المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لبنان مرة أخرى



لحسن ملواني
12/05/2008, 07:14 PM
لبنان مرة أخرى
لحسن ملواني – كاتب من المغرب .
إلى وجهك الطيب رحلة الرماح
تنتابك الخلجات
تذبحك الأفكار حين تحاول شنقها عتمة
من دياجير التوحش و الأرزاء
فلا تنتحب
فالغثاء والسراب سحابتان
تروحان وتغدوان
تخاطبان
بلا تاريخ
ولا أسماء
تتمرد شجيرات من روضك المنيع
فتبتسم رغما عنها ...
محنكا تهدأ..
وقورا تعرف مآل أحفادك الملايين
تتلو عليهم آيات المصير
ومناشير النكبات الماضية
تتلو عليهم بعضا من صلواتك المستجابة
تتلو عليهم بعضا من بدائل الحريق
و خواتم الأزمات المقحمة
في براءة الروح
والأرض ...
تتلو عليهم أناشيد صَبِيَّة تبكي أيام ربيعها
وتنتظر عودتها حتما
فَدُمْ جبلا شامخا
يَفديك المخلصون
تَفديهم
وتبقى لبنانَ أهْله
يرحل الشؤم في شاحنات غربان غرباء
يعود الربيع بأطياره
وألحانه ومحافله
وتبقى شامخا شامخا
والشموخ يغيظ الغرباء
وإخوان الغرباء
وزمرة الأغبياء...

ملكة
12/05/2008, 08:24 PM
سلا القلب عن غيد صفت وحسان

وأهمل ذكر المنحنى وعمان

وما عاد يلهيني الصبا بأريجه

ولو فاح بالريحان والنفلان

وخط برأسي الشيب لوحة عاشقٍ

يقول: احذروني أيها الثقلان

وكنا نرى أن الزمان مساعد

وأن المنى والسعد مؤتلفان

إلى أن كبرنا واستفدنا تجارباً

أحالت ظنون الغيب رأي عيان

شربنا ليالي الصفو في كأس غفلةٍ

وناهزت بعد الأربعين ثماني

فمرت كأحلام الربيع سريعة

فأيامها في ناظري ثواني

فلو أنني أرمي بقوس دفعتها

بقوة بأس واحتدام جنان

ولكن قوس العمر ينفذ أسهما

وما للفتى في ردهن يدان

وفي أربعين العمر وعظ وعبرة

ويكفيك علماً شاهد الرجفان

ومن كملت فيه النهى لا يسره

نعيم ولا يرتاع للحدثان

فلا تسمِّعني وعظ قس ولا تسق

عليّ مقامات الفتى الهمداني

فعندي من الأيام أبلغ عبرة

على منبر تلقى بكل لسان

ولما اتخذت العلم خدناً وصاحباً

تركت الهوى والمال ينتحبان

جعلت القوافي الصافنات مراكبي

كأن الضحى والليل قد حسداني

يقولون لي فيك اندفاع وحدّه

فقلت: جمال البرق في اللمعان

ولو كنت في دهر سوى ذا رأيتني

على غارب الجوزاء خط مكاني

أتيت بعصر غير عصري وإنني

غريب فعصري مفلس وزماني

ولي همة لو أن للدهر بعضها

لأمست له الأفلاك في خفقان

وما كنت ممن يسلب اللهو قلبه

وكيف وفي الأعماق سبع مثاني

وفي خلدي ذكر حكيم مرتل

معاذ إلهي ليس فيه أماني

ولي خاطر كالسيل تدنو زحوفه

وجودة ذهن فاض كالزبدان

ولا عيب لي إلا طموح مزلزل

يظل فؤادي منه في غليان

وأرسلت للأيام (لا تحزن) الذي

به من بنات الفكر كلُّ حسان

فسار مسير الشمس شرقاً ومغرباً

وصار حديث القوم كل زمان

ودبجت للفصحى مقامات شاعر

كلوحة فنان ونثر جمان

وتسعون تصنيفاً تكامل حسنها

نجوم سماء أو عقود غواني

وألفت تفسيراً عظيماً ميسراً

له روح تحقيق ووجه بيان

ولا فضل لي فيها فلله وحده

ثنائي على ما خصني وحباني

وجدي أويس الازد أفضل تابع

على صدق قولي يشهد القمران

فلا تحسب الأنساب تنجيك من لظى

ولو كنت من قيس وعبد مدان

أبو لهبٍ في النار وهو ابن هاشم

وسلمان في الفردوس من خرسان

فلا تلهك الدنيا بلهو فإنه

يعاق مسير الشمس بالدبران

فقد هد قدماً عرش بلقيس هدهد

وخرب فأرٌ ما بنى اليمنان

http://img.aljasr.com/icon.aspx?m=blank

ملكة
12/05/2008, 08:27 PM
تعالي نَبِعْ في العام يا بثن ديننا * * * بدنيـا فإنا قابلا سنـتـوب
فقالت : لَعَـنَّا يا جميـل نبيعه * * * وآجالنا من دون ذاك قريـب
وأول ما قاد المـودّة بينـنـا * * * بوادي بغيضٍ يا بثين سِبابُ
وقلت لها قولاً ، فجاءت بمثله * * * لكل كـلامٍ يا بثيـن جوابُ
ألا أيّها النـوّام وَيْحَـكُمُ هُبّوا * * * أُسائِلُكُمْ هل يَقْتُلُ الرّجلَ الحُبُّ؟
فقالوا : نعم حتّى يَسُلَّ عظامه * * * ويتركه حيـران ليس له لُـبُّ
أعاتب من يحلو لديّ عتابه * * * وأترك من لا أشتهي وأجانبه
ارحميني فلقد بليت فحسبي * * * بعض ذا الدّاء يا بثينة حسبي
لامني فيك يا بثينة صحبي * * * لا تلوموا لقد أقرح الحب قلبي
زعم النـاس أن دائي طبّي * * * أنـتِ والله يا بثيـنـة طبّي
وقالوا: يا جميل أتى أخوها * * * فقلت أتى الحبيبُ أخو الحبيبِ

ملكة
12/05/2008, 08:35 PM
شعراء الغدير في القرن الثالث

9 - أبو تمام الطائي
231هـ


أظبـــيـة حــيث استنت الكثب العـــــفر * رويدك لا يغــــتـــالك اللوم والـــزجـر
أســـري حــــــذارا لـــــم يقــــيدك ردة * فــــيحـــسر مـــاء من محاسنك الهذر
أراك خــــــــلال الأمـــر والنـــهي بوة * عداك الردى ما أنت والنهي والأمر؟!
أتشغـــلني عـــما هـــرعت لمثـــلـــــه * حـــوادث أشجـــان لصــاحبها نكر ؟ !
ودهـــر أســـاء الصنـــع حـــتى كأنما * يقـــضي نـــذورا فـــي مساءتي الدهر
له شجـــرات خـــيم المجـــد بـــيــــنها * فـــلا ثمـــر جـــان ولا ورق نـــضــــر
ومـــا زلـــت ألــقى ذاك بالصبر لابسا * رداءيه حــــتى خفت أن يجزع الصبر
وإن نـــكيرا أن يـــضيق بـــمـــن لـــه * عـــشيرة مثـــلي أو وسيـــلته مصــر
ومـــا لامرئ مـــن قـــاتل يـــوم عثرة * لعـــا وخـــديناه الحداثـــة والـــفـــقــر
وإن كـــانت الأيـــام آضـــت ومـــا بها * لـــذي غـــلة ورد ولا ســـائل خـــبــر
هـــم الناس ســـار الذم والحرب بينهم * وحـــمر أن يغــــشاهم الحمد والأجر
صفيـــك منهـــم مضــمر عنجهية (1) * فـــقائده تـــيـــه وســـائقـــه كـــبــــــر
إذا شـــام بــــرق اليسر فالقرب شأنه * وأنـــأى مـــن العـــيوق إن ناله عسر
أريني فـــتى لـــم يقله النــاس أو فتى * يـــصح لـــه عـــزم وليـــس لـــه وقر
تـــرى كـــل ذي فـــضل يطــول بفضله * عـــلى معتـــفيه والـــذي عـــنده نـزر
وإن الـــذي أحـــذاني الشيـــب للـــذي * رأيـــت ولــم تكمل له السبع والعشر
وأخـــرى إذا استودعـــتها السر بينت * بـــه كرها ينهــاض من دونها الصدر
طغـــى مـــن عـــليها واستـــبد برأيهم * وقـــولهـــم إلا أقـــلهـــم الـــكـــفـــــر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
(1) العنجهية بضم العين والجيم : الكبر .




/ صفحة 330 /
وقــــاسوا دجــــى أمــــريهم وكـلاهما * دلــــيل لهم أولـــى به الشمس والبدر
سيحــــدوكم استسقاؤكم حلـــب الردى * إلــــى هـــوة لا الماء فيها ولا الخمر
سأمتــــم عبــــور الضحـل خوضا فأية * تعــــدونها لــــو قـــــد طغى بكم البحر
وكنــــتم دمــــاء تحــــت قــــدر مغـارة * عــــلى جـهل ما أمست تفور به القدر
فهــــلا زجــــرتم طائــر الجهل قبل أن * يجــــيئ بما لا تبــــسأون به الزجر؟!
طويتــــم ثنايا تخــــبأون عــــوارهــــا * فــــأين لكم خــــب وقـد ظهر النشر؟!
فعــــلتم بأبــــناء النــــبي ورهــــطــــه * أفاعــــيل أدنــــاها الخيــــانة والغـدر
ومــــن قــــبله أخــــلفتم لــــوصــيــــه * بــــداهية دهــــياء لــــيس لهــــا قدر
فجــــأتم بهــــا بكــــرا عـوانا ولم يكن * لهــــا قبلها مثــــل عــــوان ولا بــكر
أخــــوه إذا عــــد الفخــــار وصهـــــره * فــــلا مثــــله أخ ولا مثــــله صهـــر
وشــــد بــــه أزر النــــبي محــــمـــــــد * كمــــا شد من موسى بهارونه الإزر
ومــــا زال كــــشافا ديــــاجير غــــمرة * يمــــزقها عــن وجهه الفتح والنصر
هــــو السيــف سيف الله في كل مشهد * وسيــــف الرســــول لا ددان ولا دثـر
فــــأي يد للــــذم لــــم يــــبــــر زنـــدها * ووجــــه ضــــلال ليــــس فيه له أثر
ثــــوى ولأهــــل الــــدين أمــــن بحــده * وللواصميــــن الــــدين فـي حده ذعر
يســــد بــــه الثغـر المخوف من الردى * ويعــــتاض من أرض العدو به الثغر
بأحــــد وبــــدر حين مــــاج بــــرجـــله * وفــــرسانه أحــــد ومــــاج بهـــم بدر
ويــــوم حنــــين والنضــــير وخــيــــبر * وبالخــــندق الثــــاوي بعـقوته عمرو
سمــــا للمنــــايا الحــــمر حتى تكشفت * وأسيافــــه حــــمر وأرمـــــاحه حمر
مشاهــــد كــــان الله كــــاشف كـــربها * وفــــارجه والأمــــر مــــلتبس إمـــر
و"يــوم الغدير" استوضح الحق أهله * بضــحيآء (1) لا فيها حجاب ولا ستر
أقــــام رســــول الله يدعــــوهم بهـــــا * ليقــــربهم عــــرف ويــــنــــآهم نــكر
يــــمد بضبعــــيه ويعــــلـــم (2) : أنه * ولــــي ومــــولاكم فــهل لكم خبر ؟ !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
(1) وفي نسخة : بفيحاء .
(2) من أفعل . ويظهر من الدكتور ملحم شارح ديوان أبي تمام أنه قرأه مجردا من علم لا مزيدا من أعلم كما قرأناه ومختارنا هو الصحيح الذي لا يعدوه الذوق العربي .




/ صفحة 331 /
يــــروح ويغــــدو بالبــــيان لمعــــشر * يــــروح يهــــم غـمر ويغدو بهم غمر
فكــــان لهــــم جهــــر بإثبات حــقــــه * وكــــان لهــــم فــــي بــزهم حقه جهر
أثــــم جعــــلتم حــــظه حــــد مــرهف * مـــن البــيض يــوما حظ صاحبه القبر
بكــــفي شــــقي وجــــهته ذنــــوبـــــه * إلــــى مــــرتع يرعى به الغي والوزر
القصيدة 73 بيتا توجد في ديوانه ص 143
* (ما يتبع الشعر) *:
لا أجد لذي لب منتدحا عن معرفة يوم الغدير لا سيما وبين يديه كتب الحديث والسير ومدونات التاريخ والأدب، كل يومي إليه بسبابته، ويوعز إليه ببنانه، كل يلمس يدي القارئ حقيقة يوم الغدير، فلا يدع له ذكرا خاليا منه، ولا مخيلة تعدوه، ولا أضالع إلا وقد انحنت عليه، فكأنه وهو يتلقى خبره بعد لأي من الدهر يرنو إليه من كثب، ويستشف أمره على أمم، ولعل الواقف على كتابنا هذا من البدء إلى الغاية يجد فيه نماذج مما قلناه .
إذا فهلم معي وأعجب من الدكتور ملحم إبراهيم الأسود شارح ديوان شاعرنا المترجم حيث يقول عند قوله:

ويوم الغدير استوضح الحق أهله * ......
يوم الغدير واقعة حرب معروفة .
وذكر بعده في قوله :

يمد بضبعيه ويعلم أنه * ......
ما يكشف عن أنها كانت من المغازي النبوية قال ص 381 : يمد بضبعيه يساعده وينصره والهاء راجعة إلى الإمام علي، أي : كان رسول الله صلى الله عليه وآله ينصره ويعلم أنه ولي، كان العضد والمساعد الوحيد للنبي صلى الله عليه وآله في الغدير والرسول نفسه كان ينصره عالما أنه سيكون وليا على شعبه بعده وخليفة له، وهذه هي الحقيقة، فهل تعلمون ؟ ! ه‍ .
إلا مسائل هذا الرجل عن مصدر هذه الفتوى المجردة ؟ ! أهل وجد هاتيك الغزءة في شيء من السير النبوية ؟ ! أو نص عليها أحد من أئمة التاريخ ؟ ! أم أن تلك الحرب الزبون وحدها قد توسع بنقلها المتوسعون من نقله الحديث ؟ ! دع ذلك كله هل وجد



/ صفحة 332 /
قصاصا يقصها ؟ ! أو شاعر يصورها بخياله ؟ ! .
ألا من يسائله عن أن هذه الغزءة متى زيدت على الغزوات النبوية المحدودة ؟ ! المعلومة بكمها وكيفها، المدونة أطوارها وشئونها، وليس فيها غزءة يوم الغدير، متى زيدت هذه على ذلك العدد الثابت بواحده ؟ ! فكان فيها علي والنبي يتناصران، ويعضد كل صاحبه، ويدفع كل عن الآخر كما يحسبه هذا الكاتب .
وإنك لتجد الكاتب عيا عن جواب هذه الأسؤلة لكنه حبذت له بواعثه أن يستر حقيقة الغدير بذيل أمانته، وهو يحسب أنه لا يقف على ذلك التعليق إلا الدهماء، أو أن البحاثة يمرون عليه كراما، لكن المحافظة على حقيقة دينية أولى من التحفظ على اعتبار هذا الكاتب الذي يكتب ولا يبالي بما يكتب، ويرى الكذب حقيقة راهنة .
نعم كان في الجاهلية يوم أغار فيه دريد بن الصمه (المقتول كافرا بعد فتح مكة) على غطفان يطالبهم بدمه فاستقراهم حيا حيا وقتل من بني عبس ساعدة بن مر وأسر ذؤاب بن أسماء الجشمي فقالت بنو جشم : لو فاديناه .
فأبى ذلك دريد عليهم وقتله بأخيه عبد الله وأصاب جماعة من بني مرة ومن بني ثعلبة ومن أحياء غطفان .
قال في الأغاني ج 9 ص 6 : وذلك في " يوم الغدير " وذكر لدريد شعرا في ذلك .
وعد في العقد الفريد ج 3 ص 71 من حروب الجاهلية يوم [ غدير قلياد ] قال : قال أبو عبيدة .
فاصطلح الحيان إلا بني ثعلبة بن سعد فإنهم أبوا ذلك وقالوا : لا نرضى حتى يودوا قتلانا أو يهدر دم من قتلها فخرجوا من قطن (1) حتى وردوا [ غدير قلياد ] فسبقهم بنو عبس إلى الماء فمنعوهم حتى كادوا يموتون عطشا ودوابهم فأصلح بينهم عوف ومعقل ابنا سبيع من بني ثعلبة، وإياها يعني زهير بقوله :

تــداركتما عبسا وذبيان بعد ما * تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
... إلخ، " وقلياد " في الكلام المذكور مصحف " قلهى " كما يظهر من معجم البلدان 7 ص 154، وبلوغ الإرب ج 2 ص 73، وفي الأخير عده من أيام العرب المشهورة .
هذا كل ما روي في حديث هذا اليوم الذي لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وآله ولا لأحد من الهاشميين فيه حل ولا مرتحل ولا لوصيه أمير المؤمنين عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
(1) يوم قطن من حروب الجاهلية، راجع إلى العقد الفريد ج 3 ص 6 .




/ صفحة 333 /
السلام فيه صولة أو جولة، فالحديث ليس فيه أي صلة بهما، أفمن المعقول إذن أن يريده أبو تمام المادح للوصي الأعظم ؟ ! ويعده مأثرة له ؟ ! على أن الشعر نفسه يأبى أن يكون المراد به واقعة حرب دامية فإن الشاعر بعد أن عد مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في الغزوات النبوية وذكر منها غزاة أحد وبدر وحنين والنضير وخيبر والخندق وختمها بقوله :

مشاهد كان الله كاشف كربها * وفـــارجه والأمر ملتبس إمر
أخذ في ذكر منقبة ناء بها اللسان دون السيف والسنان فقال : - ويوم الغدير - وأنت ترى أنه يوعز إلى قصة فيها قيام ودعوة وإعلام وبيان ومجاهرة بإثبات الحق لأهله .
* (الشاعر) *:
أبو تمام حبيب بن أوس بن الحارث بن قيس بن الأشجع بن يحيى بن مزينا بن سهم بن ملحان بن مروان بن رفافة بن مر بن سعد بن كاهل بن عمرو بن عدي بن عمرو بن الحارث بن طئ جلهم بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن كهلان بن سبا بن يشجب ابن يعرب بن قحطان . تاريخ الخطيب 8 248 .
أحد رؤساء الإمامية كما قال الجاحظ (1) والأوحد من شيوخ الشيعة في الأدب في العصور المتقادمة، ومن أئمة اللغة، ومنتجع الفضيلة والكمال، كان يؤخذ عنه الشعر وأساليبه، وينتهي إليه السير، ويلقى لديه المقالد، ولم يختلف اثنان في تقدمه عند حلبات القريض، ولا في تولعه بولاء آل الله الأكرمين صلوات الله عليهم، وكان آية في الحفظ والذكاء حتى قيل : إنه كان يحفظ أربعة آلاف ديوان الشعر غير ألف أرجوزة للعرب غير المقاطيع والقصايد (2) وفي [ معاهد التنصيص ] : إنه كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير المقاطيع والقصايد وفي التكلمة : إنه أخمل في زمانه خمسمائة شاعر كلهم مجيد .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
(1) فهرست النجاشي ص 102 .
(2) مرآت الجنان 2 ص 102 .




/ صفحة 334 /
المترجم له شامي الأصل ولد بقرية " جاسم " من قرى " الجيدور " من أعمال " دمشق " وإن أباه كان يقال له : ندوس (3) العطار فجعلوه أوسا، وفي دائرة المعارف الإسلامية : إن المترجم هو الذي بدله وكان أبوه نصرانيا .
نشأ المترجم بمصر و في حداثته كان يسقي الماء في المسجد الجامع ثم جالس الأدباء فأخذ عنهم وتعلم منهم وكان فطنا فهما وكان يحب الشعر فلم يزل يعانيه حتى قال الشعر وأجاد، وشاع ذكره، وسار شعره، وبلغ المعتصم خبره فحمله إليه وهو بسر من رأى، فعمل أبو تمام فيه قصائد عدة وأجازه المعتصم وقدمه على شعراء وقته، وقدم إلى بغداد وتجول في العراق وإيران، ورآه محمد بن قدامة بقزوين، فجالس بها الأدباء وعاشر العلماء وكان موصوفا بالظرف وحسن الأخلاق وكرم النفس .
قال الحسين بن إسحاق قلت للبحتري : الناس يزعمون أنك أشعر من أبي تمام فقال : والله ما ينفعني هذا القول ولا يضر أبا تمام والله ما أكلت الخبز إلا به ولوددت إن الأمر كما قالوا ولكني والله تابع له لائذ به آخذ منه، نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي تنخفض عند سمائه . [ تاريخ الخطيب 8 ص 248 ] .
كان البحتري أول أمره في الشعر ونباهته فيه أنه سار إلى أبي تمام وهو بحمص فعرض عليه شعره وكانت الشعراء تقصده لذلك، فلما سمع شعر البحتري أقبل عليه وترك سائر الناس فلما تفرقوا قال له : أنت أشعر من أنشدني، فكيف حالك ؟ ! فشكى إليه القلة .
فكتب أبو تمام إلى أهل معرة النعمان وشهد له بالحذق وشفع له إليهم وقال له : امتدحهم .
فسار إليهم فأكرموه بكتاب أبي تمام ووظفوا أربعة آلاف درهم فكانت أول مال أصابه ثم أقبل عليه أبو تمام يصف شعره ويمدحه فلزمه البحتري بعد ذلك، و قيل للبحتري : أنت أشعر أم أبو تمام ؟ ! فقال : جيده خير من جيدي، ورديي خير من رديئه .
وقيل : سئل أبو العلاء المعري : من أشعر الثلاثة ؟ ! أبو تمام أم البحتري أم المتنبي ؟ ! فقال : المتنبي وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر البحتري .
وقيل : أنشد البحتري أبا تمام شيئا من شعره فقال له : أنت أمير الشعراء بعدي .
قال البحتري : هذا القول أحب إلي من كل ما نلته .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
(3) لهذا الاسم قراءات مختلفة : تدوس تدرس . ندوس . ثدوس . ثادوس . ثيودوس .




/ صفحة 335 /
وقال ابن المعتز : شعره كله حسن .
وذكر اعتنائه البالغ بشعر مسلم بن الوليد صريع الغواني وأبي نواس .
وعن عمارة بن عقيل في حديث نقله عنه ابن عساكر في تاريخه 4 ص 22 : إنه لما سمع قوله :

وطــــول مقــام المرء بالحي مخلق * لديباجتــــيه فــاغــــترب تــــتــــجدد
فإنــــــي رأيت الشمس زيدت محبة * إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد
قال : إن كان الشعر بجودة اللفظ، وحسن المعاني، وأطراف المراد، واستواء الكلام، فهي لأبي تمام، وهو أشعر الناس، وإن كان بغيرها فلا أدري .
وكان في لسانه حبسة وفي ذلك يقول ابن المعدل أو أبو العميثل : يا نبي الله في الشعر ويا عيسى بن مريم أنت من أشعر خلق الله ما لم تتكلم مدح الخلفاء والأمراء فأحسن، وحدث عن صهيب بن أبي الصحباء الشاعر، و العطاف بن هارون، وكرامة بن أبان العدوي، وأبي عبد الرحمن الأموي، وسلامة بن جابر النهدي، ومحمد بن خالد الشيباني، وروى عنه خالد بن شريد الشاعر، والوليد بن عبادة البحتري، ومحمد بن إبراهيم بن عتاب، والعبدوي البغدادي . [تاريخ ابن عساكر 4 ص 18].
روي أنه لما مدح الوزير محمد بن عبد الملك الزيات بقصيدته التي يقول فيها :

ديــــمة سمحة القيادة سكوب * مستغيث بها الثرى المكروب
لـو سعت بقعة لأعظام أخرى * لسعى نحوها المكان الجديب
قال له ابن الزيات : يا أبا تمام ؟ إنك لتحلي شعرك من جواهر لفظك ودرر معانيك ما زيد حسنا على بهي الجواهر في أجياد الكواعب، وما يدخر لك شيء من جزيل المكافأة إلا ويقصر عن شعرك في الموازرة، وكان بحضرته الكندي الفيلسوف فقال له : إن هذا الفتى يموت شابا .
فقيل له : من أين حكمت عليه بذلك ؟ ! فقال : رأيت فيه من الحدة والذكاء والفطنة مع لطافة الحسن وجودة الخاطر ما علمت به أن النفس الروحانية تأكل جسمه كما يأكل السيف المهند غمده [ تأريخ ابن خلكان ج 1 ص 132 ] .
ذكر الصولي : إن المترجم امتدح أحمد بن المعتصم أو ابن المأمون بقصيدة سينية فلما انتهى إلى قوله :



/ صفحة 336 /
إقدام عمرو في سماحة حاتم * في حلم أحنف في ذكاء إياس
قال له الكندي الفيلسوف وكان حاضرا : الأمير فوق ما وصفت . فأطرق قليلا ثم رفع رأسه فأنشد :

لا تــنكروا ضربي له من دونه * مثلا شرودا في الندى والبأس
فــــالله قـــد ضرب الأقل لنوره * مــــثلا من المشكاة والنبراس
فعجبوا من سرعة فطنته .
ديوان شعر أبي تمام :
قد يقال : إن المترجم لم يدون شعره .
لكن الظاهر من قراءة عثمان بن المثنى القرضي المتوفى 273 ديوانه عليه كما في " بغية الوعاة " ص 324، إن شعره كان مدونا في حياته .
واعتنى بعده جمع من الأعلام والأدباء بترتيبه وتلخيصه وشرحه وحفظه ومنهم:
1 - أبو الحسن محمد بن إبراهيم بن كيسان المتوفى 320، له شرحه .
2 - أبو بكر محمد بن يحيى الصولي المتوفى 335 / 6، رتبه على حروف المعجم في نحو ثلثمائة ورقة .
3 - علي بن حمزة الاصبهاني، رتبه على الأنواع .
4 - أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري الشافعي المتوفى 380، له شرحه .
5 - أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي المتوفى 371، له شرحه .
6 - الخالع حسين بن محمد الرافعي كان حيا في حدود 380، له شرحه .
7 - الوزير حسين بن علي المغربي المتوفى 418، له كتاب اختيار شعره .
8 - أبو ريحان محمد بن أحمد البيروني المتوفى 340، له شرح راءه الحموي بخطه .
9 - أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري المتوفى 449، له تلخيصه المسمى ب‍ " ذكرى حبيب " وشرحه .
10 - أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي المتوفى 502، له شرحه .
11 - أبو البركات ابن المستوفي مبارك الأربلي المتوفى 637، له شرحه في عشر مجلدات .




/ صفحة 337 /
12 - أبو الفتح ضياء الدين نصر بن محمد المتوفى 637، كان يحفظه .
13 - أبو الحجاج يوسف بن محمد الأنصاري المتوفى 672، كان يحفظه و يحفظ الحماسة .
14 - محيي الدين الخياط، له شرحه (1) .
15 - الدكتور ملحم إبراهيم أسود، له شرحه المطبوع بمصر .
والظاهر أن النسخة المطبوعة من ديوان أبي تمام هو ترتيب الصولي لأنها مرتبة على الحروف إلا أن فيها سقطا كثيرا من شعره لأن النجاشي قال في فهرسته ص 102 : له شعر في أهل البيت كثير، وذكر أحمد بن الحسين رحمه الله : أنه رأى نسخة عتيقة ولعلها كتبت في أيامه أو قريبا منه وفيها قصيدة يذكر فيها الأئمة حتى انتهى إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام لأنه توفي في أيامه . ا ه‍ .
ولا يوجد في الديوان المطبوع شيء من ذلك الكثير عدا رائيته المذكورة في هذا الكتاب فإما أن يد الأمانة في طبع الكتب حذفت تلكم القصايد عند تمثيل الديوان إلى عالم الطباعة كما صنعت مع غيره أيضا، أو أنها لم تصل إليها عند النشر، أو أن المطبوع اختصار أبي العلاء المعري المذكور .
ديوان الحماسة وشروحه:
ولأبي تمام مما أفرغه في قالب التأليف ديوان الحماسة الذي سار به الركبان و استفادت به الأجيال بعده، جمع فيه عيون الشعر ووجوهه من كلام العرب، جمعه بدار أبي الوفاء ابن سلمة بهمدان عندما اضطرته الثلوج إلى الالتجاء إلى هذه المدينة أثناء أوبته من زيارة عبد الله بن طاهر، ورتبه على عشرة أبواب خص كل باب بفن و قد اعتنى بشرحه جمع كثير من أعلام الأدب منهم:
1 - أبو عبد الله محمد بن القاسم ماجيلويه البرقي .
2 - أبو الحسن علي بن محمد السميساطي (2) المتوفى أواسط المائة الرابعة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
(1) راجع فهرست ابن النديم ص 235، فهرست النجاشي ص 102، الطبقات لابن أبي صبيعة 2 ص 20 تأريخ ابن خلكان 1 ص 30، 133، بغية الوعاة ص 324، 404، 423، كشف الظنون، معجم المطبوعات .
(2) نسبة إلى سميساط بالمهملتين بضم أوله وفتح ثانيه، فما في كثير من المعاجم " الشمشاطي " المعجمتين تصحيف



/ صفحة 338 /
3 - أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا اللغوي الرازي المتوفى 369 .
4 - أبو عبد الله الحسين بن علي بن عبد الله النمري المتوفى 385، ولأبي محمد الأسود الحسن الغندجاني رد على النمري هذا في شرح الحماسة كما في [ معجم الأدباء ] 3 ص 24 .
5 - أبو الفتح عثمان بن جني المتوفى 392، له " المنهج " في اشتقاق أسماء شعراء الحماسة وشرح مستغلق الحماسة .
6 - أبو الحسن علي بن زيد البيهقي .
7 - أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري كان حيا إلى سنة 395 .
8 - أبو المظفر محمد بن آدم بن كمال الهروي النحوي المتوفى 414 .
9 - الشيخ أبو علي أحمد بن محمد المرزوقي الاصبهاني المتوفى 421 .
10 - أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري التنوخي المتوفى 449 .
11 - أبو الحسن علي بن أحمد بن سيدة الأندلسي المتوفى 458 .
12 - أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن الحسين الشاماتي المتوفى 475 .
13 - أبو القاسم زيد بن علي بن عبد الله الفارسي المتوفى 467 .
14 - أبو حكيم عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله الخبري المتوفى 476 .
15 - أبو الحجاج يوسف بن سليمان الشنتمري المتوفى 476، شرحها شرحا كبيرا ورتبها على الحروف .
16 - أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي المتوفى 502، له شروحها الثلاثة .
17 - أبو الحسن علي بن عبد الرحمن الإشبيلي المتوفى 514 .
18 - أبو المحاسن مسعود بن علي البيهقي المتوفى 544 .
19 - أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري المتوفى 577 .
20 - أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الحضرمي الإشبيلي المتوفى 584 .
21 - أبو محمد القاسم بن محمد الديمرتي الاصبهاني .
22 - الشيخ علي بن الحسن الشميم الحلي المتوفى 601 .




/ صفحة 339 /
23 - أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري البغدادي المتوفى 616 .
24 - أبو علي الحسن بن أحمد الاسترابادي اللغوي النحوي .
25 - المولوي فيض حسين شرحها مختصرا وأسماه بالفيضي .
26 - الشيخ لقمان .
27 - الشيخ سيد بن علي المرصفي الأزهري المعاصر .
راجع فهرست النجاشي : فهرست ابن النديم . معجم الأدباء . بغية الوعاة . الذريعة .
دواوين الحماسة :
تبع أبا تمام في صناعة الحماسة كثيرون، منهم : 1 - البحتري أبو عبادة الوليد بن عبيدة المتوفى 284 .
2 - أبو الحسين أحمد بن فارس اللغوي الرازي المتوفى 369 .
3 - الخالديان ابنا هاشم : أبو بكر محمد وأبو عثمان سعيد المتوفى 371 .
4 - أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري النحوي .
5 - أبو الحجاج يوسف بن سليمان الشنتمري المتوفى 476 .
6 - أبو حصين محمد بن علي الاصبهاني الديمرتي .
7 - أبو دماش عده ابن النديم من النحويين اللغويين .
8 - أبو العباس محمد بن خلف بن المرزباني .
9 - أبو السعادات هبة الله بن علي المعروف بابن الشجري المتوفى 542 .
10 - الشيخ علي بن الحسن الشميم الحلي المتوفى 601 .
11 - أبو الحجاج يوسف بن محمد الأندلسي المتوفى 653 .
12 - صدر الدين علي بن أبي الفرج البصري المقتول 659 .
13 - أبو الحجاج يوسف بن محمد الأنصاري المتوفى 672 (1).
ومن آثار أبي تمام الأدبية : الاختيارات من شعر الشعراء .
الاختيار من شعر القبائل . اختيار المقطعات . المختار من شعر المحدثين . نقايض جرير والأخطل . الفحول وهو مختارات من قصايد شعراء الجاهلية والاسلام تنتهي بابن هرمة، ذكرها له ابن النديم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
(1) فهرست ابن النديم . معجم الأدباء، بغية الوعاة .




/ صفحة 340 /
في فهرسته ص 235 وغيره .
المؤلفون في أخبار أبي تمام :
لقد جمع أخباره وما يؤثر عنه غضون حياته من نوادر وظرف ونكت وأدب وشعر جماعة منهم :
1 - أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر المتوفى 280، له كتاب : [ سرقات النحويين من أبي تمام ] .
2 - أبو بكر محمد بن يحيى الصولي المتوفى 336، له " أخبار أبي تمام " .
طبع مع فهرسته في 340 صحيفة .
3 - أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي البصري المتوفى 371، له كتاب [ الموازنة بين أبي تمام والبحتري ] في عشرة أجزاء .
ولياقوت الحموي في " معجم الأدباء " 2 ص 59 كلمات حول هذه الموازنة .
وللآمدي هذا رد على ابن عمار فيما خطأ فيه أبا تمام .
4 - الخالديان ابنا هاشم : أبو بكر محمد وأبو عثمان سعيد المتوفى 371، لهما كتاب [ أخبار أبي تمام ومحاسن شعره ] .
5 - أبو علي أحمد بن محمد المرزوقي الاصبهاني المتوفى 421، له كتاب [ الانتصار من ظلمة أبي تمام ] دفع عنه ما انتقد به .
6 - أبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني المتوفى 444، له كتاب " أخبار أبي تمام " في نحو من مائة ورقة .
7 - أبو الحسين علي بن محمد العدوي السميساطي، له كتاب [ أخبار أبي تمام والمختار من شعره ] .
وله كتاب تفضيل أبي نواس على أبي تمام .
8 - أبو ضياء بشر بن يحيى النصيبي له كتاب [ سرقات البحتري من أبي تمام ] .
9 - أحمد بن عبيد الله القطربلي المعروف بالفريد، صنف في أخطاء أبي تمام في الاسلام وغيره .
10 - الشيخ يوسف البديعي القاضي بالموصل المتوفى 1073 له كتاب [ هبة الأيام فيما يتعلق بأبي تمام ] في 309 صحيفة طبع بمصر سنة 1352 .
11 - الشيخ محمد علي بن أبي طالب الزاهدي الجيلاني المتوفى بنبارس الهند



/ صفحة 341 /
سنة 1181 .
12 - سيدنا المحسن الأمين العاملي مؤلف أعيان الشيعة .
13 - عمر فروخ من كتاب العصر الحاضر، له تأليف في المترجم طبع ببيروت في مائة صحيفة .
وتوجد ترجمته في طبقات ابن المعتز ص 133 . فهرست ابن النديم ص 235 . تأريخ الطبري 11 ص 9 . فهرست النجاشي ص 102 . تأريخ الخطيب 8 ص 248 . مروج الذهب 2 ص 283 و 357 . معجم البلدان 3 ص 37 . تأريخ ابن عساكر 4 ص 18 - 27 . نزهة الألباء ص 213 . تأريخ ابن خلكان 1 ص 131 . رجال ابن داود . خلاصة العلامة . مرآت الجنان 2 ص 102 . معاهد التنصيص 1 ص 14 . شذرات الذهب 2 ص 72 . مجالس المؤمنين ص 458 . كشف الظنون 1 ص 501 . رياض الجنة للزنوزي في الروضة الرابعة . أمل الآمل ص 8 . منتهى المقال ص 96 . منهج المقال ص 92 .
تكملة أمل الآمل لسيدنا الصدر الكاظمي . دائرة المعارف للبستاني 2 ص 56 . دائرة المعارف الإسلامية 1 ص 320 . دائرة المعارف لفريد وجدي 2 ص 685 - 693 . وغيرها .
ولادته ووفاته :
لم نجزم فيهما بشئ مما في المعاجم لتكثر الاختلاف فيها، وكان الحقيق أن يؤخذ بالمنقول عن ابنه تمام إذ أهل البيت أدرى بما فيه، لكن اختلاف المعاجم في المنقول عنه يسلب الثقة به، فمجموع الأقوال : أنه ولد سنة 172، 188، 190، 192 وتوفي سنة 228، 231، 232 بالموصل ودفن بها وبنى عليه أبو نهشل بن حميد الطوسي قبة خارج باب الميدان على حافة الخندق ورثاه علي بن الجهم بقوله :

غــــاضت بدائــــع فطـــنة الأوهام * وغــــدت عــــليها نكــــبة الأيـــام
وغدا القريض ضئيل شخص باكيا * يشكــــو رزيــــته إلــــى الأقــــلام
وتــــأوهت غــــور القـــوافي بعده * ورمــــى الـزمان صحيحها بسقام
أودى مثقــــفها ورائــــد صعــــبها * وغــــدير روضــــتها أبــــا تـــمام
وقال الحسن بن وهب يرثيه :



/ صفحة 342 /
فجع القريض بخاتم الشعراء * وغدير روضتها حبيب الطائي
ماتا معا فتجــــاورا في حفرة * وكــــذاك كانا قبل في الأحباء
قد يعزى البيتان إلى ديك الجن .
ورثاه الحسن بن وهب أيضا بقوله من قصيدة :

سقى بالموصل القبر الغريبا * سحـــايب ينــــتحبن له نحيبا
إذا أظلــلـــنـــــــه أظللن فيه * شعـــيب المزن يتبعها شعيبا
ولطمــــن البروق بـه خدودا * وأشقــــقن الرعود به جيوبا
فــــإن تراب ذاك القبر يحوي * حبيــــبا كان يدعى لي حبيبا
ورثاه محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم، وقيل : إنه لأبي الزبرقان عبد الله بن الزبرقان الكاتب مولى بني أمية بقوله:

نبأ أتــــى مــــن أعـظم الأنباء * لمــــا ألــــم مقــــلقل الأحشاء
قالوا : جبيب قد ثوى فأجبتهم * ناشــــدتكم لا تجعــــلوه الطائي
سئل شرف الدين أبو المحاسن محمد بن عنين عن معنى قوله :

سقى الله روح الغوطتين ولا ارتوت * من المــــوصل الجــدباء إلا قبورها
لم حرمها وخص قبورها ؟ ! فقال : لأجل أبي تمام .
خلف المترجم ولده الشاعر تمام، قصد بعد موت أبيه عبد الله بن طاهر فاستنشده فأنشده:

حـــــــياك رب الناس حياكا * إذ بجـــــــمال الوجه رواكا
بغداد من نورك قد أشرقت * وأورق العــــود بجــــدواكا
فأطرق عبد الله ساعة ثم قال :

حــــياك رب النــاس حياكا * إن الــــذي أملــت أخطاكا
أتيت شخصا قد خلا كيسه * ولـــو حوى شيئا لأعطاكا
فقال : أيها الأمير ؟ إن بيع الشعر بالشعر ربا فاجعل بينهما فضلا من المال . فضحك منه وقال : لئن فاتك شعر أبيك فما فاتك ظرفه : فأمر له بصلة . [ غرر الخصايص لوطواط ص 259 ] .
الجواد قد يكبو :
لا ينقضي العجب وكيف ينقضي من مثل أبي تمام العريق في المذهب، والعارف



/ صفحة 343 /
بنواميسه، والبصير بأحوال رجالاته، وما لهم من مآثر جمة، وجهود مشكورة، وهو جد عليم بما لأضدادهم من تركاض وهملجة في تشويه سمعتهم، وإعادة تاريخهم المجيد المملوء بالأوضاح، والغرر، إلى صورة ممقوتة، محفوفة بشية العار، مشفوعة كل هاتيك بجلبة ولغط، وقد انطلت لديه أمثلة من تلكم السفاسف حول رجل الهدى، الناهض المجاهد، والبطل المغوار، المختار بن أبي عبيد الثقفي، فحسب ما قذفته به خصماءه الألداء في دينه وحديثه ونهضته حقايق راهنة حتى قال في رائيته المثبتة في ديوانه ص 114 .

والهــــاشميون استقلت عيرهم * مــــن كــــربلاء بـــأوثق الأوتار
فشفــــاهم المختار منه ولم يكن * فــــي ديــــنه المخـــتار بالمختار
حتى إذا انكشفت سرائره اغتدوا * منــــه بــــراء السـمع والأبصار
ومن عطف على التاريخ والحديث وعلم الرجال نظرة تشفعها بصيرة نفاذة علم أن المختار في الطليعة من رجالات الدين والهدى والاخلاص، وأن نهضته الكريمة لم تكن إلا لإقامة العدل باستيصال شأفة الملحدين، واجتياج جذوم الظلم الأموي، وإنه بمنزح من المذهب الكيساني، وإن كل ما نبزوه من قذائف وطامات لا مقيل لها من مستوى الحقيقة والصدق، ولذلك ترحم عليه الأئمة الهداة سادتنا : السجاد والباقر والصادق صلوات الله عليهم، وبالغ في الثناء عليه الإمام الباقر عليه السلام، ولم يزل مشكور عند أهل البيت الطاهر هو وأعماله . وقد أكبره ونزهه العلماء الأعلام منهم : سيدنا جمال الدين ابن طاوس في رجاله . وآية الله العلامة في الخلاصة . وابن داود في الرجال . والفقيه ابن نما فيما أفرد فيه من رسالته المسماة بذوب النضار . والمحقق الأردبيلي في حديقة الشيعة . وصاحب المعالم في التحرير الطاووسي . والقاضي نور الله المرعشي في المجالس . وقد دافع عنه الشيخ أبو علي في منتهى المقال . وغيرهم .
وقد بلغ من إكبار السلف له أن شيخنا الشهيد الأول ذكر في مزاره زيارة تخص به ويزار بها وفيها الشهادة الصريحة بصلاحه ونصحه في الولاية وإخلاصه في طاعة الله ومحبة الإمام زين العابدين، ورضا رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله



/ صفحة 344 /
عليهما وآلهما عنه، وأنه بذل نفسه في رضا الأئمة ونصرة العترة الطاهرة والأخذ بثأرهم .
والزيارة هذه توجد في كتاب " مراد المريد " وهو ترجمة مزار الشهيد للشيخ علي بن الحسين الحايري، وصححها الشيخ نظام الدين الساوجي مؤلف " نظام الأقوال " ويظهر منها أن قبر المختار في ذلك العصر المتقادم كان من جملة المزارات المشهورة عند الشيعة، وكانت عليه قبة معروفة كما في رحلة ابن بطوطة 1 ص 138 .
ولقد تصدى لتدوين أخبار المختار وسيرته وفتوحه ومعتقداته وأعماله جماعة من الأعلام فمنهم :
1 - أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي المتوفى 157، له كتاب [ أخذ الثار في المختار ] .
2 - أبو المفضل نصر بن مزاحم المنقري الكوفي العطار المتوفى 212، " أخبار المختار " .
3 - أبو الحسن علي بن عبد الله بن أبي سيف المدايني المتوفى 215 / 25 " أخبار المختار " .
4 - أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي المتوفى 283، له " أخبار المختار " .
5 - أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلودي المتوفى 302، له " أخبار المختار " .
6 - أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي الصدوق المتوفى 381، له " كتاب المختار " .
7 - أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفى 469، له [ مختصر أخبار المختار ] .
8 - أبو يعلى محمد بن الحسن بن حمزة الجعفري الطالبي خليفة شيخنا المفيد، له " أخبار المختار " .
9 - الشيخ أحمد بن المتوج له " الثارات " أو " قصص الثار " . منظومة .
10 - الفقيه نجم الدين جعفر الشهير بابن نما المتوفى 645، له (ذوب النضار



/ صفحة 345 /
في شرح الثار) طبع برمته في المجلد العاشر من البحار .
11 - الشيخ علي بن الحسن العاملي المروزي له [ قرة العين في شرح ثارات الحسين ] فرغ منه . 20 رجب سنة 1127 .
12 - الشيخ أبو عبد الله عبد بن محمد له [ قرة العين في شرح ثار الحسين ] طبع مع [ نور العين ومثير الأحزان ] .
13 - السيد إبراهيم بن محمد تقي حفيد العلامة الكبير السيد دلدار علي النقوي النصير آبادي له [ نور الأبصار في أخذ الثار ] .
14 - المولى عطاء الله بن حسام الهروي له (روضة المجاهدين) طبع سنة 1303 .
15 - المولى محمد حسين بن المولى عبد الله الارجستاني، له " حملة مختارية " .
16 - الكاتب الهندي نواب علي نزيل لكهنو له " نظارة انتقام " طبع في جزئين .
17 - الحاج غلام علي بن إسماعيل الهندي، له " مختار نامه " .
18 - سيدنا السيد محسن الأمين العاملي له [ أصدق الأخبار في قصة الأخذ بالثار ] ط .
19 - السيد حسين الحكيم الهندي، له ترجمة (ذوب النضار) لابن نما .
20 - السيد محمد حسين بن السيد حسين بخش الهندي المولود 1290، له (تحفة الأخيار في إثبات نجاة المختار) .
21 - الشيخ ميرزا محمد علي الأوردبادي، له [ سبيك النضار .
أو : شرح حال شيخ الثار ] في مائتي وخمسين صحيفة وقد أدى فيه حق المقال، وأغرق نزعا في التحقيق، و لم يبق في القوس منزعا، قرأت كثيرا منه ووجدته فريدا في بابه لم يؤلف مثله، جزاءه الله عن الحق والحقيقة خيرا .
وله في المختار قصيدة على روي قصيدة أبي تمام عطف فيها على مديحه إطراء صاحبه ومشاطره في الفضيلة : إبراهيم بن مالك الأشتر وهي :

يهنيك يا بطل الهــــدى والثار * ما قد حويت بمــــدرك الأوتار
لك عــــند آل محمد كم من يد * مشكــــورة جــلت عن الأكبار
عرفتك مقبلة الخطوب محنكا * فيــــه جنان مهــــذب مغــوار



/ صفحة 346 /
أضرمت للحرب العــوان لظى بها * أضحــــت بــنو صخـــر وقود النار
وأذقــــت نغل سمية بــأس الهدى * وأميــــة كــــأس الــــــردى والعار
فــــرؤا هــــوانا عــند ضفة خاذر * بمهنــــد عــــند الــــكــــــريهة وار
فــــرقت جـــمعهم العرمرم عنوة * يــــوم الهــــياج بفــــيلــق جـــــرار
وفوارس من حزب آل المصطفى * أسد الوغى خـــــواضة الأخـــــطار
وبواسل لم تغــــــرهم وثباتهـــــم * إلا بـــــكـــــل مـــــدجـــــج ثـــــــوار
لم يعرفوا إلا الإمـــــام وثــــــاره * فتشـــــادقوا فيـــــها بـــــيا للثــــــار
فتـــــفرقت فـــــرقا عــــلوج أمية * مـــــن كـــــل زنـــــاء إلـــــى خمار
وأخـــــذت ثـــــارا قـبله لم تكتحل * عـــــلوية مـــــذ أرزئـــــت بالــــثار
وعمــرت دورا هدمت منذ العدى * بالطف قـــــد أوردت بـــــرب الــدار
عـــظم الجراح فلم يصب أعماقه * إلاك يا حيـــــيت مـــــن مــسبـــــار
فـــــي نجـــــدة ثقـــفية يسطو بها * في الروع مــــن نخع هزبر ضاري
النـــــدب إبراهيم من رضخت له * الصيـــــد الأبـــــاة بملتــــقى الآصار
من زانه شرف الهدى في سـؤدد * وعـــــلا يـــــفوح بهـــــا أريـج نجار
حشو الدروع أخو حجى من دونه * هضــب الرواسي الشم في المقدار
إن يحـــــكه فاللـــــيث في حملاته * والغـــــيث فـــــي تسكـــابه المدرار
أو يحـــــوه فقلوب آل محـــــمـــــد * المصـــــطفين الســـــادة الأبـــــرار
مــــا إن يخض عند اللقافي غمرة * إلا وأرســـــب مـــــن سطـــا بغمار
أو يمـــــم الجـــــلى بعـــــزم ثاقب * إلا ورد شـــــواظـــــهـا بــــــــــأوار
المـــــرتدي حـــلل المديح مطارفا * والممتطـــــي ذلـــــلا لكـــــل فخــار
وعـــــليه كل الفــضل قصر مثلما * كـــــل الثـــــنا قـــصر على المختار
عـــــن مجــــده أرج الكبا وحديثه * زهـــــت الــــــروابي عنه بالأزهار
ومـــــآثر مثل النجـــــوم عــدادها * قـــــد شفعـــــت بمحــــــاسن الآثار
وكفـــــاه آل محـــــمد ومديحهــــم * عـــــما ينـــــضد فـــــيه مـن أشعار
أسفــي على أن لم أكن من حزبه * وكمثلهم عنـــــد الكـــــفاح شعاري



/ صفحة 347 /
فهنــــاك إمــــــا مــــــوتة أرجو بها * أجــــر الشهادة فــــي ثــــناء جاري
أو أنــــني أحــــظى بنــــيل المـبتغى * مــــن آل حــــرب مــــــدركا أوتاري
وأخـوض في الأوساط منهم ضاربا * ثبج العــــدى بالمقــــضــــب البـــتار
ولأثكلــــن أرامــــلا فــــي فــــتـــية * نشــــئوا عـــلى الالحاد في استهتار
ومشيخــــة قــــد أورثـــوا كل الخنا * والعــــار أجــــرية مــــن الــــكــفار
لكن على ما في من مضض الجوى * إذ لــــم أكن أحــــمي هـناك ذماري
لم تعــــدني تــــلك المـــــواقف كلها * إذ أن ما فعـــــلوا بهــــا مخـــتاري
فلقــــد رضــــيت بمـا أراقوا من دم * فيهــــا لكــــل مــــذمــــم كــــفــــــار
ولأشفــــيــــن النفــس منهم في غد * عــــند اشتــــباك الجحفــــــل الموار
يــــوم ابــــن طه عــــاقد لبــــنــوده * وجــــنوده تلــــتاح فــــي إعــــصــار
تشــــوي الــــوجوه لظى به نزاعة * لشــــوى الكــــماة بأنــــصل وشــفار
فهنـالك الظفر المريح جوى الحشا * من رازح فــــي كــــربــــه بــــأسـار
ويتــــم فيه القصد من عصب الولا * لبــــني الهــــدى كــــالسيد المـــختار
يا أيــــها الــــــندب المؤجج عزمه * وأميــــن آل المصــــطفى الأطــــهار
يا نجعة الخطب الملــــم وآفـــــــــة * الكـــــرب المهم ونــــدحــــة الأوزار
لا غــــرو إن جهلت علاك عصابة * فالقــــوم فــــي شغــــل عن الإبصار
فلقد بزغــــت ذكــا وهل يزرى بها * إن تعش عــــنها نــــظرة الإبصار؟!
لك حيث مرتبع الفخــــار مبــــائة * ولمن قــــلاك مــــزلة الإغــــــــــرار
ومبـــوء لك فــــي جوار محــــمد * ومــــلاذ عــــترته حــــماة الجــــــــار
فلئن رمــــوك بمحــفظ من إفكهم * فالطــــود لا يلــــوى بعــصف الذاري
أو يجحدوك مناقــــبا مــــأثــــورة * مشكــــورة فــــي الـــــورد والاصدار
فلك الحقيــــقة والــوقيعة لم تزل * عن قدس مجــــدك فــــي شفـــير هار
فتهــــــن محتبــــيا بسؤددك الذي * تزور عــــنه جــــلبــــة المــــهــــــذار
خــــذها إليــــك قــصيدة منضودة * مــــن جوهــــر أو مــــن سبـيك نضار
لــــم يحــــكها نجم السماء لأنها * بزغــــت بــــشارقة مــــن الأقــــمـــار



/ صفحة 348 /
كـــلا ولا ضاهى محاسن نظمها * مــــا عـــن حطيئة جاء أو بشار
هــــي غادة زفت إليك ولم يشن * إقبــــالها بــــدعــــارة ونــــفـــار
هــــبت عــــليك نســــائم قدسية * حــــيت ثــــراك بــــرحمة ويسار
وسقى لإبراهيم مضطجع الهدى * ودق الغــــمام المـــرزم المكثار
مـا نافح الروض النسيم مشفعا * سجــــع البـــلابل فيه شدو هزار
يتــــلو كمــــا يتـلى بكل صحيفة * مــــر العــــشي وكــــرة الإبـــكار

ملكة
12/05/2008, 08:48 PM
وقفة مع جماليات رواية "بيدرو بارامو" لخوان رولفو </STRONG>
د.ماجدة حمود </STRONG>
علاقة الرواية بالسيرة الذاتية:‏ </STRONG>
يكشف لنا خوان رولفو في كتابه "سيرة ذاتية مسلحة" أن أحد الدوافع التي دفعته إلى تأليف روايته "بيدرو بارامو" هي زيارته لقريته ومرتع طفولته بعد أن هجرها ثلاثين عاماً، فعاد إليها ليجدها طللاً، تلف الوحدة شوارعها وديارها، ولا يعمّرها سوى حفيف شبحي، حفيف أشجار الكازورينا تعصف بها الريح (1).‏ </STRONG>
آلمت الوحدة الكاتب، وسيطرت على مخيلته، أثناء كتابة الرواية، أصوات الحفيف الشبحي، لهذا كانت هذه الأصوات مهيمنة على فضاء الرواية، كما كانت أحد عنوانين مبدئيين لها.‏ </STRONG>
قد بدت لنا قرية (كومالا) أحد الأبطال الأساسيين في الرواية، عايشناها عبر ذاكرة زمن مضى، هو زمن طفولة الراوي، فوجدناها في قمة بهائها، كما عايشناها عبر زمن حاضر انحدر بها إلى درك البؤس والجفاف!‏ </STRONG>
لكن التجربة الأهم التي لمسنا ملامحها في الرواية هي التجربة التي تعرض لها (خوان رولفو) في طفولته، إذ قتل والده وهو في السادسة من عمره، فظلت هذه الحادثة جرحاً نازفاً في أعماق روحه، تركت بصمتها على إبداعه! وارتسمت في ذاكرته آلام تلك اللحظة التي أخبرته فيها أمه بموت أبيه، فجسّد لنا حزن والدته الغارق في اللوعة "لقد مات أبوك"...‏ </STRONG>
ثم كما لو أن نوابض حزنها قد أفلتت، دارت حول نفسها مرة ثم أخرى، ومرة ثم أخرى، إلى أن وصلت يدان إلى كتفيها، وتمكنتا من وقف تحرك جسدها... وكأن الأرض تحتها غارقة بالدموع، ثم النحيب، بكاء ناعم، لكنه حاد مرة أخرى، والحزن الذي يلوي الجسد (2).‏ </STRONG>
تسجل ذاكرة (رولفو) لحظة الصدمة، حين أخبر بمقتل أبيه، فانتزعت منه أفراح الطفولة، وسلب الإحساس بالأمان! وقد أسقط هذه التجربة على شخصيات روايته! وخاصة على الراوي البطل (خوان بريثيادو) الذي يتماهى مع الكاتب في كثير من المشاهد (البحث عن الأب، موت هذا الأب، معايشة أرواح الموتى، وبؤس المكان (كومالا)...) وكذلك يشاركه في النصف الأول من اسمه (خوان).‏ </STRONG>
ولعل المشهد الذي يعكس ردود فعل أمه، حين فاجأها النبأ الحزين، هو أكثر المشاهد حياة في وجدان الكاتب! لهذا أسقطه على أم الراوي، وقدّمه عبر مشهد (سينمائي) مؤثر في حركته (انفلات نوابض الحزن إلى درجة استمرت الأم في الدوران حول ذاتها إلى أن أوقفتها يدان) كان حزنها طاغياً، تجلت ردود فعله على جسدها وعلى الطبيعة من حولها، حتى إنه منع النهار من القدوم، فتناثرت بقايا ضوء حول الأم، أما الأرض فقد بدت غارقة بدموعها!‏ </STRONG>
يختار (رولفو) لهذا المشهد إطاراً زمنياً أسقط عليه حزنه! فجعل وصول الخبر الأليم في لحظة الفجر، حيث أحدث انقلاباً في الطبيعة! فبدا النهار ظلاماً دامساً أضاع نجومه "لم يكن ثمة نهار يبتدئ وإنما بداية ليل آخذ في القدوم".‏ </STRONG>
لقد أحدث هذا الخبر خللاً في لحظة الشروق، فأدبر نوره، وسادت الألوان الحزينة (الرصاصية، الرمادية، الشاحبة) فضاء هذا المشهد!‏ </STRONG>
لم يمت الزوج ميتة عادية، لهذا كان الألم الذي عانته الأم أكثر حرقة، وغصة الفقد أكثر لوعة، فقد آلمها أن يحاصرها إحساس بالظلم والعجز معاً، حتى الانتقام لن يعيد الحياة لزوجها القتيل! لذلك لم يكن أمامها سوى البكاء، الذي تبدى لنا بكل أشكاله (الغرق في الدموع، النحيب، بكاء ناعم لكنه حاد).‏ </STRONG>
بناء الرواية:‏ </STRONG>
هاجم بعض النقاد رواية خوان رولفو "بيدرو بارامو" لافتقادها الوحدة العضوية، مما أحبط الكاتب، ودعاه إلى التأكيد بأن أولى اهتماماته كانت البنية!‏ </STRONG>
اعتمد بناء (بيدرو بارامو) أسلوب الرواية الحديثة، التي تهدف إلى إشراك المتلقي كي يملأ بمخيلته الفراغات التي تركها المؤلف، خاصة أنها تقدم عالماً مستحيلاً، هو عالم الموتى، لذلك لم يكن بوسع صوت المؤلف أن يتدخل!!‏ </STRONG>
لكن رغم ذلك شكلت شخصية (بيدرو بارامو) أحد العوامل التي نسجت وحدة الرواية، وحفظت بنيتها من التفكك، باعتقادنا، إذ كانت محوراً تدور حوله معظم الكوابيس والأحداث والشخصيات (الراوي البطل، ابنه، زوجته، وكيله، رجل الدين (الأب رينتيريا...) فبدا (بيدرو) مؤثراً في حياتهم وفي موتهم! في حين اختفى المؤلف وترك "شخوصه يتحدثون في حرية، وهو ما عزّز انطباعاً خاطئاً بعدم وجود بنية...‏ </STRONG>
هناك بنية غير أنها تتأسس على الصمت على خيوط معلقة، مشاهد مقطوعة، يحدث فيها كل شيء في زمن آني، هو ليس بزمن (3) مألوف.‏ </STRONG>
بدا الخطاب الروائي مقسماً إلى وحدات أشبه بمقاطع شعرية، يؤسسها مبدأ ثابت يعتمد اللغة الذاتية في التعبير، لهذا سيطر ضمير المتكلم (صوت الراوي المشارك، وأعماق الشخصيات) من أجل تقديم الرؤية الداخلية العميقة للشخصية، وإن كان يتدخل أحياناً في ضمير الغائب ليسرد علينا ذكريات أو مواقف تبرز وجهة نظر أخرى.‏ </STRONG>
نوّع الروائي بين السرد والمشهد الحواري، وقد تميّزت لغة الحوار بشدة التركيز والفاعلية، وقد كان مثل هذا الانضباط اللغوي نتيجة خبرته في القصة القصيرة باعتقادنا.‏ </STRONG>
ومما أضفى حيوية على بنية الرواية تعمّد الكاتب المفاجأة من أجل تشويق المتلقي، إذ إن الراوي المشارك أثناء طريقه إلى (كومالا) يلتقي بشخص يرافقه في طريقه إليها، فيكتشف أنه شقيقه (ابن بيدرو بارامو) وأن لديه الكثير من الأشقاء في القرية، بعد أن كان يظن نفسه الابن الوحيد له!‏ </STRONG>
نُفاجأ بطريقة غير مألوفة للاعتذار عن القتل يمارسها ميغيل (ابن بيدرو) الذي يصعد إلى غرفة (آنا) ليلاً ليطلب الصفح منها (بعد قتله أبيها) فتقابله بصورة تناقض أفق توقع المتلقي، فنسمعها تقول: "وما إن وصل حتى عانقني، كما لو كانت هذه هي الطريقة للاعتذار عما اقترفه، وابتسمت له".‏ </STRONG>
تبدو الفتاة في غاية الطيبة في تعاملها مع القاتل، وهي تطبق التعاليم التي لقنها إياها (الأب رينتيريا) "فكرت بما كنت قد علمتني إياه: يجب علينا أن لا نكره أحداً أبداً، ابتسمت لأقول له ذلك".‏ </STRONG>
وبذلك تحل لغة الحب محل لغة الكره، كأن الفتاة هنا تريد أن تفتح أفقاً آخر أمام القاتل، عساها تستطيع نقله من بؤس عالمه إلى روعة عالم أرحب!!‏ </STRONG>
ومما أضفى الحيوية على بناء الرواية، باعتقادنا، تعدد وجهات النظر في تقدم الشخصية الرئيسية (بيدرو) وغير الرئيسية (الراوي المشارك) فمثلاً دميانا وأخوها (اللذان التقاهما الراوي في القرية لحظة انهيارها) فنجدهما يختلفان في وصفه، فيقدمان رؤية مناقضة، فتقول الأخت لأخيها "إنه يتلوى على نفسه كالمحكوم باللعنة، وله كل مظاهر الإنسان الشرير..." أجابها أخوها برأي مناقض "لا إنه رجل بائس... لابد أنه متصوف من هؤلاء الذين يقضون حياتهم بالتنقل بين القرى "ليروا ما تمنحهم العناية الإلهية" لكنه هنا لن يجد حتى ما يخلصه من الجوع..." (4)‏ </STRONG>
شتان بين رؤية الأخت (رجل شرير) يتوجب الابتعاد عنه، وبين رؤية الأخ (رجل متصوف) يعيش على بركة الإيمان، يجب مساعدته! وإن كانت كلتاهما لا تقدمان صورة حقيقية لـ (خوان بريثيادو) فهو يعيش انهيار ما قبل الموت!.‏ </STRONG>
جماليات المكان:‏ </STRONG>
يرى بعض النقاد أن عنوان رواية "بيدرو بارامو" عنوان مخادع، لأن المكان هو بطلها الحقيقي، لا الشخصية، فقد تأثر خوان رولفو إثر زيارته للقرية التي ولد فيها، وعاش بعيداً عنها حاملاً أجمل الذكريات، وحين رآها "منطفئة" "وحيدة" أصيب بالصدمة فقد شوّهها هجران أهلها! فأسقط خيبته على الراوي المشارك (خوان بريثيادو) فتماهى صوت المؤلف مع صوته، لهذا يسأل أحد أبنائها:‏ </STRONG>
ـ ولماذا تبدو كئيبة هكذا!!/ ـ إنه الزمن يا سيدي..."‏ </STRONG>
نعايش هنا وقع الزمن الذي لا يعرف الحياد، وإنما تعبث أصابعه في الوجود والأمكنة، فتزرع الكآبة حيثما حلّلت، دون أن تفرّق بين ملامح مكان أو إنسان!‏ </STRONG>
لهذا نهب الزمن جماليات (كومالا) وارتدّت الذاكرة باحثة عن صورته التي ارتسمت (في زمن مضى) هاربة من صورته (في زمن حاضر) مما يتيح للمتلقي معايشة مشهدي الجمال والقبح، فينتقل من روعة زمن مضى إلى بؤس زمن حاضر يجثم بثقله على الروح!‏ </STRONG>
يجسد المشهد الأول عبر ذاكرة أم الراوي (خوان بريثيادو) التي عاشت تتنهد شوقاً إلى (كومالا) تحلم بالعودة إليها، لهذا توصي ابنها، أثناء احتضارها، بتحقيق حلمها!‏ </STRONG>
يأتي ابنها إلى (كومالا) حاملاً معه عينيها اللتين لم تريا فيها سوى الجمال، حيث "يوجد أروع منظر لسهل أخضر تخالطه بعض الصفرة التي تنشرها الذرة الناضجة..." (5)‏ </STRONG>
لهذا توصيه بأن يذهب إلى (كومالا) لا ليرى أباه فقط، وإنما ليلتقي بروحها بعد موتها، وسيسمع هناك أصوات ذكرياتها التي تمحو موتها!‏ </STRONG>
اكتنزت القرية بأفراح الأم، لهذا دعتها "كنزيّة" إذ خبأت فيها ذكريات طفولتها، فكانت لا تشمّ فيها سوى "رائحة عسل مراق..." ولا تتذوق سوى "طعم أزهار البرتقال" ولن تتنفس في كل الأوقات سوى الهواء المنعش، مما يضفي على الأشياء ظلاً جميلاً، ويمنح الحياة روحاً شفافة كالهمسة، فيختلط علينا الأمر هل نسمع حفيف نسيم الأشجار أم همسات الحياة إذ "يبدّل الهواء لون الأشياء حيث يهوّي الحياة وكأنه الهمس، كأنه همسة نقية من همسات الحياة" (6).‏ </STRONG>
قد ينقلب هدوء الطبيعة "ترعد السماء فجأة ويهطل المطر". لكن أصوات الطبيعة لن تثير الرعب، لأنها تحمل للإنسان، أجمل المفاجآت "قد يأتي الربيع، ستعتاد هناك على المفاجآت يا بني".‏ </STRONG>
مع تداعيات الأم تنساب ذكريات الحياة اليومية في القرية! فنعايش لحظة نهوض القرية فجراً، إذ تضج بالحياة، ونسمع أصوات العربات التي تأتيها من الجهات الأربع محملة بالخيرات، ونشمّ رائحة الخبز الطازج! لهذا كانت (كومالا) جنتها، وحبها الوحيد، خاصة بعد أن تخلى عنها (بيدرو) "ستجد هناك حبي... ستشعر بأن المرء يتمنى هناك لو يعيش إلى الأبدية".‏ </STRONG>
إن وجهة نظر الأم التي ترى المكان رديفاً للجنة (في زمن مضى) نجد ما يناقضها (في الزمن الحاضر) حين نسمع وجهة نظر الابن، إذ بدا لـه ضريح الآمال، نقيضاً للجنة، يقبع "فوق جمرات الأرض، في فم الجحيم تماماً... إن كثيرين ممن يموتون هناك يعودون بمجرد وصولهم إلى الجحيم بحثاً عن لحافهم". (7)‏ </STRONG>
مع مرور الزمن باتت القرية جحيماً، بل أقسى من الجحيم، لهذا من يأتي لزيارتها بعد الموت يفضل العودة إلى الجحيم، إذ قد يجد فيه ما يخفف قسوة الحر، وهذا ما يفتقده في كومالا!‏ </STRONG>
لهذا لن نستغرب أن الحياة لم تعد تهمس فيها، فقد أفسحت المجال لانتشار همسات الموت، لهذا يصرح ابنها "لقد قتلني الهمس".‏ </STRONG>
هنا نتساءل: هل تغير المكان نتيجة لتغير الزمان؟ أو نتيجة تغيّر الإنسان؟ خاصة بعد استيلاء (بيدرو بارامو) عليه، وإهماله بعد وفاة زوجته (سوزانا) عندئذ باتت "مهجورة" "منطفئة".‏ </STRONG>
اختفت ملامح الجمال التي عايشناها عبر ذاكرة الأم، وتبدّل طعم زهر البرتقال، وبات لها "طعم التعاسة؟ إذ لم تعد تشهد الولادة لدى الإنسان، حتى الطبيعة أصبحت عقيماً، ولم تعد تعرف لحظة الميلاد ما تحمله من مظاهر الجمال (الغيوم، العصافير، العشب) لذلك انتشر فيها الهواء "القديم والخدر، البائس والنحيل مثل كل شيء هرم" لينبئ باقتراب النهاية! وبذلك غادرها رونق الحياة، وسيطرت عليها رائحة صفراء هي رائحة الموت! وباتت "مطلية كلها بالتعاسة" ما إن يراها المرء حتى تصفعه الكآبة! حتى إن قسيس (كونتلا) يخبرنا "إننا نحيا في أرض تعطي كل شيء بفضل العناية الإلهية، ولكن كل شيء تعطيه حامض..." يؤكد كلامه (الأب رينتيريا) "هذا صحيح حتى البرتقال والريحان"‏ </STRONG>
حتى أمطار (كومالا) لم تعد تجلب الفرح، بل صارت تجتثه وتمطر نجوم سمائها، فبات ليلها أشد سواداً، وأكثر كآبة، فلم يجد الأب (رينتيريا) اسماً يدعوها به سوى "وادي الدموع" فقد اختفت منها همسات الحياة التي عايشناها سابقاً.‏ </STRONG>
حين هجر الإنسان القرية هجرتها الحياة وسكنتها أصداء الموتى، فتحولت الغرف الموحشة والمهجورة إلى قبور، كأن أصوات الحياة في القرية قد انطفأت، بعد أن أنهكها الاستعمال، وتبدلت معالم الفرح إلى حزن، حتى إن أصداء القهقهات التي توحي بفرح الحياة عادة باتت هرمة!‏ </STRONG>
الغرائبية في رواية "بيدرو بارامو"‏ </STRONG>
تعدّ رواية "بيدرو بارامو" مثلاً أعلى للغرائبية التي تنأى عن (الفانتازيا) لاقترابها من عالم الإنسان، وإن غامرت بدخول عوالم مجهولة، فهي تظل ملتحمة بهمومه وقضاياه، فقد عايشنا فيها إشكالية الموت الذي هو أحد إشكاليات الوجود الإنساني، بعد أن جعله الروائي جزءاً من الحياة فهدّم الحاجز بينهما! وأتاح الفرصة لاختلاط الموتى بالأحياء، فاستطاع أن يمنح شخصياته فرصة الحياة تحت الأرض وفوقها!‏ </STRONG>
وقد رأى (ماريو فارغاس يوسا) هذه الرواية إحدى القفزات النوعية الأكثر فاعلية في الأدب اللاتيني الأمريكي المعاصر، إذ صيغت ببراعة، إلى درجة يصعب معها تحديد مكان القصة أو زمانها، وبالتالي تحديد أين ومتى حدثت النقلة (الزمانية والمكانية) فقد تمت شيئاً فشيئاً، وبصورة تدريجية من خلال تلميحات وإشارات مبهمة، وآثار باهتة، تكاد لا تسترعي انتباهنا حين نمر بها، لكننا سنلاحظها لاحقاً فقط وبصورة استرجاعية، خاصة حين نتأمل تراكم الأحداث القريبة التي تتيح لنا أن نعي بأن (كومالا) ليست قرية كائنات حية، وإنما هي قرية أشباح (8).‏ </STRONG>
يدهشنا في رواية "بيدرو بارامو" تواصل الأموات مع الأحياء، فحين وصل الراوي البطل إلى (كومالا) تقول له (دونيا أدوفيخس) وهي صديقة أمه التي توفيت منذ أسبوع "أخبرتني بأنك ستأتي" فيجيبها الابن (الراوي) "أمي توفيت" فترد عليه قائلة "هذا هو إذن السبب الذي جعل صوتها ضعيفاً"‏ </STRONG>
يتم التواصل بين الصديقتين الحميمتين، رغم موت إحداهما! فنعايش في هذه الرواية علاقة صداقة أشبه بحلم، إذ لم يتم التعاهد بين الصديقتين على الحب والوفاء بل على أمر لا يخطر على بال أحد، فقد تعاهدتا على الموت معاً، وبما أن أم الراوي قد سبقت صديقتها، لهذا تقرر اللحاق بها سريعاً!‏ </STRONG>
يصل التوحد بين الصديقتين أقصى حدود اللامعقول، حين يتنبأ أحدهم لأم البطل أن عليها أن لا تضاجع زوجها (بيدرو بارامو) ليلة زفافها لأن القمر هائج، فتطلب من صديقتها النوم مكانها!!!‏ </STRONG>
تبدو لنا هذه الصديقة (دونيا أدوفيخس) امرأة الحدس والتخاطر، مما يتيح لها التواصل مع الموتى، لهذا عاشت حياتها مؤرقة بسماع أنينهم! وهي تعي أنها تمتلك حاسة سادسة هبة منحها إياها الله، وربما لعنة بسبب معاناتها ذلك الأنين!.‏ </STRONG>
تتسع قدرات هذه المرأة (الحدسية) التي تعتمد التراسل عن بعد (التخاطر) فنجدها تتواصل مع الحيوان كتواصلها مع الإنسان، حتى أنها تسمع وقع حوافر حصان (ميغيل بيدرو بارامو) رغم أنه قُتل إثر مقتل صاحبه! وقد تعدى ذلك إلى الغوص في أعماقه، والإحساس بمعاناته الداخلية، إذ "ربما المسكين لا يحتمل تبكيت نفسه". فهو قد يكون سبب مقتل صاحبه، وقد لاحظت (دونيا أدوفيخس) أنه أبدى من الحزن على صاحبه (ميغل) أكثر مما أبداه والده (بيدرو بارامو) فهو "لم يأكل ولم ينم ولا يفعل شيئاً سوى العودة إلى الطواف فحسب... كأنه يشعر بالتمزق والتآكل في داخله".‏ </STRONG>
قدمت لنا آلام الحصان بصورة مدهشة، حتى إن جميع أهالي القرية أحسوا بها، وحين رأته إحدى النساء يجري وقوائمه منحنية كما لو كان سينكفئ على وجهه قالت "سيحطم هذا الحيوان رأسه" بعد ذلك رأته وهو ينتصب بجسده، دون أن يخفف من سرعته، وهو يلوي بعنقه إلى الوراء، وكأنه مرتعب من شيء خلّفه وراءه" (9).‏ </STRONG>
وقد أثَّر حزن حصان (ميغيل) بأقسى القلوب (بيدرو بارامو) لهذا وجدناه يأمر بإنهاء أحزانه! وقتله كي يلحق بصاحبه!‏ </STRONG>
يدهشنا حزن هذا الحصان على صاحبه وذكّرنا بحزن الحصان (مهيوب) على صاحبه (بدري) إثر مقتله في رواية "أرض السواد" لعبد الرحمن منيف (10).‏ </STRONG>
عرفت (دونيا أدوفيخس) بين أهالي القرية ليس بحاستها السادسة فقط، وإنما بإيمانها بالخوارق أيضاً، لهذا يلجأ إليها (ميغيل) حين يعترضه أمر غير مألوف (ضياع قرية خطيبته: كونتلا) قائلاً: "لقد أضعت القرية. كان ثمة ضباب كثير ودخان، ولست أدري أي شيء.. لكني أعلم أن (كونتلا) لا وجود لها، ذهبت بعيداً، حسب تقديراتي، إنني آت لأروي لك أنت ذلك، لأنك تفهمينني، لو أخبرت الآخرين في كومالا لقالوا إني مجنون، كما يقولون عني دائماً" (11).‏ </STRONG>
تعيش المرأة في عالم أقرب إلى الخيال، يعتمد قوانين خاصة، لا علاقة لها بالواقع، فهي تصدق الخوارق، (كاختفاء القرية عن سطح الأرض) في حين لا يؤمن أهالي القرية بذلك، ويعدّونه جنوناً!‏ </STRONG>
وهكذا شكلت البنية الغرائبية لرواية "بيدرو بارامو" ملامح شخصياتها، وهدّمت الفاصل بين الحياة والموت عبر لغة تفيض حساسية، كما عبثت هذه الرواية بالملامح الطبيعية للمكان، فقضت على المعنى الجغرافي وما يحمله من دلالات ثابتة لهذا اختفت القرية عبر الضباب والدخان، كما اختفى الأشخاص وتحولوا إلى أشباح، حفيف صداهم يملأ أجواء القرية!‏ </STRONG>
وقد أمعن الراوي في وصف هذا الصدى الذي أضاع قواه، فبدا مخنوقاً، يخرج من شق ما، ومن عالم بعيد، لكنه واضح يمكن التعرف عليه، ويبدو مترافقاً أحياناً مع الحضور الجسدي لا الشبحي، فمثلاً نجد الأخت (داميانا) تلتقي مع أختها (سيستينا) التي توفيت منذ سنوات طويلة، وتسمع رجاءها في أن تتوسل من أجلها إلى الله!‏ </STRONG>
يستعيد المكان عبر الوصف المؤثر بعض ملامحه الطبيعية، فبعد أن هجرته الحياة! وعلاه غبار الزمن! وبدت شوارعه خالية ونوافذه مشرعة للسماء، تتخللها تفرعات العشب الناشف، أما جدرانه المقشرة فتكشف عن طوبها المتفتت، لكنه سرعان ما ينتقل إلى عالم غرائبي حين يجعل الكاتب حشود الأرواح تهيم في الشارع ليلاً فيغلق الأحياء الأبواب على أنفسهم خوفاً، إذ "ليس هناك من يحب رؤيتهم".‏ </STRONG>
تتسع حدود الغرائبية فتغمر أرض (كومالا) أشباح الموتى "إنهم كثيرون ونحن قليلون جداً، حتى إننا لا نتكلف مشقة الصلاة من أجلهم، ليخرجوا من أحزانهم، لأن صلواتنا لن تكفي لهم جميعاً" (12).‏ </STRONG>
وهكذا يختلط الواقع بالغرائبي اختلاط الأموات بالأحياء، وإن كنا قد لاحظنا طغيان عالم الموتى على الأحياء، فلم يعد ممكناً مساعدة الموتى بالصلاة من أجلهم، إذ عجز الأحياء لندرتهم عن القيام بواجبهم تجاه الأموات لكثرتهم!! مما جعل الحياة أكثر قتامة وبؤساً!‏ </STRONG>
تبدو الغرائبية أيضاً حين يحس الأحياء برائحة الموت لدى مفارقة أحد أبناء قريتهم للحياة، لهذا وجدنا بائعة النبيذ تقول لابنها "أشم أن أحداً في القرية قد مات". فيأتي الحوذي، الذي يسكن بعيداً عنها، ليخبرها بأن زوجته قد ماتت!‏ </STRONG>
ـ لكن الغرائبية الأكثر إدهاشاً في هذه الرواية، باعتقادنا، هي معايشة هموم الموتى داخل القبر، فنفاجأ أن الآلام التي نغصت حياتهم لم تنتهِ بموتهم، بل صحبتهم إلى القبر، فالمرأة التي آلمها عدم تحقق حلمها بإنجاب طفل ستشكو همها للراوي (خوان بريثيادو) حين دفنت إلى جانبه، بسبب العوز الذي لاحقها في حياتها ومماتها، حتى أنها لم تستطع الاستقلال في قبر خاص بها، وقد شكت له أيضاً وحشة الوحدة التي لاحقتها في قبرها، كما لاحقتها في حياتها!‏ </STRONG>
أكسبتها تجربة الحياة والموت حكمة، وأدركت قيمة التفاؤل، لهذا لن تسمح للمخاوف بتدمير حياتها داخل القبر، فلو قارنا بين تفسيرها لأصوات تسمعها فوق القبر بـ (أصوات المطر) وبين تفسير الراوي لها (خطوات تدوس على القبر) مما يثير الخوف في نفسه!‏ </STRONG>
إذاً علّمتها التجارب الحياتية القاسية ومعايشتها للموت ضرورة أن يبحث الإنسان عما يفرحه! لهذا تنصح الراوي ألا يستسلم للمخاوف، ولا يدع الأفكار السوداوية تسيطر عليه وتنغص إقامته الطويلة في القبر! لأن الإنسان ابن أفكاره التي تنعكس على مشاعره وأحاسيسه سواء في حياته أم في مماته!! فتنغص أيامه سواء أكان فوق الأرض أم تحتها، حين يرى الأمور بمنظار التشاؤم!‏ </STRONG>
لا أحد يموت في هذه القرية وتنتهي صلته بالحياة، لهذا شاهد الناس روح (ميغل) تتجول في أنحاء القرية، وتقرع نافذة إحدى النساء، كما كان يفعل أثناء حياته، والمدهش أن روحه كانت ترتدي ملابسه نفسها (السروال الجلدي).‏ </STRONG>
أما (سوزانا) التي تعيش بعيداً عن والدها فقد أحست بزيارته لها ليلاً، وفي الصباح أخبرتها خادمتها بوفاته، فتقول لها لقد جاء لوداعي!‏ </STRONG>
يختلط في تصرفات (سوزانا) الواقع بالكابوس، فتصبح ملامحها أقرب إلى الشخصية الغرائبية، فحين يزورها الأب (رينتيريا) "تقترب منه، فنظر إليها وهي تحيط بيديها الشمعة المشتعلة، ثم تدمج وجهها بالفتيلة المحترقة، حتى اضطرته رائحة اللحم المحترق على هزّها وإطفائها بنفخة واحدة" (13).‏ </STRONG>
كأن المحتضرة تريد أن تنبئ الأب (رينتيريا) بأنها باتت تعيش قوانين حياة أخرى، لذلك لم تعد تبالي بالقوانين الدنيوية المألوفة، لهذا تلتحم بنار الشمعة دون أن يهمها الاحتراق!‏ </STRONG>
حين تموت (سوزانا) تختلط طقوس الحداد بالفرح بصورة غرائبية، مما يجعل المتلقي يعيش عالماً غير معقول! فقد توافدت الناس كأنهم في موسم حج، وجاء سيرك ومغنون، وامتلأ فضاء القرية بالألحان وصرخات السكارى، حتى أصيب الجميع بالصمم! في حين غرق بيت (بيدرو بارامو) بالصمت، حتى التجوال كان يتم بأقدام حافية، والكلام بصوت خافت!!!‏ </STRONG>
هنا نتساءل: ما السبب في اختلاط طقوس الحداد بالفرح؟ هل هو انتقام من (بيدرو بارامو) وتدمير لهيبته، بعد أن كثر فساده! أم هو تعبير عن الفرح بخلاص (سوزانا) من آلامها ومن حياتها مع زوج مثل (بيدرو)؟‏ </STRONG>
جماليات الخاتمة:‏ </STRONG>
أوحى لنا مشهد موت البطل (بيدرو بارمو) في الخاتمة بان الرواية تنسجها خيوط بناء فني محكم، فقد أنهت حياة الشخصية التي كانت الافتتاحية تبحث عنها بناء على وصية أم لابنها في ضرورة أن يرى أباه (بيدرو) في كومالا.‏ </STRONG>
عايشنا في الخاتمة لحظات احتضار هذا البطل، وتأملاته وهو يراقب موت كل عضو من أعضائه على حدة! فيحس في تلك اللحظة بوحدة مع الكون، فهو يتماثل مع شجرة تفلت أوراقها ورقة ورقة! فتنطقه تلك اللحظات بحكمة بسيطة لكنها تشكل حقيقة أزلية "الجميع يتخذون نفس الطريق، الجميع يذهبون".‏ </STRONG>
تحث الخاتمة المتلقي على التأمل، ومما أكسب هذه الدعوة فرادة أنها جاءت على لسان محتضر، فتتيح للمتلقي فرصة عيش هذه التجربة على صعيد تخييلي قبل أن يعيشها على صعيد واقعي! فربما يصل إلى حكمة تجعله يتقبل الموت بهدوء، إذ ثمة عدالة إلهية توحّد نهاية الجميع، فالموت ينتظر كل الكائنات الحية! لا يمكن لأحد أن يفلت منه!‏ </STRONG>
المدهش في الخاتمة هذا التنوع اللغوي، فبدت اللغة الحكيمة (المستمدة من معاناة اللحظات الأخيرة للمحتضر) إلى جانب اللغة الشعرية (المستمدة من تجربة حبه لـ (سوزانا)، فقد صاحبته ذكراها الجميلة حتى آخر لحظة من حياته).‏ </STRONG>
أمام الموت لم يجد (بيدرو) أمامه سوى ذكرى الحب يلجأ إلى ظلالها يتفيؤها، رغم ما حملته له هذه العلاقة من إحباطات، تجلت في قوله "فقدت عيني وأنا أتطلع إليك" إذ لم تتغير أحاسيسه بعد موت (سوزانا) واقترابه من النهاية ذاتها! فمازالت حلماً جميلاً، يسعده الاستسلام له، لعله ينقذه من وحشته وبؤسه!‏ </STRONG>
كما أنقذت هذه الذكرى (بيدرو بارامو) من بؤس لحظاته الأخيرة أنقذت لغة الخاتمة من القتامة التي ترافق الاحتضار، قد أحاطها (بيدرو) بصفات مدهشة (مضمخة بقمر، فمك مقزّح بالنجوم، جسدك يشفّ في مياه الليل) مما يوحي للمتلقي أنه أمام جمال مستحيل لهذا حاول جاهداً "رفع يده ليوضح الصورة، ولكن قدميه أوقفاها وكأنها قدّتا من حجر، أراد رفع اليد الأخرى فسقطت ببطء إلى جانبه، حتى استندت على الأرض مثل عكاز يسند كتفه المتعرق عظماً.‏ </STRONG>
"أهذا هو موتي؟"‏ </STRONG>
لم يجدِ (بيدرو) الهروب إلى الحلم، إذ لاحقه الموت، وأُحبط مسعاه في الإمساك بصورة (سوزانا) والاستمرار في تأملها، أي الإمساك بخيط يشدّه للحياة! فقد تحجّرت قدماه، ومنعت يده من الحركة، فحاول تحريك يده الأخرى لكنها سقطت جانباً مثل عكاز، باتت وظيفته حماية كتفه من السقوط!‏ </STRONG>
تدخل صوت الراوي ليصف لنا زحف الموت على جسد (بيدرو) بلغة محايدة! أمام هذا العجز الحركي تأكد أنه يواجه موته، لهذا عمد المؤلف إلى إتاحة فرصة أخيرة أمام صوت (بيدرو) كي يعبّر عن أفكار تراوده، فيتساءل متحسراً عن حقيقة بات متأكداً منها! لهذا أبعد صوت الراوي، ليعود ثانية إليه، فيضفي مع تبدل الضمائر (غائب ومتكلم) حيوية على الفضاء السردي!‏ </STRONG>
ومثل هذا التبدل يتيح للمتلقي فرصة تأمل المتغيرات التي حدثت في الفضاء الخارجي، الأمر الذي لن يستطيعه (بيدرو) المشغول بعالمه الداخلي وبتأمل موته، مما منعه أن يرى مشاركة الطبيعة لـه في هذا الاحتضار! فيأتي صوت الراوي ليصف ذلك "كانت الأرض الخراب أمامه خاوية" من مظاهر الحياة، وكيف حاولت الطبيعة مساعدته حين بدأت أعضاء (بيدرو) بالتلاشي، وانتشرت البرودة فيها فـ "كان الحر يحمّي جسده".‏ </STRONG>
أتاح لنا صوت الراوي تأمل تجليات احتضار البطل! وتدرج موته، فتابعنا ضعف حركة عينيه اللتين "تقفزان من ذكرى إلى أخرى، معيدتين رسم الحاضر" وكيف تغيّرت مع ملامسة الموت زاوية الرؤية للأشياء والذكريات!‏ </STRONG>
وكذلك عايشنا تلك اللحظة المصيرية في حياة المحتضر حين يبدأ نبض الحياة (القلب) بالتوقف فـ "كأن الزمن يتوقف أيضاً، ويتوقف هواء الحياة".‏ </STRONG>
هنا يتغلغل الراوي إلى أعماق المحتضر، لينقل إحساسه بالزمن وكيف فقد معناه مع توقف القلب، ولم يعد هواء الحياة من نصيبه، فقد أبعدته عنه يد الموت!‏ </STRONG>
بدأ المحتضر يضيق ذرعاً بعذاباته، لهذا بات يستعجل الموت، كي يتخلص من أشباح تلاحقه، ولم يعد يستطيع الخلاص منها، وبذلك تحولت حياته إلى سجن رهيب، تملؤه الأشباح!‏ </STRONG>
حاول المؤلف أن ينوّع في رصد مشهد الاحتضار، فلم يكتفِ بتقديمه عبر لغة السرد، بل لجأ إلى اللغة المشهدية (الحوار) "أحس أن يدين تلمسان كتفيه، فقوّم جسده مصلباً إياه، وقالت داميانا...‏ </STRONG>
إذاً يأتي صوت الخادمة (داميانا) ليصله بالعالم الخارجي، ويذكره بحاجته إلى الطعام، لكن (بيدرو) كان قد حزم أمره، وقرر مغادرة هذا العالم، لهذا يخبرها برحيله، ويؤكد لها عزمه عن طريق تكراره جملة "ها أنا ذاهب".‏ </STRONG>
كذلك أَضفى وجود الخادمة حيوية، إذ منح (بيدرو) إمكانية الحركة واختبار قواه "استند على ذراعي داميانا وحاول المشي وهوى بعد بضع خطوات وهو يتضرع في داخله. دون أن يقول كلمة واحدة.‏ </STRONG>
وارتطم بالأرض ارتطامة جافة، وأخذ ينهار، وكأنه كومة من حجارة" (14).‏ </STRONG>
عايشنا هنا مشهداً سينمائياً، فتجسدت لنا تلك اللحظة الحرجة لمفارقة الحياة (استند، حاول المشي، هوى، ارتطم، أخذ ينهار).‏ </STRONG>
يلفت نظرنا تضرع (بيدرو) الصامت، دون أن ندري المبتغى من تضرعه، مما يحفّز أفق التوقع لدى المتلقي، فيتساءل هل يدعو ربه أن تكون في هذه السقطة نهايته؟ أم أنه يتضرع من أجل العفو عما ارتكب من أخطاء وآثام؟‏ </STRONG>
وقد حرص الروائي أن يكون التشبيه "وأخذ ينهار كأنه كومة حجارة" هي آخر ما يتلفظ به الراوي، ليثبت بؤس المصير الإنساني الذي ينتظر الجميع، فتتحول حياة إنسانية بأكملها إلى مثل هذه الكومة، لهذا جاء اسم (بيدرو الذي يعني الحجارة والأرض) منسجماً مع هذا المعنى! فرغم جبروته وعدوانه حوّله الموت إلى كومة حجارة!‏ </STRONG>
كأن (رولفو) في هذه الخاتمة يريد أن يذكر المتلقي بالمصير الذي ينتظره في نهاية حياته، لهذا يحفّزه على التأمل في هذا المصير، لعله يحاول تنقية حياته من الأذى! ويبحث عما يمنحها معنى!‏ </STRONG>
يجدر بنا أن نلفت النظر إلى أننا لم نعايش مشهد الاحتضار في الخاتمة فقط بل في المتن الروائي، حين تحدث الراوي البطل (خوان بريثيادو) عن احتضاره دون أن نلمح تكرار مشهد احتضار (بيدرو) فهنا عايشنا افتقاد المحتضر للهواء، ومعاناته من همس الأشباح، كما عايشنا احتضار (سوزانا) بصوت الراوي تارة، وعن طريق حوارها مع خادمتها ومع (الأب رينيريا) فتعرفنا على الطقوس المسيحية المصاحبة له.‏ </STRONG>
هنا لابد أن يتساءل المتلقي: لِمَ عني (رولفو) بمشاهد الاحتضار وبعالم الموتى؟ أ بسبب مقتل والده وهو ما يزال طفلاً؟ أم معايشته لاحتضار أمه أو أحد أحبائه؟ ترى هل كانت هذه المشاهد ترياقاً له ينقذه من ذكريات تجارب مؤلمة!؟ هل كان الإبداع تفريغاً لتلك الآلام الداخلية التي عاناها بسبب تجارب مرت معه في طفولته!؟‏ </STRONG>
مهما يكن نعتقد أن (رولفو) بتقديمه عالم الموتى ومشاهد الاحتضار قد افتتح فضاء جديداً للرواية، سيترك أبلغ الأثر في الرواية العالمية وخاصة في رواية أمريكا اللاتينية، فقد لاحظنا أثر ذلك لدى الروائي (ماريو فارغاس يوسا) خاصة في خاتمة روايته "الفردوس على الناصية الأخرى" (15) إذ عايشنا مشهد اللحظات الأخيرة للفنان الفرنسي (غوغان) لكن (يوسا) امتلك بصمة خاصة به، فلم نجده أسير مشهد احتضار (بيدرو بارامو).‏ </STRONG>
في الختام يمكننا القول إن هذه اللغة التي أرّقها الموت والإحساس بالإثم هي التي شكلت جماليات رواية (خوان رولفو) ومنحت إبداعه بصمة خاصة! وأدت إلى سيطرة عالم الموتى على فضاء الرواية بصورة مدهشة!‏ </STRONG>
* * *‏ </STRONG>
الحواشي:‏ </STRONG>
1 ـ داريو بيانوبيا ـ خ. م. بينياليستي "مسار الرواية الإسبانو أمريكية من الواقعية السحرية إلى الثمانينات" القاهرة، 1998، ص 266، بتصرف ترجمة محمد أبو العطا، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة.‏ </STRONG>
2 ـ خوان رولفو "بيدرو بارامو" ترجمة صالح علماني، وزارة الثقافة، دمشق، ط1، 1983، ص 48.‏ </STRONG>
3 ـ داريو بيانوبيا ـ خ. م. بينياليستي "مسار الرواية الإسبانو أمريكية من الواقعية السحرية إلى الثمانينات" ص 267، بتصرف.‏ </STRONG>
4 ـ خوان رولفو "بيدرو بارامو" ص 94.‏ </STRONG>
5 ـ المصدر السابق، ص 16.‏ </STRONG>
6 ـ المصدر السابق نفسه، ص 100.‏ </STRONG>
7 ـ نفسه، ص 19.‏ </STRONG>
8 ـ ماريو بارغاس يوسا "رسائل إلى روائي شاب" ترجمة صالح علماني، دار المدى، دمشق، ط1، 2005، ص 93، بتصرف.‏ </STRONG>
9 ـ خوان رولفو "بيدرو بارامو" ص 54 ـ 55.‏ </STRONG>
10 ـ عبد الرحمن منيف "أرض السواد" ج3، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، ط 1، 1999، ص 83.‏ </STRONG>
11 ـ المصدر السابق، ص 90.‏ </STRONG>
12 ـ المصدر السابق نفسه، ص 104.‏ </STRONG>
13 ـ نفسه، ص 151.‏ </STRONG>
14 ـ نفسه، ص 189 ـ 199.‏ </STRONG>
15 ـ ماريو فارغاس يوسا "الفردوس على الناصية الأخرى" ترجمة صالح علماني، دار المدى، دمشق، ط 1، 2004.‏ </STRONG>
وقفة مع جماليات رواية بيدرو بارامو‏ </STRONG>

‏ </STRONG>

ملكة
12/05/2008, 08:50 PM
وقفة مع جماليات رواية "بيدرو بارامو" لخوان رولفو </STRONG>
د.ماجدة حمود </STRONG>
علاقة الرواية بالسيرة الذاتية:‏ </STRONG>
يكشف لنا خوان رولفو في كتابه "سيرة ذاتية مسلحة" أن أحد الدوافع التي دفعته إلى تأليف روايته "بيدرو بارامو" هي زيارته لقريته ومرتع طفولته بعد أن هجرها ثلاثين عاماً، فعاد إليها ليجدها طللاً، تلف الوحدة شوارعها وديارها، ولا يعمّرها سوى حفيف شبحي، حفيف أشجار الكازورينا تعصف بها الريح (1).‏ </STRONG>
آلمت الوحدة الكاتب، وسيطرت على مخيلته، أثناء كتابة الرواية، أصوات الحفيف الشبحي، لهذا كانت هذه الأصوات مهيمنة على فضاء الرواية، كما كانت أحد عنوانين مبدئيين لها.‏ </STRONG>
قد بدت لنا قرية (كومالا) أحد الأبطال الأساسيين في الرواية، عايشناها عبر ذاكرة زمن مضى، هو زمن طفولة الراوي، فوجدناها في قمة بهائها، كما عايشناها عبر زمن حاضر انحدر بها إلى درك البؤس والجفاف!‏ </STRONG>
لكن التجربة الأهم التي لمسنا ملامحها في الرواية هي التجربة التي تعرض لها (خوان رولفو) في طفولته، إذ قتل والده وهو في السادسة من عمره، فظلت هذه الحادثة جرحاً نازفاً في أعماق روحه، تركت بصمتها على إبداعه! وارتسمت في ذاكرته آلام تلك اللحظة التي أخبرته فيها أمه بموت أبيه، فجسّد لنا حزن والدته الغارق في اللوعة "لقد مات أبوك"...‏ </STRONG>
ثم كما لو أن نوابض حزنها قد أفلتت، دارت حول نفسها مرة ثم أخرى، ومرة ثم أخرى، إلى أن وصلت يدان إلى كتفيها، وتمكنتا من وقف تحرك جسدها... وكأن الأرض تحتها غارقة بالدموع، ثم النحيب، بكاء ناعم، لكنه حاد مرة أخرى، والحزن الذي يلوي الجسد (2).‏ </STRONG>
تسجل ذاكرة (رولفو) لحظة الصدمة، حين أخبر بمقتل أبيه، فانتزعت منه أفراح الطفولة، وسلب الإحساس بالأمان! وقد أسقط هذه التجربة على شخصيات روايته! وخاصة على الراوي البطل (خوان بريثيادو) الذي يتماهى مع الكاتب في كثير من المشاهد (البحث عن الأب، موت هذا الأب، معايشة أرواح الموتى، وبؤس المكان (كومالا)...) وكذلك يشاركه في النصف الأول من اسمه (خوان).‏ </STRONG>
ولعل المشهد الذي يعكس ردود فعل أمه، حين فاجأها النبأ الحزين، هو أكثر المشاهد حياة في وجدان الكاتب! لهذا أسقطه على أم الراوي، وقدّمه عبر مشهد (سينمائي) مؤثر في حركته (انفلات نوابض الحزن إلى درجة استمرت الأم في الدوران حول ذاتها إلى أن أوقفتها يدان) كان حزنها طاغياً، تجلت ردود فعله على جسدها وعلى الطبيعة من حولها، حتى إنه منع النهار من القدوم، فتناثرت بقايا ضوء حول الأم، أما الأرض فقد بدت غارقة بدموعها!‏ </STRONG>
يختار (رولفو) لهذا المشهد إطاراً زمنياً أسقط عليه حزنه! فجعل وصول الخبر الأليم في لحظة الفجر، حيث أحدث انقلاباً في الطبيعة! فبدا النهار ظلاماً دامساً أضاع نجومه "لم يكن ثمة نهار يبتدئ وإنما بداية ليل آخذ في القدوم".‏ </STRONG>
لقد أحدث هذا الخبر خللاً في لحظة الشروق، فأدبر نوره، وسادت الألوان الحزينة (الرصاصية، الرمادية، الشاحبة) فضاء هذا المشهد!‏ </STRONG>
لم يمت الزوج ميتة عادية، لهذا كان الألم الذي عانته الأم أكثر حرقة، وغصة الفقد أكثر لوعة، فقد آلمها أن يحاصرها إحساس بالظلم والعجز معاً، حتى الانتقام لن يعيد الحياة لزوجها القتيل! لذلك لم يكن أمامها سوى البكاء، الذي تبدى لنا بكل أشكاله (الغرق في الدموع، النحيب، بكاء ناعم لكنه حاد).‏ </STRONG>
بناء الرواية:‏ </STRONG>
هاجم بعض النقاد رواية خوان رولفو "بيدرو بارامو" لافتقادها الوحدة العضوية، مما أحبط الكاتب، ودعاه إلى التأكيد بأن أولى اهتماماته كانت البنية!‏ </STRONG>
اعتمد بناء (بيدرو بارامو) أسلوب الرواية الحديثة، التي تهدف إلى إشراك المتلقي كي يملأ بمخيلته الفراغات التي تركها المؤلف، خاصة أنها تقدم عالماً مستحيلاً، هو عالم الموتى، لذلك لم يكن بوسع صوت المؤلف أن يتدخل!!‏ </STRONG>
لكن رغم ذلك شكلت شخصية (بيدرو بارامو) أحد العوامل التي نسجت وحدة الرواية، وحفظت بنيتها من التفكك، باعتقادنا، إذ كانت محوراً تدور حوله معظم الكوابيس والأحداث والشخصيات (الراوي البطل، ابنه، زوجته، وكيله، رجل الدين (الأب رينتيريا...) فبدا (بيدرو) مؤثراً في حياتهم وفي موتهم! في حين اختفى المؤلف وترك "شخوصه يتحدثون في حرية، وهو ما عزّز انطباعاً خاطئاً بعدم وجود بنية...‏ </STRONG>
هناك بنية غير أنها تتأسس على الصمت على خيوط معلقة، مشاهد مقطوعة، يحدث فيها كل شيء في زمن آني، هو ليس بزمن (3) مألوف.‏ </STRONG>
بدا الخطاب الروائي مقسماً إلى وحدات أشبه بمقاطع شعرية، يؤسسها مبدأ ثابت يعتمد اللغة الذاتية في التعبير، لهذا سيطر ضمير المتكلم (صوت الراوي المشارك، وأعماق الشخصيات) من أجل تقديم الرؤية الداخلية العميقة للشخصية، وإن كان يتدخل أحياناً في ضمير الغائب ليسرد علينا ذكريات أو مواقف تبرز وجهة نظر أخرى.‏ </STRONG>
نوّع الروائي بين السرد والمشهد الحواري، وقد تميّزت لغة الحوار بشدة التركيز والفاعلية، وقد كان مثل هذا الانضباط اللغوي نتيجة خبرته في القصة القصيرة باعتقادنا.‏ </STRONG>
ومما أضفى حيوية على بنية الرواية تعمّد الكاتب المفاجأة من أجل تشويق المتلقي، إذ إن الراوي المشارك أثناء طريقه إلى (كومالا) يلتقي بشخص يرافقه في طريقه إليها، فيكتشف أنه شقيقه (ابن بيدرو بارامو) وأن لديه الكثير من الأشقاء في القرية، بعد أن كان يظن نفسه الابن الوحيد له!‏ </STRONG>
نُفاجأ بطريقة غير مألوفة للاعتذار عن القتل يمارسها ميغيل (ابن بيدرو) الذي يصعد إلى غرفة (آنا) ليلاً ليطلب الصفح منها (بعد قتله أبيها) فتقابله بصورة تناقض أفق توقع المتلقي، فنسمعها تقول: "وما إن وصل حتى عانقني، كما لو كانت هذه هي الطريقة للاعتذار عما اقترفه، وابتسمت له".‏ </STRONG>
تبدو الفتاة في غاية الطيبة في تعاملها مع القاتل، وهي تطبق التعاليم التي لقنها إياها (الأب رينتيريا) "فكرت بما كنت قد علمتني إياه: يجب علينا أن لا نكره أحداً أبداً، ابتسمت لأقول له ذلك".‏ </STRONG>
وبذلك تحل لغة الحب محل لغة الكره، كأن الفتاة هنا تريد أن تفتح أفقاً آخر أمام القاتل، عساها تستطيع نقله من بؤس عالمه إلى روعة عالم أرحب!!‏ </STRONG>
ومما أضفى الحيوية على بناء الرواية، باعتقادنا، تعدد وجهات النظر في تقدم الشخصية الرئيسية (بيدرو) وغير الرئيسية (الراوي المشارك) فمثلاً دميانا وأخوها (اللذان التقاهما الراوي في القرية لحظة انهيارها) فنجدهما يختلفان في وصفه، فيقدمان رؤية مناقضة، فتقول الأخت لأخيها "إنه يتلوى على نفسه كالمحكوم باللعنة، وله كل مظاهر الإنسان الشرير..." أجابها أخوها برأي مناقض "لا إنه رجل بائس... لابد أنه متصوف من هؤلاء الذين يقضون حياتهم بالتنقل بين القرى "ليروا ما تمنحهم العناية الإلهية" لكنه هنا لن يجد حتى ما يخلصه من الجوع..." (4)‏ </STRONG>
شتان بين رؤية الأخت (رجل شرير) يتوجب الابتعاد عنه، وبين رؤية الأخ (رجل متصوف) يعيش على بركة الإيمان، يجب مساعدته! وإن كانت كلتاهما لا تقدمان صورة حقيقية لـ (خوان بريثيادو) فهو يعيش انهيار ما قبل الموت!.‏ </STRONG>
جماليات المكان:‏ </STRONG>
يرى بعض النقاد أن عنوان رواية "بيدرو بارامو" عنوان مخادع، لأن المكان هو بطلها الحقيقي، لا الشخصية، فقد تأثر خوان رولفو إثر زيارته للقرية التي ولد فيها، وعاش بعيداً عنها حاملاً أجمل الذكريات، وحين رآها "منطفئة" "وحيدة" أصيب بالصدمة فقد شوّهها هجران أهلها! فأسقط خيبته على الراوي المشارك (خوان بريثيادو) فتماهى صوت المؤلف مع صوته، لهذا يسأل أحد أبنائها:‏ </STRONG>
ـ ولماذا تبدو كئيبة هكذا!!/ ـ إنه الزمن يا سيدي..."‏ </STRONG>
نعايش هنا وقع الزمن الذي لا يعرف الحياد، وإنما تعبث أصابعه في الوجود والأمكنة، فتزرع الكآبة حيثما حلّلت، دون أن تفرّق بين ملامح مكان أو إنسان!‏ </STRONG>
لهذا نهب الزمن جماليات (كومالا) وارتدّت الذاكرة باحثة عن صورته التي ارتسمت (في زمن مضى) هاربة من صورته (في زمن حاضر) مما يتيح للمتلقي معايشة مشهدي الجمال والقبح، فينتقل من روعة زمن مضى إلى بؤس زمن حاضر يجثم بثقله على الروح!‏ </STRONG>
يجسد المشهد الأول عبر ذاكرة أم الراوي (خوان بريثيادو) التي عاشت تتنهد شوقاً إلى (كومالا) تحلم بالعودة إليها، لهذا توصي ابنها، أثناء احتضارها، بتحقيق حلمها!‏ </STRONG>
يأتي ابنها إلى (كومالا) حاملاً معه عينيها اللتين لم تريا فيها سوى الجمال، حيث "يوجد أروع منظر لسهل أخضر تخالطه بعض الصفرة التي تنشرها الذرة الناضجة..." (5)‏ </STRONG>
لهذا توصيه بأن يذهب إلى (كومالا) لا ليرى أباه فقط، وإنما ليلتقي بروحها بعد موتها، وسيسمع هناك أصوات ذكرياتها التي تمحو موتها!‏ </STRONG>
اكتنزت القرية بأفراح الأم، لهذا دعتها "كنزيّة" إذ خبأت فيها ذكريات طفولتها، فكانت لا تشمّ فيها سوى "رائحة عسل مراق..." ولا تتذوق سوى "طعم أزهار البرتقال" ولن تتنفس في كل الأوقات سوى الهواء المنعش، مما يضفي على الأشياء ظلاً جميلاً، ويمنح الحياة روحاً شفافة كالهمسة، فيختلط علينا الأمر هل نسمع حفيف نسيم الأشجار أم همسات الحياة إذ "يبدّل الهواء لون الأشياء حيث يهوّي الحياة وكأنه الهمس، كأنه همسة نقية من همسات الحياة" (6).‏ </STRONG>
قد ينقلب هدوء الطبيعة "ترعد السماء فجأة ويهطل المطر". لكن أصوات الطبيعة لن تثير الرعب، لأنها تحمل للإنسان، أجمل المفاجآت "قد يأتي الربيع، ستعتاد هناك على المفاجآت يا بني".‏ </STRONG>
مع تداعيات الأم تنساب ذكريات الحياة اليومية في القرية! فنعايش لحظة نهوض القرية فجراً، إذ تضج بالحياة، ونسمع أصوات العربات التي تأتيها من الجهات الأربع محملة بالخيرات، ونشمّ رائحة الخبز الطازج! لهذا كانت (كومالا) جنتها، وحبها الوحيد، خاصة بعد أن تخلى عنها (بيدرو) "ستجد هناك حبي... ستشعر بأن المرء يتمنى هناك لو يعيش إلى الأبدية".‏ </STRONG>
إن وجهة نظر الأم التي ترى المكان رديفاً للجنة (في زمن مضى) نجد ما يناقضها (في الزمن الحاضر) حين نسمع وجهة نظر الابن، إذ بدا لـه ضريح الآمال، نقيضاً للجنة، يقبع "فوق جمرات الأرض، في فم الجحيم تماماً... إن كثيرين ممن يموتون هناك يعودون بمجرد وصولهم إلى الجحيم بحثاً عن لحافهم". (7)‏ </STRONG>
مع مرور الزمن باتت القرية جحيماً، بل أقسى من الجحيم، لهذا من يأتي لزيارتها بعد الموت يفضل العودة إلى الجحيم، إذ قد يجد فيه ما يخفف قسوة الحر، وهذا ما يفتقده في كومالا!‏ </STRONG>
لهذا لن نستغرب أن الحياة لم تعد تهمس فيها، فقد أفسحت المجال لانتشار همسات الموت، لهذا يصرح ابنها "لقد قتلني الهمس".‏ </STRONG>
هنا نتساءل: هل تغير المكان نتيجة لتغير الزمان؟ أو نتيجة تغيّر الإنسان؟ خاصة بعد استيلاء (بيدرو بارامو) عليه، وإهماله بعد وفاة زوجته (سوزانا) عندئذ باتت "مهجورة" "منطفئة".‏ </STRONG>
اختفت ملامح الجمال التي عايشناها عبر ذاكرة الأم، وتبدّل طعم زهر البرتقال، وبات لها "طعم التعاسة؟ إذ لم تعد تشهد الولادة لدى الإنسان، حتى الطبيعة أصبحت عقيماً، ولم تعد تعرف لحظة الميلاد ما تحمله من مظاهر الجمال (الغيوم، العصافير، العشب) لذلك انتشر فيها الهواء "القديم والخدر، البائس والنحيل مثل كل شيء هرم" لينبئ باقتراب النهاية! وبذلك غادرها رونق الحياة، وسيطرت عليها رائحة صفراء هي رائحة الموت! وباتت "مطلية كلها بالتعاسة" ما إن يراها المرء حتى تصفعه الكآبة! حتى إن قسيس (كونتلا) يخبرنا "إننا نحيا في أرض تعطي كل شيء بفضل العناية الإلهية، ولكن كل شيء تعطيه حامض..." يؤكد كلامه (الأب رينتيريا) "هذا صحيح حتى البرتقال والريحان"‏ </STRONG>
حتى أمطار (كومالا) لم تعد تجلب الفرح، بل صارت تجتثه وتمطر نجوم سمائها، فبات ليلها أشد سواداً، وأكثر كآبة، فلم يجد الأب (رينتيريا) اسماً يدعوها به سوى "وادي الدموع" فقد اختفت منها همسات الحياة التي عايشناها سابقاً.‏ </STRONG>
حين هجر الإنسان القرية هجرتها الحياة وسكنتها أصداء الموتى، فتحولت الغرف الموحشة والمهجورة إلى قبور، كأن أصوات الحياة في القرية قد انطفأت، بعد أن أنهكها الاستعمال، وتبدلت معالم الفرح إلى حزن، حتى إن أصداء القهقهات التي توحي بفرح الحياة عادة باتت هرمة!‏ </STRONG>
الغرائبية في رواية "بيدرو بارامو"‏ </STRONG>
تعدّ رواية "بيدرو بارامو" مثلاً أعلى للغرائبية التي تنأى عن (الفانتازيا) لاقترابها من عالم الإنسان، وإن غامرت بدخول عوالم مجهولة، فهي تظل ملتحمة بهمومه وقضاياه، فقد عايشنا فيها إشكالية الموت الذي هو أحد إشكاليات الوجود الإنساني، بعد أن جعله الروائي جزءاً من الحياة فهدّم الحاجز بينهما! وأتاح الفرصة لاختلاط الموتى بالأحياء، فاستطاع أن يمنح شخصياته فرصة الحياة تحت الأرض وفوقها!‏ </STRONG>
وقد رأى (ماريو فارغاس يوسا) هذه الرواية إحدى القفزات النوعية الأكثر فاعلية في الأدب اللاتيني الأمريكي المعاصر، إذ صيغت ببراعة، إلى درجة يصعب معها تحديد مكان القصة أو زمانها، وبالتالي تحديد أين ومتى حدثت النقلة (الزمانية والمكانية) فقد تمت شيئاً فشيئاً، وبصورة تدريجية من خلال تلميحات وإشارات مبهمة، وآثار باهتة، تكاد لا تسترعي انتباهنا حين نمر بها، لكننا سنلاحظها لاحقاً فقط وبصورة استرجاعية، خاصة حين نتأمل تراكم الأحداث القريبة التي تتيح لنا أن نعي بأن (كومالا) ليست قرية كائنات حية، وإنما هي قرية أشباح (8).‏ </STRONG>
يدهشنا في رواية "بيدرو بارامو" تواصل الأموات مع الأحياء، فحين وصل الراوي البطل إلى (كومالا) تقول له (دونيا أدوفيخس) وهي صديقة أمه التي توفيت منذ أسبوع "أخبرتني بأنك ستأتي" فيجيبها الابن (الراوي) "أمي توفيت" فترد عليه قائلة "هذا هو إذن السبب الذي جعل صوتها ضعيفاً"‏ </STRONG>
يتم التواصل بين الصديقتين الحميمتين، رغم موت إحداهما! فنعايش في هذه الرواية علاقة صداقة أشبه بحلم، إذ لم يتم التعاهد بين الصديقتين على الحب والوفاء بل على أمر لا يخطر على بال أحد، فقد تعاهدتا على الموت معاً، وبما أن أم الراوي قد سبقت صديقتها، لهذا تقرر اللحاق بها سريعاً!‏ </STRONG>
يصل التوحد بين الصديقتين أقصى حدود اللامعقول، حين يتنبأ أحدهم لأم البطل أن عليها أن لا تضاجع زوجها (بيدرو بارامو) ليلة زفافها لأن القمر هائج، فتطلب من صديقتها النوم مكانها!!!‏ </STRONG>
تبدو لنا هذه الصديقة (دونيا أدوفيخس) امرأة الحدس والتخاطر، مما يتيح لها التواصل مع الموتى، لهذا عاشت حياتها مؤرقة بسماع أنينهم! وهي تعي أنها تمتلك حاسة سادسة هبة منحها إياها الله، وربما لعنة بسبب معاناتها ذلك الأنين!.‏ </STRONG>
تتسع قدرات هذه المرأة (الحدسية) التي تعتمد التراسل عن بعد (التخاطر) فنجدها تتواصل مع الحيوان كتواصلها مع الإنسان، حتى أنها تسمع وقع حوافر حصان (ميغيل بيدرو بارامو) رغم أنه قُتل إثر مقتل صاحبه! وقد تعدى ذلك إلى الغوص في أعماقه، والإحساس بمعاناته الداخلية، إذ "ربما المسكين لا يحتمل تبكيت نفسه". فهو قد يكون سبب مقتل صاحبه، وقد لاحظت (دونيا أدوفيخس) أنه أبدى من الحزن على صاحبه (ميغل) أكثر مما أبداه والده (بيدرو بارامو) فهو "لم يأكل ولم ينم ولا يفعل شيئاً سوى العودة إلى الطواف فحسب... كأنه يشعر بالتمزق والتآكل في داخله".‏ </STRONG>
قدمت لنا آلام الحصان بصورة مدهشة، حتى إن جميع أهالي القرية أحسوا بها، وحين رأته إحدى النساء يجري وقوائمه منحنية كما لو كان سينكفئ على وجهه قالت "سيحطم هذا الحيوان رأسه" بعد ذلك رأته وهو ينتصب بجسده، دون أن يخفف من سرعته، وهو يلوي بعنقه إلى الوراء، وكأنه مرتعب من شيء خلّفه وراءه" (9).‏ </STRONG>
وقد أثَّر حزن حصان (ميغيل) بأقسى القلوب (بيدرو بارامو) لهذا وجدناه يأمر بإنهاء أحزانه! وقتله كي يلحق بصاحبه!‏ </STRONG>
يدهشنا حزن هذا الحصان على صاحبه وذكّرنا بحزن الحصان (مهيوب) على صاحبه (بدري) إثر مقتله في رواية "أرض السواد" لعبد الرحمن منيف (10).‏ </STRONG>
عرفت (دونيا أدوفيخس) بين أهالي القرية ليس بحاستها السادسة فقط، وإنما بإيمانها بالخوارق أيضاً، لهذا يلجأ إليها (ميغيل) حين يعترضه أمر غير مألوف (ضياع قرية خطيبته: كونتلا) قائلاً: "لقد أضعت القرية. كان ثمة ضباب كثير ودخان، ولست أدري أي شيء.. لكني أعلم أن (كونتلا) لا وجود لها، ذهبت بعيداً، حسب تقديراتي، إنني آت لأروي لك أنت ذلك، لأنك تفهمينني، لو أخبرت الآخرين في كومالا لقالوا إني مجنون، كما يقولون عني دائماً" (11).‏ </STRONG>
تعيش المرأة في عالم أقرب إلى الخيال، يعتمد قوانين خاصة، لا علاقة لها بالواقع، فهي تصدق الخوارق، (كاختفاء القرية عن سطح الأرض) في حين لا يؤمن أهالي القرية بذلك، ويعدّونه جنوناً!‏ </STRONG>
وهكذا شكلت البنية الغرائبية لرواية "بيدرو بارامو" ملامح شخصياتها، وهدّمت الفاصل بين الحياة والموت عبر لغة تفيض حساسية، كما عبثت هذه الرواية بالملامح الطبيعية للمكان، فقضت على المعنى الجغرافي وما يحمله من دلالات ثابتة لهذا اختفت القرية عبر الضباب والدخان، كما اختفى الأشخاص وتحولوا إلى أشباح، حفيف صداهم يملأ أجواء القرية!‏ </STRONG>
وقد أمعن الراوي في وصف هذا الصدى الذي أضاع قواه، فبدا مخنوقاً، يخرج من شق ما، ومن عالم بعيد، لكنه واضح يمكن التعرف عليه، ويبدو مترافقاً أحياناً مع الحضور الجسدي لا الشبحي، فمثلاً نجد الأخت (داميانا) تلتقي مع أختها (سيستينا) التي توفيت منذ سنوات طويلة، وتسمع رجاءها في أن تتوسل من أجلها إلى الله!‏ </STRONG>
يستعيد المكان عبر الوصف المؤثر بعض ملامحه الطبيعية، فبعد أن هجرته الحياة! وعلاه غبار الزمن! وبدت شوارعه خالية ونوافذه مشرعة للسماء، تتخللها تفرعات العشب الناشف، أما جدرانه المقشرة فتكشف عن طوبها المتفتت، لكنه سرعان ما ينتقل إلى عالم غرائبي حين يجعل الكاتب حشود الأرواح تهيم في الشارع ليلاً فيغلق الأحياء الأبواب على أنفسهم خوفاً، إذ "ليس هناك من يحب رؤيتهم".‏ </STRONG>
تتسع حدود الغرائبية فتغمر أرض (كومالا) أشباح الموتى "إنهم كثيرون ونحن قليلون جداً، حتى إننا لا نتكلف مشقة الصلاة من أجلهم، ليخرجوا من أحزانهم، لأن صلواتنا لن تكفي لهم جميعاً" (12).‏ </STRONG>
وهكذا يختلط الواقع بالغرائبي اختلاط الأموات بالأحياء، وإن كنا قد لاحظنا طغيان عالم الموتى على الأحياء، فلم يعد ممكناً مساعدة الموتى بالصلاة من أجلهم، إذ عجز الأحياء لندرتهم عن القيام بواجبهم تجاه الأموات لكثرتهم!! مما جعل الحياة أكثر قتامة وبؤساً!‏ </STRONG>
تبدو الغرائبية أيضاً حين يحس الأحياء برائحة الموت لدى مفارقة أحد أبناء قريتهم للحياة، لهذا وجدنا بائعة النبيذ تقول لابنها "أشم أن أحداً في القرية قد مات". فيأتي الحوذي، الذي يسكن بعيداً عنها، ليخبرها بأن زوجته قد ماتت!‏ </STRONG>
ـ لكن الغرائبية الأكثر إدهاشاً في هذه الرواية، باعتقادنا، هي معايشة هموم الموتى داخل القبر، فنفاجأ أن الآلام التي نغصت حياتهم لم تنتهِ بموتهم، بل صحبتهم إلى القبر، فالمرأة التي آلمها عدم تحقق حلمها بإنجاب طفل ستشكو همها للراوي (خوان بريثيادو) حين دفنت إلى جانبه، بسبب العوز الذي لاحقها في حياتها ومماتها، حتى أنها لم تستطع الاستقلال في قبر خاص بها، وقد شكت له أيضاً وحشة الوحدة التي لاحقتها في قبرها، كما لاحقتها في حياتها!‏ </STRONG>
أكسبتها تجربة الحياة والموت حكمة، وأدركت قيمة التفاؤل، لهذا لن تسمح للمخاوف بتدمير حياتها داخل القبر، فلو قارنا بين تفسيرها لأصوات تسمعها فوق القبر بـ (أصوات المطر) وبين تفسير الراوي لها (خطوات تدوس على القبر) مما يثير الخوف في نفسه!‏ </STRONG>
إذاً علّمتها التجارب الحياتية القاسية ومعايشتها للموت ضرورة أن يبحث الإنسان عما يفرحه! لهذا تنصح الراوي ألا يستسلم للمخاوف، ولا يدع الأفكار السوداوية تسيطر عليه وتنغص إقامته الطويلة في القبر! لأن الإنسان ابن أفكاره التي تنعكس على مشاعره وأحاسيسه سواء في حياته أم في مماته!! فتنغص أيامه سواء أكان فوق الأرض أم تحتها، حين يرى الأمور بمنظار التشاؤم!‏ </STRONG>
لا أحد يموت في هذه القرية وتنتهي صلته بالحياة، لهذا شاهد الناس روح (ميغل) تتجول في أنحاء القرية، وتقرع نافذة إحدى النساء، كما كان يفعل أثناء حياته، والمدهش أن روحه كانت ترتدي ملابسه نفسها (السروال الجلدي).‏ </STRONG>
أما (سوزانا) التي تعيش بعيداً عن والدها فقد أحست بزيارته لها ليلاً، وفي الصباح أخبرتها خادمتها بوفاته، فتقول لها لقد جاء لوداعي!‏ </STRONG>
يختلط في تصرفات (سوزانا) الواقع بالكابوس، فتصبح ملامحها أقرب إلى الشخصية الغرائبية، فحين يزورها الأب (رينتيريا) "تقترب منه، فنظر إليها وهي تحيط بيديها الشمعة المشتعلة، ثم تدمج وجهها بالفتيلة المحترقة، حتى اضطرته رائحة اللحم المحترق على هزّها وإطفائها بنفخة واحدة" (13).‏ </STRONG>
كأن المحتضرة تريد أن تنبئ الأب (رينتيريا) بأنها باتت تعيش قوانين حياة أخرى، لذلك لم تعد تبالي بالقوانين الدنيوية المألوفة، لهذا تلتحم بنار الشمعة دون أن يهمها الاحتراق!‏ </STRONG>
حين تموت (سوزانا) تختلط طقوس الحداد بالفرح بصورة غرائبية، مما يجعل المتلقي يعيش عالماً غير معقول! فقد توافدت الناس كأنهم في موسم حج، وجاء سيرك ومغنون، وامتلأ فضاء القرية بالألحان وصرخات السكارى، حتى أصيب الجميع بالصمم! في حين غرق بيت (بيدرو بارامو) بالصمت، حتى التجوال كان يتم بأقدام حافية، والكلام بصوت خافت!!!‏ </STRONG>
هنا نتساءل: ما السبب في اختلاط طقوس الحداد بالفرح؟ هل هو انتقام من (بيدرو بارامو) وتدمير لهيبته، بعد أن كثر فساده! أم هو تعبير عن الفرح بخلاص (سوزانا) من آلامها ومن حياتها مع زوج مثل (بيدرو)؟‏ </STRONG>
جماليات الخاتمة:‏ </STRONG>
أوحى لنا مشهد موت البطل (بيدرو بارمو) في الخاتمة بان الرواية تنسجها خيوط بناء فني محكم، فقد أنهت حياة الشخصية التي كانت الافتتاحية تبحث عنها بناء على وصية أم لابنها في ضرورة أن يرى أباه (بيدرو) في كومالا.‏ </STRONG>
عايشنا في الخاتمة لحظات احتضار هذا البطل، وتأملاته وهو يراقب موت كل عضو من أعضائه على حدة! فيحس في تلك اللحظة بوحدة مع الكون، فهو يتماثل مع شجرة تفلت أوراقها ورقة ورقة! فتنطقه تلك اللحظات بحكمة بسيطة لكنها تشكل حقيقة أزلية "الجميع يتخذون نفس الطريق، الجميع يذهبون".‏ </STRONG>
تحث الخاتمة المتلقي على التأمل، ومما أكسب هذه الدعوة فرادة أنها جاءت على لسان محتضر، فتتيح للمتلقي فرصة عيش هذه التجربة على صعيد تخييلي قبل أن يعيشها على صعيد واقعي! فربما يصل إلى حكمة تجعله يتقبل الموت بهدوء، إذ ثمة عدالة إلهية توحّد نهاية الجميع، فالموت ينتظر كل الكائنات الحية! لا يمكن لأحد أن يفلت منه!‏ </STRONG>
المدهش في الخاتمة هذا التنوع اللغوي، فبدت اللغة الحكيمة (المستمدة من معاناة اللحظات الأخيرة للمحتضر) إلى جانب اللغة الشعرية (المستمدة من تجربة حبه لـ (سوزانا)، فقد صاحبته ذكراها الجميلة حتى آخر لحظة من حياته).‏ </STRONG>
أمام الموت لم يجد (بيدرو) أمامه سوى ذكرى الحب يلجأ إلى ظلالها يتفيؤها، رغم ما حملته له هذه العلاقة من إحباطات، تجلت في قوله "فقدت عيني وأنا أتطلع إليك" إذ لم تتغير أحاسيسه بعد موت (سوزانا) واقترابه من النهاية ذاتها! فمازالت حلماً جميلاً، يسعده الاستسلام له، لعله ينقذه من وحشته وبؤسه!‏ </STRONG>
كما أنقذت هذه الذكرى (بيدرو بارامو) من بؤس لحظاته الأخيرة أنقذت لغة الخاتمة من القتامة التي ترافق الاحتضار، قد أحاطها (بيدرو) بصفات مدهشة (مضمخة بقمر، فمك مقزّح بالنجوم، جسدك يشفّ في مياه الليل) مما يوحي للمتلقي أنه أمام جمال مستحيل لهذا حاول جاهداً "رفع يده ليوضح الصورة، ولكن قدميه أوقفاها وكأنها قدّتا من حجر، أراد رفع اليد الأخرى فسقطت ببطء إلى جانبه، حتى استندت على الأرض مثل عكاز يسند كتفه المتعرق عظماً.‏ </STRONG>
"أهذا هو موتي؟"‏ </STRONG>
لم يجدِ (بيدرو) الهروب إلى الحلم، إذ لاحقه الموت، وأُحبط مسعاه في الإمساك بصورة (سوزانا) والاستمرار في تأملها، أي الإمساك بخيط يشدّه للحياة! فقد تحجّرت قدماه، ومنعت يده من الحركة، فحاول تحريك يده الأخرى لكنها سقطت جانباً مثل عكاز، باتت وظيفته حماية كتفه من السقوط!‏ </STRONG>
تدخل صوت الراوي ليصف لنا زحف الموت على جسد (بيدرو) بلغة محايدة! أمام هذا العجز الحركي تأكد أنه يواجه موته، لهذا عمد المؤلف إلى إتاحة فرصة أخيرة أمام صوت (بيدرو) كي يعبّر عن أفكار تراوده، فيتساءل متحسراً عن حقيقة بات متأكداً منها! لهذا أبعد صوت الراوي، ليعود ثانية إليه، فيضفي مع تبدل الضمائر (غائب ومتكلم) حيوية على الفضاء السردي!‏ </STRONG>
ومثل هذا التبدل يتيح للمتلقي فرصة تأمل المتغيرات التي حدثت في الفضاء الخارجي، الأمر الذي لن يستطيعه (بيدرو) المشغول بعالمه الداخلي وبتأمل موته، مما منعه أن يرى مشاركة الطبيعة لـه في هذا الاحتضار! فيأتي صوت الراوي ليصف ذلك "كانت الأرض الخراب أمامه خاوية" من مظاهر الحياة، وكيف حاولت الطبيعة مساعدته حين بدأت أعضاء (بيدرو) بالتلاشي، وانتشرت البرودة فيها فـ "كان الحر يحمّي جسده".‏ </STRONG>
أتاح لنا صوت الراوي تأمل تجليات احتضار البطل! وتدرج موته، فتابعنا ضعف حركة عينيه اللتين "تقفزان من ذكرى إلى أخرى، معيدتين رسم الحاضر" وكيف تغيّرت مع ملامسة الموت زاوية الرؤية للأشياء والذكريات!‏ </STRONG>
وكذلك عايشنا تلك اللحظة المصيرية في حياة المحتضر حين يبدأ نبض الحياة (القلب) بالتوقف فـ "كأن الزمن يتوقف أيضاً، ويتوقف هواء الحياة".‏ </STRONG>
هنا يتغلغل الراوي إلى أعماق المحتضر، لينقل إحساسه بالزمن وكيف فقد معناه مع توقف القلب، ولم يعد هواء الحياة من نصيبه، فقد أبعدته عنه يد الموت!‏ </STRONG>
بدأ المحتضر يضيق ذرعاً بعذاباته، لهذا بات يستعجل الموت، كي يتخلص من أشباح تلاحقه، ولم يعد يستطيع الخلاص منها، وبذلك تحولت حياته إلى سجن رهيب، تملؤه الأشباح!‏ </STRONG>
حاول المؤلف أن ينوّع في رصد مشهد الاحتضار، فلم يكتفِ بتقديمه عبر لغة السرد، بل لجأ إلى اللغة المشهدية (الحوار) "أحس أن يدين تلمسان كتفيه، فقوّم جسده مصلباً إياه، وقالت داميانا...‏ </STRONG>
إذاً يأتي صوت الخادمة (داميانا) ليصله بالعالم الخارجي، ويذكره بحاجته إلى الطعام، لكن (بيدرو) كان قد حزم أمره، وقرر مغادرة هذا العالم، لهذا يخبرها برحيله، ويؤكد لها عزمه عن طريق تكراره جملة "ها أنا ذاهب".‏ </STRONG>
كذلك أَضفى وجود الخادمة حيوية، إذ منح (بيدرو) إمكانية الحركة واختبار قواه "استند على ذراعي داميانا وحاول المشي وهوى بعد بضع خطوات وهو يتضرع في داخله. دون أن يقول كلمة واحدة.‏ </STRONG>
وارتطم بالأرض ارتطامة جافة، وأخذ ينهار، وكأنه كومة من حجارة" (14).‏ </STRONG>
عايشنا هنا مشهداً سينمائياً، فتجسدت لنا تلك اللحظة الحرجة لمفارقة الحياة (استند، حاول المشي، هوى، ارتطم، أخذ ينهار).‏ </STRONG>
يلفت نظرنا تضرع (بيدرو) الصامت، دون أن ندري المبتغى من تضرعه، مما يحفّز أفق التوقع لدى المتلقي، فيتساءل هل يدعو ربه أن تكون في هذه السقطة نهايته؟ أم أنه يتضرع من أجل العفو عما ارتكب من أخطاء وآثام؟‏ </STRONG>
وقد حرص الروائي أن يكون التشبيه "وأخذ ينهار كأنه كومة حجارة" هي آخر ما يتلفظ به الراوي، ليثبت بؤس المصير الإنساني الذي ينتظر الجميع، فتتحول حياة إنسانية بأكملها إلى مثل هذه الكومة، لهذا جاء اسم (بيدرو الذي يعني الحجارة والأرض) منسجماً مع هذا المعنى! فرغم جبروته وعدوانه حوّله الموت إلى كومة حجارة!‏ </STRONG>
كأن (رولفو) في هذه الخاتمة يريد أن يذكر المتلقي بالمصير الذي ينتظره في نهاية حياته، لهذا يحفّزه على التأمل في هذا المصير، لعله يحاول تنقية حياته من الأذى! ويبحث عما يمنحها معنى!‏ </STRONG>
يجدر بنا أن نلفت النظر إلى أننا لم نعايش مشهد الاحتضار في الخاتمة فقط بل في المتن الروائي، حين تحدث الراوي البطل (خوان بريثيادو) عن احتضاره دون أن نلمح تكرار مشهد احتضار (بيدرو) فهنا عايشنا افتقاد المحتضر للهواء، ومعاناته من همس الأشباح، كما عايشنا احتضار (سوزانا) بصوت الراوي تارة، وعن طريق حوارها مع خادمتها ومع (الأب رينيريا) فتعرفنا على الطقوس المسيحية المصاحبة له.‏ </STRONG>
هنا لابد أن يتساءل المتلقي: لِمَ عني (رولفو) بمشاهد الاحتضار وبعالم الموتى؟ أ بسبب مقتل والده وهو ما يزال طفلاً؟ أم معايشته لاحتضار أمه أو أحد أحبائه؟ ترى هل كانت هذه المشاهد ترياقاً له ينقذه من ذكريات تجارب مؤلمة!؟ هل كان الإبداع تفريغاً لتلك الآلام الداخلية التي عاناها بسبب تجارب مرت معه في طفولته!؟‏ </STRONG>
مهما يكن نعتقد أن (رولفو) بتقديمه عالم الموتى ومشاهد الاحتضار قد افتتح فضاء جديداً للرواية، سيترك أبلغ الأثر في الرواية العالمية وخاصة في رواية أمريكا اللاتينية، فقد لاحظنا أثر ذلك لدى الروائي (ماريو فارغاس يوسا) خاصة في خاتمة روايته "الفردوس على الناصية الأخرى" (15) إذ عايشنا مشهد اللحظات الأخيرة للفنان الفرنسي (غوغان) لكن (يوسا) امتلك بصمة خاصة به، فلم نجده أسير مشهد احتضار (بيدرو بارامو).‏ </STRONG>
في الختام يمكننا القول إن هذه اللغة التي أرّقها الموت والإحساس بالإثم هي التي شكلت جماليات رواية (خوان رولفو) ومنحت إبداعه بصمة خاصة! وأدت إلى سيطرة عالم الموتى على فضاء الرواية بصورة مدهشة!‏ </STRONG>
* * *‏ </STRONG>
الحواشي:‏ </STRONG>
1 ـ داريو بيانوبيا ـ خ. م. بينياليستي "مسار الرواية الإسبانو أمريكية من الواقعية السحرية إلى الثمانينات" القاهرة، 1998، ص 266، بتصرف ترجمة محمد أبو العطا، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة.‏ </STRONG>
2 ـ خوان رولفو "بيدرو بارامو" ترجمة صالح علماني، وزارة الثقافة، دمشق، ط1، 1983، ص 48.‏ </STRONG>
3 ـ داريو بيانوبيا ـ خ. م. بينياليستي "مسار الرواية الإسبانو أمريكية من الواقعية السحرية إلى الثمانينات" ص 267، بتصرف.‏ </STRONG>
4 ـ خوان رولفو "بيدرو بارامو" ص 94.‏ </STRONG>
5 ـ المصدر السابق، ص 16.‏ </STRONG>
6 ـ المصدر السابق نفسه، ص 100.‏ </STRONG>
7 ـ نفسه، ص 19.‏ </STRONG>
8 ـ ماريو بارغاس يوسا "رسائل إلى روائي شاب" ترجمة صالح علماني، دار المدى، دمشق، ط1، 2005، ص 93، بتصرف.‏ </STRONG>
9 ـ خوان رولفو "بيدرو بارامو" ص 54 ـ 55.‏ </STRONG>
10 ـ عبد الرحمن منيف "أرض السواد" ج3، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، ط 1، 1999، ص 83.‏ </STRONG>
11 ـ المصدر السابق، ص 90.‏ </STRONG>
12 ـ المصدر السابق نفسه، ص 104.‏ </STRONG>
13 ـ نفسه، ص 151.‏ </STRONG>
14 ـ نفسه، ص 189 ـ 199.‏ </STRONG>
15 ـ ماريو فارغاس يوسا "الفردوس على الناصية الأخرى" ترجمة صالح علماني، دار المدى، دمشق، ط 1، 2004.‏ </STRONG>
وقفة مع جماليات رواية بيدرو بارامو‏ </STRONG>

‏ </STRONG>

ملكة
12/05/2008, 08:55 PM
هو الشيخ زكرياء بن سليمان بن يحيى بن الشيخ سليمان بن الحاج عيسى، لقّبه زميل البعثة الميزابيّة والدراسة الفرقد سليمان بوجناح بـ: "مفدي"، فأصبح لقبه الأدبيّ الذي اشتهر به.

ولد يوم الجمعة 12 جمادى الأولى 1326هـ، الموافق لـ: 12 يونيو 1908م، ببني يزقن، ولاية غرداية. وفي بلدته تلقّى دروسه الأولى في القرآن ومبادئ اللغة العربيّة.
التحق بالبعثة الميزابيّة بتونس، فواصل دراسته هناك في: مدرسة السلام، والمدرسة الخلدونيّة، وجامع الزيتونة، كما غشي مسامرات الأديب التونسيّ الكبير، الأستاذ العربي الكباديّ. وجمعته صداقة حميمة في تلك الفترة بالشاعرين: أبو القاسم الشابّي، ورمضان حمود الذي كان زميلا له في البعثة.

http://www.chihab.net/images/maqalat/mufadi002.jpg أوّل قصيدة له ذات شأن هي "إلى الريفيّين" نشرها في جريدة "لسان الشعب" بتاريخ 06 مايو 1925م، وجريدة "الصواب" التونسيّتين؛ ثمّ في الصحافة المصريّة "اللواء"، و"الأخبار".
واكب الحركة الوطنيّة بشعره وبنضاله على مستوى المغرب العربيّ فانخرط في صفوف الشبيبة الدستوريّة، في فترة دراسته بتونس، فاعتقل لمدّة نصف شهر، كما شارك مشاركة فعّالة في مؤتمرات طلبة شمال إفريقيا؛ وعلى مستوى الحركة الوطنيّة الجزائريّة مناضلا في حزب نجم شمال إفريقيا، فقائدا من أبرز قادة حزب الشعب الجزائريّ، فكان أن أودع السجن لمدّة سنتين 1937-1939.
وغداة اندلاع الثورة التحريريّة الكبرى انخرط في أولى خلايا جبهة التحرير الوطنيّ بالجزائر العاصمة، وألقي عليه وعلى زملائه المشكّلين لهذه الخليّة القبض، فأودعوا السجن بعد محاكمتهم، فبقي فيه لمدّة ثلاث سنوات من 19 أبريل 1956م إلى 01 فبراير 1959م.
http://www.chihab.net/images/maqalat/mufadi003.jpgبعد خروجه من السجن فرّ إلى المغرب، ومنه انتقل إلى تونس، للعلاج على يد فرانز فانون، ممّا لحقه في السجن من آثار التعذيب. وبعد ذلك كان سفير القضيّة الجزائريّة بشعره في الصحافة التونسية والمغربيّة، كما كان سفيرها أيضا في المشرق لدى مشاركته في مهرجان الشعر العربيّ بدمشق سنة 1961م.
بعد الاستقلال أمضى حياته في التنقّل بين أقطار المغرب العربيّ، وكان مستقرّه المغرب، وبخاصّة في سنوات حياته الأخيرة. وشارك مشاركة فعّالة في مؤتمرات التعرّف على الفكر الإسلاميّ.
توفي يوم الأربعاء02 رمضان 1397هـ، الموافق ليوم 17 أغسطس 1977م، بتونس، ونقل جثمانه إلى الجزائر، ليدفن بمسقط رأسه ببني يزقن.
http://www.chihab.net/images/maqalat/mufadi004.jpgهو صاحب الأناشيد الوطنيّة: النشيد الوطنيّ الجزائريّ، نشيد الانطلاقة الأولى "فداء الجزائر"، نشيد العلم الجزائريّ، نشيد الشهداء، نشيد جيش التحرير الوطنيّ، نشيد الاتّحاد العامّ للعمّال الجزائريّين، نشيد اتّحاد الطلاّب الجزائريّين، نشيد المرأة الجزائريّة، نشيد بربروس؛ بالإضافة إلى نشيد مؤتمر المصير بتونس و نشيد اتّحاد النساء التونسيّ و نشيد معركة بنزرت التاريخيّة؛ فضلا عن نشيد الجلاء عن المغرب، و نشيد الجيش المغربي، وغيرها من الأناشيد.
له من الدواوين المطبوعة: اللهب المقدّس 1961م، تحت ظلال الزيتون 1966م، من وحي الأطلس 1976م، إلياذة الجزائر في ألف بيت وبيت 1972م.
له شعر كثير غير ما نشره في دواوينه متفرّق في الصحافة الجزائريّة والتونسيّة والمغربيّة، وبقي أمر جمعها في دواوين حلما يراود الشاعر، ولم يستطع تحقيقه رغم إعلانه عن هذه الدواوين في أحاديثه وتراجمه الشخصية: "أهازيج الزحف المقدّس" أغاني الشعب الجزائريّ الثائر بلغة الشعب، "انطلاقة" ديوان المعركة السياسيّة في الجزائر 1935-1954م، "الخافق المعذّب" شعر الهوى والشباب، "محاولات الطفولة" إنتاج الشاعر في صباه.
http://www.chihab.net/images/maqalat/mufadi005.jpgأمّا نثره فكثير، متفرّق في صحافة المغرب العربيّ، لم يجمع بعد، وله كتب ذكرها في أحاديثه الصحفيّة، لكنّها لم تر النور إلى تاريخ اليوم، من ذلك: أضواء على وادي ميزاب، الكتاب الأبيض، تاريخ الصحافة العربيّة في الجزائر، مسرحية "الثورة الكبرى"، الأدب العربيّ في الجزائر عبر التاريخ بالاشتراك مع الهادي العبيديّ، وغيرها.
حامل لوسام الكفاءة الفكريّة من الدرجة الأولى من عاهل المملكة المغربيّة محمد الخامس، بتاريخ 21 أبريل 1987م ووسام الاستقلال، ووسام الاستحقاق الثقافيّ، من رئيس الجمهوريّة التونسيّة الحبيب بورقيبة؛ ووسام المقاوم من رئيس الجمهوريّة الجزائريّة الشاذلي بن جديد، بتاريخ 25 أكتوبر 1984م؛ وشهادة تقدير على أعماله ومؤلفاته، وتقديرا لجهوده المعتبرة، ونضاله في خدمة الثقافة الوطنيّة من رئيس الجمهوريّة الجزائريّة الشاذلي بن جديد، بتاريخ: 08 يوليو 1987م؛ ووسام الأثير من مصفّ الاستحقاق الوطنيّ من فخامة رئيس الجمهوريّة السيّد عبد العزيز بوتفليقة، بتاريخ 04 يوليو 1999م.


http://www.chihab.net/images/maqalat/mufadi010.gifأشهر مؤلفاته
- اللهب المقدس ديوان شعر عن الثورة التحريرية،
- تحت ظلال الزيتون ديوان شعر عن أمجاد تونس،
- من وحي الأطلس ديوان شعر عن أمجاد المغرب،
- إلياذة الجزائر قصيدة شعرية مطولة عن جلال وجمال الجزائر، - أمجادنا تتكلم،

ملكة
12/05/2008, 09:00 PM
المذكّرة الأولى:
إنفجري يا خاطة العالم المنهار
انفسي التضاريس الملكيّة، وحطّمي كراسي الكارتون المستورد
افتحي أبواب المحتشدات والسجون
دعي الجموع الجائعة تشبع
ودعي الفقراء يملأون جيوبهم شمساً
ابعدي العملاء عن مسيرة المتمردين
فأقدام الأقزام لم تخلق لتواكب الثوّار
طويلة ليالي هذه المواسم
مظلمة ساعات هذه الأيام
ونحن لسنا بالأموات ولسنا بالأحياء
الموت والحياة تآمر علينا
تحركي واجعلينا نموت أو نحي بزلزال
انسفي الحدود والجمارك، ولتحرق تأشيرات الدخول والخروج
فنحن حولك
نطوّقك باسم الذين جاؤوا من عندك لاجئين
وباسم الذين يعودون إليك شهداء أو فدائيين
باسم رفيق نسفت روحه داخل سيارة
باسم رفيق وصله الموت في هدية
وآخر في غرفة نومه ببيروت
من أجل الهمشري وبن بركة.. وغسان.. وكمال ناصر.
نحن نلتف حولك
ننبت على صدرك مع كروم الخليل وتمور العراق وقطن مصر..
والرفض معنا باق
بقاء نهر بردى وجبال الاوراس وصحراء سيناء.. وخليجنا.
نحن هنا
الكثير منّا موزّع بين أقبية الموت المنسية والمحاكم العسكريّة
أبطالنا لا يصلون السجون لأنهم يموتون في غرف التعذيب
ولكن ثورتنا لن تهدأ
ونهر الأردن لن يستريح
حين أصبحت رائحة الأرض عطرنا المفضل
أصبح لون التراب أجمل من لون العيون
وأصبحت كل الطرق تؤدي إليك
***
المذكرة الثانية:
حين أصبحتِ شهية كالحزن
كالفرح المؤقت
كالجنون
صرت أخشى أن أحرق خريطتك في لحظة انهيار
لم يكن (نيرون) مجنوناً
كان فقط يحب (روما) بطريقة جديدة لم يتعوّدها العشاق
المتقاعدون
اتّهم بالجنون.. لأنه أحرق حبيبته
من سنين أنام وأنا أحلم أن أستيقظ ذات يوم على ألسنة اللهيب
أقرأ كل صحفك بكل اللغات
أقرأ عناوينك الحمراء.. وعناوينك السوداء
ابحث عنكِ في صفحة الأموات وفي صفحة الأحياء
فلا أجدك هنا، ولا هناك
***
ذات مرة لقيتك وكنت في (برلين) .. سائحة حزينة
كان رفيق يضع على صدري صورة (اميكال كابرال)
وكنتِ تمرين أمامي وسط استعراض للشبيبة العالمية في
ذلك الملعب الدولي
حين وقفت لتحيّتك كانت شفقتي عليك أكبر من شوقي إليك.
ولكنني ألقيت لك بآخر زهرة وهتفت مع الرفاق
(بالروح.. بالدم.. حنكمل المشوار)
كانت رفيقتي من (بورتوريكو) تحدثني عن المطاردات
البوليسية، وتكشف للطبيب عن آثار الضرب على جسدها..
وكنت أرحل نحو ملامحك المتعبة
أغمض عيون موتاك الذين لا تزال عيونهم مفتوحة في غرف
التعذيب، وأجمع رؤوس رفاقي من ساحات الإعدام
كان البعض يتاجر بلحية (شي غيفارا) وتسريحة (انجلا)
وحطة (ليلى خالد)
كنت الثورة لقباً يشترى على رصيف
كنت اللوحة التي تباع في المزاد العلني
ولكنك أرخص من سيجار (شرشل) وحلي (ماري انطوانيت)
في ذلك المساء كتبت لك خطاباً من أحد مستشفيات برلين
لا أذكر ما قلت لك فيه
فقد أفقدني الحزن ذاكرتي
***
المذكّرة الثالثة:
أحاول أن أنسى أن لي وطناً
أتوزّع في شوارع العالم وفنادقه
أحاول أن أضيع مكانه على الخارطة
ولكننا في موسم الترحال
تهاجر الطيور نحو السماء الأولى
وتعود الأسماء إلى المياه الأم
وترجع الأوراق إلى الشجر
ويتبخر الماء عائداً إلى السماء
أحاول أن أنساك، ولكننا في موسم الترحال
وعندما أرى رحلة الكائنات نحو حضنها الأول
أشعر بالحنين إليك، فأنت حضني الوحيد
الحضن الذي وهبني الحياة ولم يحضني بعدها أبداً
أحاول أن أعود نحوك مع مواكب الكائنات المهاجرة
ولكنني أقع قبل أن أصل إليك
آلاف الحدود بيننا.. وآلاف الجمارك
وأنا أسافر نحوك وملامحك بين أشيائي الصغيرة
أخبئها كما نخبأ البضاعة المحظورة
أخشى أن يكتشفها أحدهم فيحتجزني ولا أكون مع العائدين
ولكنك شيء لا يخبأ
كنت حاملاً بك..
وكان حزني قد جاوز الشهر التاسع
لذلك حجزت في كل جمارك العالم، وقضيت عمري في
محطات القطار..
وهناك،
يحدث أن أغضب واعرض ما تبقى عندي من ملامحك للبيع
أعرضها على السوّاح عسى أحدهم يخلّصني من حملك
لكنهم لا يتوقفون أبداً جميعهم مسرعون نحو الحضن الأول
بالأمس عرضت على واحد من (الهيبيين) أن يأخذك هدية
مني..
سألني إن كنت زهرة.. أو منديلاً يربط حول الرأس
قلت له إنك معطفي الوحيد
فقال لي: نحن قلما نشعر بالبرد
وكانت المدن الجليدية تزحف نحوي، وكنت لا زلت في يدي
فافترشتك،
ونمت في محطة القطار
***
المذكرة الرابعة:
أكره أن ألتقي بك في نشرة الأخبار
أصبحت أكره أن أسمعك تنتحرين على الأمواج الطويلة
والقصيرة
وجهك المشوّه لا يخيفني
أنا أعرف الكثير عنك
أعرف حتى أعضاءك المشلولة وأعضاءك المستعارة
أعرف كيف تحاول عناوين الجرائد اليومية أن تتمدد على
جسدك، لتخفي عيوبك، وتخدع الطيبين ليذهبوا للموت تحت رايتك
رأيتك عارية
لم تكوني في طريقك إلى الحمام
ولا كنت متّجهة نحو البحر
(النظافة من الايمان) أصبحت مع الأيام كلاماً فارغاً
عندما نجح القذرون في خداع البسطاء
والسباحة لم تكن يوم هوايتك
كنت أتصور حتى ذلك اليوم أن هوايتك الوحيدة جمع الآثار،
وتبادل الآراء حول كتب الأزمان الغابرة.
لذلك أهديتك مكتبتي التاريخية، وحفظت أيام العرب ومعلقاتهم
وجئت أقصّها على (ابي الهول) و (قاسيون)
لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي رأيتك فيه لأول مرة تتعرين
لم تقفي في ديكور مثير
ولا استنجدت بالأضواء الخافتة
ولا نزعتِ أثوابك الداخلية قطعة قطعة، كما تفعل راقصات
(الستريبيتيز).
كل شيء عندك وقع فجأة.. وخارج علب الليل
تعرّيت فجأة
ورأيتك فجأة
وتحدثت كل الجرائد بعدها أن عمان تدفن خمسة وعشرين ألف فلسطيني
خمسة وعشرون ألفا تعوّدنا بعد ذلك أن نذكرهم بالجملة.
غريب أن يتعوّد الانسان بسرعة على الأرقام الكبيرة، وينسى
أن كل رقم هو نهاية حياة
حاولي يا عمّان أن تتصوري عيون هؤلاء الخمسة
والعشرين ألفاً وهم يموتون
في عيونهم فقط تقرأين مرارة الأرقام
كانوا يحلمون ببيتوتهم خلف الضفة، حين أغرقتهم..
وقتها فقط اكتشفت هوايتك الأخيرة
وأدكت سر تجوالك عارية.. ونحن في أيلول

ملكة
12/05/2008, 09:04 PM
أخذنا موعداً
في حيّ نتعرّف عليه لأوّل مرّة
جلسنا حول طاولة مستطيلة
لأوّل مرّة
ألقينا نظرة على قائمة الأطباق
ونظرة على قائمة المشروبات
ودون أن نُلقي نظرة على بعضنا
طلبنا بدل الشاي شيئاً من النسيان
وكطبق أساسي كثيراً من الكذب.
...
وضعنا قليلاً من الثلج في كأس حُبنا
وضعنا قليلاً من التهذيب في كلماتنا
وضعنا جنوننا في جيوبنا
وشوقنا في حقيبة يدنا
لبسنا البدلة التي ليست لها ذكرى
وعلّقنا الماضي مع معطفنا على المشجب
فمرَّ الحبُّ بمحاذاتنا من دون أن يتعرّف علينا
...
تحدثنا في الأشياء التي لا تعنينا
تحدّثنا كثيراً في كل شيء وفي اللاّشيء
تناقشنا في السياسة والأدب
وفي الحرّية والدِّين.. وفي الأنظمة العربيّة
اختلفنا في أُمور لا تعنينا
ثمّ اتفقنا على أمور لا تعنينا
فهل كان مهماً أن نتفق على كلِّ شيء
نحنُ الذين لم نتناقش قبل اليوم في شيء
يوم كان الحبُّ مَذهَبَنَا الوحيد الْمُشترك؟
...
اختلفنا بتطرُّف
لنُثبت أننا لم نعد نسخة طبق الأصل
عن بعضنا
تناقشنا بصوتٍ عالٍ
حتى نُغطِّي على صمت قلبنا
الذي عوّدناه على الهَمْس
نظرنا إلى ساعتنا كثيراً
نسينا أنْ ننظر إلى بعضنا بعض الشيء
اعتذرنـــــا
لأننا أخذنا من وقت بعضنا الكثير
ثـمَّ عُدنــا وجاملنا بعضنا البعض
بوقت إضافيٍّ للكذب.
...
لم نعد واحداً.. صرنا اثنين
على طرف طاولة مستطيلة كنّا مُتقابلين
عندما استدار الجرح
أصبحنا نتجنّب الطاولات المستديرة.
"الحبُّ أن يتجاور اثنان لينظرا في الاتجاه نفسه
.. لا أن يتقابلا لينظرا إلى بعضها البعض"
...
تسرد عليّ همومك الواحد تلو الآخر
أفهم أنني ما عدتُ همّك الأوّل
أُحدّثك عن مشاريعي
تفهم أنّك غادرت مُفكّرتي
تقول إنك ذهبت إلى ذلك المطعم الذي..
لا أسألك مع مَن
أقول إنني سأُسافر قريباً
لا تسألني إلى أين
...
فليكـــن..
كان الحبّ غائباً عن عشائنا الأخير
نــــاب عنــه الكـــذب
تحوّل إلى نــادل يُلبِّي طلباتنا على عَجَل
كي نُغادر المكان بعطب أقل
في ذلك المساء
كانت وجبة الحبّ باردة مثل حسائنا
مالحة كمذاق دمعنا
والذكرى كانت مشروباً مُحرّماً
نرتشفه بين الحين والآخر.. خطأً
...
عندما تُرفع طاولة الحبّ
كم يبدو الجلوس أمامها أمراً سخيفاً
وكم يبدو العشّاق أغبياء
فلِمَ البقاء
كثير علينا كل هذا الكَذب
ارفع طاولتك أيّها الحبّ حان لهذا القلب أن ينسحب



</SPAN>

ملكة
12/05/2008, 09:07 PM
شكرا لك على القضيدة الرائعة لكن مافي احد معبر شيئء