنك تذكرينه.. من هو؟
- صديق لأخي أنطوان..
وشردت بعينيها فيما يشبه التذكر:
- دخل حجرتي - ليلة - بعد عودتي إلى البيت، لم استطع المقاومة..
- وهل أخبرت أنطوان.. أو أمك أو..
قاطعته في لهجة مستغربة:
- ماذا كانوا يفعلون؟
قال في سرعة، ليقضي - ربما - علي عدم التصديق في داخله، إن حياتها لا تعنيه من قبل أن تعرفه.
وقال:
- ما مضي من حياتك ملك لك تستطيعين إخفاءه
أضاف بلهجة متواطئة:
- أمامنا حياة جديدة!
وومضت عيناه بالتذكر:
- من رفيق؟
أعادت نطق الاسم:
- رفيق؟
- ذكرت اسمه في أثناء..
وسكت.
قالت:
- مجرد اسم نطقته في لحظة جنون!
نسب المشكلة إلى صديق لم يسمه، همس بها لمحسن عبد العاطي، يكبره بأعوام كثيرة، وعمله في المراجعة يتيح له معرفة ما قد يغيب عنه، خمن أنه سيفيده بما يمتلكه من خبرة.
رجح عبد العاطي أن يكون الله خلقها بدون دم، ذلك ما يحدث لبنات كثيرات، ربما فقدت الغشاء في صباها دون أن تعي، وربما أسباب كثيرة تختلف عن باعث السقوط.
شعر أنه أميل إلى تصديق المعني.
ألفا الاندفاع - حين تخلو الفيلا - لممارسة الحب، يستعيدان ما تكرر حدوثه دون أن يشيرا إلى ما سبق، تشغلهما اللحظة بتوقعاتها وتوترها، يضيفان إلى لحظة الذروة لمسات وقبلات، يتأمل تباين بشرته السمراء وبشرتها البيضاء الوردية.
فاجأته بأوضاع لم يكن يعرفها، ولا تصورها، داري ذهوله في تصنع بالفهم والخبرة، حرص ألا يظهر حتى ما يتصاعد في نفسه من الشعور بالإرهاق، أو القرف.
أشار إلى بطنها، وهي تودعه - ليلة - علي الباب الداخلي للفيلا:
- أخشى أن يفاجئنا ما لا نتوقعه.
تأمل نبرتها الهادئة:
- لماذا حبوب منع الحمل إذن؟!
التقطت ابتسامة علي شفتيه..
قال لنظرتها المتسائلة:
- لما دعوتني لزيارة أسرتك، تصورت أنها عزومة مراكبية!
فسر المعني:
- دعوة مجاملة.
وعادت الابتسامة إلى شفتيه:
- لكنك دعوتني إلى حجرة نومك!
قالت في نبرة مستاءة:
- كلام لا أحبه..
ورفعت عينين تنطقان بالغضب:
- ماذا تريد أن تقول؟
(يتبع)

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 08:14 AM
( 18 )

ركعت دومينيك أمام تمثال العذراء . قالت كلاماً كثيراً . روت عن أمها وأبيها وعياد وأنطوان والمرض الذى يعذبها .
نذرت للعذراء أن تتنازل عن كل الثياب فى دولابها للفقراء ، إن هى يسرت لها الشفاء من المرض .
حركت شفتيها فى صلاة صامتة ، ورسمت علامة الصليب .
ظلت ـ منذ وفاة أبيها ـ تتردد على الكنيسة كل صباح ، وتعترف للأب يوحنا مرة كل أسبوع . ترتدى زى الحداد . تبدّل ما بين الفستان والتايير ، لكنها تحرص على السواد . ربما ارتدت ثياباً ملونة داخل البيت ، لكنها تحرص على الفستان الأسود ، فى خروجها من البيت . وكانت تطيل الصلاة فى حجرتها ـ قبل أن تتجه إلى النوم ـ أمام أيقونة العذراء ، وصورة أمها وأبيها .
قالت سيلفى :
ـ سأظل معك فى الفيلا حتى ترتبى أمورك ..
قالت دومينيك :
ـ لا تؤجلى زواجك لأجلى ..
ـ ما زلنا نبحث عن شقة ، وعن وظيفة لى ..
واصطنعت ضحكة :
ـ ماهر لن يزعجه غيابى عنه ..
واحتضنتها بنظرة مشفقة :
ـ إن أراد يستطيع زيارتنا .
إذا حلت الأزمة بدومينيك ، فإن سيلفى تعمد إلى إسدال الستائر ، وإغلاق الأبواب والنوافذ . لا يترامى صراخ دومينيك ـ إذا صرخت ـ إلى الطريق . ربما عانت فى الليل من التقلصات العنيفة ، والقيء ، والتوجه إلى دورة المياه .
تستغيث بالعذراء لتنقذها مما تعانيه ، تناديها ، تدعو باسمها ، أو باسم ابنها ، أو باسم الصليب .
يعاودها الدوار والرغبة فى التقيؤ ..
تمسك خصرها بيدها ، وتميل على الأرض . يتناثر القيء على الأرض ..
لا تشعر بالراحة إلا إذا تقيأت ما بجوفها ..
إذا حزنت أو غضبت . غالبت الدوار ، ومالت نفسها إلى الغثيان ، تعود من الحمام بعد أن تفرغ ما بجوفها . ربما طفر القىء من فمها دون أن تقدر على منعه ..
تهمس سيلفى فى إشفاق :
ـ أنت تتقيئين من نسمة الهواء !
تواصل الصراخ ، والصياح ، تمزق ثوبها ، تخمش وجهها ، تشد شعرها ، تضرب الأثاث أو الجدار برأسها ، أو بلكمات متوالية . يعروها ما يذهلها عن الدنيا . تزوغ عيناها . يغلب البياض عليهما ، تعروها ارتعاشات ، وتقلصات عنيفة ، ويتخشب جسدها ، ويتداخل ، ويعوج فمها ، ويسيل الزبد الأبيض على الشفتين والذقن .
يحاذر أنطوان وجان من أن يلامسا جسدها ، وإن رفضا أحاديث الجان والعفاريت .
تظل سيلفى جالسة إلى جانب سرير دومينيك . تحرص أن تظل مستيقظة ، وإن غلبها النوم فى أحيان كثيرة .
تشعر أنها تحب دومينيك كما لا تحب إنساناً فى الدنيا ، تختلف عن كل من فى البيت ، لا تلاحقها بالملاحظات والتعليقات والمؤاخذات والانتقادات والأوامر التى لا تنتهى . تمتلك قدرة ـ بلا حد ـ فى التسامح ، والتماس الأعذار ، وكره الشر ، لا تضمره ـ ولا تعلنه ـ لأحد . تسميها ـ فى مداعباتها ـ سانت دومينيك .
روت سيلفى بواعث ما تعانيه دومينيك : لاحظ الأب يوحنا علاقة حب بينها وبين راهب شاب فى كنيسة اللاتين ، فسعى لنقله .
أزمعت ـ لما حدث ـ أن تظل بلا زواج ، ثم ظهر عياد فى حياتها .
***
لاحظ ماهر ضيق أنطوان بتلميحات عياد إلى ميراث دومينيك من أبيها ، إلى ما يجب أن ترثه من العجوز . أثاره الشعور بعدم الندية الذى بدا أن أنطوان ينظر ـ من خلاله ـ إليه ، وإلى عياد ، وربما إلى إخوته .
قال بجرأة مدفوعة بالانفعال الذى يعرفه فى نفسه :
ـ أريد سيلفى بثيابها .
أضاف دون أن تشغله إمارات الغضب على وجه أنطوان :
ـ لا أريد أى شيء !
ثم وهو يغالب انفعاله :
ـ ترفض دومينيك لعياد ، وترفض سيلفى لى ..
واقتحمه بنظرة غاضبة :
ـ ماذا تريد ؟!

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 08:15 AM
( 19 )

وقف عياد ودومينيك أمام القس ، يد كل منهما فى يد الآخر . تحدث الأب عن الزواج ، والواجبات التى يعنى بها الزوجان .
أعاد النظر فى الأوراق بين يده ، ثم اتجه إلى عياد بنظرة حيادية :
ـ يا عياد ، هل تتخذ هذه المرأة التى أنت ماسك يدها لتكون زوجة شرعية لك ؟ وهل تعد ـ بوقار فى حضرة الله وأمام هؤلاء الشهود ـ أن تكون لها زوجاً محباً وأميناً ، طالما كنتما على قيد الحياة ؟
همس عياد وهو يحنى رأسه :
ـ نعم .
اتجه الأب بنظرته إلى دومينيك :
ـ يا دومينيك ، هل تتخذين هذا الرجل الذى أنت ماسكة الآن يده ليكون زوجاً شرعياً لك ؟ وهل تعدين ـ بوقار فى حضرة الله وأمام هؤلاء الشهود ـ أن تكونى زوجة محبة وأمينة ومطيعة طالما كنتما على قيد الحياة ؟
همهمت دومينيك فى ارتباك ، بما يعنى الموافقة .
قال الأب :
ـ أصرح بأنكما زوج وزوجة ، والذى جمعه الله لا يفرقه إنسان .
ثم علا صوت القس :
ـ باسم ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع مشرع شريعة الكمال ، وواضع ناموس الفضائل ، نعلن فى هذا المحفل الأرثوذكسى ، وأمام هيكل رب الصباؤؤت ، زواج الابن المبارك الأرثوذكسى البكر عياد على خطيبته الابنة المباركة الأرثوذكسية البكر دومينيك ، باسم الآب والابن والروح القدس ، إله واحد ، آمين .
مبارك الله الآب ضابط الكل ، آمين
مبارك ابنه الوحيد يسوع المسيح ربنا ، آمين
مبارك الروح القدس المعزى ، آمين .
صحبت عياد إلى كنيسة العذراء بشارع طومانباى . عقد قرانها على طقس الأقباط الأرثوذكس . تخلت عن كاثوليكيتها ، ودخلت أرثوذكسيته .
قال أنطوان :
ـ أنا أرفض زواجك من دومينيك !
قال عياد :
ـ لم أطلب موافقتك . دعها تقرر مصيرها ..
ـ أنا أخوها الأكبر .
ـ وهى تجاوزت الحادية والعشرين .
هدده أنطوان بأن دومينيك ـ حين تموت ـ لن تدفن فى مقابر الكاثوليك .
قال عياد دون أن يترك هدوءه :
ـ أنت لا تعرف من يموت قبل الآخر ؟ ولا من يدفن من ؟!
قال أنطوان :
ـ إذا أردت أن تتزوج دومينيك ، فلا تتوقع مساعدتى .
استطرد فى تلقائية متكلفة :
ـ حقيبة ثيابها هى كل ما ستخرج به من البيت !
قالت الخالة إيفون :
ـ الأرثوذكسية والكاثوليكية مذهبان فى ديانة واحدة ..
قال لويجى :
ـ الاختلاف موجود ..
قالت إيفون :
ـ لكن الديانة واحدة ..
وشى صوت دومينيك بالحيرة :
ـ أوافق ؟
ـ لماذا ترفضين ؟
وافق مطران كنيسة البازيليك على زواجها من عياد . هو المطران نفسه الذى عنّف سيلفى حين عرضت عليه فكرة الزواج من مسلم . بدا ودوداً ، ومتسامحاً :
ـ قد تختلف المذاهب ، لكن الكاثوليك والأرثوذكس أبناء ديانة واحدة .
زارت البطريركية المطلة على شارع رمسيس . تحدث الكاهن عن حقها فى أن تحتفظ بمذهبها ، لكنه اشترط أن ينتمى أبناؤها ـ حين تنجب ـ إلى المذهب الأرثوذكسى :
ـ هذا هو شرطنا للموافقة على الزواج .
قال عياد وهما يهبطان درجات البطريركية :
ـ نوافق حتى نتزوج ، ثم نقرر ما ينبغى فعله .
انتقلت من الفيلا إلى بيت عياد فى منشية الصدر . اقتصر الأمر على الإكليل فى حفل الكنيسة . أهملا ما يسبق الزواج من خطوات ، ربما اختلفت فيها تقاليد المذهبين .
الشقة ذات حجرتين وصالة صغيرة فى شارع الجراج . وجدت فى السوق المجاورة بديلاً مشابهاً لسوق الزيتون . يصحبها عياد ، أو تذهب بمفردها .
استقبلت حفاوة الجارات بحيرة : هل تبدّل ما ألفته من عزلة فى فيلا الزيتون ؟ أو تخالط من عرضن الصداقة ؟
الصحن الفسيح ، الأضواء العالية ، فى المواجهة ، تمثال من الرخام للسيدة العذراء ، وصينية من الفضة يتوسطها شمعدان ، بداخله شمعة مطفأة . وثمة الوجه الجميل ، المتعب ، المكلل بتاج الشوك ، الشموع المتراصة المشتعلة تحت تمثال العذراء ، المجمرة التى يتضوع منها البخور ، الأيقونات المحيطة بالمكان ، الدكك الخشبية ، الماء المصلى عليه ، اختلاف لون العباءة من البنى إلى الأسود ، يضاف إلى الثانية عمامة سوداء مستديرة ، تراتيل الشمامسة .
تأملت العمم السوداء ، والطيلسانات المطرزة بالصلبان الذهبية ، صحن الكنيسة الواسع ، العالى الجدران ، المنقوش الأسقف والأفاريز . الأيقونات ، القناديل المذهبة ، المتدلية من السقف العالى ، الشمعدانات النحاسية ، النجف الكريستال .
أنصتت لقرع الأجراس ، وضرب الصنوج ، والصلوات ، والدعوات لأم النور ، والمزامير ، يرتلها الشمامسة بأصوات متناغمة ، بالعربية والقبطية ، تتوزع فى صحن الكنيسة .
مدت لسانها بعد أن مضغت اللقمة الصغيرة . أحست بلذعة قطرة النبيذ الأحمر على طرف اللسان .
أربكها الفارق بين طقوس الكاثوليكية وطقوس الأرثوذكس . حاكت عياد الواقف جانبها فى كل ما فعله .
ثانى يوم أحد ، أهملت التردد على أى من الكنيستين ، حتى تعى طقوس مذهبها الجديد . ثم تناست الأمر تماماً ، فلم تعد تتردد على الكنيسة .

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 08:16 AM
( 20 )

قال أنطوان :
ـ التقيت الأب يوحنا اليوم فى الكنيسة ..
لم يجب ..
أضاف أنطوان وهو يتفحصه :
ـ سألنى عنك ..
ظل صامتاً ..
عرف أن الأب يوحنا تدهورت صحته ، فلم يعد يغادر الكنيسة لزيارة أبنائها . لم يعد هو يتردد على الكنيسة للصلاة ، ولا للاعتراف ، ولا لحضور حفلات عقد القران ، أو القداس ، أو الصلاة فى الجنازات .
كان الأب قد رفع يده فى الهواء بعلامة الصليب :
ـ جعل المسيح رسله أساقفة ، والأساقفة أقاموا قسساً وشمامسة ..
ودارى قلقه بابتسامة فاترة :
ـ نحن نحيا لخدمة الجماعة المسيحية ..
ثم فى لهجة مثقلة بالحزن :
ـ دعه لا يفعل مثل الذين يصفهم الإنجيل بأنهم يحبون الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم شريرة .
داخلت صوته نبرة إشفاق :
ـ أنا الذى قمت بتعميده ، ويجب أن يظل فى مستوى حسن ظنى ..
قال جان :
ـ لم يسألنى أحد قبل التعميد إن كنت سأقبل التعميد أم لا..
قال الأب فى حزن ظاهر :
ـ يقول سانت نيبوليتس : " إنى أنكر خالق السماوات والأرض ، وأتنكر لتعميدى ، وأتنصل من عبادتى السابقة التى قدمتها للرب ، إننى أتعلق بك يا إبليس ، وبك أومن " .
وهو يظهر الحيرة :
ـ عندما عمدّت لم أكن أعرف معنى الحرام والحلال . لم أكن واعياً .
وانتزع ابتسامة باهتة :
ـ يجب أن يكون التعميد بعد البلوغ !
قال أنطوان :
ـ لاحظ أنك لم تعد تتردد على الكنيسة ..
رمقه بنظرة مستريبة :
ـ هل يخضعون زائرى الكنيسة للمراقبة ؟
وافتعل ابتسامة تهويناً للأمر :
ـ أنا أتردد على كنيسة أخرى ..
ـ هذه هى الكنيسة الوحيدة للكاثوليك فى الزيتون ..
صرخ :
ـ أنت تحاكمنى !
وأخلى وجهه لتمازج السخط والغضب :
ـ أنت تأمل فى جائزة لإيمانك ، وأنا لا يشغلنى جزاء عدم إيمانى .
ـ الإيمان ليس جائزة ، إنه ضرورة !
ـ أنا لم أعد أعتقد فى كل ما تعلمته . أظن أنى نسيته !
وتداخلت فى صوته بحة :
ـ أحب أن تصدر تصرفاتى عن إرادتى الحرة !
وأشار بيده ناحية الكنيسة :
ـ هذا الرجل الذى يكره نفسه ، هل هو من تعترف أمامه بخطاياك ؟!
وخنق التأثر صوته :
ـ ما أعرفه أن المسيحية دين .. وهذا الرجل جعل من المسيحية مهنة يتكسب منها !
ولوح بيده فى عصبية واضحة :
ـ الكنيسة مسئولة عن الدعوة لتعاليم الإنجيل ، لا شأن لها بحياة الناس الخاصة .
ثم بلهجة مهونة :
ـ لماذا لا نحيا حياتنا ، ونؤجل الاختلاف إلى ما بعد ذلك ؟
ـ ماذا تعنى ؟
ـ سنعرف بعد الموت إن كان هناك حساب أم أنه مجرد وهم !
تحركت يدا أنطوان بالحركة السريعة من الجبهة إلى جانبى الصدر :
ـ أنت تكفر !
واجهه بنظرة مستخفة :
ـ بالعكس .. أعرف أن الله هو الأب ..
وعلا صوته :
ـ أليس عذاب جهنم والنار الأبدية غريباً عن طبيعة الله ؟
وشاب لهجته عناد :
ـ هل يؤذى الأب أبناءه ؟
قال أنطوان :
ـ هل امتناعك عن دفع أجر الجناينى جزء من حالة الرفض التى تعيشها ؟
وهو يرفع كتفيه :
ـ أنا أساعد فى البيت بقدر ظروفى !

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 08:18 AM
( 21 )

عند اقترابه من البيت بدا العمال مشغولين بتثبيت القوائم الخشبية ـ أمام الفيلا ـ فى مساحة عرض الشارع . أدرك أنهم يعدون سرادقاً لحفل زفاف جان .
ترك لخياله ـ حتى المساء ـ تصور الحضور : أقارب الأسرة ، الجيران ، الزملاء القدامى للمسيو ميكيل .
تدلت أسلاك اللمبات على أشجار الحديقة ، مئات اللمبات الملونة الصغيرة ، أحاطت بأشجار الحديقة ، وتخللتها . فتحت نوافذ البيت المقابل على آخرها ، أطل منها رجال ونساء . وتزاحم الأطفال حول الحديقة يحاولون رؤية ما وراء الأشجار ، ما تخفيه الأغصان والأوراق . حتى سكان البيوت البعيدة ، أطلوا من النوافذ والشرفات ، ومن فوق الأسطح .
اعتادت سيلفى زيارة أسرة الطابق الأرضى فى البيت المواجه ، تأنس إلى شخصية الزوج الخطاط ، الهادئة ، وإلى تعامله معها كابنة لا يضيق بتوالى أسئلتها وملاحظاتها ، وإلى الفوضى فى حجرة مكتبه : الدولاب الصغير ، المفتوح الضلفتين ، اختلطت فيه رصات الملابس والكتب ، حوض السمك الملون ، وأقفاص العصافير ، وزهور البلاستيك ، والأقلام المتباينة الأطوال ، والكتب ، والمجلات ، والورق المقوى ، والأحبار ، وأقلام الفحم والبسط ، والشموع ، والتماثيل الصغيرة ، والدمى البلاستيك ، وبقايا الطعام ، والأكواب الفارغة ، والزجاجات المختلفة الأحجام والألوان ، والمعلبات ، والجدران المغطاة بلوحات ملونة ، وعود لم تره يأخذه من موضعه ، وصور شخصيات لا تعرفها .
تبدى إعجابها بلوحاته ، المستمدة من الحروف العربية ، واللوحات المقلدة .
تضحك لفشلها فى تعدد محاولات تقليده .
عرفت أنه كان ـ إلى جانب كتابة الخطوط ورسم اللوحات ـ يجيد تزوير الأوراق الرسمية والمستندات والبطاقات الشخصية وجوازات السفر . حتى العملات يتقن تزويرها . وكانت هى السبب ـ كما قال ـ فى أن يقضى أعواماً داخل السجن .
حدثها عن مرافقته لأخته ، المغنية الطفلة ، إلى حفلاتها فى القاهرة وخارجها ، وعن مرافقته لأخته الممثلة ، الطفلة كذلك ، إلى الإذاعة ، تغنى لشقيقها القمر فى برامج بابا شارو . حين كبرتا ، خلا إلى خطوطه ولوحاته التى يحبها .
ظل أخوتها على حرص الأبوين فى تجنب الاختلاط . يكتفون ـ إذا التقت الأعين ـ بإيماءة التحية ، أو هزة الرأس . يواصلون السير ، كل فى طريقه .
طالعه ما لم يتوقعه . عرف من سيلفى أن الحضور أصدقاء لجان وأهل العروس . شارك النسوة فى النوافذ بزغاريد ، ظهر فى ملامح جان المستغربة أنه فوجئ بها . رافقت الزغاريد موسيقا وأغنيات ورقصات .
أدهشه أنه وجد ما يدعو إلى الدهشة .
تصور أن زفاف الكاثوليك له مظاهره التى لا يعرفها . استمع إلى أغنيات العوالم ، وصفق على إيقاع أداء الراقصة ، وجارى الحضور فى دفع النقوط .
غنى العوالم يا امه القمر ع الباب ، وقولوا لمأذون البلد ، وأهواك . آخر الليل ، استبدلت الراقصة ببدلتها غلالة حريرية ، تكشف عن جسدها .
نسى تصوره بأن الفرقة تؤدى أغنيات لا يرددها المسيو ميكيل ، تلك الألحان التى يحب سماعها ، وإن لم يفهم معانيها .
أخذ على جان فكرة السفر إلى الخارج . لكى تعمل فلابد أن تمتلك مهنة . شهادة التجارة المتوسطة لن تتيح لك أى شئ . مجرد أن تغسل الأطباق ، وتقطع الخضروات فى المطاعم ، أو تعمل فى بناء العمارات أو غسل السيارات . وقد يسعدك الحظ بالعمل فى مزارع تقطير الكروم إن سافرت إلى جنوب فرنسا ..
ولوح بإصبعه محذراً :
ـ أفضل الواقع الذى أعرفه بدلاً من المجهول الذى لا أعرفه !
وهو يرفع كتفيه :
ـ لا أسافر إلى المجهول .. أهاجر إلى استراليا ..
ثم وهو يغالب التأثر :
ـ لفيكتوريا أخوة يعيشون هناك . أسافر على كفالتهم !
وتخلل شعره بأصابعه :
ـ قد أغسل الصحون كما يفعل الشبان المصريون ، وقد تفيدنى الإنجليزية وأسرة زوجتى فى عمل أفضل .
قال :
ـ تعرفت إليها فى الأوتوبيس . وجدت فيها ما يقنعنى بالزواج .
لم يتحدث عن ظروف لقاءاتهما التالية ، كيف تصارحا بالأسرة والديانة والظروف الشخصية [ وشى اسمها ـ فيكتوريا ـ بديانتها ] ومن طرح على صاحبه فكرة الهجرة إلى استراليا ؟ وما موقف الأب ـ ساعاتى فى شارع عثمان بن عفان ـ من الأمر برمته ؟ هل وافق ، أو أبدى تحفظاً ، أو أنهما أزمعا التصرف دون أن يضعا حساباً للرفض ؟ . ما عدا ذلك فقد غابت الملامح عن بقية التفاصيل .
عقدا قرانهما فى كنيسة اللاتين . أنهيا العقد ساعة العصر ، وأعدا حقائبهما ليسافرا بعد حفل الزفاف .
قال جان لأنطوان ، قبل أن يلحق بعروسه فى سيارة التاكسى ، الواقفة أمام الفيلا :
ـ أترك لك كل شيء ، لكن لا تظلم دومينيك وسيلفى .

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 08:19 AM
( 22 )

قال ماهر فى ابتسامة مشفقة :
ـ أسرتك تتساقط كأوراق شجر الحديقة ..
الخريف فى بداياته . الفجوات تتسع بين الأغصان والأوراق ، لتساقط الأوراق الصفراء ، داخل الحديقة وخارجها . يتناهى صوت الأذان من جامع قريب ، يختلط بأصوات العصافير فوق الأشجار .
حدجته بنظرة مؤنبة :
ـ إذا كنت تقصد سفر جان وأنطوان فقد فرا من الموت !
واتجهت نظرتها إلى ما وراء الأشجار :
ـ لا شيء يغريهما بالبقاء !
فى صباح حفل الزفاف ، سافر جان مع عروسه إلى أستراليا ، اقتصرت الحياة فى الفيلا على أنطوان وسيلفى .
طالت إقامة أنطوان فى القاهرة حتى يتاح له بيع الفيلا . لما واجهه عياد برفض دومينيك وسيلفى ، حزم حقائبه ، وأعد نفسه للسفر .
لاحظ ماهر تغيراً فى تصرفاتها ، فى السهر والصحو والمنام والوقوف فى النافذة المطلة على الشارع الخلفى ، والأوراق الصغيرة تكتب فيها ، ثم تكرمشها ، وتقذف بها من النافذة ، أو تمزقها .
كان الحزن يقتلها لتناقص قطع الأثاث . الطرقات الغريبة يعقبها فصال بين أنطوان والرجل ذى الجلباب . ترفع قطعة أثاث من موضعها . كل ما فى البيت يرتبط بحياتها ، بفترات من حياتها ، حادثة نقشت ملامحها ، أو عابرة : كراسى ، مناضد ، شمعدانات ، أيقونات ، أكواب كريستال ، فازات ، ساعة حائط بندولية ، لوحات مقلدة ، كتب . حتى الراديو رفعه أنطوان من موضعه على الرف الخشبى ، ثم لم تعد تراه .
استمهلت ماهر ـ ذات أصيل ـ وهو يتهيأ للانصراف . دخلت إلى حجرتها ، وأطلت برأسها متلفتة .
تقدم ليعاونها فى حمل ما بيدها .
ـ صورتى فى إطار ، احتفظ بها حتى لا يبيعها أنطوان .
شك فى أن يكون شخص ما قد دخل حياتها . لعله يقف وراء نافذة ما فى البناية المقابلة . لم يحاول سؤالها عما بدّل حياتها ، أو يشغلها . يثق أنها ستكذب . هذا هو ما ألفه منها فى الفترة الأخيرة . لو أنها أرادت أن تحصل على ما هو بديهى ، وما هو من حقها ، ولا يحتاج إلى عناء ، فهى تكذب ، تكذب لمجرد أن تكذب . لو أنها سألت نفسها ، فقد لا تجد الإجابة التى تقنعها .
ربما أخذ هيئة المنصت لما ترويه . تروى وتروى . يعرف أن معظم الأحداث والمواقف من اختراع رأسها الصغير ، وأنها تجد فى الكذب متعة ، تدفعها إلى المزيد من الحكى .
تمنى لو أنها لم تعد تكذب عليه . توقفت عن الكذب عليه . تنطوى البراءة الظاهرة على نفس طيبة بالفعل ، ترفض الكذب واللؤم والتخابث والتسويف والمماطلة .
لا تمل الكذب والروايات التى يخترعها الخيال . الكذبة هى كذبة ، بصرف النظر عن اللون الذى تدعى الانتساب إليه ، لا يهم إن كانت بيضاء أو سوداء ، أو أى لون آخر .
لم يعد يجد فى نفسه ميلاً لأن يلتمس لها الأعذار . لو أنه أظهر عدم التصديق لمعظم ما ترويه ، ربما راجعت نفسها قبل أن تبصق كذبة جديدة ، تتوقف عن الحكى فى ما يصعب تصديقه . تتوقع رد الفعل ، فلا تقدم على الفعل .
قالت :
ـ أنتظر موافقة بالعمل فى شركة سياحة ..
ـ خبر يستدعى الفرحة .
وهى تسلم نفسها لشرود :
ـ وقعت إقراراً بأنى حاصلة على بكالوريوس تجارة ..
استطردت للدهشة فى عينيه :
ـ جارنا الخطاط .. يجيد تزوير الشهادات والوثائق ..
حاول السيطرة على مشاعره :
ـ ألا تخشين السجن ؟
ظلت صامتة .
تصاعد مد القلق فى داخله :
ـ هذه جريمة عقوبتها السجن .
أنصت ـ مذهولاً ـ لتبريرها عن حقيقة ما جرى . هى لا تدرى لماذا فعلت ما فعلت . قدم الخطاط عرضه ، فوافقت .
تحولت إلى كائن غامض لا يعرفه . لو أنه يعرف فى ماذا تفكر ؟ ما يملأ رأسها الصغير من تصورات ؟ ما يتحرك فى نفسها من مشاعر ؟
ماذا تخفى هاتان العينان الزرقاوان البريئتان ؟!
كتم مشاعره المهتاجة . يعى سرعة هياجه ، واندفاعه ، وعجزه عن التحكم فى عواطفه . وهو يحاول الاحتفاظ بهدوئه :
ـ سحنة المرء ونصيبه من الذكاء وظروفه الاجتماعية والمادية أمور لا حيلة له فيها ، لكن الكذب مسئوليته التى يجب أن يحاسب عليها !
أردف فى صوت مقتضب :
ـ لا أتصور أنك تفعلين هذا .
ثم وهو يغالب شعوراً باليأس :
ـ عدينى ألا تكذبى لأى سبب !

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 08:20 AM
ـ 23 ـ

قالت :
ـ سأظل على الكاثوليكية ..
اختلط صوتها الهامس بصراخ العصافير فى لحظات ما قبل الغروب .
رمقها بنظرة عدم تصديق :
ـ ماذا ؟
ظلت على صوتها الهامس .
ـ أجد نفسى فى ديانتى الأصلية ..
أدرك أنها صادقة فى ما قالته . كذبت كثيراً ، تراكمت أكاذيبها ، وتفرعت ، وتضخمت ، صارت بلا حد . لكنه أيقن من صدقها هذه المرة . ما قالته يصعب اختراعه . إسلامها من أجل زواجهما . لم تسأله عن الإسلام ، ولا عن مدى اتفاقه ، أو اختلافه ، مع الكاثوليكية . عكس التماع عينيها ، وتهدج صوتها ، صدق ما ترويه .
قال بالانفعال الذى يخفق فى كتمه :
ـ هل الديانات فيها أصيل وزائف ؟!
رفعت عينين منداتين بالدمع :
ـ أنت لم تعلمنى الإسلام ، من الصعب أن أكون بلا دين .
استعاد قول أمه ، وهى تسحب السجادة الصغيرة من تحتها :
ـ هل تصلى سيلفى ؟
أظهر الدهشة :
ـ لماذا تطلبين منها ما لا أفعله ؟!
حدجها بنظرة متأملة كأنه يعيد اكتشافها :
ـ هل تعرفين المسيحية ؟
زاد ارتباكها :
ـ ولدت فى بيت مسيحى ..
لاحظ أنها تتجنب نظراته ، كأنها لا تريد أن يفطن إلى ما تعانيه .
ظل ينظر إليها وهو صامت ، كأنه عاجز عن تصديق ما قالته . استطردت وهى تشرد فيما لم يتبينه :
ـ والكنيسة قريبة من البيت !
أنصتت إلى دروس الأب يوحنا فى قضايا اللاهوت : ما إذا كان الروح ينبثق من الأب وحده ، أو من الأب والابن معاً ؟ ، شروط المعمودية ، مادة العماد ، إتمام المعمودية : بالرش أم بالتغطيس ، حقيقة الاختيار السابق والمقدر ، الخمير والفطير ، الكهنوت ، النعمة الرسولية ، المطهر ، العصمة .. مفردات حفظتها ، دون أن تعرف من معناها إلا القليل .
وهو يعانى ارتباكاً :
ـ هل ترين الخير فى قرارك ؟
ران انكسار على صوتها :
ـ لم أعد أتوقع الخير حتى من نفسى .
انبثق فى صدره أمل :
ـ ما قاله موظف الشهر العقارى نصيحة ..
شوحت بيدها :
ـ لا تنتزع موافقتى فى هذه الظروف !
يتصور أن الندم والشعور بالذنب يعذبانها ، يتصور أنها طفلة عابثة ، لا تعى تصرفاتها ، ولا تقدر ما قد تنتهى إليه .
شعر أن الدنيا تظلم فى عينيه ، وأن الأرض تميد به ، والملامح تختلط ، وتتشابك ، وتتشوه ، وأنه يفقد السيطرة على نفسه ، وروحه آخذة فى الذوبان ، وقدماه تخذلانه .
فكر فى أن يفعل شيئاً ، أى شيء ، يخلصه من إحساس العجز الذى يتملكه ، اقتحمته رغبة فى أن يحطم شيئاً ، أى شيء ، كل شيء .
علا صوته بما لم تعهده منه ، ولا عهده هو فى نفسه . فطن إلى أنه يريد أن يخلص نفسه من مشاعر الغضب . اجتاحه إعصار من المشاعر الغاضبة .
كان جانب جسده آخر ما رأته وهو يميل من الشارع الصغير إلى شارع نصوح الهندى .

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 08:21 AM
ـ 24 ـ

رفت ابتسامة تلقائية على شفتيه وهو يتأمل واجهة سينما على بابا : الرجال يفضلون الشقراوات ، لص بغداد ، إسماعيل يس فى الجيش .
خلف السينما وراءه ، واتجه ناحية اليسار . بادله رواد المقهى ـ على الناصية ـ نظرات معرفة . كان قد تكرر مرافقته لسيلفى فى زياراتها المتباعدة إلى الخالة إيفون . مضى ناحية باب البيت الخشبى المتآكل . وجد لجسده منفذا بين الأجولة المرصوصة على جانبى المدخل الضيق ، وروائح التراب والرطوبة والشواء والطبيخ والعطن .
تلمست قدماه السلمة الأولى ..
حدجته الخالة إيفون بنظرة متأملة ، تستشف ما بداخله :
ـ تسأل عن سيلفى ؟
حرك رأسه دلالة الموافقة .
ـ ألم تزر دومينيك وعياد ؟
ـ لا أعرف البيت .
وهى تنظر فى عينيه :
ـ سيلفى دخلت الدير ..
أضافت للدهشة المرتسمة على وجهه :
ـ أثّر فيها غيابك عنها ..
حدثته عن الأيام الأخيرة قبل أن تلجأ سيلفى إلى الدير ، تعتزل فيه .
قالت فى نبرة باردة :
ـ بدا القرار صعباً .. بدا القرار الوحيد . تفر مما أوقعت فيه نفسها من مشكلات .
وزمت شفتيها ، فبدت الكرمشة حول الفم :
ـ قد يغفر الله ذنوبنا ، لكن الناس يرفضون المغفرة .
وأدارت وجهها نحو النافذة :
ـ أزمعت سيلفى أن تلجأ إلى الدير .
حاول أن يقول شيئاً ، يسأل ، أو يوضح ، أو يعترض . شعر كأنه فقد القدرة على مجرد تحريك شفتيه . ظلتا ترتعشان ، دون أن تنفرجا . كأن شيئاً ما قد انتزع من داخله . تحركت مشاعره بما لا يقوى على التعبير عنه . لا يدرى حقيقة الشعور الذى تملكه .
أغمض عينيه ، كأنه لا يريد أن يرى ما حوله .
تنحنحت لتزيل احتباس صوتها :
ـ لم أفلح فى إثنائها عما اعتزمت فعله .
همست بالسؤال ، دون أن تلتفت إليه :
ـ ألم تر ـ ذات يوم ـ ما بداخل حقيبتها ؟
اخترقها بنظرة مستاءة :
ـ ما شأنى بحقيبتها ؟!
وأحاط رأسه بيديه كمن يعجز عن التصرف :
ـ لماذا ؟
وهى تضغط على الكلمات :
ـ إنها تحرص على وضع صورة العذراء تحمل المسيح .
ثم فى هيئة من يرفض أن يعطى المناقشة أكثر مما أخذت :
ـ كلمتنى عن اعتزامها التحول إلى الإسلام .. ثم أبلغتنى ـ فى زيارتها الأخيرة ـ بحرصها على ديانتها .
وبدا كأنها تستعد للنهوض :
ـ دعائى أن يرشدها الله إلى التصرف السليم !
ومضت فى ذهنه لحظات ، غلبه فيها التأثر لقول سيلفى إنها لا تتصور حياتها بدونه ، إذا ابتعد عنها ، فإن كل الصور تشحب ، تظل صورته وحدها واضحة الملامح . وقالت : لا أتصور ماذا كان سيحدث فى حياتى لو لم تظهر أنت فيها . وقالت : لولا حبى لك كنت سأقتل أنطوان ، أو أقتل نفسى !. وقالت : مادمت معى فلن أحزن على فترة ما قبل لقائنا . وقالت : إذا أسلمت فإنى سأدعو الله أن أموت قبلك كى تدفننى !
هل كانت تستمتع باللعبة ؟!
داخله حزن لم يكن شعر به من قبل ، غضب لم يعهده فى نفسه . قهره الإحساس بعدم القدرة على التصرف . أضاف إلى مشاعره أن الوقت قد فات ، لم يعد بوسعه أن يفعل شيئاً .
غلبه الذهول ، فلا يدرى شيئاً مما حوله . أحس أنه محاط بما لا يفهمه ، ولا يدرك كنهه .
هل كانت سيلفى بنتاً حقيقية ؟ هل تعرف إليها بالفعل ؟ هل عاش معها حياة حقيقية ؟!
ساوره الشك إن كان قد تعرف إليها ، وحدث بينهما ما حدث . تلاحق الكذب ، تراكم ، لم يعد يصدق إن كان ما رآه قد رآه بالفعل ؟
وهو يتهيأ للانصراف :
ـ أين هو الدير ؟

د. حسين علي محمد
13/07/2008, 08:24 AM
ـ 25 ـ

أسوار الدير العالية ـ بتداخل حجارتها البيضاء والبنية ـ يبدو من ورائها ـ كالانبثاق ـ برج الكنيسة المفتوح الجوانب ، يتدلى من أوسطه جرس نحاسى ضخم . البوابة الحديدية تفضى إلى ساحة ضخمة على جانبيها أشجار . يتوسطها بناية من الحجارة اختلط فيها البياض والبنى . من حولها خلاء تتناثر فى مدى أفقه بنايات صغيرة وزراعات .
لاحظ أن الراهبات يرتدين الملابس البنية الفضفاضة ، من الرأس إلى القدمين . يختلفن عن الراهبات اللائى يرتدين الملابس البنية المختلطة بالبياض . يتكرر التقاؤه بهن فى شوارع القاهرة .
قالت الراهبة :
ـ هل هى راهبة أم أو راهبة أخت ؟
ـ لا أفهم .. لكنها كانت غير متزوجة ..
ابتسمت :
ـ تقصد راهبة أماً !
كيف تبدو فى ثياب الراهبات ؟ كيف تعيش الرهبنة ؟ هل كان دخولها الدير محاولة للخلاص من حصار الأزمات ؟ أو أنها تريد تغيير حياتها بالفعل ؟
كان قد قرأ ، وحدثته سيلفى ، عن الحياة فى الدير : التقشف ، التأمل ، غرف العبادة ، الجدران العارية ، الزى البسيط ، العمل فى صمت ، لا حوارات جانبية ، ولا كلام بصوت مرتفع .
لم يطل وقوفه أمام البوابة الحديدية المغلقة ..
اعتذرت الراهبة بأن الأخت كريستينا ـ تنبه للصفة الجديدة ، ولتغير الاسم ـ لا تستقبل زواراً :
ـ نذرت الأخت كريستينا نفسها عروساً للسيد المسيح ..
أردفت فى نبرة تمثيلية :
ـ هجرت الدنيا إلى أحضان المسيح ، عذراء ، طاهرة ، فى موكب أصحاب الرب .
رسم على شفتيه ابتسامة تذلل ، وظل واقفا .
قالت وهى تغلق البوابة ثانية :
ـ دعنى أتحقق من الأمر .
مضت إلى داخل الدير .
التقط رسماً على جدار المدخل من اليمين ، العذراء المتوجة على العرش تحمل على ذراعيها الطفل يسوع ، أحاطت برأس كل منهما هالة نورانية .
طالعته ـ بعد انتظار دقائق ـ راهبة ، حدس أهميتها من تجاعيد الوجه ، والشعر الأبيض المتسلل من تحت لباس الرأس ، والنظرة المتجهمة .
قالت :
ـ هذا دير .
غالب ارتباكه :
ـ أعرف .
ـ هل تعرف أن الزيارات ممنوعة ؟
داخل صوته تذلل :
ـ أطمئن عليها وأنصرف ..
قالت الأم إن الأخت كريستينا تطيل التعبد منذ دخلت الدير . اجتازت اختبارات الروح على الصفاء والتجرد . تشارك فى الصلوات ، وفى الطقوس المختلفة .
منذ عادت إلى التردد على الكنيسة ، لم تهز جرس كرسى الاعتراف . تظل واقفة ، حتى تلمح الأب ـ الذى لا تعرفه ـ قادماً بخطواته المهرولة . تطمئن إلى جلستها وراء ثقوب النافذة ذات الخشب المعشق . تهمس باعترافها ، ما فعلته ، وما جرى لها ، فى الأسبوع الفائت ، ما يشغلها وما تعانيه ، لا تنصت إلى نصائح الأب قدر حرصها على أن تعترف ، تتكلم فى كل ما يخطر ببالها ، كأنها تنظر فى مرآة ، أو تكلم نفسها بصوت مرتفع . تخشى أن تتوالى الأيام ، تواجه ما تغيب صورته ، قبل أن تهمس باعترافها الحقيقى . تروى ما حدث دون أن تبدل ، أو تضيف ، أو تحذف .
آلمها أنها أرادت أن تصلى ، لكن الكلمات استعصت عليها ، نسيت ما ينبغى قوله ، مفردات اعتادت سماعها من أمها وأبيها . عجزت عن البوح بما فى نفسها ، وما تطلبه .
لم تتصور أن الأمور ستجرى على هذا النحو . شعرت أنها تتجه إلى هدف لا تعرفه ، شيء مخيف لا تدرى متى يحدث ، ولا كيف تبدو ملامحه .
اختلط كل شىء : هل ما تزال ابنة لميكيل جوتييه وكاترين فرنسيس ، وتقيم فى فيلا الزيتون ، ورحل أخواها إلى خارج البلاد ، وانتقلت أختها إلى بيت زوجها القبطى ، ومعارفها وأصدقائها من غير المصريين .. هل مازال ذلك كله صحيحاً ، أم أن ما عاشته ـ فى الفترة الأخيرة ـ بدّل كل شئ ؟! هل تبدّل شهادة ميلادها ؟ هل تقطع صلتها بالزيتون ؟
هذه الفيلا ليست بيتى .
أنظر إلى ما حولى : الجدران والأسقف والأثاث والنوافذ والأبواب ، المرئيات التى اعتدتها ، أشعر بغربة عن المكان تماماً ـ رغم أنى لم أغادره ـ ولا صلة لى به . طوحت بى حياتى الجديدة بعيداً عن البيت وأهله .
أدركت خطورة ما وراء الأفق ، بما لن تفلح الأكاذيب فى صده . شعرت أن أمراً ما ، قاسياً ، يلوح ، يهدد حياتها .
لم تعد تدرك الصواب من الخطأ .
وجدت فى الرحيل عن مصر فراراً من كل ما أوقعت فيه نفسها ، من كرة الثلج التى تضخمت ، فحطت على صدرها .
أسقطت فكرة السفر إلى أمريكا ، لن يرحب أنطوان بالفكرة ، وإذا سافرت دون أن تبلغه ، فقد يرفض استضافتها ، أو استقبالها . لن ينسى أنه لم يحصل على ما أراد . ظلت الفيلا ملكاً للأسرة ، ربما لا يرد على رسالتها ، أو يرد بالاعتذار .
ناوشتها صورة جان فى سيدنى الاسترالية . حدثها ـ فى رسائله ـ عن البحر والبنايات والشوارع والكنائس والحدائق وتماثيل الميادين . أرفق برسائله بطاقات صور ملونة ، حاولت أن تجد فيها الحياة هناك . تحركت فى داخلها مخاوف الرحيل إلى المجهول ، المغامرة ، ومواجهة ما لا تعرفه .
هى لن تستطيع البقاء فى البيت ، أو أنها لن تستطيع البقاء فيه بمفردها .
فطنت إلى إيماءة المعنى فى كلمات عياد المتكررة عن احترام ذكرى الأب الراحل ، واحترام وصيته .
تأملت الخالة إيفون بالعجز فى ملامحها وتصرفاتها ، ولويجى الذى يلزم البيت . قد تجد عملاً يدر عيها إيراداً ، لكن الإقامة فى بيت الخالة إيفون سيفرض عليها ـ بعد وقت العمل ـ ما لا تطيقه . الملاحظات والتعليقات والأوامر التى كانت تنغص عليها العيش ، قد تتكرر بما لا تستطيع مواجهته ، وقد لا يحتملها العجوزان .
تقاطعت الطرق ، وتشابكت . لم تعد تعرف إلى أين تتجه .
أهملت فكرة الاختفاء من العالم . تلاشت الفكرة فى اللحظة التالية لظهورها . التخلص من الحياة يحتاج إلى شجاعة ، لا تملكها .
ماهر كأنه الأمل المستحيل ، لا تعرف إن كانت تحبه ، أم أنه علاقة عابرة حاولت ـ بالتعرف إليه ـ أن تفر من أزمتها ؟
مثل الومضة التى تستعيد عوالم كاملة ، رأت الأب لوقا فى ملامحه الطيبة ، وثوبه الكهنوتى المختلط الأبيض والبنى .
الدير !
بدت الفكرة قارب نجاة حقيقياً ، تصعد إليه من خطر الأمواج الصاخبة حولها ، يمضى بها إلى اليابسة والأمان وتناسى الالتفات إلى الوراء .
حين زارت الأب لوقا ، لم يجهد نفسه فى تذكرها ..
ارتجفت ملامح وجهه بانعكاس المفاجأة .
اكتفى بالقول :
ـ كيف حالك ؟
عرفت أنه لم ينسها ..
وهو يحاول إخفاء مشاعره :
ـ فى هذا الأمر لابد من الرجوع إلى آراء ربما كانت أكثر حكمة !
عاودت التردد على الدير ، تؤكد ما اعتزمته . تنقر باب مكتب الأب لوقا بنقرات خافتة . يتناهى صوته . تدخل . تقف أمامه حتى يأذن لها بالجلوس . لا تعيد عرض ما حدثته فيه ، ولا يسألها إن كانت قد رجعت عن قرارها ..
لما دفع إليها أوراقاً ، وقال : املئى البيانات ، أدركت أنها تخطو أولى خطواتها إلى داخل الدير .
قالت الأخت :
ـ خدمة الرب يمكن أن تؤدى فى أى مكان ..
قالت سيلفى :
ـ يشغلنى فقط أن أخدم الرب ..
ثم وهى تمسح دمعة فى عينها :
ـ أنا أفر إليه مما أعانيه !
حدثته الراهبة عن حياة سيلفى فى الدير : أداء الصلوات والطقوس ، تنظيف حجرتها ، ترتيب فراشها ، حياكة ـ أو رفو ـ ثيابها .
ومضت على شفتيها بسمة ، وهى تشير إلى امتلاك الأخت كريستينا ـ فهم أنها تقصد سيلفى ـ صوتاً جميلاً ، فهى تشارك فى كل التراتيل داخل كنيسة الدير .
قالت وهى تتأهب للعودة :
ـ منذ دخلت الأخت كريستينا الدير لم يعد لها صلة بالعالم الخارجى .
لم يقاطع فى إصغائه .
حدّست أنه لا ينصت لها .


محمد جبريل ـ الإسكندرية 15/4/2004


(انتهت الرواية)