المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سماعة من قشر الموز



د.حيدرآل شامي
05/05/2008, 08:23 PM
أطفأ سيجارتهُ بسرعة بمنفظتهِ العتيقة, رفعَ سماعته ليتصل, طرق بإصبعهِ الطويل أرقاماً وظل ينتظرُ ناظراً من شباك غرفتهِ المزدحمة إلى ضوء القمر وقد أعجبه منظر القمر, فقد ظل ذلك الضوء في خياله يعبث بصوره ويستذكر, يستذكر وجه امراءة أحبها وهي أجمل ألف ألف مرة وأغلى من القمر, هنا..هنا قَطع سلسلُ أفكارهِ صوت, كان صوتُ زوجته زينب, ارتسمتْ على محياه الاطمئنان والسرور وهو يكلمها برضا واشتياق :




-الو, الو هلو زينب عزيزتي. نايمة أخاف صحيتك حبي ؟ تعشيت ؟ طيب تعشي حبي والأولاد نايمين؟ الوقت متأخر يا.زينب ليش للساعة صاحين؟لا لا ما يصير..أني بكرة أجي واحجي وياهم وانتي ليش ما تصيحين عليهم ( رفع صوته ) أدبيهم أي انتي أمهم , لازم يتعلمون يخافون منك ومني ..


(هنا راح يجيب عن سبب تأخره ) أي نظر عيني مو عدنا شوية تراكم بالحسابات وجرد حيصير بعد باجر, فلازم نستعد..لالا حبات مع الشباب..شباب يا مرة مو بنات وين عقلك راح..هههههه.. (هنا بدا يتغزل) أولا).ي مستحيل أبدل انسانة غيرت حياتي وخلتني أحب الدنيا بأي انسانة ثانية ولا مين كانت يا ربي...(يعلو وجهه الابتسام )..صحيح حضري حالك بعد بكرة عازمك على العشا برة..لالا من غير هذولة العفاريت الله يسامحج..يا وحيدة روحي أريد نستذكر أني وياك أيام الهوى والعشق بمناسبة ذكرى زواجنا الخامسة..المكان مسويه مفاجئة على فكرة..(هنا يضحك بشدة ) هههههه ...لالا.. مو مثل المرة الفاتت كانت مسخرة..لالا ثقي بذوقي هاي المرة.. أي خلي أختك تجي... إياك تجي عمتي..لا ورب الكعبة ..شوفي أنت تعرفين رأيي بأمك ماكو حاجة أعيد وأزيد, بس تجي وما تبقى أكثر من 3 أيام لأنه العزاء حقه 3 أيام وأمك عبارة عن عزاء ميت, لا زينب حبي لا..لا تعكرين صفو حياتنا ما أمانع تجي بس مو تجي وتقعد على قلبي أسبوعين ولا ثلاث عدها أربعة زلم تروح تقعد عدهم..( أطفا سيجارته بنرفزة واضحة ونفث دخانها بشدة وجلس يتكلم بينما ينظم بعض الرسومات والأوراق )..أي أي اوكي اوكي تؤمرين أمر..بس هاي.... حسبالي تريدين قلبي ولا).وني ولا روحي يا بعد روحي..(اغتسلت عيناه بالدموع )..أي صحيح ردت أسالك أخوك جاب اليوم الفلوس؟ ( شعر باستغراب وجرعة زائدة من الاستغراب وبعدها علا صوته ) وانتي اشلون تتصرفين هيجي؟ ها... ها( علا صوته أكثر ) ومنو قالك تنطين بعد مدة ؟؟؟ هاي مو فلو).منى ولا فلوسك هاي فلوس أولادنا..(علا أكثر ) ..




عرف أن صوته علا في المكان, أطبق على سماعته بيديه, صحا النائمون من نومهم, واشتعلت أنوار كانت مطفأة, نظر حوله في المكان ليتفحص الأسرة, وجد بعض رفاق العنبر وقد صحوا من نومهم العميق, ذلك النوم الذي خلقته أدوية المهدئات, تفحص المكان بنظرة مجنونة, عيناه كادت أن تخترق الجدران, رجع إلى السماعة وقال: حبي زنوبة ممكن لحظة.. فيه حركة غريبة لا تقفلين السماعة..انتظريني هسة حرجع


انفتح باب الغرفة الكبير الملآن بالصدأ, برزت منه امرأة بدينة, قصيرة القامة ترتدي زى التمريض وخلفها رجل يدعى د. أنور وهو الطبيب المناوب, رجل في أول الثلاثين طويل القامة يكثر في رأسه صلع لامع ذو ملامح حادة ونظارات تستحل جزءا كبيرا من وجهه ومنخار دقيق, باختصار كانت ملامحه تحمل قسوة وبرود, كان يتمشى بهدوء ويضع يديه في جيبي زيه الأبيض..وقفت تلك البدينة في أول الغرفة وهي تكلم د. أنور في عتاب واضح


وقالت له:


- مو قلت لك هذا أبو اللول, هذا كل يوم يخابر ويتصل ويظل يصيح ويستريح وما يخلينة ننام..لو منطيه جرعة الزاناكس مو كان ارتاحينا وخلصنا من صياحه.. بخوف ورعب كان يتابع هذا المسكين المخبول وهو متمسك بسماعته..يحتضنها بيديه..وبصوت خائف يرتجف وهو يقول:


- وشنو المشكلة..جاي احجي وية زوجتي..يعني حرام احجي وياها؟؟.عيد زواجنا بعد باجر وجاي ارتب للموعد.


هز الطبيب رأسه وهو يشعر بالأسف ثم جحد بصوته الرفيع:


- أني مو قلتلك يا بني ادم ألفين وست آلاف مرة انه زينب ماتت من خمس سنين..بس ما يفيد.(استدار الى الممرضة وقال : ممنوع بعد ينزل بالوجبات موز لهذا العنبر..مفهوم؟؟


فأجابت الممرضة :


-حاضر دكتور راح أبلغ قسم التغذية بعد مافي موز للعنبر كله


تحرك الطبيب نحو أبو اللول طالبا منه قشر الموز الذي صنع منه سماعة ثم قال:


- جيبه.قشر الموز هذا...جيبه ....


رفض أبو اللول أن يعطيه سماعته للطبيب رغم انه يخاف منه أيما خوف..رفض أن يعطيه قشر الموز الذي من كثرة مال لازم يديه أصابه الذبول ولكن رغم كل الاسوداد لازال يعمل كسماعة هاتف.. لكي يظل مستمتعا بصوت من يحب, ثم علا صوت الطبيب وقد ضاق ذرعا بهذا الحب المجنون وما آل إليه قدر ذلك المسكين, صاح بصوت عال:


- جيبه.. جيبهة اقولك


حاول الطبيب أن يأخذ منه القشر ولكن لم ينفع..تدخلت الممرضة وحاولت فلم ينفع.. ولن ينفع , فقد انكسر لأجل ذلك الحب عقلا ووعيا كان يمتلكه ذلك المحاسب الماهر, إنهار قبل خمس أعوام مضت عندما ماتت زينب بين ذراعيه , رفض عقله المسكين أن يعي أن الموت قدر الناس, من الأولين والآخرين , مهما كانوا رجالا أو نساءا , انبياءا أو رعاع , كيف تموت زنوبة ولم تلامس بعد شفتاه شفتاها , كان يتمسك المجنون بسماعته قدر ما يستطيع ..فكل ما يمتلكه صوتها ووعود بأن يتقدم للزواج بها بعد أن يخرج من ذلك العنبر الازلي..كان يحتضنه ويردد بكل ما يحمله التوسل من معنى :


- لالالا ما تخذون زنوبة ..لا..لا... الله يخليك عوفني احجي وصوتهة.خاف أموت وما اشبع من صوتها...أموت والله إذا ما اسمع صوتهة ..عفية دكتور أبوس أيدك عوفني بعد باجر عيد زواجنا




كانوا يحاولون أن يفكوا يديه, لكي يأخذوا قشرا باليا اسود من كثر ما نمى عليه من فطر, ولكنه ذا معنى بالنسبة لذلك القلب الذي جُن عشقاً, المجانين صحوا من نومهم يرقبون المشهد من خلف أسرتهم, يتملكهم الخوف من أن يقولوا شيئا لئلا يصعقوا كما سيصعق ذلك المسكين الهائم بعد قليل, وهنا ومن غير أن يقصد المجنون ضربَ الطبيبَ على وجهه وهو يحاول أن يفك الأخيرُ يديه, استشاط غيضاً وانتقاماً فنادى على حارسين وولت تلك الممرضة لتنادي آخرين..


- صيحي لي حجي عبد الله وأبو عزيز حالاً..


و تجيبه القبيحة بالإيجاب كان يتنفس بشدة لكثرة ما ناله من إهانة من ذلك المجنون..نظر إليه ووجه إليه كلامه فيه ليس رائحة الوعيد فقط, إنما انتقام سيحيق به بعد دقائق


- إلا اندمك يا كلب على هاي العملة..أني تضربني ؟؟ بسيطة أني لك..


نظر إليه المجنون بخوف ورعب لا يطاق, انكفأ في السرير وتلحف بدثار عتيق, وجاءت الممرضة ومعها رجلين شديدين سحبوه من فوق السرير سحباً و أشبعوه ضربا وهو يستغيث, ولكن لم يترك قشر الموز أبدا ولم يهجر يده, امسكوه يجرون اطرافه إلى غرفة الكهرباء وهو يستحلفهم بكل ما في الأرض من مقدسات أن يتركوه, لم يترك نبياً أو كتاباً يرجوهم به, توسل لهم بالله الذي منَ عليهم بالعشق أن يعفوه, استحلفهم بالعقل الذي امتلكوه.. ولكن لم يتركوه, وخلفهم يسير الطبيب المُهان وتلك المنافقة.. أوصدوهُ إلى كرسي قديم من الحديد, يحاول المسكين أن يتخلص فلا فائدة, أراد احدهم أن يأخذ منه سماعته فلم يفلح فأومأ الطبيب إليه أن يتركه, لأنه بعد قليل سيفارقها شاء المجنون أم أبى..وقبل أن يحرقوا جسده انهال كل ذي قوة عليه لكماً فمزقوا شفاهه وجبينه وامتلئ فاه نجيعاً وألماً..لم يتركوه..حتى بالسباب وشتى أنواع الشتائم..عله ينسى أو يعتذر..سالت من وجهه النحيف الدماء وضعوا قماشة بالية في فمه والتي سرعان ما تلونت بالأحمر الفاقع..وهو في محلٍ بين السكرِ والموت... وعلى أعلى فوليتيه حرقوا دماغ هذا المسكين املآ في أن يتوب.. أن يحقد على من سلبته عقله ويترك محادثتها.لم يفلحوا منذ خمس مضت.. مرت ثواني وهو يُصعق كأنها سنين عجاف..ظل يركل برجليه.ظل يشتعل..يصيح والصوت ينز من تلك الخردة فلا يُسمع إلا شيئاً يشبه الاستغاثة ونكهة ألآه المعذبة. تغربت عيناه وسال من فمه لعاب ممزوجا بالهواء, تشنجت كل أطرافه.. وانقبضت وانبسطت يداه, واشتعل بضع من شعر رأسه الرث الأشعث من هول ما احترق, واملآ في أن يقع القشر وقد وقع..وقع أخيراً وداست عليه قدم الطبيب, وبعد أن انتهت جلسة الكهرباء والتشويه أوصاهم بأن يعيدوه إلى سريره في نفس العنبر الذي كان يأويه, شريطة أن يتلفوا أوراقا كتب عليها اسم حبيبته ورسوماً لون فيها شكلها وعبارة على الجدار الملاصق لسريره كُتبَ بخط كبير (اشتقنا يا زينب)..رَموه في وسط الغرفةِ ككيسٍ من العظام, تجمع حواليه رفاق الغرفة المجانين, ورغم أنهم مجانين لكن قلوبهم كانت أرق من أي إنسان عليه, ذابت قلوب حتى من لايفقه في الوعي شيئا عليه, ودمعت عيون كثيرة, ذاك يربت على كتفه وأخرُ يقبله, يحسب أن القبلة تمحي شيئا من العذاب,وأخرُ بكى معه..ودخل الطبيب وراءه ليراه قبل أن يكمل نومته..صاح بصوته العفن البغيض


- كوم يالله على فراشك..يالله ..حسبالك خلصت..خلي الصبح يطلع..إلا أموتك جوع..يا كلب..وانتم مو التميتوا يمه كل واحد يروح ينطمر بفراشه ولا اسمع نفس واحد...


خرج واقفل عليهم الباب وهم كلٌ في فراشهِ, بصعوبةٍ تذكر كان يرفع أجزاءهُ من الأرض..وفي عينيه دمعةُ لم تغادر مقلتيه ولم تمحيها ضحكات الزمان القصيرة منذ أول لقاء بحبيبته, وفي خلده صورة وحيدة..صورة زينب فتاته الجميلة ..نحو السرير كان يسير بخطوة ثقلى, اختبأ بين الفراش والدثار.. بكى انتحب كثيراً وهو مغطى باللحاف..بكى بصوت أجش يكسر الصدور ..فيه كل آلام العشق والهوى.كأنه كان يبكي نيابة عن كل محروم, بكى ولو تعلمون لما بكى, بكى لا لشيء سوى انه لم يسمع صوت زينب في الدقائق التي احرقوا بها رأسه.. أُطفأت الأضواء وخفت كل صوتٍ..إلا صوت ذلك الطبيب وهو ينادي أن سوف يعيث في عقله فسادا..أو يزيد جنونا على عشقه..سكنتْ دمعته هنيهة.. أولُ شيء اشتاقَ إليه كان صوتها...فكيف يتصل وقد اخذوا هاتفهُ, اخرجَ رأسهُ من الدثار.. نظر وتفحص قليلاً في المكان, كلهم نائمون, صنعَ من يده اليمنى سماعة هاتف وبسبابته اليسرى ضرب على أزرارٍ في الهواء, حتى انه كان يقلد صوت قرص الهاتف وهو يدور..سكنَ قليلاَ, ينتظرُ أن تَرفع زينب السماعة..سكن قليلا وأنتظر , ثم قال بشعور مليءٍ بالشوق:


- ها زنوبة حبي آسف انقطع الاتصال..اتاخرت عليج؟ ..لالا بس ما في شي..صحيح اشتاقيتيلي ( يضحك باستحياء وهو يعبث بلحيته المتسخة)..إي وين كنا نتكلم صحيح ؟؟ على السهرة مال ذكرى زواجنا هههههه يالله خلي نكمل ...............................





انتهى