جمال سعد محمد
02/10/2005, 09:41 AM
جماليات الـ ( أنا ) في مِنْسَأة سَعْد اليَاسِري
--------- --------- ---------
لقد كانت الأنا عبر تأريخ الشِعر العربى ودونما استثناء هي الضمير الشخصى أي الذات الفعلية للشاعر المتكلم المفرد , بكلمات أخرى كانت الأنا معادلاً رياضياً فعلياً للناطق من امرئ القيس في : ( فقلتُ له لمّا تَمَطَّى بصُلبـه ) إلى سعد الياسري في : ( أنا نبضُ الهوى العُذري ) (1) مروراً بالمتنبي فى : ( أَنـا الَّـذي نَظَـرَ الأَعمَـى إلـى أَدَبي ) ثمة خيط ينظم الأنا الشعرية هو كونها الشاعر الذى ينطقها في وجوده التأريخي الشخصي .
وفي ديوانه ( مِنْسَأتِى ) يتجول سعد الياسري بـ الأنا , يخرج بها عن الأنا التأريخية الشخصية ليمنحها طبيعة أكثر تشابكاً وتعقيداً وتعدداً فيوحدها بـ أنا عُليا جماعية أو يخرج بها عن الأنا الذاتية ليحيلها إلى أنا لا محددة ويحدث هذا التحول تأريخياً في مرحلة تغير في لهجة القصيدة من أنا إلى هي :
هي إمرأةٌ بداخلها
جنون حكايةٍ يَقبَعْ
تُفكرُ كيف تلقاهُ
بفردوسٍ ولا أروَعْ
على فرسٍ سيأتيها
بغيرِ الوصل لا يقنَعْ (2)
وجدير بالذكر أن هي تأريخياً كانت أيضا ذاتاً تأريخية وهي في معظم قصائد الديوان تحول لـ أنا من جهة وتقمص لكل الشخصيات المحبة المغامرة المتألمة .
وفى أعمق تجلياتها التعددية تخترق الأنا حاجزاً آخراً هو حاجز الواحد لا لتكتسب صيغة جماعية وحسب ؛ بل لتتعدد فعلا في بنية القصيدة فتصبح ذواتاً متعددة ولقد تجسّد ذلك في واحدة من أجمل الصور في قصيدة ( فَيضُ الــ " ودِّ " مِنْسَأتي ) :
على أعتابِ مَحبرتي ... وأوراقي
تَجلَّتْ لذَّةُ الشِّعرِ ..
بنفسجةً تُعانقُ مَكمنَ العطرِ
كطيفٍ رَامَ تحليقاً ..
إذا نَبتَتْ على الأعطافِ أجنحةٌ من السَمَرِ
كلوحٍ ضاقَ بالدُسُرِ
كمِيقاتٍ يُطهرني إذا حَلَّتْ فُروضُ الدمعِ يَغسلني ..
ويُجلي ركبَ آثامي
ويَمضي بعد ثورتهِ إلى عَرباتِ نسياني .. ! (3)
وتتمثل هذه الحركة من الواحد إلى المتعدد , الحركة من الأنا الشخصية إلى الأنا الملتبسة , وتحقق خطوات نمو داخلي تمر عبر الذات التأريخية ثم الذات المتكاثرة أو ذات التجليات :
بانتْ "سَجاحِ "
ولمْ يَزلْ خَفّاقي يَعتمرُ الهُدى
ما كان قلبي صابِئاً
ما كانَ يوماً مُستباحْ
أغوتهُ " خائنةُ الشبهْ "
فأطاعها حينَ اشتبهْ ,
ألّقتْ على أيامي ظِلَ الفاجعةْ .. ( 4)
ولعل الاستخدام الشِعري للأسطورة ثم للشخصية التأريخية أو الشخصية المبتكرة المتقمصة أن يكون الوجه المبكر لهذه الظاهرة حيث تتقمص الأنا ذاتاً أسطورية أو تأريخية يفعل من خلالها وتجسد رؤياها بلغتها وفي ذروة نضجها تمثل الأسطورة في الشِعر الحديث بؤرة دلالية تعددية تتوحد فيها الذات الفردية بذوات أخرى .
ولعل أعمق الظواهر خفاءً فى تجسيدها لحركة الواحد / المتعدد أن تكون بنية فكرية - فنية طغت فى تطور تتجاوز ( الأنا / المرأة / الحقيقة / الأنا ) ليصبح موضوعها النص الشِعري ذاته :
(أنّى أوزع في المدى صلوات شِعري ؟! * وابتهالاتُ القصيدةِ أنبأتني في تراتيل المعابد أنشدتْ : مني أنا صوت انبجاسِ الماءِ لو شَحَّ المطر ) ( 5)
كما تتجلى عند سعد الياسري حركة الواحد / المتعدد أيضاً فى اللغة الحوارية , اللغة التي تتحرك بين ذاتين وتتنامى حول محورين وبيّن أغنى تجلياتها الياسري في قصيدة ( كُنهُ الرسالةِ مَوطِني ) :
سَألَتْ بلهفةِ طفلةٍ :
- من أنتَ ما سِرُ الشَغَبْ ؟
من أنتَ من أيِّ البلادْ ؟
أنّى تسامى الشِعرُ حُباً في يديكْ ؟ (6)
ومن أنماط التعدد التى تنتمى إلى هذا المستوى من تعدد الأنا فإنه ما يمكن أن يسمى تكثير الأنا الواحدة ويتم ذلك بصورة رئيسة بانفصام الأنا إلى إثنين لكنه يتخذ أحياناً صورة الكثرة التي تتجاوز التثنية كـ :
بتوتري / بتناحر الأفكار في كنف المحالْ
أبصرتُها , أبصرتُه , أبصرتُهم
هم كلهم في شِرعة النجوى سواءْ
فجميعهم قد مارسوا فن الغَوايةْ
وجميعهم ليلاً أقاموا العرس في مجرى دمائي والدموعْ
وجميعهم قد رددوا في حضرتي عهد التآخي والولاءْ ! ( 7)
وينتمي هذا التكثير إلى حيز التعددية ويبدو أن هذه العملية التى يشكل وجهيها التشظي من جهة والتعددية من جهة أخرى بين أشد ظواهر الحياة العربية عمقاً وأبلغها دلالة , وهي تستحق قدراً أكبرَ من التأمل والتمحيص لتفسيرها في سياق البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية السائدة , وما تتعرض له من خلخلات وانفجارات داخلية حاسمة الأهمية , وتتمثل حركة الانتقال من الواحد إلى المتعدد أيضاً في الانتقال من الصوت الواحد إلى الصوت المتعدد وهو انتقال يمنح القصيدة بُعداً جديداً اتفق على تسميته بالبعد الاحتدامي - الدرامي - ويمثل انتقالا من القصيدة الغنائية إلى القصيدة الدرامية , وفي أبسط صورة يتخذ هذا الانتقال شكل ازدواجية للصوت في القصيدة لكنه في أعقد صوره لدى سعد الياسري يصبح أصداءَ أصوات داخلية لا تسمى وتميز كما يحدث في العمل المسرحي بل تنبثق في نسيج النص وبنيته بلهجات متباينة وإيقاعات متفاوتة ولغات شِعرية متغايرة , بهذا تكون القصيدة موجة لا بيتاً , تتمثل هذه البنية بمسارات وتيارات وتفجيرات وأصوات تتلاقى وتندمج أو يخترق بعضها بعضاً ليخرج وقد عانى تحولاً ما , وبأشخاص وانقسامات للشخص الواحد يتم هذا في درب أو مكان , في زمن اللحظة المتحركة لذلك أقول أن القصيدة ذات بنية مسرحية :
مُتعثراً يا ذا الخَلاصِ بَلَغْتني ..
تَرجو المَسيرَ بدربِ أزمنتي اللّعِينةْ
ولَكَمْ حلِمتُ قُبَيْلَ مَقدمِكَ الفُجَاءةَ بالمُطَهَّمْ
بالسّابحِ المُختالِ يَعدو بالكيانِ ..
ويَبعثُ الحُلمَ الذي وَأَدَتْ سَماواتي الشَحِيحَةُ منذُ سَبعٍ أو تَزيدْ
مُتعثراً ؛ كَبقيةِ الأشياءِ من حَولي أتيتَ .. ! ( 8)
ويصل سعد الياسري في قصيدة ( سَقَطَ الوَثَنْ ) ص 56 , إلى نوع من التجريد المسرحي أي تبقى الحركة والتيارات والأبعاد , وتغيب التفاصيل بالإضافة إلى الطبيعة الدرامية يمنح هذا التعدد فى القصيدة كما يجسد فى الأنا نفسه بُعداً جديداً على صعيد الرؤية العربية للعالم , هو تعدد المنظور وهو بين أهم مايميز ديوان الياسري . وحدانية المنظور تنبع من وحدانية الإيمان , الإيمان بحقيقة واحدة مطلقة لا بديل لها وبقدرة الرائي على اكتشاف كل ما يمكن اكتشافه من هذه الحقيقة .
ثمة أشكال أخرى متعددة من التعددية والانتقال من الثابت نهائي التشكل إلى المتحرك المتحول الذي هو في عملية صيرورة وبين هذه الأشكال ما يمكن تسميته تعدد النص , وعلى مستوى أقل شمولية يندرج التناص أو التداخل النصّي ضمن هذه الظاهرة خالقاً تعددية في الصوت واللهجة والسياقات التأريخية والثقافية والأنماط الكتابية والدلالة بل في الإيقاع أيضاً :
( لاحظ قصائد : هَيُولى العُبُورْ ص 42 ، حِوَاريةٌ .. في الحُبِّ والدِينْ ص52 ، بَاقٍ هَواكْ ص 61، كُنْ حارثاً للثلجِ ص 71 ، وَلَـــهٌ يُــؤرجحني ص 92 ، بانتْ سَجاحْ ص 108 ، تَلويحةٌ من حُزنْ ص 111 ، من أينَ تأتي بالصَبابةْ ص 116 ) .
أما تعدد الأنماط الكتابية فأنه يغدو تدريجياً من سِمات نص الحداثة وفيه يتناوب الشِعر والنثر ( بالمصطلحات السائدة المعقولة ودون رغبة بالدخول في جدال حول ماهية الشِعر وماهية النثر ) .. يعنون الياسري القسم الأول من الديوان بـ ( فِــقْــهُ الـغَـوايـةْ - شِعْر ) : ويضم 46 قصيدة منها 11 عمودية ويعمد فيها الياسري إلى كتابة بحر القصيدة في بدايتها , و35 قصيدة تفعيلة , والقسم الثانى بـ ( قَــلَــقُ الـمَـشِـيْـئَـةْ - نَثْر ) : ويضم 100 نصّ نثري . وتستحق ظاهرة تعدد الأنماط الكتابية دراسة مستقلة , أما تعدد النص فإنه ظاهرة جديدة وجيدة .
أخيراً أشير إلى تجسد فذّ للتعددية عند سعد الياسري وهو الانتقال من المعنى الواحد المتجانس أو المتناسق إلى المعنى الضدي , وانتشار لغة المفارقة الضدية وهي لغة احتمالات ومحاولات وتمثل أحد أكثر طوابع اللغة الشِعرية بروزاً فى ( مِنْسَأتِى ) , ففي قصيدة ( ثِّقُوا بالحُبْ ) ص 26 يقول الياسري :
أنا للحُزنِ مَنبعهُ ..
أنا بَحرٌ بلا موجٍ ..
أنا سُفنٌ بلا مَرْسى ..
ثم يقول:
على جُرحي ..
تغنّى النزفُ وانتحبتْ بلا دمعٍ ..سماواتي
وظَلَّ مِزاجُ أُغنيتي :
ثِّقُوا بالحُبِّ يا سُكَّانَ أبياتي .. !! ( 9)
ويعمق سعد الياسري اكتشاف العالم من خلال اكتشاف الذات , وتنشأ هذه اللغة التي تحاول أن تقول المُحال وألا تقول ما يسهل قوله , وتطغى في الوقت نفسه لغة بينية كأن عالم الشاعر غير مموضع بثبات في مكان محدد وزمان مدرك ؛ بل معلق فى الفراغ بين أن يكون أو لا يكون بين الكون المترسب الذى إنهار , والكون المغلق الذى لم يتبلور بعد : ( قصيدة ذَاكِرَةٌ مَلْغُومَةْ ص 128 , وكذا في مقدِمة الديوان - هَمسةٌ قُبَيْلَ البَدءْ ص 9 ) , ومن هذه اللغة البينية والضدية في آن يتولد عالم من الممكن , من الاحتمال , من التلبس لصور متعددة وعالم الاحتمال هو تحديداً عالم التعدد الذي يقف نقيضاً لعالم الشيء الواحد المحدد المدرك . ثم أن هذا العالم هو في الوقت نفسه عالم الـ لايقينية الذي تنهار فيه الوثوقية والتحديد والإطلاق للمكان والزمان والمعنى والرؤية والموقف , بل للذات أيضاً التي يؤكد الياسري أنها : ( تسطيرُ قَلَقي / جُنوني / تجربتي ) (10) .
الهوامش
1- سَعْد اليَاسِري - مِــنْــسَــأَتِــي - قَصَائِدْ - الدار العربية للعلوم - الطبعة الاولى 2005 , ص 25
2- السابق , ص 68
3- السابق , ص 23
4- السابق , ص 108
5- السابق , ص 128
6- السابق , ص 106
7- السابق , ص 82
8- السابق , ص 42
9- السابق , ص127
10- السابق , ص 9
--------- --------- ---------
لقد كانت الأنا عبر تأريخ الشِعر العربى ودونما استثناء هي الضمير الشخصى أي الذات الفعلية للشاعر المتكلم المفرد , بكلمات أخرى كانت الأنا معادلاً رياضياً فعلياً للناطق من امرئ القيس في : ( فقلتُ له لمّا تَمَطَّى بصُلبـه ) إلى سعد الياسري في : ( أنا نبضُ الهوى العُذري ) (1) مروراً بالمتنبي فى : ( أَنـا الَّـذي نَظَـرَ الأَعمَـى إلـى أَدَبي ) ثمة خيط ينظم الأنا الشعرية هو كونها الشاعر الذى ينطقها في وجوده التأريخي الشخصي .
وفي ديوانه ( مِنْسَأتِى ) يتجول سعد الياسري بـ الأنا , يخرج بها عن الأنا التأريخية الشخصية ليمنحها طبيعة أكثر تشابكاً وتعقيداً وتعدداً فيوحدها بـ أنا عُليا جماعية أو يخرج بها عن الأنا الذاتية ليحيلها إلى أنا لا محددة ويحدث هذا التحول تأريخياً في مرحلة تغير في لهجة القصيدة من أنا إلى هي :
هي إمرأةٌ بداخلها
جنون حكايةٍ يَقبَعْ
تُفكرُ كيف تلقاهُ
بفردوسٍ ولا أروَعْ
على فرسٍ سيأتيها
بغيرِ الوصل لا يقنَعْ (2)
وجدير بالذكر أن هي تأريخياً كانت أيضا ذاتاً تأريخية وهي في معظم قصائد الديوان تحول لـ أنا من جهة وتقمص لكل الشخصيات المحبة المغامرة المتألمة .
وفى أعمق تجلياتها التعددية تخترق الأنا حاجزاً آخراً هو حاجز الواحد لا لتكتسب صيغة جماعية وحسب ؛ بل لتتعدد فعلا في بنية القصيدة فتصبح ذواتاً متعددة ولقد تجسّد ذلك في واحدة من أجمل الصور في قصيدة ( فَيضُ الــ " ودِّ " مِنْسَأتي ) :
على أعتابِ مَحبرتي ... وأوراقي
تَجلَّتْ لذَّةُ الشِّعرِ ..
بنفسجةً تُعانقُ مَكمنَ العطرِ
كطيفٍ رَامَ تحليقاً ..
إذا نَبتَتْ على الأعطافِ أجنحةٌ من السَمَرِ
كلوحٍ ضاقَ بالدُسُرِ
كمِيقاتٍ يُطهرني إذا حَلَّتْ فُروضُ الدمعِ يَغسلني ..
ويُجلي ركبَ آثامي
ويَمضي بعد ثورتهِ إلى عَرباتِ نسياني .. ! (3)
وتتمثل هذه الحركة من الواحد إلى المتعدد , الحركة من الأنا الشخصية إلى الأنا الملتبسة , وتحقق خطوات نمو داخلي تمر عبر الذات التأريخية ثم الذات المتكاثرة أو ذات التجليات :
بانتْ "سَجاحِ "
ولمْ يَزلْ خَفّاقي يَعتمرُ الهُدى
ما كان قلبي صابِئاً
ما كانَ يوماً مُستباحْ
أغوتهُ " خائنةُ الشبهْ "
فأطاعها حينَ اشتبهْ ,
ألّقتْ على أيامي ظِلَ الفاجعةْ .. ( 4)
ولعل الاستخدام الشِعري للأسطورة ثم للشخصية التأريخية أو الشخصية المبتكرة المتقمصة أن يكون الوجه المبكر لهذه الظاهرة حيث تتقمص الأنا ذاتاً أسطورية أو تأريخية يفعل من خلالها وتجسد رؤياها بلغتها وفي ذروة نضجها تمثل الأسطورة في الشِعر الحديث بؤرة دلالية تعددية تتوحد فيها الذات الفردية بذوات أخرى .
ولعل أعمق الظواهر خفاءً فى تجسيدها لحركة الواحد / المتعدد أن تكون بنية فكرية - فنية طغت فى تطور تتجاوز ( الأنا / المرأة / الحقيقة / الأنا ) ليصبح موضوعها النص الشِعري ذاته :
(أنّى أوزع في المدى صلوات شِعري ؟! * وابتهالاتُ القصيدةِ أنبأتني في تراتيل المعابد أنشدتْ : مني أنا صوت انبجاسِ الماءِ لو شَحَّ المطر ) ( 5)
كما تتجلى عند سعد الياسري حركة الواحد / المتعدد أيضاً فى اللغة الحوارية , اللغة التي تتحرك بين ذاتين وتتنامى حول محورين وبيّن أغنى تجلياتها الياسري في قصيدة ( كُنهُ الرسالةِ مَوطِني ) :
سَألَتْ بلهفةِ طفلةٍ :
- من أنتَ ما سِرُ الشَغَبْ ؟
من أنتَ من أيِّ البلادْ ؟
أنّى تسامى الشِعرُ حُباً في يديكْ ؟ (6)
ومن أنماط التعدد التى تنتمى إلى هذا المستوى من تعدد الأنا فإنه ما يمكن أن يسمى تكثير الأنا الواحدة ويتم ذلك بصورة رئيسة بانفصام الأنا إلى إثنين لكنه يتخذ أحياناً صورة الكثرة التي تتجاوز التثنية كـ :
بتوتري / بتناحر الأفكار في كنف المحالْ
أبصرتُها , أبصرتُه , أبصرتُهم
هم كلهم في شِرعة النجوى سواءْ
فجميعهم قد مارسوا فن الغَوايةْ
وجميعهم ليلاً أقاموا العرس في مجرى دمائي والدموعْ
وجميعهم قد رددوا في حضرتي عهد التآخي والولاءْ ! ( 7)
وينتمي هذا التكثير إلى حيز التعددية ويبدو أن هذه العملية التى يشكل وجهيها التشظي من جهة والتعددية من جهة أخرى بين أشد ظواهر الحياة العربية عمقاً وأبلغها دلالة , وهي تستحق قدراً أكبرَ من التأمل والتمحيص لتفسيرها في سياق البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية السائدة , وما تتعرض له من خلخلات وانفجارات داخلية حاسمة الأهمية , وتتمثل حركة الانتقال من الواحد إلى المتعدد أيضاً في الانتقال من الصوت الواحد إلى الصوت المتعدد وهو انتقال يمنح القصيدة بُعداً جديداً اتفق على تسميته بالبعد الاحتدامي - الدرامي - ويمثل انتقالا من القصيدة الغنائية إلى القصيدة الدرامية , وفي أبسط صورة يتخذ هذا الانتقال شكل ازدواجية للصوت في القصيدة لكنه في أعقد صوره لدى سعد الياسري يصبح أصداءَ أصوات داخلية لا تسمى وتميز كما يحدث في العمل المسرحي بل تنبثق في نسيج النص وبنيته بلهجات متباينة وإيقاعات متفاوتة ولغات شِعرية متغايرة , بهذا تكون القصيدة موجة لا بيتاً , تتمثل هذه البنية بمسارات وتيارات وتفجيرات وأصوات تتلاقى وتندمج أو يخترق بعضها بعضاً ليخرج وقد عانى تحولاً ما , وبأشخاص وانقسامات للشخص الواحد يتم هذا في درب أو مكان , في زمن اللحظة المتحركة لذلك أقول أن القصيدة ذات بنية مسرحية :
مُتعثراً يا ذا الخَلاصِ بَلَغْتني ..
تَرجو المَسيرَ بدربِ أزمنتي اللّعِينةْ
ولَكَمْ حلِمتُ قُبَيْلَ مَقدمِكَ الفُجَاءةَ بالمُطَهَّمْ
بالسّابحِ المُختالِ يَعدو بالكيانِ ..
ويَبعثُ الحُلمَ الذي وَأَدَتْ سَماواتي الشَحِيحَةُ منذُ سَبعٍ أو تَزيدْ
مُتعثراً ؛ كَبقيةِ الأشياءِ من حَولي أتيتَ .. ! ( 8)
ويصل سعد الياسري في قصيدة ( سَقَطَ الوَثَنْ ) ص 56 , إلى نوع من التجريد المسرحي أي تبقى الحركة والتيارات والأبعاد , وتغيب التفاصيل بالإضافة إلى الطبيعة الدرامية يمنح هذا التعدد فى القصيدة كما يجسد فى الأنا نفسه بُعداً جديداً على صعيد الرؤية العربية للعالم , هو تعدد المنظور وهو بين أهم مايميز ديوان الياسري . وحدانية المنظور تنبع من وحدانية الإيمان , الإيمان بحقيقة واحدة مطلقة لا بديل لها وبقدرة الرائي على اكتشاف كل ما يمكن اكتشافه من هذه الحقيقة .
ثمة أشكال أخرى متعددة من التعددية والانتقال من الثابت نهائي التشكل إلى المتحرك المتحول الذي هو في عملية صيرورة وبين هذه الأشكال ما يمكن تسميته تعدد النص , وعلى مستوى أقل شمولية يندرج التناص أو التداخل النصّي ضمن هذه الظاهرة خالقاً تعددية في الصوت واللهجة والسياقات التأريخية والثقافية والأنماط الكتابية والدلالة بل في الإيقاع أيضاً :
( لاحظ قصائد : هَيُولى العُبُورْ ص 42 ، حِوَاريةٌ .. في الحُبِّ والدِينْ ص52 ، بَاقٍ هَواكْ ص 61، كُنْ حارثاً للثلجِ ص 71 ، وَلَـــهٌ يُــؤرجحني ص 92 ، بانتْ سَجاحْ ص 108 ، تَلويحةٌ من حُزنْ ص 111 ، من أينَ تأتي بالصَبابةْ ص 116 ) .
أما تعدد الأنماط الكتابية فأنه يغدو تدريجياً من سِمات نص الحداثة وفيه يتناوب الشِعر والنثر ( بالمصطلحات السائدة المعقولة ودون رغبة بالدخول في جدال حول ماهية الشِعر وماهية النثر ) .. يعنون الياسري القسم الأول من الديوان بـ ( فِــقْــهُ الـغَـوايـةْ - شِعْر ) : ويضم 46 قصيدة منها 11 عمودية ويعمد فيها الياسري إلى كتابة بحر القصيدة في بدايتها , و35 قصيدة تفعيلة , والقسم الثانى بـ ( قَــلَــقُ الـمَـشِـيْـئَـةْ - نَثْر ) : ويضم 100 نصّ نثري . وتستحق ظاهرة تعدد الأنماط الكتابية دراسة مستقلة , أما تعدد النص فإنه ظاهرة جديدة وجيدة .
أخيراً أشير إلى تجسد فذّ للتعددية عند سعد الياسري وهو الانتقال من المعنى الواحد المتجانس أو المتناسق إلى المعنى الضدي , وانتشار لغة المفارقة الضدية وهي لغة احتمالات ومحاولات وتمثل أحد أكثر طوابع اللغة الشِعرية بروزاً فى ( مِنْسَأتِى ) , ففي قصيدة ( ثِّقُوا بالحُبْ ) ص 26 يقول الياسري :
أنا للحُزنِ مَنبعهُ ..
أنا بَحرٌ بلا موجٍ ..
أنا سُفنٌ بلا مَرْسى ..
ثم يقول:
على جُرحي ..
تغنّى النزفُ وانتحبتْ بلا دمعٍ ..سماواتي
وظَلَّ مِزاجُ أُغنيتي :
ثِّقُوا بالحُبِّ يا سُكَّانَ أبياتي .. !! ( 9)
ويعمق سعد الياسري اكتشاف العالم من خلال اكتشاف الذات , وتنشأ هذه اللغة التي تحاول أن تقول المُحال وألا تقول ما يسهل قوله , وتطغى في الوقت نفسه لغة بينية كأن عالم الشاعر غير مموضع بثبات في مكان محدد وزمان مدرك ؛ بل معلق فى الفراغ بين أن يكون أو لا يكون بين الكون المترسب الذى إنهار , والكون المغلق الذى لم يتبلور بعد : ( قصيدة ذَاكِرَةٌ مَلْغُومَةْ ص 128 , وكذا في مقدِمة الديوان - هَمسةٌ قُبَيْلَ البَدءْ ص 9 ) , ومن هذه اللغة البينية والضدية في آن يتولد عالم من الممكن , من الاحتمال , من التلبس لصور متعددة وعالم الاحتمال هو تحديداً عالم التعدد الذي يقف نقيضاً لعالم الشيء الواحد المحدد المدرك . ثم أن هذا العالم هو في الوقت نفسه عالم الـ لايقينية الذي تنهار فيه الوثوقية والتحديد والإطلاق للمكان والزمان والمعنى والرؤية والموقف , بل للذات أيضاً التي يؤكد الياسري أنها : ( تسطيرُ قَلَقي / جُنوني / تجربتي ) (10) .
الهوامش
1- سَعْد اليَاسِري - مِــنْــسَــأَتِــي - قَصَائِدْ - الدار العربية للعلوم - الطبعة الاولى 2005 , ص 25
2- السابق , ص 68
3- السابق , ص 23
4- السابق , ص 108
5- السابق , ص 128
6- السابق , ص 106
7- السابق , ص 82
8- السابق , ص 42
9- السابق , ص127
10- السابق , ص 9